شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

بعد الوقت المعتاد كأن طرقها الحيض بعد خمسة أيام من وقتها المعتاد ، فهنا يقع الشك في حرمة وطء هذه المرأة.

ومنشأ الشك هو انتفاء خصوصية الوقت الذي نحتمل أنّه جزء لموضوع الحرمة ، فهل يجري استصحاب الحرمة في هذه الحالة أو لا؟

وهذا النحو من الاستصحاب الذي نبحث عن جريانه أو عدم جريانه هو المعبّر عنه بالاستصحاب التعليقي ، كما أن الحكم الذي يراد استصحابه يعبّر عنه بالحكم التعليقي.

وتلاحظون أنّ الشك في المقام ليس في بقاء أصل الجعل ، بل إنّ الجعل وهو حرمة وطء الحائض لا زال محرزا ، كما أنّ الشك ليس في بقاء فعليّة الحكم بحرمة وطء الحائض ، إذ لم تكن الفعليّة معلومة حتى يقع الشك في بقائها ، إذن فما هو مورد الشك في مثل هذه الحالة؟

والجواب هو أنّ مورد الشك في مثل هذه الحالة هو الحكم التعليقي ـ الذي لم يكن قد بلغ مرحلة الفعليّة ـ وهو تلك القضية الشرطية التي صغناها والتي هي « إنّ هذه المرأة لو طرقها الحيض في هذا الوقت لحرم وطؤها » فهذه هي مورد الشك في المقام ، حيث إنّنا نشك في أنّ هذه المرأة التي علّق الحكم بحرمة وطئها على طروء الحيض في ذلك الوقت هل لا زال كذلك أم لا؟

فلو كنّا نقول بجريان الاستصحاب في الحكم التعليقي فإن بالإمكان استصحاب تلك القضيّة المعلومة سابقا إلى زمان الشك ، وبهذا الاستصحاب يصل الحكم إلى مرحلة الفعليّة حيث افترضنا أنّ المرأة قد طرقها الحيض.

٣٨١

وبما ذكرناه يتضح معنى قول المصنّف رحمه‌الله من أنّ الشك في موارد استصحاب الحكم التعليقي لا هو شك في الجعل ولا هو شك في المجعول بل هو حالة وسطى ما بين الشك في الجعل والشك في المجعول.

وبرزخيّة هذا الشك نشأت عن أنّ أصل الجعل يبقى محرزا في مورد هذا الشك كما أنّ فعليّة الحكم كانت متيقنة العدم فلا شك في بقائها ، نعم هناك شك في حدوثها.

واتضح أيضا مما ذكرناه أنّ مجرى الاستصحاب التعليقي إنّما هو القضية الشرطية التي كانت معلومة أو قل إنّ مجرى الاستصحاب هو الحكم المعلّق.

وبهذا نكون قد حررنا معنى الاستصحاب التعليقي وبه نصل إلى البحث عن دليل جريانه أو عدم جريانه.

أمّا دليل جريان مثل هذا الاستصحاب فهو أنّ أركان الاستصحاب في مورده تامة ، حيث إنّ الحكم المعلّق كان محرزا ثم وقع الشك في بقائه فنستصحب الحالة السابقة إلى ظرف الشك في البقاء ، وباستصحاب الحكم المعلّق يصل الحكم إلى مرحلة الفعليّة لو افترضنا تحقق الخصوصية المفقودة في ظرف العلم كما لو أنّ المرأة ـ في المثال ـ قد طرقها الحيض فعلا ، أما لو لم يطرقها الحيض فالاستصحاب التعليقي لا ينتج إلاّ التعبّد ببقاء القضية الشرطية وهي أنه متى ما طرقها الحيض فإنّ وطأها يكون محرما.

وفي مقابل دعوى جريان الاستصحاب التعليقي ذهب المحقق النائيني رحمه‌الله إلى عدم إمكان جريان استصحاب الحكم المعلّق واستدلّ على ذلك بما حاصله :

٣٨٢

إنّ الحالة البرزخيّة في مورد استصحاب الحكم المعلّق ليس لها معنى محصل ، فالأحكام الشرعية أما هي بمرتبة الجعل أو بمرتبة المجعول والفعلية ، فالشك إمّا أن يقع في بقاء أصل الجعل وإمّا في بقاء فعلية الحكم المعبّر عنه بالمجعول ، وإذا كان كذلك فأركان الاستصحاب ليست تامة في مورد الشك في الحكم المعلّق ؛ وذلك لأنّ الحكم بمرتبة الجعل محرز البقاء فالركن الثاني للاستصحاب وهو الشك في البقاء منتف في هذه الصورة ، وأما الحكم بمرتبة المجعول والفعليّة فليس له حالة سابقة معلومة وبهذا يكون الركن الأول للاستصحاب وهو اليقين بالحدوث منتفيا ، نعم هناك علم بالقضية الشرطية أو قل الحكم المعلّق وشك في بقائه إلاّ أن ذلك لا يبرّر جريان الاستصحاب ، إذ ليس عندنا في الشريعة قسم ثالث للأحكام الشرعية ، فيتعين أن يكون الشك في مثل هذه الحالة شكا في فعلية الحكم ، ولمّا لم يكن للفعليّة حالة سابقة فلا يجري حينئذ الاستصحاب.

استصحاب التدريجيّات :

ومورد البحث في المقام هو الوجودات التي ليس لها قرار والتي يكون الوجود الآخر المسانخ لها منوطا بتصرمها وانعدامها ، ويمكن أن نعبّر عن هذا النحو من الوجودات بالوجودات السيّالة والتي طبعها عدم القرار وهي المعبّر عنها بالزمانيات عند الحكماء.

ومثالها ما لو وقفت على نقطة من نهر جار فإنّه يبدو بالنظرة السطحية أنّ الماء الذي وقع نظرك عليه لحظة وقوفك عند تلك النقطة هو عين الماء الذي تراه بعد فترة من الزمن عند تلك النقطة والحال أنّ الواقع

٣٨٣

ليس كذلك ، ومنشأ هذا التصور هو الحالة الاتصالية للوجودات المتعاقبة على تلك النقطة.

وهذا النحو من الوجودات هو مورد البحث في المقام ، وتصوير جريان الاستصحاب في مثل هذه الموارد هو أنّه لو أحرزنا تحقق وجود من قبيل هذا النحو من الوجودات الزمانية ثم وقع الشك في انقطاع هذا الوجود فهل يصح إجراء الاستصحاب أو لا؟

ومثاله ما لو علمنا بشروع زيد في قراءة القرآن والتي هي موضوع لوجوب الإنصات ثم شككنا بعد ذلك في انقطاعه عن القراءة فهل يجري استصحاب استمراره في القراءة أم لا؟

ومن الواضح أنّ القراءة من الوجودات الزمانية السيّالة والتي من طبعها عدم القرار ، فالقارئ لا يصل إلى الحرف الثاني إلاّ بعد تصرّم الحرف الأول وهكذا.

ومن هنا قيل بعدم جريان استصحاب التدريجيات أي بعدم جريان استصحاب الوجودات المتعاقبة والتي لها وحدة اتصالية بالنظرة العرفية وإلا فهي بالنظرة الدقيّة ليس لها اتصال ؛ إذ أنّ الوجود لا يتصل بالعدم ، ولمّا كان الحرف الأول قد انعدم فكيف يقال بأنّه متصل بالوجود للحرف الثاني؟!

ومنشأ القول بعدم جريان استصحاب التدريجيات واضح ، إذ أنّ المعلوم حدوثه قد انصرم وانعدم قطعا وهذا يعني أنّه لا شك في بقائه ، وبهذا يكون الركن الثاني مختلا ، كما أنّ الركن الأول لا يتفق تحققه في مورد استصحاب التدريجيات ؛ إذ أنّ الركن الأول هو اليقين بالحدوث ومن

٣٨٤

الواضح أنّه لا علم لنا بالحدوث الثاني ، والذي نعلم بحدوثه قد انصرم قطعا فعندنا شك بالحدوث الثاني ويقين بانقطاع الحدوث الأول وفي مثل هذه الحالة كيف يجري الاستصحاب؟!

إلا أنّه لا محصل لهذا الإشكال ؛ وذلك لأنّ الخطابات الشرعية ليست مبنيّة على المداقة العقليّة ، ولذلك لا بدّ من فهم الخطابات الشرعيّة بالشكل الذي يتناسب مع المتفاهم العرفي ، ومن هنا يمكن القول بشمول أدلة الاستصحاب لهذا المورد ؛ وذلك لأنّ العرف يعتبر هذه الوجودات المتعاقبة وجودا واحدا استمراريا فحينما يعلم بأصل الوجود ثم يشك في الانقطاع فإنّ هذا الشك يساوق الشك في البقاء والاستمرار لذلك الوجود ، فإنّ ذلك الوجود المعلوم وإن كان بحسب الدقة العقليّة قد انصرم إلا أنّه وبحسب النظرة العرفيّة لا يحرز انقطاعه ؛ وذلك لأن الوحدة الاتصالية بين الوجودات المتعاقبة أوجبت اعتبار تلك الوجودات وجودا واحدا ، وإذا كان كذلك فالشك حينئذ لا يكون شكا في الحدوث الجديد وإنّما هو شك في بقاء ما هو معلوم الحدوث.

فحينما يعلم المكلّف بشروعه في الصلاة ـ والذي هو موضوع لحرمة القطع ـ ثم يقع الشك منه في البقاء على الصلاة فإن هذا الشك ليس شكا في الحدوث ؛ وذلك لأن الصلاة وإن كانت وجودات متعاقبة ووجود الثاني فيها منوط بتصرّم الأول إلاّ أنّ الوحدة الاتصالية بين وجودات الصلاة صيّرت من الصلاة وجودا واحدا ، وهذا ما أوجب اعتبار الشك في حدوث الجزء الأخير شكا في بقاء الصلاة ، ومن هنا أمكن جريان الاستصحاب.

٣٨٥

استصحاب الكلّي :

وضابطة التعرّف على الفرق بين الاستصحاب الكلّي والاستصحاب الجزئي هو ملاحظة المستصحب ، فإذا كان المستصحب جزئيا فالاستصحاب في مورده جزئي وإن كان المستصحب كليّا فالاستصحاب في مورده كلي.

وقد تجتمع في المستصحب كلا الخصوصيتين ولكن بلحاظين مختلفين ، فحينما تكون الخصوصية الملحوظة في المستصحب هي حدوده الشخصيّة والتي لا تصدق على غيره فالاستصحاب في مورد هذا المستصحب يكون جزئيا ، وحينما تكون الخصوصية الملحوظة في المستصحب هي الجهة الكلية والناشئة عن وقوعه في إطار حقيقة نوعيّة فالاستصحاب في مورد هذا المستصحب يكون كليّا.

وباتضاح المراد من الاستصحاب الكلّي يقع الكلام في أقسامه ، وتقسيم الاستصحاب الكلي إنّما هو باعتبار اتحاده واختلافه مع فرده من حيث التوفّر على ركني الاستصحاب وهما اليقين والشك ، فإذا ما توفّر كلا الركنين في المستصحب بعنوانه الشخصي وعنوانه الكلّي فالاستصحاب في هذا المورد يعبّر عنه بالقسم الأول من الاستصحاب الكلّي ، وإذا ما توفّر كلا الركنين في المستصحب بعنوانه الكلي دون المستصحب بعنوانه الشخصي فاستصحاب الكلي يكون من القسم الثاني ، وإذا كان أحد الركنين مختلا في المستصحب بعنوانه الشخصي والركن الآخر مختل في المستصحب بعنوانه الكلي فالاستصحاب الكلي في هذا المورد من القسم الثالث فأقسام

٣٨٦

الاستصحاب الكلي ثلاثة :

القسم الأوّل : أن يكون المستصحب بعنوانه الشخصي وبعنوانه الكلّي معلوم الحدوث ومشكوك البقاء.

ومثاله ما لو علمت بأني قد رزقت ولدا ذكرا فهنا أكون قد علمت أيضا بوجود جامع الولد ، فلو شككت بعد ذلك في بقاء ذلك الولد الذكر وشككت معه أيضا في بقاء جامع الولد لي ، فلو كان الأثر الشرعي الذي أبحث عن ترتّبه هو وجوب ختن الولد فالاستصحاب إنّما يكون للفرد ؛ وذلك لأنّ الأثر الشرعي وهو وجوب الختن مترتب على وجود الولد الذكر الذي كان محرز الوجود ولا يجري استصحاب الكلّي ؛ لأنّ الاستصحاب لا يجري إلاّ في حالة يكون للمستصحب على فرض بقائه إلى حين ظرف الشك أثر عملي من تنجيز أو تعذير وبقاء الكلّي في المقام لا يترتب عليه الأثر كما هو واضح ، إذ أنّ وجوب الختن لا يترتب على وجود جامع الولد بعنوانه السّعي بل هو مترتّب على وجود المستصحب بحدوده الشخصية إذ قد يكون الكلّي موجود في ضمن البنت.

أما لو كان الأثر العملي الذي نبحث عن ترتّبه هو وجوب النفقة على الولد فإنّ الاستصحاب الشخصي لا يجري في المقام لعين ما ذكرناه في الفرض الأول ، والذي يجري في هذا الفرض هو استصحاب بقاء كلّي الولد ، إذ هو موضوع وجوب النفقة.

القسم الثاني : أن يكون المستصحب بعنوانه الشخصي وبعنوانه الكلّي محرز الوجود إلاّ أنّ المستصحب بعنوانه الشخصي نقطع بعد ذلك بانتفائه ويكون المستصحب بعنوانه الكلّي مشكوك البقاء.

٣٨٧

فهنا لا يجري الاستصحاب الشخصي قطعا ؛ وذلك لانتفاء الركن الثاني في مورده وهو الشك في البقاء إذ أنّ الفرض هو القطع بانتفاء الوجود الشخصي للمستصحب ، ويبقى الكلام في المستصحب الكلي هل يجري فيه الاستصحاب لو كان هناك أثر عملي مترتّب على جريانه أو أنّه لا يجري؟

ومثاله ما لو علم المكلّف بعروض حدث إلا أنّه لا يعلم بهوية ذلك الحدث فلعلّه بول ولعلّه جنابة ، فلو توضأ هذا المكلّف بعد ذلك ، فهنا لو كان الحدث الذي عرض عليه هو حدث البول فهذا يعني أنّه ارتفع قطعا أما لو كان الحدث هو الجنابة فهذا يعني أنه لا زال باقيا على الحدث.

فاستصحاب الحدث الأصغر غير ممكن ، وذلك لاختلال الركن الثاني في مورده وهو الشك في البقاء ، إذ لا شك في البقاء بحسب الفرض بل هو قطع بالارتفاع ، وكذلك لا يمكن استصحاب الحدث الأكبر وذلك لاختلال الركن الأول في مورده إذ أنّه لا علم بأصل وجوده حتى يكون الشك فيه شكا في البقاء ، فلو كان هناك أثر شرعي مترتب على خصوصية الحدث الأكبر « الجنابة » لما أمكن ترتيبها.

ومن هنا قد يقال بعدم جريان الاستصحاب الكلّي من القسم الثاني ؛ وذلك لأن الفرد المردد المحرز الوجود سابقا إن كان هو الأول وهو الحدث الأصغر فهو محرز الانتفاء وإن كان هو الثاني وهو الحدث الأكبر فهو مشكوك الحدوث.

إلاّ أنّ الصحيح هو جريان الاستصحاب في هذا القسم ؛ وذلك لتمامية أركانه لو قطع النظر عن الحدود الشخصية لأفراده ، فطبيعي الحدث كان محرز الوجود ثم بعد أن توضأ المكلّف شك في ارتفاع طبيعي الحدث ،

٣٨٨

فيجري استصحاب طبيعي الحدث لوجود ركني الاستصحاب في مورده ، نعم جريان استصحاب الكلّي منوط ـ كما ذكرنا مرارا ـ بوجود أثر عملي مترتّب على بقاء الكلي بعنوانه السعي أما لو لم يكن أثر عملي مترتّب على بقاء الكلّي فالاستصحاب لا يجري.

وفي المثال الذي فرضناه يمكن إجراء استصحاب الكلّي ؛ وذلك لوجود أثر عملي على بقاء الكلي بعنوانه ، وذلك مثل حرمة مس كتابة القرآن والدخول في الصلاة ، أمّا الآثار الشرعية المترتبة على خصوص حدث الجنابة فلا يصلح استصحاب الكلّي لتنقيح موضوعها ، وذلك مثل المكث في المسجد أو عبور أحد المسجدين المقدسين « المسجد النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسجد الحرام زادهما الله شرفا ومنعة » ، إذ أنّ حرمة المكث في المسجد وكذلك عبور المسجدين الشريفين موضوعها الجنابة لا جامع الحدث كما هو واضح.

القسم الثالث : أن يكون المستصحب بعنوانه الشخصي محرز الوجود وهذا يعني أنّه بعنوانه الكلّي كذلك إلاّ أنّ الكلّي المعلوم هو الكلّي الذي في ضمن المستصحب الشخصي ، ثم بعد ذلك نقطع بانتفاء المستصحب بعنوانه الشخصي إلاّ أنّه نحتمل وجود الكلّي في ضمن فرد آخر قبل انتفاء وجود الفرد « المستصحب الشخصي » المحرز سابقا أو نحتمل وجود الفرد الآخر ساعة انتفاء وجود الفرد الأوّل.

ومثاله ما لو علم المكلّف بوقوع دم على ثوبه فهذا يقتضي أن يكون قد علم بوقوع نجاسة خبثية على ثوبه ، فلو قطع المكلّف بعد ذلك بزوال الدم عن ثوبه إلاّ أنّه احتمل وقوع بول مثلا على ثوبه قبل إزالة الدم أو

٣٨٩

حين إزالته بحيث لم تخل الثوب عن جامع النجاسة أو قل لم يتخلل وقت كانت فيه الثوب طاهرة تماما.

فهنا لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب الشخصي والذي هو استصحاب بقاء الدم في الثوب ؛ وذلك للقطع بزواله ، وكذلك لا يمكن استصحاب بقاء البول بعنوانه الشخصي في الثوب لعدم العلم بوقوعه فالركن الأول منتف ، نعم قد يقال بجريان استصحاب الكلّي والذي هو محرز الوجود سابقا ـ نتيجة العلم بوقوع الدم على الثوب ـ ومشكوك البقاء فعلا لاحتمال أنّه ارتفع بإزالة الدم ولاحتمال عدم ارتفاعه لوقوع البول على الثوب قبل إزالة الدم أو حين إزالته.

إلاّ أنّ الصحيح بنظر المصنّف رحمه‌الله هو عدم جريان استصحاب الكلي من القسم الثالث ؛ وذلك لعدم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة في مورده ، فإنّ القضيّة المتيقنة هي كلّي النجاسة في ضمن الدم والقضية المشكوكة هي كلّي النجاسة في ضمن البول ، فالكلّي المعلوم محرز الانتفاء والكلّي المشكوك غير محرز الحدوث فلو كان الكلّيّ موجودا فعلا لكان غير الكلّي المعلوم سابقا.

هذا هو المبرّر لعدم جريان استصحاب الكلّي من القسم الثالث ، وهذا بخلاف القسم الثاني فإن الكلّي الذي علمنا بوجوده حين وجود الفرد يكون هو المشكوك بقاء حين انتفاء الفرد ؛ وذلك لأنّنا افترضنا هناك أنّ الفرد كان مرددا من أول الأمر فلم نكن نعلم بهوية الحدث الذي صدر من المكلّف هل هو حدث البول أو حدث الجنابة؟

أما في المقام فنحن نعلم بهوية الفرد الذي علمنا بوجوده وهو في

٣٩٠

المثال وقوع الدم على الثوب ومنشأ الشك في بقاء الكلّي هو فرد آخر وهو في مثالنا وقوع البول على الثوب ، ومن هنا قلنا بعدم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة.

وبتعبير آخر : إنّ الكلّي الذي أحرزنا وجوده أحرزنا بعد ذلك انتفاءه ، نعم يحتمل أنّه قد تولّد كلي آخر إلا أنّه غير الكلّي الأول ؛ وذلك لأنه بعد أن انتفى الكلّي الأول كيف يكون هو عينه الكلّي المشكوك البقاء.

فالنتيجة أنّ المتيقن لمّا كان غير المشكوك فلا يجري الاستصحاب.

الاستصحاب في حالات التقدم والتأخر :

لا ريب في جريان الاستصحاب في حالة يكون المكلّف عالما بالحدوث ثم بعد ذلك شك في بقاء ذلك الحادث ، فإنّ الاستصحاب في هذا الفرض يقتضي ترتيب آثار بقاء الحادث.

كما لا ريب في جريان الاستصحاب في حالة يقطع فيها المكلّف بعدم الحدوث ثم بعد ذلك يشك في ارتفاع العدم بأن احتمل تحقّق وجود الحادث المعلوم العدم سابقا ، فهنا يجري استصحاب عدم الحادث.

ومثاله استصحاب عدم التذكية ؛ وذلك للعلم بعدم تحقق التذكية حال حياة تلك الشاة ثم لمّا أن ماتت احتملنا أن موتها كان عن تذكية فيجري استصحاب عدم التذكية المعلوم سابقا.

فكلا الصورتين المذكورتين يجري الاستصحاب في مورديهما بوضوح ، إذ ليس فيهما ما يوجب الغموض في كيفية تطبيق أصالة الاستصحاب ، ومن هنا لم يقعا محلا للبحث في المقام.

٣٩١

وما هو محل البحث هو موارد العلم بالحدوث والعلم بالارتفاع والجهل بتاريخ الارتفاع أو تاريخ الحدوث أو تاريخيهما معا.

والكلام أولا عن الحالات التي يكون فيها العلم بالارتفاع مجهول التاريخ ويكون العلم بالحدوث معلوم التاريخ ، وهنا حالتان ، كل حالة لها فرضان :

الفرض الأول : أن يكون هناك علم بالحدوث ويكون بعد ذلك علم بانتفاء الحادث إلاّ أنّ الشك في زمان انتفاء الحادث بحيث يدور زمان انتفاء الحادث بين التقدم والتأخر ، أو بعبارة أخرى بين الزمان الأول والزمان الثاني ، وهذا يعني أنّ الزمان الأول هو زمان توفّر الركن الثاني ؛ وذلك لأنّ دوران انتفاء الحادث بين الزمان الأول والزمان الثاني لا يرفع الشك في البقاء عن الزمان الأول بل نبقى نحتمل أنّ انتفاء الحادث إنما هو في الزمان الثاني ، وهذا يعني أنّ الزمان الثاني هو الزمان الذي يكون فيه الحادث منتفيا قطعا بخلافه في الزمان الأول فإنّ الحادث يحتمل أن يكون باقيا على حاله.

وتلاحظون أنّ الموضوع الذي كنا على يقين بحدوثه هو تمام الموضوع الذي يراد استصحابه في الزمان الأول لا أن الذي يراد استصحابه هو جزء الموضوع والجزء الآخر ثابت بالوجدان فإنّ هذا خارج عن الفرض.

ومثال ذلك ما لو علمت المرأة بطروء حدث الحيض عليها ثم بعد ذلك تيقنت بارتفاع حدث الحيض إلاّ أنّ زمان انقطاع الحيض مردد بين أول الفجر أو بعد طلوع الشمس فهنا نقول : إنّه لا إشكال في انتفاء آثار حدث الحيض بعد طلوع الشمس ؛ وذلك لليقين بارتفاع الحدث ، إنما

٣٩٢

الكلام في الزمان الأول وهل أنّ احتمال كونه زمان انقطاع حدث الحيض موجب لانتفاء آثار الحيض في ظرفه « الفجر » أو لا؟

والصحيح أنّ احتمال كونه زمانا للانقطاع لا يبرّر انتفاء آثار الحيض في ظرفه ؛ وذلك لأن هذا التردد يساوق الشك في البقاء على حدث الحيض ، وإذا كان كذلك فيجري الاستصحاب في الزمان الأول إلى حين تحقق الزمان الثاني « طلوع الشمس » ، إلاّ أنّ جريان استصحاب بقاء حدث الحيض في الزمان الأول منوط بوجود أثر شرعي مترتّب على بقاء حدث الحيض كعدم وجوب قضاء صلاة الصبح فإنّ موضوع عدم الوجوب هو نفس بقاء حدث الحيض ، وبهذا يجري استصحاب حدث الحيض إلى الفجر.

الفرض الثاني : هو نفس الفرض الأول إلا أنّه يختلف من حيث إنّ الأثر الشرعي لا يترتب على نفس المستصحب وإنّما يترتب على لازمه العقلي أو العادي ، وفي مثل هذه الحالة لا يجري الاستصحاب ؛ لأنّ إجراءه مبني على القول بحجيّة الأصل المثبت وقد اتضح مما سبق عدم ثبوت الحجيّة له.

ومثال ذلك ما لو افترضنا بأن موضوع جواز وطء المرأة ـ في المثال السابق ـ هو النقاء والطهر بعد الزمان الثاني « طلوع الشمس » فإن هذا الأثر لا يترتّب بواسطة استصحاب بقاء حدث الحيض إلى الزمان الأول ؛ وذلك لأن انقطاع الحدث وحصول النقاء بعد طلوع الشمس إنما هو لازم عقلي لعدم انقطاعه عند الفجر ، إذ أنّه لمّا كان الانقطاع دائرا بين الفجر وطلوع الشمس فإنّ جريان استصحاب عدم الانقطاع عند الفجر يقتضي

٣٩٣

تعيّن الانقطاع والنقاء عند طلوع الشمس.

وتلاحظون أنّ ذلك لم يترتّب على نفس المستصحب وإنّما هو مترتّب على لازم المستصحب ، وأدلة الاستصحاب قاصرة عن إثبات التعبّد بلوازم المستصحب ، نعم يمكن إثبات تحقق موضوع جواز الوطء بواسطة العلم بالنقاء عند طلوع الشمس.

والحالة التي ذكرناها بفرضيها إنّما تناسب حالة العلم بالحدوث والشك في الانتفاء والارتفاع في الزمان الأول ، إذ أننا نعلم بحدوث الحيض ونشك في الزمان الأول في الانقطاع.

وهناك حالة أخرى وهي ما لو كنا نعلم بعدم الحدوث ونشك في الزمان الأول بتحقق الحدوث وانتفاء العدم.

ومثاله ما لو كنا نعلم بعدم الطهارة من الحدث ثم علمنا بتحقق الطهارة الحدثيّة إلا أنّه وقع التردد في زمان تحقق الطهارة وانتفاء عدمها وهل أنها وقعت بعد الفجر أو بعد طلوع الشمس؟ وهنا يأتي نفس الكلام الذي ذكرناه في الفرضين من الحالة الأولى فتأمل.

والكلام ثانيا : عن الحالات التي يكون فيها الحدوث محرز التاريخ إلا أنّ الإرتفاع مجهول التاريخ مع افتراض أن مورد الاستصحاب هو جزء الموضوع الذي يترتّب عليه الأثر الشرعي مع كون الجزء الآخر محرز الوجود.

الحالة الأولى : وهي ما لو كان موضوع الأثر الشرعي مركبا من جزءين ، أحد الجزءين محرز الوجود فعلا والآخر محرز الانتفاء فعلا إلا أنّه كان محرز الوجود في حالة سابقة والشك إنّما هو في زمن انتفاء تلك الحالة

٣٩٤

وهل هو الزمان الأول أو هو الزمان الثاني؟

ومثاله ما لو كان الأثر الشرعي ـ وهو استحقاق الحفيد لميراث جده ـ منوطا بتحقق موضوع مركّب من جزءين ، الأول هو موت الجد والثاني هو عدم إسلام الولد المباشر إلى حين موت جد الحفيد ، فلو كان أحد الجزءين محرز الوجود وهو مثلا موت الجد في يوم الجمعة وكان الجزء الآخر لموضوع الأثر الشرعي محرز العدم فعلا إذ أنّ الولد المباشر مسلم فعلا أي ارتفعت حالته السابقة وهي عدم الإسلام إلاّ أنّ الشك في زمن ارتفاع حالة الكفر وعدم الإسلام ، فلو كان تحقق الإسلام قبل موت جد الحفيد فهذا يعني أن موضوع الأثر الشرعي وهو استحقاق الحفيد لميراث الجد غير متحقق بتمامه ، فهو وإن كان الجزء الأول لموضوع الأثر متحققا قطعا ـ إذ أننا بحسب الفرض نعلم بموت الجد ـ إلا أنّ الجزء الآخر غير متحقق وهو عدم إسلام الولد إلى حين موت الأب ، حيث إنّه ـ بحسب الفرض ـ قد أسلم الولد قبل موت أبيه « جد الحفيد » ، ومن هنا لا يترتب الأثر الشرعي فلا يستحق الحفيد ميراث جده.

وأمّا لو وقع التردد في الزمن الذي تحقق فيه إسلام الولد وهل هو الزمن الأول والذي هو قبل زمان موت الأب « جد الحفيد » أو هو الزمن الثاني والذي هو بعد زمان موت الأب؟ ففي هذه الحالة يكون الزمن الأول ظرفا للشك في بقاء الولد المباشر على الكفر ، وهنا يمكن إجراء استصحاب كفر الولد المباشر إلى حين موت الجد وبضم مؤدى الاستصحاب إلى ما هو محرز بالوجدان يتنقّح موضوع الأثر الشرعي ويكون الحفيد بذلك مستحقا لميراث جده.

٣٩٥

وتلاحظون أنّ فرض المسألة هو كون الأثر الشرعي مترتّب على نفس الموضوع المركّب غايته أنّ تنقّح الموضوع نتج عن ضم ما بالوجدان إلى ما بالتعبّد.

ولنذكر مثالا آخر ليكون المطلب أكثر وضوحا : لو كان وجوب قضاء فوائت الأب على البنت منوطا بموضوع مركّب من جزءين ، الأول هو موت الأب والثاني هو عدم وجود ولد له حين موته ، فلو كان موت الأب محرزا بالوجدان والجزء الثاني محرز الانتفاء فعلا ، إذ أنّنا نحرز وجود الولد فعلا إلا أنّه لا ندري هل أنّ وجود الولد قد تحقق قبل موت الأب فينتفي وجوب القضاء عن البنت أو أنّ وجود الولد حدث بعد وفاة الأب ، أي أنّ وجود الولد هل تحقق في الزمان الأول أو الثاني ، فهنا يكون الزمان الأول ظرفا للشك في استمرار العدم للولد ، ومن هنا يمكن استصحاب عدم الولد إلى حين موت الأب وبضمه إلى الجزء الآخر المحرز بالوجدان ـ وهو موت الأب ـ يتنقح موضوع الأثر الشرعي وهو وجوب القضاء عن الأب على البنت.

وتلاحظون أننا في المثالين قد أجرينا استصحاب بقاء الجزء الثاني رغم العلم بانتفائه حين إجراء الاستصحاب ؛ وما ذلك إلا لأنّ المناط في جريان الاستصحاب هو توفّر أركانه في الوقت الذي يراد إجراء الاستصحاب بلحاظه.

الحالة الثانية : المفروض في الحالة الأولى هو ما لو كان موضوع الأثر المركّب هو تواجد كلا الجزءين من دون أن يؤخذ فيه قيد الاقتران والاجتماع ، ومن هنا قلنا إنّ إجراء استصحاب الجزء الآخر يحقق الموضوع

٣٩٦

المركب وبذلك يترتب الأثر الشرعي.

أما الحالة الثانية فنفترض فيها أن الموضوع المركّب من الجزءين أخذ فيه قيد الاقتران بين الجزءين ، وفي هذه الحالة لا ينتج الاستصحاب ترتّب الأثر الشرعي إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت ؛ وذلك لأنّ استصحاب الجزء الآخر لا يثبت بنفسه حالة الاقتران والتي هي مأخوذة في موضوع الأثر الشرعي ، نعم الاقتران هو لازم وجود المستصحب إلا أنّه قد ذكرنا أنّ أدلة الاستصحاب قاصرة عن إثبات التعبّد بلوازم المستصحب.

مثلا : لو أضفنا على موضوع الأثر في المثالين السابقين قيد الاقتران لكان الاستصحاب غير منتج للأثر الشرعي ، ففي المثال الأول لو كان موضوع استحقاق الحفيد لميراث الجد هو اقتران موت الجد مع كفر الولد المباشر فإنّ بالإمكان استصحاب كفر الولد إلى حين موت الجد إلاّ أنّه لا يمكن إثبات اقتران الموت مع كفر الولد ؛ وذلك لأن المستصحب المعلوم سابقا هو كفر الولد وهو الذي تعبدنا الشارع باستصحابه ، وأما الاقتران فهو غير المستصحب ، نعم لازم بقاء المستصحب إلى حين موت الجد هو اقتران المستصحب وهو الكفر مع موت الجد إلاّ أنّ ذلك لا ينفع ، إذ لا سبيل لإثباته لا بالوجدان كما هو مقتضى الفرض ولا بالتعبد لقصور أدلة الاستصحاب عن شمول لوازم المستصحب.

الحالة الثالثة : وهي نفس الحالة الأولى إلا أنها تفترض أنّ الاستصحاب يكون ناتجه نفي الأثر الشرعي ، وذلك بافتراض أنّ الجزء الآخر للموضوع المركّب منفي بالاستصحاب ولهذا لا يكون موضوع الأثر الشرعي تاما وعليه لا يترتب ذلك الأثر.

٣٩٧

ففي المثال الأول افترضنا أنّ موضوع استحقاق الحفيد للميراث هو موت الجد وكفر الولد المباشر إلى حين موت الجد للحفيد ، والجزء الأول في مفروض هذه الحالة متحقق ، فلو افترضنا أنّ الولد كان مسلما ثم كفر ووقع التردد في زمان كفره وهل الزمان الأول أي قبل موت الأب « جد الحفيد » فيتحقق موضوع الأثر الشرعي ويكون الحفيد مستحقا لميراث الجد أو هو الزمان الثاني وهو ما بعد وفاة الجد للحفيد؟ وهنا يمكن استصحاب بقاء الولد على الإسلام إلى حين موت الجد للحفيد وبه ينتفي استحقاق الحفيد لميراث الجد.

وفي المثال الثاني والذي قلنا فيه إن موضوع وجوب قضاء فوائت الأب على البنت مترتّب على موضوع مركب وهو موت الأب وعدم وجود الولد ، فلو كنا نعلم بوجود الولد سابقا ثم أحرزنا موته إلا أنّه وقع الشك في زمان موت الولد وهل هو قبل موت الأب فيثبت وجوب القضاء على البنت أو هو بعد زمان موت الأب فينتفي وجوب القضاء على البنت؟ فإنّ لنا أن نستصحب بقاء الولد إلى حين موت الأب فينتفي بذلك وجوب القضاء على البنت.

حالات مجهولي التاريخ :

لو افترضنا أنّ حكما من الأحكام الشرعية مترتّب على موضوع مركب من جزءين فهنا تارة يعلم بوجود الجزءين فلا كلام ، وتارة يعلم بوجود الجزء الأول ويشك في الثاني والشك في الثاني تارة يكون شكا في البقاء فيستصحب البقاء ويترتّب بذلك الحكم الشرعي وتارة يكون شكا

٣٩٨

في الحدوث فيستصحب عدم الحدوث ، فلا يكون موضوع الأثر موجودا فينتفي الأثر الشرعي المرتّب على الموضوع المركب ، وكلّ ذلك خارج عن محلّ الكلام.

وهناك حالة يكون فيها أحد الجزءين محرز الثبوت ابتداء ثم أصبح محرز العدم والجزء الآخر كان محرز العدم ثم أصبح محرز الوجود ، وفي مثل هذه الحالة تارة يعلم أنّ زمان الوجود للجزء الأوّل قد اجتمع مع زمان الوجود للجزء الثاني وهنا لا كلام ، ومثاله ما لو افترضنا أنّ استحقاق الولد للميراث مرتّب على إسلام الولد وموت الأب حين إسلام الولد ، فلو كنّا نعلم بإسلام الولد ثم علمنا بكفره ونعلم بحياة الأب ثم علمنا بموته إلاّ أنّنا نعلم أيضا بأن إسلام الولد ـ والذي هو الجزء الأول لموضوع الأثر ـ هو متحقق في زمن موت الأب فهنا لا كلام في ترتّب الأثر الشرعي وهو استحقاق الولد لميراث أبيه ، وذلك ليس ناشئا عن الاستصحاب وإنّما هو ناشئ عن العلم بتحقق موضوع الأثر الشرعي ، وكذلك الكلام لو علمنا بعدم اجتماع الجزئين في زمن واحد فإنّ الأثر الشرعي محرز الانتفاء لإحراز انتفاء موضوعه.

وتارة نشك في اجتماع زمان الوجود للجزء الأول مع زمان الوجود للجزء الثاني بأن نحتمل انتفاء الجزء الأول قبل تحقق الجزء الثاني أو قل عدم الجزء الثاني حين وجود الجزء الأول.

ومثاله : لو كان الأثر الشرعي ـ وهو استحقاق الولد للميراث ـ مرتب على موضوع مركّب ـ وهو حياة الولد وموت الأب حين حياة الولد ـ ، فلو علمنا بحياة الولد ـ وهو الجزء الأول ـ ثم علمنا بوفاته ولكنا

٣٩٩

لا ندري متى توفي الولد ، ولو علمنا كذلك بحياة الأب ثم علمنا بوفاته إلاّ أنّه لا نعلم متى توفي الأب ، فهنا نقول : لو كنّا نعلم بوقت وفاة الأب وأنه يوم الجمعة مثلا إلا أنّه نشك في زمان وفاة الولد لكان بالإمكان استصحاب حياة الولد إلى حين موت الأب ، وبهذا يستحق الولد الميراث ، ولو افترضنا العلم بزمان وفاة الولد وأنه يوم الجمعة مثلا إلاّ أنّه وقع الشك في زمان وفاة الأب لكان بالإمكان استصحاب حياة الأب إلى حين موت الولد وبذلك يثبت عدم استحقاق الولد للميراث ، إلاّ أنّ فرض الكلام هو عدم العلم بوقت وفاة الأب وعدم العلم بوقت وفاة الولد ، وهذه هي مسألة ميراث الغرقى والمهدوم عليهم ، فهنا نقول : إنّ استصحاب حياة الأب إلى حين وفاة الولد ينتج ـ كما قلنا ـ عدم استحقاق الولد للميراث ، واستصحاب حياة الولد إلى حين وفاة الأب ينتج استحقاق الولد للميراث ، فيكون مؤدى الاستصحاب الأول هو عدم الاستحقاق ومؤدى الاستصحاب الثاني هو الاستحقاق ، فيتعارض الاستصحابان فيسقطان جميعا عن الحجيّة لعدم ترجّح أحدهما على الآخر.

ولمزيد من التوضيح نذكر مثالا آخر : لو كان موضوع الحرمة الأبدية للنكاح مرتبا على موضوع مركب من عدم إيقاع العقد وكون المرأة في العدة ، فلو علمنا بكون المرأة في العدة ثم علمنا بانتهاء عدتها إلاّ أنّه لا نعلم متى انتهت عدتها ، فهنا يمكن

استصحاب بقائها في العدة إلى حين وقوع العقد ؛ وذلك لعلمنا سابقا بكونها في العدة ثم حصول الشك في بقائها حين وقوع العقد فنستصحب بقاء المرأة في العدة إلى زمن وقوع العقد وهذا ينتج الحرمة الأبديّة ، ولو علمنا بعدم وقوع العقد ثم علمنا بوقوعه ولا نعلم متى

٤٠٠