شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

متغايرين لمتعلّق واحد فإنّه يحصل الجزم بعدم واقعية أحدهما ، ولمّا لم نكن مطلعين على الملاك المناسب للمتعلّق يحصل التردد فيما هو الحكم الواقعي لهذا المتعلّق.

ومن هنا يتضح أنّ التعارض والتنافي إنّما يكون في مرحلة جعل الأحكام لموضوعاتها ، فالأدلة الإثباتية المتصدية للكشف عن جعل الأحكام لمتعلقاتها إذا اقتضت ثبوت حكمين إنشائيين متنافيين على متعلق واحد على موضوع واحد فهذا هو التعارض الذي هو محلّ البحث في المقام ، وهذا لا يختلف الحال فيه بين أن تكون موضوعات الأحكام متقرّرة في الخارج أو لم يكن لها تقرّر وثبوت بعد ، فإنّه في الحالتين يقع التنافي في مرحلة الجعل ؛ وذلك لما ذكرناه من أنّ التنافي إنّما يكون بين الأحكام باعتبارها ناشئة عن ملاكات في متعلقاتها ، وحينئذ لا يكون لوجود الموضوع وعدم وجوده أيّ أثر من هذه الجهة ، نعم وجود الموضوع خارجا ينقل الحكم إلى مرحلة الفعليّة.

وبما بيناه اتضح معنى قولنا سابقا إنّ التعارض هو التنافي الواقع بين مؤدى كل من الدليلين ، إذ أنّ مؤدى الأدلة الظنيّة هو الكشف عن ثبوت الأحكام الإنشائية لمتعلّقاتها على موضوعاتها ، فهي لو كانت مقتضية لثبوت حكمين متنافيين فإنّ هذا يعني ـ لو كانت صادقة ـ أنّ الواقع هو ثبوت حكمين متنافيين ولمّا كان هذا مستحيلا علمنا بكذب أحد الدليلين.

مثلا : لو دلّ خبر ثقة على حرمة شرب العصير العنبي ودلّ خبر ثقة آخر على حليّة شربه فهنا يقع التعارض بين مؤدى كل من الدليلين ؛ وذلك لأنّ كل واحد منهما يقتضي حكما منافيا للحكم الآخر مع كون متعلق

٤٢١

الحكم واحدا وموضوع الحكم واحدا.

وتلاحظون أنّ الدليلين متصديان للكشف عن الحكم بمرتبة الجعل وليس للدليلين نظر إلى وجود الموضوع المجعول عليه الحكم ، إذ أنّ مساق الدليلين هو افتراض الموضوع وتقديره ثم جعل الحكم عليه ، ومع ذلك وقع التنافي بين الدليلين ، وما ذلك إلاّ لما ذكرناه من أنّ الأحكام متضادة فيما بينها باعتبارها ناشئة عن ملاكات في متعلّقاتها وهذا ما أوجب الجزم باستحالة أن يكون المتعلق الواحد معروضا لحكمين متنافيين.

ومن هنا لو اختلف المتعلّق للحكمين لما كان هناك تناف بين الدليلين ، فلو كان متعلّق الحرمة هو شرب العصير العنبي ومتعلّق الحليّة هو بيع العصير العنبي لما كان بين الدليلين تعارض ، وكذلك لو كان موضوع كل من الدليلين غير الموضوع في الدليل الآخر فإنّ التنافي لا يتحقق أيضا فلو كان موضوع الحرمة هو العصير العنبي وموضوع الحليّة هو العصير التمري فإنّ ذلك لا يقتضي التنافي بين الدليلين.

إذا اتّضح ما ذكرناه نقول إنّ التنافي بين الأدلة ـ الكاشفة عن الأحكام الإنشائية ـ قد لا يكون ذاتيا كما لو كان مؤدى الدليل الأوّل هو ثبوت حكم وكان مؤدى الدليل الثاني هو ثبوت حكم آخر لمتعلّق آخر إلاّ أنّ هناك علما من الخارج يمنع عن واقعية مؤدى أحد الدليلين غير المعين ، فهذا النحو من التعارض غير الذي كنا نتحدث عنه حيث كنا نتحدّث عن التعارض الذاتي والذي يكون فيه الحكمان المتنافيان عارضين على متعلّق واحد وموضوع واحد.

أما هذا الفرض فليس كذلك إذ أنّ متعلق كل من الحكمين مختلف عن

٤٢٢

الآخر إلاّ أنّه لمّا كنا نعلم من الخارج بعدم واقعية أحدهما غير المعيّن أوجب ذلك التنافي بينهما ، فالتعارض في هذا الفرض عرضي وفي الفرض الأوّل ذاتي.

ومثال التعارض العرضي ما لو دلّ خبر الثقة على وجوب صلاة الجمعة في ظهر يوم الجمعة ودلّ خبر الثقة الآخر على وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة.

فمتعلّق الحكم في الدليل الأول هو صلاة الجمعة ومتعلّقه في الدليل الثاني هو صلاة الظهر إلاّ أنّه لمّا كنا نعلم بعدم وجوب صلاتين في ظهر يوم الجمعة أوجب ذلك التنافي بين الدليلين ، إذ أنّه حينما نلحظ الدليلين مع ملاحظة العلم الخارجي نجد أنّ كلّ واحد منهما ينفي الآخر ، فالدليل الأول يدلّ بالمطابقة على ثبوت مؤداه ويدلّ بالالتزام على نفي مؤدى الآخر وهكذا العكس.

أمّا لو قطعنا النظر عن العلم الخارجي فإنّه لا يكون بين الدليلين أيّ تناف ، إذ من الممكن جدا أن يكون كلّ من الصلاتين واجبا في يوم الجمعة.

والمتحصل مما ذكرناه أنّ التعارض بين الأدلة ينشأ عن أنّها تكشف عن الأحكام بمرتبة الجعل والتنافي إنّما يكون بين الأحكام بمرتبة الجعل والإنشاء.

واتضح أن التنافي بين الأدلة تارة يكون ذاتيا وأخرى يكون عرضيا.

حالات التنافي في مرتبة المجعول :

ذكرنا مرارا أنّ الحكم بمرتبة المجعول هو عبارة عن بلوغ الحكم

٤٢٣

الشرعي مرحلة الفعليّة ، وذكرنا أيضا أنّ وصول الحكم مرحلة الفعليّة منوط بتحقّق موضوعه خارجا.

واتّضح أيضا ممّا تقدّم أنّ الذي يتصدّى الدليل الشرعي لبيانه إنّما هو الحكم الإنشائي ولا صلة للأدلّة الشرعيّة بمرحلة المجعول ، إذ أنّ ذلك إنّما هو منوط بتحقق الموضوع خارجا.

ومن هنا يتّضح أنّ التعارض بين الحكمين المجعولين لا صلة له بالتعارض المبحوث عنه في المقام والذي قلنا إنّه التنافي بين مؤدى كل من الدليلين ، ولمّا كان الدليلان ليسا متصديين لبيان الحكم المجعول بل إنّ وظيفتهما بيان الحكم الإنشائي فحسب فهذا يعني أنّ التعارض لا يتصل بمرحلة المجعول.

وبهذا اتضح خروج التنافي في مرحلة المجعول عن بحث التعارض بين الأدلّة.

ثمّ إنّ الكلام يقع عن تصوير التنافي بين الأحكام بمرتبة المجعول ، وقد اتضح مما تقدم أنّ التنافي بينهما غير متصوّر ؛ وذلك لأن الحكم في مرحلة المجعول لا يعني أكثر من الفعليّة ، والفعلية منوطة بتواجد الموضوع الذي علّق عليه الحكم في مقام الإنشاء ، وهذا الموضوع إمّا أن يوجد فيترتب الحكم المجعول تبعا لتحقق موضوعه وإمّا أن لا يوجد فلا يكون للحكم المجعول وجود حينئذ ، فعليه لا يكون التنافي في الحكم المجعول متصورا.

فحينما يجعل المولى في مقام الإنشاء وجوب الصوم على القادر ويجعل وجوب الفدية على العاجز المستمر عجزه فإنّ هذا يعني أنّ فعلية وجوب الصوم منوطة بتوفّر المكلّف على شرط القدرة فلو كان واجدا للقدرة فهذا

٤٢٤

يقتضي عدم فعلية وجوب الفدية ، كما أنّه لو كان عاجزا فإنّ وجوب الصوم لا يكون فعليا في حقه ، ومن هنا اتّضح عدم إمكان تحقق الفعليتين على المكلّف في ظرف واحد ، نعم لو كان المراد من التنافي في مرحلة المجعول هو نفي فعلية أحد الحكمين لفعليّة الحكم الآخر فهذا صحيح إلاّ أنّه لا يوجب التصادم بين الحكمين في مرحلة الفعلية ، وذلك لأنّ معنى نفي فعليّة أحد الحكمين لفعلية الحكم الآخر هو نفي أحد الحكمين بمرحلة المجعول لموضوع الحكم الآخر وهذا ما يطلق عليه في المصطلح الأصولي « الورود » ويكون دليل الحكم الفعلي النافي لموضوع الحكم الآخر واردا ، كما يكون دليل الحكم المنتفية فعليته لنفي موضوعه « مورودا ».

وبيان ذلك : إن الأدلة والتي تتكفل ببيان الحكم الإنشائي قد لا تكون متنافية بالمعنى الذي ذكرناه إلاّ أنّه قد يتفق أن يكون أحد الدليلين نافيا لموضوع الحكم في الدليل الآخر وهذا لا يوجب تنافيا بين الدليلين إذ أنّ التنافي لا يكون إلاّ في مرحلة الجعل وفرض الكلام أن الحكمين بمرتبة الجعل ليسا متنافيين ، نعم الفرض أنّ أحد الدليلين ينفي موضوع الحكم في الدليل الآخر وهذا كما هو واضح لا يتّصل بالحكم في مرحلة الجعل.

ومن هنا يكون نفي أحد الدليلين لموضوع الحكم في الدليل الآخر متصلا بمرحلة المجعول ، ومتى ما اتّفقت هذه الحالة فإنّ الحكم المتضمن للدليل النافي يكون مقدما على الحكم المنفية ففعليته ، وتسمى هذه الحالة بالورود وبيان معنى الورود هو أن يكون أحد الدليلين نافيا لموضوع الحكم في الدليل الآخر أو يكون أحد الدليلين مثبتا لموضوع الحكم في الدليل الآخر ، وهذا النفي أو الإثبات يكون حقيقيا ويتم بواسطة التعبّد الشرعي.

٤٢٥

ومثال الأوّل : قوله تعالى ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (١) فإنّ ظاهر هذه الآية المباركة هو حرمة أكل المال بغير حق ، فلو نسبنا هذا الدليل إلى دليل آخر وهو قوله تعالى ( ... أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ـ إلى قوله ـ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ـ إلى قوله ـ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) (٢) فلو فهمنا من هذه الآية المباركة أن أكل مال الغير إذا كان أبا أو صديقا ليس من أكل المال بالباطل ، فإنّ هذا الدليل حينئذ يكون نافيا لموضوع الحكم في الدليل الآخر ، فإنّ الحكم في الدليل الأول هو الحرمة وموضوعه أكل المال بالباطل ولمّا كان مفاد الدليل الثاني هو نفي عنوان الباطل عن الأكل من بيت الصديق فهذا يعني نفي موضوع الحرمة في الدليل الأول وبالتالي تكون فعلية الحرمة منتفية.

وتلاحظون أنّ النفي هنا حقيقي وليس نفيا تنزيليا مقتضيا لتضييق دائرة موضوع الحرمة كما هو الحال في الحكومة بل إنّ الأكل من بيت الصديق ليس من الأكل بالباطل حقيقة ، غايته أنّ النفي هنا تم بواسطة التعبّد الشرعي وهذا هو الفارق بينه وبين التخصّص.

فالورود والتخصّص يشتركان في أنّ الخروج عن الموضوع حقيقي إلاّ أنّ الخروج تخصصا لا يتم بواسطة التعبّد الشرعي وإنّما هو بواسطة العلم الخارجي وأمّا الورود فالخروج عن الموضوع يتم بواسطة التعبّد الشرعي.

فحينما يقول المولى يحرم سماع الغناء فإنّ هذه الحرمة لا تثبت للحداء

__________________

(١) سورة النساء آية ٢٩.

(٢) سورة النور آية ٦١.

٤٢٦

وذلك لخروج الحداء عن موضوع الحرمة تخصصا ، وهذا الخروج الحقيقي نشأ عن العلم الخارجي بموضوع الغناء ، وهذا بخلاف المقام فإنّ نفي الأكل بالباطل عن الأكل من بيت الصديق ثبت بواسطة التعبّد الشرعي ، فالخروج عن موضوع الدليل الأول حقيقي إلاّ أنّ ذلك ثبت عن طريق التعبّد.

ومثال الثاني : لو قال المولى يجوز الإسناد إلى الله تعالى بعلم وفهمنا من هذا الدليل أنه يجوز الإسناد إلى الله جلّ وعلا عند قيام الحجّة ، ثم لو دلّ دليل آخر على أنّ خبر الثقة حجة فإنّ هذا الدليل الثاني يكون واردا على الدليل الأول بمعنى أنّه مثبت لتنقّح موضوع الدليل الأول حقيقة ؛ وذلك لأنّ الدليل الثاني محقّق لفرد من أفراد الحجه حقيقة ، غايته أنّ هذا الفرد من الحجة تمّ بواسطة التعبّد الشرعي ، وهذا غير الحكومة الموسّعة لدائرة الموضوع تعبّدا وتنزيلا كما في قوله عليه‌السلام « الفقاع خمرة استصغرها الناس » (١) فإنّ الفقّاع ليس من الخمرة حقيقة إلاّ أنّ الشارع وسّع من دائرة موضوع الخمرة وجعل الفقّاع فردا من أفرادها والبحث في محلّه.

وبما بيناه اتضح معنى الورود وأنّه الخروج عن موضوع الدليل المورود حقيقة أو الدخول في موضوع الدليل المورود حقيقة على أن يكون ذلك ناشئا عن التعبّد الشرعي.

ومع اتّضاح هذا يتّضح عدم التنافي بين الدليل الوارد وبين الدليل المورود ؛ وذلك لأنّ الدليل الوارد حينما ينفي موضوع الدليل المورود فهو

__________________

(١) الوسائل باب ٢٨ من أبواب الأشربة المحرمة ح ١.

٤٢٧

ينفي فعليته فلا تكون للدليل المورود فعلية في حالة يكون الموضوع المتحقق خارجا عن موضوع الحكم في الدليل الأوّل المورود ، فحينما لا يكون الأكل من بيت الصديق من الأكل بالباطل لا يكون الحكم بالحرمة المفاد بالآية الأولى فعليا لعدم تحقّق موضوعه خارجا إذ أنّ الأكل من بيت الصديق المتحقّق خارجا ليس موضوعا للحرمة كما هو مقتضى الدليل الوارد.

وهكذا الكلام في الدليل الوارد المثبت لوجود موضوع الحكم في الدليل المورود فإنّه مثبت لتحقق الفعلية للحكم في الدليل الوارد فلا تنافي بين الدليلين أصلا ، فإنّه عندما يدلّ خبر الثقة على شيء فإنّ ذلك يكون موجبا لتحقق فعلية جواز الإسناد إلى الله جلّ وعلا.

حالات التنافي في مرحلة الامتثال :

وهي الحالات التي تضيق فيها قدرة المكلّف عن امتثال تكليفين وهذه الحالة خارجة أيضا عن باب التعارض ؛ وذلك لأنّها لا تتصل بالتنافي بين مؤدى كل من الدليلين ، إذ قد يكون الدليلان متكفلين لبيان حكمين لمتعلقين متغايرين لا صلة لأحدهما بالآخر ومع ذلك تضيق قدرة المكلّف عن امتثالهما أما من حيث إنّ الجمع بينهما متعذر كما لو أمر المولى بالوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة وزيارة أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام في كربلاء يوم التاسع من ذي الحجة ، فإنّ هنا لا تنافي بن مؤدى الدليلين وإنما التنافي في مقام الامتثال ، وقد يكون منشأ العجز عن امتثال كلا التكليفين هو عجزه الشخصي عن امتثالهما معا كما لو كانت قدرة المكلّف دائرة بين امتثال الركوع عن قيام أو السجود بحيث يكون امتثال أحدهما

٤٢٨

معجّزا عن امتثال الآخر.

ومن الواضح أنّ مثل هذه الحالات لا تكون موجبة للتنافي بين مؤدى كل من الدليلين ، نعم قد يتفق ـ بل هو الغالب ـ أن تكون حالات التنافي في مقام الامتثال موجبة لسقوط الفعليّة عن أحد التكليفين أو عدم نشوئها من الأساس ، وهذه الحالات هي المعبّر عنها بحالات التزاحم والمقتضية لتقديم الأهم من التكليفين على الآخر.

كما أنّه يمكن أن يكون كلا التكليفين الّذين تضيق قدرة المكلّف عن الجمع بينهما فعليين كما في حالات الأمر بالضدين في خطابين منفصلين ، كما لو أمر المولى بالوقوف في يوم عرفة بأرض عرفات وأمره في خطاب آخر بزيارة الإمام الحسين عليه‌السلام في كربلاء يوم عرفة أيضا على نحو الترتّب بحيث يكون ترك أحدهما موجبا لفعلية الآخر ، فلو ترك المكلّف امتثال كلا التكليفين فإن كلاهما يكون حينئذ فعليا وذلك لتحقق موضوعه وهو ترك الآخر ، وهذا ما يوضح أنّ التنافي في مرحلة الامتثال قد يجتمع مع فعليّة كلا التكليفين.

وبما بيّناه اتضح خروج حالات التنافي في مرحلة المجعول وفي مرحلة الامتثال عن التعارض المبحوث عنه في المقام وأن الذي يكون موردا للتعارض هو التنافي بين مدلولي الدليلين.

وبعد كل ذلك يقع البحث عن كيفية معالجة التعارض بين الأدلّة.

٤٢٩
٤٣٠

قاعدة الجمع العرفي

ومورد هذه القاعدة هو حالات التنافي بين الأدلة إذا لم يكن لذلك التنافي استقرار بنظر العرف بحيث يرى أنّ من الممكن بل من المتعين حمل أحدد الدليلين على الآخر بحيث يكون بينهما عند ذاك تمام المواءمة والتناسب وهذا في مقابل التعارض المستقر بين الدليلين والذي يرى العرف تهافتهما وعدم إمكان الجمع بينهما على نحو يكون ذلك الجمع متناسبا مع مقتضيات الضوابط التي يجري على وفقها العقلاء وكذلك أهل المحاورة.

فالجمع العرفي إذن لا يكون إلاّ في الحالات التي يكون فيها الجمع متناسبا مع المتفاهم العرفي بحيث يكون أحد الدليلين بمثابة القرينة المفسّرة للمراد من الدليل الآخر ، ومن هنا لا بدّ أن يكون الجمع جاريا على وفق ما يقتضيه الدليل الواقع موقع القرينة.

ومبرّر هذه القاعدة هو أنّه إذا أردنا التعرّف على مراد المتكلّم فإنّه لا بدّ من الإحاطة بتمام كلامه سواء المتصل منه أو المتفرق على مواقع متعدّدة ، فإنّه لا ينبغي أن يؤخذ بجزء من كلام المتكلّم ويقطع النظر عن سائر كلامه أو أن يلحظ الكلام الأول منفصلا عن الكلام الآخر ثم يلحظ الكلام الآخر منفصلا عن الكلام الأول فإنّه حينئذ قد يبدو التنافي بين الكلامين.

٤٣١

كما لو قال المتكلم في مجلس : « أكرم كل العلماء » وقال في مجلس آخر : « لا تكرم فساق العلماء » ، فإنّه لو لاحظنا كلا من الكلامين على حدة لوجدنا أنّ بينهما تنافيا إلا أنّه حين يلاحظ مجموع الكلامين فإنّ ذلك التنافي البدوي يزول وما ذلك إلاّ لأن الكلامين يعبّران عن مراد جديّ واحد ، غايته أنّ وجود بعض المبرّرات الشخصية أو النوعية اقتضت فصل الكلامين وإلاّ فهما يعبّران روحا عن مراد واحد ، إذ أنّ العاقل لا ينقض كلامه ، نعم قد يتنازل عن كلامه الأول وهذا خلف الفرض ، إذ أنّه حين يكون متنازلا عن كلامه الأول فإنّ مقتضى حرص العقلاء على أغراضهم وعدم السماح بتفويتها يقتضي التصريح بتنازله عن كلامه الأول حتى لا يتنافى ذلك مع غرضه الفعلي.

وكيف كان فإنّ المتكلم إذا لم يبيّن مراده كاملا فإنّه يتصدى في كلام ثان لبيان تمام ذلك المراد أو بعضه ، وهناك مجموعة من الوسائل يتوسّل بها المتكلّم لتبيين مراده من الكلام الأول :

منها : ما عبّر عنه المصنّف رحمه‌الله بالإعداد الشخصي ، والمقصود من الإعداد الشخصي هو أن يتصدى شخص المتكلم لبيان مراده بوسيلة من وسائل الشرح والتفسير المقررة عند أهل المحاورة ، وضابطة الوسائل الداخلة تحت عنوان الإعداد الشخصي هي كل وسيلة ليس لغير المتكلم استعمالها بمعنى أنّه لو لم يتصدّ المتكلم بنفسه لاستعمالها لما أمكن لأحد غيره أن يستعملها لغرض الكشف عن مراد المتكلم ، وهذا بخلاف الإعداد النوعي فإنه يمكن للغير أن يجمع بين كلامي المتكلم ويناسب بينهما ثم يخرج بنتيجة هي مراد المتكلم جدا.

٤٣٢

وباتّضاح المراد من الإعداد الشخصي نقول : إنّه يتم بواسطة الحكومة ، والمراد من الحكومة هي النظر إلى الدليل الأول لغرض شرحه وتفسيره ، فقوام الحكومة هو وجود ما يثبت أنّ المتكلم ناظر إلى كلامه الأول وقاصد لشرحه وبيانه ، وهذا له صورتان :

الصورة الأولى : أن يصرّح في كلامه الثاني بمراده الجدّي من الكلام الأول ، وذلك عن طريق استعمال أدوات الشرح والتفسير مثل كلمة « أي أو أعني وأقصد » وهكذا.

ويمكن التمثيل لهذه الصورة برواية أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام « لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبّهات من النساء بالرجال ، وهم المخنثون ، واللائي ينكحن بعضهن بعضا » (١) فإنّ كلمة « وهم » وكذلك كلمة « اللائي » جيء بهما لغرض الشرح والتفسير ، نعم قد يقال إنّ المتصدي للشرح هو غير المتكلم إلاّ أنّ هذا يندفع بما ثبت من أنّ كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلام واحد.

الصورة الثانية : أن يستفيد المتكلم من قرائن صياغية أو غيرها لإثبات أنّه في مقام النظر إلى الكلام الأوّل وأنّه متصد لشرحه وبيانه على ألا تكون تلك القرائن موجبة لأكثر من ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام الشرح والتفسير لكلامه الأول.

ثمّ إنّ هنا وسيلتين يستعملهما المتكلم لغرض بيان المراد الجدّي من كلامه الأول :

__________________

(١) الوسائل باب ٢٤ من أبواب النكاح المحرّم ح ٦.

٤٣٣

الوسيلة الأولى : وهي ما يعبّر عنها بالنظر في عقد الوضع ، والمقصود منها أنّ المتكلم يتصدى لشرح كلامه الأول عن طريق التصرّف في موضوع الحكم في الدليل الأول إما بنحو التضييق أو بنحو التوسيع ويكون غرض المتكلم من ذلك تضييق الحكم أو تعميمه ، غايته أنه نفى الحكم عن طريق نفي الموضوع أو أثبت الحكم بواسطة إثبات الموضوع ، وتسمّى الحالة الأولى بالحكومة المضيّقة وتسمّى الحالة الثانية بالحكومة الموسّعة.

أمّا مثال الحكومة المضيّقة :

ما لو قال المولى من شك بين الثلاث والأربع بنى على الأربع وتشهد وسلم ثم قام فجاء بركعة بفاتحة الكتاب وتشهد بعدها وسلّم ، ثم قال في كلام آخر : « لا شك لكثير الشك » ، فإنّ الكلام الثاني ناظر إلى الكلام الأول ـ كما هو واضح ـ وذلك بقرينة أنّ الكلام الثاني لا يكون له معنى محصل لولا وجود كلام سابق يكون هذا الكلام مفسّرا له ومبينا لحدوده ، إذ ما معنى أن يقال ابتداء « لا شك لكثير الشك ». فإذا ثبت أنّ المتكلّم ناظر لكلامه الأول فقد تحققت الحكومة للكلام الثاني على الكلام الأول.

وأمّا أنه كيف يكون الكلام الثاني في المثال متصرفا في موضوع الحكم في الكلام الأول؟ فلأنّ المتكلم استعمل الموضوع كوسيلة لشرح وبيان حدود الحكم ، فنفي بعض أفراد الموضوع عن أن تكون مشمولة للموضوع المجعول عليه الحكم نفي للحكم بلسان نفي الموضوع وتصرّف في الموضوع بنحو التضييق لغرض تضييق دائرة الحكم.

وهذا النفي ليس نفيا حقيقيا وإنّما هو نفي عنائي تنزيلي الغرض منه نفي ذلك الفرد عن أن يكون مشمولا للحكم في الدليل الأول ، فليس

٤٣٤

غرض المولى من قوله « لا شك لكثير الشك » أنّ الشك الواقع عن كثير الشك ليس شكا حقيقة وواقعا بل غرضه هو أنّ الشك من كثير الشك لا يترتب عليه الحكم المذكور في الدليل الأول فهو نفي للحكم بلسان نفي الموضوع أي نفي للحكم عن أن يكون شاملا لهذا الفرض إلاّ أنّ هذا النفي تمّ عن طريق نفي فرديّة هذا الفرد عن موضوع الحكم ، إذ أنّه متى ما انتفت فرديّته عن الموضوع لم يكن الحكم شاملا له ؛ وذلك لأنّ الحكم إنّما هو مجعول على ذلك الموضوع فلما كان ذلك الفرد من غير أفراد الموضوع ـ بمقتضى الدليل الحاكم ـ فلا يشمله الحكم.

وبما ذكرناه اتضح أن نحو الحكومة في هذا المثال هو الحكومة المضيقة ، إذ أنّ الدليل الحاكم « الثاني » قد ضيّق من دائرة موضوع الحكم في الدليل المحكوم « الأول ».

وأمّا مثال الحكومة الموسّعة :

فهو ما لو قال المولى : « الخمر حرام » ثم قال في كلام آخر : « الفقاع خمرة استصغرها الناس » فهنا أيضا وقع التصرّف في عقد الوضع ، أي في موضوع الدليل المحكوم إلاّ أنّ التصرّف في المثال تصرّف بنحو التوسيع من دائرة موضوع الحكم في الدليل المحكوم ، وهو توسيع عنائي الغرض منه تعميم الحكم في الدليل المحكوم للفرد الذي أدخل في موضوع الدليل المحكوم بنحو العناية ، فهنا إثبات للحكم بحرمة الفقّاع بلسان إثبات فرديته لموضوع الحكم « الخمر » في الدليل المحكوم.

الوسيلة الثانية : وهي ما يعبّر عنها بالنظر في عقد الحمل ، وهنا يتوسل المتكلّم في مقام شرحه لكلامه الأول بالتصرّف في محمول القضية في

٤٣٥

الكلام الأول أي التصرّف في نفس الحكم ابتداء ـ لغرض تعميمه أو تضييقه ـ ودون توسيط الموضوع في ذلك كما هو في الوسيلة الأولى.

ومثال ذلك :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ضرر ولا ضرار في الاسلام » (١) وقوله تعالى : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٢) فإنّ هذين الدليلين ناظران إلى الأحكام الشرعية الثابتة بالأدلّة الأخرى حيث إنّ مقتضى تلك الأدلّة هو ثبوت الأحكام بنحو مطلق سواء كانت ضررية وحرجية لبعض الأفراد أو لم تكن.

فإنّه لو فهمنا من الرواية أنّه لم يجعل الله تعالى حكما ضرريا وفهمنا من الآية المباركة أنّ الله تعالى لم يجعل حكما حرجيّا فإنّ هذين الدليلين يكونان حاكمين على أدلة الأحكام الشرعية وموجبين لتضييق دائرة تلك الأحكام وأنّ ما يتوهم من الأدلّة الأولية من ثبوت الأحكام في حالات الضرر والحرج ليس صحيحا.

وتلاحظون أنّ هذين الدليلين تصرّفا في نفس الحكم في الأدلّة المحكومة ، حيث إنّ المنفي في هذين الدليلين هو الحكم فقوله لا ضرر أي لا

__________________

(١) الفقيه باب ميراث الملل ح ٢ ، والرواية معتبرة لاعتبار بعض طرقها وهو الطريق الوارد في الكافي والفقيه عن ابن بكير عن زرارة ، إلا أنّه لم يرد في الرواية بهذا الطريق فقرة « في الإسلام » على أنّه يمكن دعوى استفاضة الرواية حيث وردت بطرق متعدّدة وفي موارد مختلفة ، نعم دعوى الاستفاضة مختصّة بهذه الفقرة وهي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لا ضرر ولا ضرار ».

(٢) سورة الحج آية ٧٨.

٤٣٦

حكم ضرري في الإسلام وقوله لا حرج أي لا حكم حرجي مجعول من المولى جلّ وعلا ، ومن هنا صارت هذه الحكومة متصرفة في عقد الحمل ، وأمّا أنّها مضيقة فواضح ، إذ أنها تقتضي نفي الحكم في حالات الضرر والحرج.

الفرق بين الورود والحكومة :

الورود والحكومة المتصرفة في عقد الوضع يشتركان في أنّ كلا منهما ينفي موضوع الحكم في الدليل الأول أو يثبت موضوعا للحكم في الدليل الأول ، وهذا ما قد يوجب الخلط بينهما إلاّ أنّه مع التأمل يتضح أن بينهما اختلافا جوهريا ؛ وذلك لأنّ الورود كما قلنا ينفي موضوع الحكم في الدليل المورود نفيا حقيقيا ، وكذلك يثبت موضوعا للحكم في الدليل المورود إثباتا حقيقيا ، غايته أنّ الواسطة في النفي أو الإثبات هو التعبّد الشرعي ، فحينما ينفي المولى عنوان الباطل عن الأكل من بيت الصديق ـ في مثال الورود الذي ذكرناه في بحث حالات التنافي في مرحلة المجعول ـ فإنّ هذا النفي ليس عنائيا وإنّما هو نفي حقيقي ولذلك يكون خروج الأكل من بيت الصديق عن عنوان الباطل ـ المجعول عليه الحرمة في الدليل المورود ـ خروجا حقيقيا كخروج عنوان الحداء عن موضوع الغناء ، غاية ما في الأمر أنّ الخروج في حالات الورود يتم بواسطة التعبّد الشرعي والخروج في حالات التخصص يعرف بواسطة العلم الخارجي.

وكذلك الكلام بالنسبة لخبر الثقة فإنّ الدليل الوارد حينما يجعل الحجية لخبر الثقة لا تكون الحجية الثابتة لخبر الثقة بواسطة الدليل الوارد حجية عنائية بل إنّ خبر الثقة حجة حقيقة ، ومن هنا تكون محققيته

٤٣٧

لموضوع جواز الإسناد حقيقية ؛ وذلك لأن موضوع جواز الإسناد هو قيام الحجّة على الحكم الشرعي وخبر الثقة حجّة حقيقة وواقعا ، نعم الفرق بين خبر الثقة وبين القطع الطريقي هو أنّ القطع الطريقي لا تكون مثبتيته لموضوع جواز الإسناد محتاجة إلى التعبّد الشرعي وإلاّ فكل منهما يحقق فردا حقيقيا لموضوع جواز الإسناد.

ومما بيناه يتضح أنّ الورود ليس منوطا بنظر الدليل الوارد إلى الدليل المورود ولذلك يمكن تحقّق الورود في حالات تأخر الدليل المورود عن الدليل الوارد ، فلو كان دليل جواز الإسناد بعلم أي بحجة متأخرا عن دليل حجية خبر الثقة لكان خبر الثقة ـ مع ذلك ـ صالحا للورود على دليل جواز الإسناد بعلم.

ومع اتّضاح معنى الورود يتضح الفرق الجوهري بينه وبين الحكومة ، إذ أنّ الحكومة وإن كانت تنفي موضوع الدليل المحكوم أو تثبته إلاّ أنّ ذلك لا يكون نفيا أو إثباتا حقيقيا بل هو نفي أو إثبات عنائيان ، أي أنّ المولى اعتبر الموضوع الثابت منفيا واعتبر الموضوع المنفي ثابتا ويكون غرضه من النفي أو الإثبات هو تعميم الحكم أو تضييقه فيكون نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ويكون إثبات الحكم بلسان إثبات الموضوع ، ومنه يتضح أنّ الحكومة متقومة بالنظر في الدليل المحكوم وهذا ما يقتضي تأخر الدليل الحاكم عن الدليل المحكوم ، إذ لا يصح أن يكون الدليل الحاكم ناظرا إلاّ أن يكون متأخرا.

ثم إنّ الحكومة روحا تكون عبارة عن صياغة خاصة للدليل الحاكم ، هذه الصياغة تكون هي القرينة على النظر والتصرّف ولولا ذلك لما

٤٣٨

كان هناك ما يوجب استظهار نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ، فالمولى حينما يريد أن يشرح مقصوده يتوسل بهذا النحو من الصياغة لغرض الكشف عن أنّه في مقام الشرح والتفسير للدليل الأول ، وهذا هو الفارق الجوهري بين التخصيص والحكومة ، إذ أنّ التخصيص كالحكومة من حيث تضييق دائرة الحكم في الدليل الآخر إلاّ أنّ المولى تارة يستعمل صياغة خاصة وهي تنزيل الموضوع المنفي منزلة الموجود أو تنزيل الموضوع الموجود منزلة المنفي وغرضه من هذه الصياغة هو تعميم الحكم أو تضييقه بلسان التصرّف والتنزيل ، وأمّا التخصيص فليس كذلك بل هو إخراج بعض أفراد الموضوع عن الحكم ابتداء مع التحفظ على فرديّة الخارج عن الحكم للموضوع.

وسيلة أخرى من وسائل الجمع العرفي :

ومن الوسائل التي يتوسل بها المتكلّم لبيان مراده الجدّي من الدليل الآخر هو ما عبّر عنه المصنّف رحمه‌الله بالإعداد النوعي

العرفي والمقصود من الإعداد النوعي هو أنّ المتكلم يستفيد من الضوابط العامة عند العرف في بيان مراده ومقصوده من كلامه الآخر ، ويمكن صرف الكلام إلى المتلقي للأدلّة أو للكلامين ، فالمتلقي حينما يعلم أنّ المتكلم يسير على وفق الطريقة العرفية النوعية في تفهيم مقاصده ، فإنّه حينما يقف على كلامين لمتكلم واحد فإنّه يناسب بينهما بحسب الضوابط العرفية التي يجري عليها أهل المحاورة من ذلك اللسان.

والطريقة الأساسية التي يعوّل عليها العرف في مقام التعرّف على وجه الجمع بين الكلامين للمتكلم العرفي هي اعتبار الكلامين كلاما واحدا

٤٣٩

متصلا ، وهذا ما يستوجب استقرار الظهور مع ذي القرينة ، إذ أنّ العرف حينما يضمّ الكلامين بعضهما إلى الآخر ويرى أن أحدهما يشكّل قرينة على المراد من الكلام الآخر فإنّه لا محالة يستقرّ فهمه مع الكلام ذي القرينة ، إذ هو المعبّر واقعا عن المراد الجدّي.

فمناط تقديم الخاص على العام والمقيّد على المطلق مثلا هو أنّ الخاص قرينة على العام وكذلك المقيد بالنسبة للمطلق هذا هو الذي يقتضيه الفهم العرفي ؛ وذلك لأنّ العرف لا يرى بين الدليل العام والدليل الخاص أيّ تناف ، إذ أنّ العام يقتضي بدوا ثبوت الحكم للطبيعة بتمام أفرادها ، فحينما يكون الخاص نافيا لذلك الحكم عن فرد من أفراد الطبيعة لا يكون في ذلك تناف بل هو بيان للمراد الجدّي من العام وأنّ الحكم في الدليل العام لا يشمل ذلك الفرد.

وهذه القرينية تبلورت حينما ناسب العرف بين الدليلين فكأنما العلاقة بين الدليلين علاقة المستثنى منه مع المستثنى ، ومن الواضح أنّ المستثنى يكون قرينة على تحديد سعة دائرة المستثنى منه وأنّ دائرته لا تتسع لهذا الفرد فلا يشمله حكم المستثنى منه.

وهكذا الكلام في كلّ دليل له ظهور ويكون الدليل الآخر أظهر منه فإنّ الأظهر يشكل قرينة على المراد الجدّي من الدليل الأول.

والمتحصّل ممّا ذكرناه أنّ موارد الجمع العرفي يكون فيها التنافي والتعارض بدويا أي ليس له استقرار ، فلذلك يزول بمجرّد الرجوع إلى المرتكزات والضوابط التي يجري عليها أهل المحاورة من ذلك اللسان.

٤٤٠