شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

وقع العقد فإنّ بالإمكان استصحاب عدم وقوع العقد إلى ما بعد انتهاء العدة ؛ وذلك لأنّه كنا نعلم بعدم العقد ثم شككنا في وقوعه بعد العدة أو قبلها فنستصحب عدم العقد إلى ما بعد انتهاء العدة وهذا ينتج عدم الحرمة الأبديّة فيتعارض الاستصحابان فيسقطان عن الحجية وباتضاح معنى استصحاب مجهولي التاريخ نقول : إنّ له ثلاث صور :

الصورة الأولى : أن يكون زمان انتفاء الجزء الأول المعلوم حدوثه سابقا مجهولا ويكون زمان حدوث الجزء الثاني المعلوم انتفاؤه سابقا مجهولا ، وفي هذه الصورة يجري الاستصحابان في نفسيهما إلا أنّه ـ وبسبب التعارض ـ يسقطان عن الحجيّة ؛ وذلك لعدم ترجّح أحدهما على الآخر.

وهذه الصورة هي مورد المثالين السابقين ، إذ أنّ زمان انتفاء حياة الولد ـ المعلومة حياته سابقا ـ مجهول كما هو الفرض ، وزمان حدوث موت الأب والذي هو الجزء الآخر من موضوع الأثر الشرعي مجهول أيضا.

فاستصحاب حياة الولد إلى حين حدوث موت الأب يعارضه استصحاب عدم موت الأب إلى حين انتفاء حياة الولد.

الصورة الثانية : وهي أن نفرض أنّ زمان انتفاء الجزء الأول معلوم ويكون زمان حدوث الجزء الثاني مجهولا ، وذلك مثل ما لو علمنا بحياة الولد ثم علمنا بموته يوم الجمعة إلا أننا نفترض أنّ الجزء الآخر لموضوع الأثر ـ والذي هو معلوم الانتفاء سابقا ومعلوم الحدوث لاحقا ـ نفترض زمان حدوثه مجهولا ، أي أنّ حدوث موت الأب بعد أن كان حيا مجهول ، وفي مثل هذه الصورة قد يقال بعدم جريان الاستصحاب في الجزء الأوّل فيكون استصحاب الجزء الثاني بلا معارض ؛ وذلك لأنّ الجزء الأول

٤٠١

نعلم بزمان انتفائه وهو يوم الجمعة في المثال فهو قبل يوم الجمعة معلوم البقاء وبعد يوم الجمعة معلوم الانتفاء فلا يجري الاستصحاب في مورده ؛ وذلك لاختلال الركن الثاني وهو الشك في البقاء إذ لا شك في بقائه بل هو علم بالبقاء قبل يوم الجمعة وعلم بالانتفاء بعد الجمعة.

وأمّا الجزء الآخر فهو معلوم الانتفاء ومشكوك الحدوث حين ارتفاع وانتفاء الجزء الأول فنستصحب عدمه إلى حين ارتفاع الجزء الأول.

وبتعبير آخر : إننا نعلم بعدم موت الأب ثم شككنا في بقائه إلى حين انتفاء حياة الولد فنستصحب عدم موت الأب إلى حين انتفاء حياة الولد.

الصورة الثالثة : وهي عكس الصورة الثانية ، وذلك بأن نفترض أنّ زمان انتفاء الجزء الأول مجهول وزمان حدوث الجزء الثاني معلوم ، وذلك مثل ما لو علمنا بانتفاء حياة الولد بعد العلم بحياته إلاّ أنّه لا ندري متى انتفت حياة الولد وهل هو قبل يوم الجمعة أو بعدها؟ ولو افترضنا أن حدوث موت الأب قد وقع يوم الجمعة ، فهنا يمكن أن يقال بجريان استصحاب حياة الولد إلى حين حدوث موت الأب أي نستصحب عدم انتفاء حياة الولد إلى حين حدوث موت الأب وهو يوم الجمعة ولا يوجد ما يعارض هذا الاستصحاب ؛ وذلك لأنّ حدوث موت الأب معلوم وأنّه يوم الجمعة فلا استصحاب في مورده لأنّه قبل يوم الجمعة نعلم بعدم موته وبعد يوم الجمعة نعلم بحدوث موته.

وبهذا يجري الاستصحاب الأول بلا معارض ويستحق الولد بذلك ميراث أبيه.

الإشكال على نتيجة الصورة الثانية والثالثة :

وقد أورد على عدم جريان الاستصحاب في الجزء المعلوم تاريخ

٤٠٢

حدوثه أو ارتفاعه بما حاصله : أنّ العلم بزمان الحدوث أو الارتفاع وإن كان متحققا إلاّ أنّه لا يمنع من جريان الاستصحاب في مورده ؛ وذلك لأن الاستصحاب الذي نريد إجراءه في مورده إنّما بلحاظ الجزء الآخر المجهول التاريخ حدوثا أو انتفاء ، ومن الواضح أنّه إذا نسبنا زمان الحدوث أو الارتفاع إلى الجزء المجهول زمان حدوثه أو ارتفاعه فإنّنا لا نحرز أنّه وقع قبل حدوث أو ارتفاع الجزء المجهول أو بعد زمان حدوثه أو ارتفاعه ، وهذا ما يجعل أركان الاستصحاب في المعلوم التاريخ متواجدة ؛ وذلك لأننا نعلم أولا بعدم الارتفاع أو بعدم الحدوث ثم نشك في الارتفاع أو الحدوث قبل حدوث أو ارتفاع الجزء الآخر أو بعده ، ومن هنا يجري الاستصحاب في مورده فيتعارضان.

ولنرجع إلى مثالي الصورتين ونطبق الإشكال عليهما أما مثال الصورة الثانية : فقد قلنا إنّ المكلّف يعلم بزمان انتفاء الجزء الأول أي يعلم بزمان انتفاء حياة الولد وهو يوم الجمعة ويكون زمان حدوث الجزء الآخر مجهولا أي أنّ زمان موت الأب مجهول.

فهنا وإن كنّا نعلم بزمان انتفاء حياة الولد إلاّ أنّه لا ندري هل هو قبل حدوث موت الأب أو بعد حدوث موت الأب؟ فيجري استصحاب عدم انتفاء حياة الولد إلى حين حدوث موت الأب لتواجد أركانه وهو العلم بعدم الانتفاء والشك في قبلية أو بعدية الانتفاء للحياة.

وأما المثال في الصورة الثالثة : فقد قلنا إنّ المكلّف يعلم بزمان حدوث موت الأب وأنه يوم الجمعة ويكون زمان انتفاء حياة الولد مجهولا ، فإنّه وإن كان زمان الحدوث معلوما من حيث الوقت إلاّ أنّه مجهول من حيث

٤٠٣

وقوعه قبل زمان انتفاء حياة الولد أو بعد انتفاء حياته وهذا ما يبرّر استصحابه من هذه الجهة.

توارد الحالتين :

ويقصدون من توارد الحالتين هو عروض حالتين على المكلّف يجهل المتقدّم منهما من المتأخر مع افتراض أنّ كلّ واحدة من الحالتين موضوع لحكم شرعي مضاد للحكم الشرعي الذي تقتضيه الحالة الأخرى.

وتوضيح ذلك : أنّ المكلّف قد يعرضه حدث النوم ثم يشك في ارتفاعه لاحتمال أنّه قد توضأ وقد يعلم بكونه على طهارة ولكنّه يشك بعد ذلك في انتقاضها لاحتمال عروض الحدث.

ففي هاتين الصورتين لا إشكال في استصحاب الحالة السابقة ويترتب عن ذلك الأثر الشرعي.

وهناك صورة ثالثة وهي أن يعلم المكلّف بعروض الحدث عليه ويعلم بأنّه كان على طهارة من الحدث إلاّ أنّه يشك في أنّ المتأخر هل هو الحدث فيترتب أثره أو أنّ المتأخر هو الطهارة فيترتب أثرها؟

فهنا يجري استصحاب الحدث إلى ما بعد حدوث الطهارة وهذا يقتضي ترتيب آثار الحدث ، ويجري استصحاب الطهارة إلى ما بعد الحدث وهذا يقتضي ترتيب آثار الطهارة ، فيكون مؤدى الاستصحاب الأول منافيا لمؤدى الاستصحاب الثاني وذلك لاقتضاء الأول حكما مضادا للحكم الذي يقتضيه الاستصحاب الثاني ، وبهذا يسقطان عن الحجية.

ونذكر مثالا آخر ليكون المطلب أكثر وضوحا : لو فاتت المكلّف

٤٠٤

صلاة رباعية فإنّه يجب قضاؤها ، فلو علم أنّه في وقت تلك الصلاة قد عرضت عليه حالتا السفر والحضر إلاّ أنّه شك في المتأخر من الحالتين من المتقدم ، فلو كان المتأخر هو السفر فهذا يقتضي وجوب قضاء الصلاة قصرا ، ولو كان المتأخر هو الحضر فهذا يقتضي التمام ، فهنا يكون استصحاب الحضر إلى حين فوات الوقت ينتج وجوب التمام واستصحابان السفر إلى حين فوات الوقت ينتج وجوب القصر ، فيكون الاستصحابان متعارضين فيسقطان عن الحجيّة.

الاستصحاب في حالات الشك السببي والمسبّبي :

والمراد من الاستصحاب السببي هو الاستصحاب الواقع في رتبة الموضوع لحكم آخر.

والاستصحاب المسببي يقع في رتبة الحكم أي أنّه ـ على فرض جريانه ـ ينتج حكما شرعيا ، ومن هنا عبّر عن الأول بالأصل الموضوعي للحكم المرتب عليه ، ومنشأ تسميته بالسببي هو أنّ الموضوعات تكون في رتبة السبب ويترتب عنها الحكم ، فالموضوع متى ما تقرّر سبّب ذلك ترتّب الحكم.

وهذا بخلاف الاستصحاب المسبّبي فإنّه لمّا كان واقعا في رتبة الحكم فإنّ ذلك يقتضي عدم تنقيحه لموضوع فهو دائما يقع في طول الموضوع.

ثم لا يخفى عليك أنّه ليس المقصود من الأصل الموضوعي « السببي » هو الموضوعات التي لا تكون حكما شرعيا بل المقصود من الموضوع والسبب في الأصل الموضوعي السببي هو مطلق ما يكون موضوعا لحكم

٤٠٥

شرعي وإن كان هو حكما شرعيا بنفسه ، إذ أنّه قد تكون بعض الأحكام موضوعا لأحكام أخرى.

وبهذا يتضح أنّ المقصود من الموضوع في المقام شامل للموضوع الذي ليس هو حكما شرعيا وللموضوع الذي يكون حكما شرعيا وللموضوع الذي هو عدم حكم شرعي.

ومثال الموضوع الذي لا يكون من قبيل الأحكام ولا عدمها هو السفر ، واستصحاب السفر استصحاب موضوعي لأنّه واقع في رتبة الموضوع والسبب لحكم وهو وجوب القصر.

ومثال الحكم الذي يقع في رتبة الموضوع لحكم آخر هو الطهارة والتي هي حكم وضعي فإنها لو استصحبت لتنقّح بذلك حكم شرعي هو جواز الدخول في الصلاة وجواز مس كتابة القرآن الكريم.

ومثال الموضوع الذي يكون من قبيل عدم الحكم هو عدم التذكية فإن التذكية حكم وضعي ، فإنّه لو علم عدم جعل التذكية على السباع مثلا لتنقّح بذلك حكم شرعي وهو نجاسة السباع بعد فري أوداجها.

ولكي يتضح معنى الاستصحاب السببي والاستصحاب المسببي نذكر هذا التطبيق :

لو علم المكلّف بكون هذه المرأة في العدة ثم شك في بقائها في العدة أو عدم بقائها فإنّ الاستصحاب يقتضي التعبّد ببقائها في العدة ، وهذا الاستصحاب ينقّح موضوعا لحكم شرعي هو حرمة الزواج من هذه المرأة فالاستصحاب ببقاء العدة صار سببا لترتب حكم شرعي هو الحرمة.

وبتعبير آخر : لمّا كانت الحرمة أثرا شرعيا لبقاء المرأة في العدة فإنّ

٤٠٦

استصحاب بقائها في العدة يحقق موضوع الأثر الشرعي ويكون أصلا موضوعيا له.

ولو جعلنا متعلّق اليقين والشك هو حرمة الزواج من هذه المرأة لكانت النتيجة هي استصحاب الحرمة ؛ وذلك لأنّ المكلّف حينما كان يعلم بكون المرأة في العدة فهو يعلم بحرمة الزواج منها وحينما شك في بقائها في العدة فهذا يساوق الشك في بقاء حرمة الزواج منها فالاستصحاب ينتج حرمة الزواج من هذه المرأة ، فما يقتضيه الاستصحابان واحد وهو حرمة الزواج من هذه المرأة.

إلاّ أن الأول يعبّر عنه بالاستصحاب السببي والآخر يعبّر عنه بالاستصحاب المسببي ، ترى ما هو منشأ ذلك؟

والجواب أنّ المنشأ لذلك هو أنّ الاستصحاب الأول حين جريانه يقتضي ترتّب الحكم الشرعي ، والحكم لا يترتب ما لم يتنقح موضوعه ، ولمّا كان موضوع الحكم الشرعي غير محرز وجدانا فإنّ وظيفة الاستصحاب هي إحرازه تعبدا ، فمتى ما جرى استصحاب الموضوع حكم الشارع بوجود الموضوع تعبدا ، فالاستصحاب يكون واسطة في إحراز الموضوع وبإحراز الموضوع يترتّب الحكم ، فالاستصحاب إذن يكون سببا في ترتب الحكم ، وهذا هو معنى أنّ الحكم بحرمة الزواج من هذه المرأة هو من آثار الاستصحاب السببي أي استصحاب بقاء المرأة في العدة.

وأمّا استصحاب الحكم نفسه فإنّه لا يكون سببا لتنقح الموضوع ، إذ أنّ ترتب الموضوع ليس من آثار ذلك الحكم ، ففي مثالنا لا يكون استصحاب حرمة الزواج من هذه المرأة موجبا لترتب الموضوع وهو كونها

٤٠٧

في العدة ، إذ أنّ الشارع لم يجعل الحرمة موضوعا لثبوت العدة للمرأة بل العكس من ذلك حيث جعل ثبوت العدة موضوعا لترتب الحرمة.

وهذا هو سرّ تسمية استصحاب الحكم في المقام بالاستصحاب المسبّبي ، إذ أنّ استصحاب الحكم لا ينتج إلاّ الحكم المستصحب ، وهذا بخلاف استصحاب الموضوع في المقام ، فإنّه ينقح موضوع الحكم وبالتالي يترتب الحكم لأن الشارع قد جعل الحكم من آثار هذا الموضوع ؛ ولهذا سمّي استصحاب هذا الموضوع بالاستصحاب السببي.

وبما ذكرناه تتضح الطوليّة بين الاستصحابين ، إذ أنّ الاستصحاب الأول لمّا كان واقعا في رتبة الموضوع لذلك الحكم فهو متقدم على الحكم ، واستصحاب نفس الحكم لمّا لم يكن نافعا في إثبات الموضوع ويقتصر نفعه على إثبات الحكم فهو لا يتقدم على الموضوع ، وهذا هو سرّ التعبير عن علاقة الاستصحابين بالطوليّة ولا يقصدون من الطولية تأخر استصحاب الحكم دائما عن استصحاب الموضوع ، بل يقصدون أنّ الحكم إذا أريد استفادته بواسطة الموضوع فإنّه يكون متأخرا عنه ومترتبا عليه.

ثم إنه هل يمكن جريان استصحاب الحكم في حالة يكون جريان استصحاب الموضوع ممكنا إذا كانت نتيجة الاستصحابين واحدة أو أنّه لا يجري استصحاب الحكم ويكون الجاري هو استصحاب الموضوع فحسب وتكون وظيفة استصحاب الموضوع تنقيح موضوع الحكم ومنه يترتّب الحكم الشرعي؟

ذهب المشهور إلى عدم جريان استصحاب الحكم عند إمكان جريان استصحاب الموضوع المترتب عليه نفس الحكم ؛ وذلك لحكومة

٤٠٨

استصحاب الموضوع على استصحاب الحكم.

وبيان ذلك : إنّ المقصود من الحكومة في المقام هو نفي موضوع المحكوم ، فمثلا عندما يكون موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان ، فلو قام الدليل على أنّ خبر الثقة ـ والذي هو دليل ظني ـ بيان ، فإنّ خبر الثقة يكون حينئذ حاكما على أصل البراءة العقلية ؛ وذلك لأنّه ينفي ويلغي موضوعها ، فموضوعها عدم البيان ودليل حجية خبر الثقة مفاده أن خبر الثقة بيان فلا موضوع لجريان البراءة العقلية حينئذ ، وهنا لا يختلف الحال بين اتحاد مؤدى الخبر ومقتضي البراءة وبين منافاة مؤداه لما تقتضيه البراءة العقليّة ، فإنه في كلا الحالتين يكون خبر الثقة نافيا لموضوع البراءة فلا معنى بعد ذلك لجريانها.

والمقام من هذا القبيل فإن إجراء استصحاب الموضوع يتعبدنا بوجود الحكم فلا معنى لاستصحابه حينئذ ، إذ أنّ موضوع استصحاب الحكم هو الشك في بقائه وحينما نستصحب الموضوع « العدة » لا نشك في وجود الحكم فلا معنى لاستصحابه بل لا يصح الاستصحاب لاختلال ركنه الثاني وهو الشك في البقاء فإنّه لا شك في بقاء الحكم بل هناك علم تعبدا ببقاء الحكم ، ومن هنا اتضح أنّ استصحاب الحكم يكون في طول استصحاب الموضوع إذ المراد من ذلك هنا هو أنّ استصحاب الحكم لا تصل إليه النوبة عندما يجري استصحاب الموضوع.

إلى هنا كان الكلام عن استصحاب السببي والمسبّبي الّذين تكون نتيجة كل واحد منهما غير منافية لنتيجة الآخر ، ثم إنّه يقع الكلام عن الاستصحاب السببي والمسبّبي الّذين يقتضي كل واحد منهما حكما منافيا لما

٤٠٩

يقتضيه الاستصحاب الآخر ، ولا يختلف الحال فيهما عمّا ذكرناه في الاستصحاب السببي والمسبّبي الّذين يقتضيان نتيجة واحدة ، نعم في هذا الفرض لم يختلف أحد في تقدّم الاستصحاب السببي على المسبّبي بخلاف الفرض الأول فإنّه وقع الخلاف في إمكان جريان الاستصحاب المسببي في مورد جريان السببي أو عدم إمكان ذلك وإن كان المشهور ذهبوا إلى عدم جريانه.

وكيف كان فلكي تتضح معالم هذا الفرض نذكر هذا التطبيق : لو كان المكلّف على يقين من طهارة الماء ثم شك في طهارته فإنّ له أن يستصحب بقاء الطهارة ، ومن آثار هذا الاستصحاب هو صحة الغسل به ، ومن هنا يكون هذا الاستصحاب منقّحا لموضوع الأثر الشرعي وهو صحة الاغتسال بهذا الماء ؛ وذلك لأنّه في رتبة الموضوع بالنسبة لهذا الأثر الشرعي ، فلو اغتسل المكلّف بذلك الماء فإنّه يشك في ارتفاع حدث الجنابة عنه بعد أن كان على يقين به ، ومنشأ هذا الشك هو عدم إحراز طهارة الماء حقيقة ، إذ لعلّ نتيجة استصحاب الطهارة منافية للواقع ، ومن هنا تكون أركان الاستصحاب الثاني تامة ؛ وذلك لعلمه سابقا بحدث الجنابة ويشك بعد ذلك في ارتفاعه بسبب الشك في طهارة الماء الذي اغتسل به.

وتلاحظون أن نتيجة هذا الاستصحاب منافية لنتيجة الاستصحاب الأول ، إذ أنّه لمّا كانت نتيجة الاستصحاب الأول هي الطهارة فهذا يقتضي صحة الاغتسال بالماء المستصحبة طهارته وبالتالي ارتفاع حدث الجنابة بذلك الغسل ، أمّا نتيجة الاستصحاب الثاني فهو بقاء حدث الجنابة على حاله.

٤١٠

والاستصحاب الأول هو السببي ؛ وذلك لأنّه في رتبة الموضوع للاستصحاب الثاني ، إذ أنّ الشارع قد جعل طهارة الماء موضوعا للأثر الشرعي وهو ارتفاع حدث الجنابة بالاغتسال به ، وإذا كان كذلك فاستصحاب طهارة الماء يتعبدنا بارتفاع حدث الجنابة.

وهذا بخلاف الاستصحاب الثاني فليس من آثاره عدم الطهارة ، إذ أنّ البقاء على حدث الجنابة لم يجعله الشارع موضوعا لعدم طهارة الماء فالاستصحاب المسبّبي لو كان جاريا فإنّ نتيجته هي البقاء على حدث الجنابة فحسب.

وبما ذكرناه اتضح المنشأ في تقدم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي ، حيث اتضح أنّ الأول يحرز به موضوع الحكم فلا مسوّغ حينئذ لجريان الاستصحاب المسبّبي بعد انهدام ركنه الثاني وهو الشك في البقاء.

وبتعبير آخر : إنّ الاستصحاب السببي حاكم على الاستصحاب المسبّبي ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب السببي ـ كما ذكرنا ـ ينفي موضوع الاستصحاب المسببي ، إذ أنّ موضوع الاستصحاب المسببي مثلا هو الشك في البقاء على حدث الجنابة ومقتضى جريان الاستصحاب السببي هو نفي الشك تعبدا عن بقاء الجنابة ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب السببي حينما أنتج طهارة الماء تنقح به موضوع الأثر الشرعي وهو ارتفاع حدث الجنابة بالاغتسال به ، فهذا هو منشأ القاعدة القائلة بتقدم الاستصحاب السببي على المسبّبي.

٤١١
٤١٢

تعارض الأدلة

١ ـ التعارض بين الأدلة المحرزة

٢ ـ التعارض بين الأصول العمليّة

٣ ـ التعارض بين الأدلة المحرزة والأصول العملية

٤١٣
٤١٤

تعارض الأدلة

اتضح مما تقدم أنّ الأدلة التي تكون طريقا للتعرّف على الحكم الشرعي الأعم من الواقعي والظاهري على نحوين :

النحو الأول : هو الأدلة المحرزة والتي يكون منشأ جعلها هو كاشفيتها عن الحكم الشرعي الواقعي ، وهي تشمل الأدلة القطعيّة والأدلّة الظنيّة المعتبرة أي التي قام الدليل القطعي على حجيتها.

النحو الثاني : هو الأدلة العمليّة والتي يلجأ إليها الفقيه في حالات فقدان الأدلة المحرزة أو إجمالها ، ومهمة هذا النحو من الأدلة هي تحديد الوظيفة العملية المقررة في ظرف الشك في الحكم الواقعي.

فالكلام إذن يقع حول حالات التعارض بين هذه الأدلّة ، فتارة يكون التعارض بين دليلين من الأدلة المحرزة ، وتارة يكون بين دليلين من الأدلة العمليّة وأخرى يكون بين دليل محرز ودليل عملي.

فالبحث عن تعارض الأدلة يقع في ثلاثة فصول إن شاء الله تعالى.

٤١٥
٤١٦

التعارض بين الأدلة المحرزة

والمراد من التعارض ـ إجمالا وسيأتي إيضاحه ـ هو التنافي بين مدلولي الدليلين بنحو يعلم بعدم واقعية أحدهما.

وقد اتّضح مما تقدم أنّ الأدلة المحرزة على أنحاء فهناك دليل شرعي لفظي وآخر غير لفظي كالسيرة العقلائية ، وهناك دليل عقلي وهو تارة يكون قطعيا وأخرى يكون ظنيا ، وقد اتضح مما مضى حجية الدليل العقلي القطعي ؛ وذلك لحجية القطع والذي لا يختلف الحال فيه بين أن يكون منشأ القطع هو العقل أو شيء آخر ، وأمّا الدليل الظني فلم تثبت له حجيّة ومن هنا لا يكون صالحا لأن يعارض دليلا معتبرا ؛ وذلك لأنّ التعارض فرع التكافؤ ، والتكافؤ لا يكون إلاّ مع حجيّة كلا الدليلين المتعارضين في نفسيهما.

تعارض الدليل العقلي القطعي مع سائر الأدلّة :

لو كان مؤدى الدليل الظني المعتبر في نفسه منافيا لمقتضى الدليل العقلي القطعي ، فهل يقدم الدليل الظني على ما هو مقتضى الدليل العقلي أو العكس؟

والجواب أنّ المقدم في مثل هذا الفرض هو الدليل العقلي القطعي ـ لو اتفق ـ ، وذلك لأنّ الدليل العقلي القطعي يقتضي القطع بخطأ كل دليل مناف

٤١٧

له ، فحينما يقطع المكلّف بحكم فإنّه يقطع بخطأ ما ينافيه.

وبتعبير آخر : إنّ القطع بحكم يلازم القطع بفساد كل حكم مناف لمتعلق الحكم المقطوع ، وإذا كان الحكم المنافي للحكم القطعي العقلي مقطوعا بفساده فهو ساقط عن الحجيّة.

ومثال ذلك لو قطع المكلّف ـ وبمقتضى ما يدركه العقل من قبح الظلم ـ بحرمة قتل اليتيم والذي لم يرتكب جناية إلا أنّه قام دليل ظني متوفر على شرائط الحجيّة وكان مؤداه جواز قتل الطفل اليتيم لو كان متولّدا عن زنا أو الطفل الذي هو مبتلى بمرض معد ، فإنّ هنا لا إشكال في سقوط هذا الدليل عن الحجية للقطع بخطئه.

ثم لا يخفى عليك أنّ التعارض بين الدليل العقلي القطعي ودليل قطعي آخر غير متصوّر ، وذلك لاستحالة القطع بالمتنافيين.

التعارض بين الأدلة الشرعية :

قلنا إنّ الأدلة الشرعية على نحوين : الأدلة الشرعية اللفظية ، الأدلّة الشرعية غير اللفظية ، والتعارض بين هذه الأدلة يتصوّر له ثلاث حالات فتارة يقع التعارض بين دليلين لفظيين وأخرى يقع بين دليلين غير لفظيين وفي حالة ثالثة يكون التعارض بين دليل شرعي لفظي ودليل شرعي غير لفظي.

ولمّا كان التعارض بين الأدلة الشرعيّة اللفظيّة هو الأكثر وقوعا في الفقه فإنّه سوف يتركّز البحث عن هذا النحو من التعارض إلا أنّه لا بأس بذكر مثال لكلّ حالة من الحالتين الأخريين.

الأولى : هي حالة التعارض بين الأدلة الشرعية غير اللفظية ، ومثاله

٤١٨

ما لو وقع التعارض بين إجماع منقول وإجماع آخر منقول ، أو بين سيرة وإجماع منقول او بين سيرة عقلائية وسيرة أخرى عقلائية وهكذا ، فلو ادعي قيام إجماع على حرمة صلاة الجمعة في عصر الغيبة وقام إجماع آخر على وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة فهنا يكون معقد الإجماع الأول منافيا لمعقد الإجماع الثاني فلابدّ حينئذ من معالجة هذا التنافي والتعارض.

الثانية : هي حالة التعارض بين دليل شرعي لفظي وآخر غير لفظي ، وذلك كما لو وقع التعارض بين خبر ثقة وبين إجماع أو سيرة أو شهرة فتوائية ، فلو ادّعي قيام إجماع على حرمة قطع الصلاة من غير عذر إلاّ أنّه في مقابل ذلك دلّت الرواية المعتبرة على عدم وجود البأس في ذلك ، فإنّ هذا نحو تناف بين الدليلين فلابدّ من معالجته.

التعارض بين الأدلّة الشرعيّة اللفظية :

والمراد من التعارض هو التنافي بين مؤدى كل من الدليلين بحيث تحرز عدم واقعية أحدهما ؛ وذلك للتكاذب الواقع بينهما ، فمؤدى الدليل الأول يثبت نفسه وينفي الآخر كما أنّ مؤدى الدليل الثاني هو إثبات نفسه ونفي مؤدى الدليل الآخر ، وهذا التكاذب الواقع بين مؤدى كل من الدليلين ينشأ عمّا ذكرناه من أنّ الأحكام الشرعية متضادة فيما بينها ، ومن هنا فالتعارض يقع حتى في الحالات التي يكون فيها مؤدى أحد الدليلين حكما إلزاميا ويكون مؤدى الآخر حكما غير إلزامي ، فلو نص الدليل الأول على وجوب شيء ونص الآخر على استحبابه فإنّ مؤدى كل من الدليلين يكون معارضا لمؤدى الدليل الآخر.

ثم إنّ مركز التعارض الذي هو محل البحث في المقام هو التعارض

٤١٩

الذي يؤول إلى جعل حكمين متنافيين على موضوع واحد ، فإنّ ذلك لمّا كان مستحيلا اقتضى العلم بكذب أحد الدليلين وإلاّ لو لم تكن الأحكام متنافية ومتضادة فيما بينها لا يكون هناك موجب لتكذيب أحدهما غير المعين ؛ لأنّه من الممكن حينئذ جعل حكمين متضادين على موضوع واحد.

ومن هنا لا بدّ من تمييز الحالات التي يكون فيها الدليلان مقتضيين لحكمين متنافيين عن الحالات التي لا يقتضي فيها الدليلان ذلك.

وهذا ما يستوجب تمييز حالات التنافي في مرحلة الجعل عن حالات التنافي في مرحلة المجعول وعن حالات التنافي في مرحلة الامتثال.

أمّا حالات التنافي في مرحلة الجعل :

الحكم بمرتبة الجعل هو ما يعبّر عنه بالحكم الإنشائي وهو الحكم الذي يجعل على موضوعه المقدّر الوجود أو قل هو الحكم المجعول على موضوعه بنحو القضية الحقيقية ، والأحكام بمرتبة الجعل تنشأ ـ كما ذكرنا مرارا ـ عن ملاكات في متعلّقاتها تستوجب جعل حكم عليها متناسب مع نحو الملاك ومرتبته.

ومن هنا نشأ التنافي بين الأحكام حيث إن ملاكتها لها تقرّر في نفس الأمر والواقع مما يقتضي عدم تناسبها ، فلا يمكن أن يكون المتعلّق الواحد واجدا للمصلحة التامّة والمفسدة التامّة ، ومن هنا يكون الحكم المجعول على المتعلّق هو الحكم المتعيّن واقعا والذي يستحيل أن يثبت غيره لذلك المتعلّق ، وهذا هو معنى أنّ أحكام الله تعالى ليست جزافية.

وإذا كان كذلك في مقام الثبوت والواقع فمقام الإثبات والدلالة لا بدّ أن يكون متناسبا مع مقام الثبوت ، فحينما تكون الأدلة مقتضية لثبوت حكمين

٤٢٠