شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

والتعبير عنها بالتحليليّة باعتبار أنّ مسار البحث عنها ليس أكثر من تحليلها ، ومحاولة استكشاف كنهها وحقيقتها ، فهي قضيّة عقليّة نبحث عن كيفيّة تقرّرها واقعا ، وأيّ شيء هي في نفس الأمر والواقع؟

ويمكن التمثيل لهذا النحو من القضايا بالوجوب التخييري ، فإنّ البحث عنه بحث عن حقيقته ، وأيّ شيء هو في نفس الأمر والواقع ، فهل هو ينحلّ إلى وجوبين مشروطين؟ أو أنّ حقيقته أنّه وجوب واقع على الجامع؟

وأمّا المراد من القضايا التركيبيّة : فهي القضايا التي يكون محمولها الاستحالة أو الضرورة ، والتي تعني الوجوب المقابل للامتناع ، ويكون البحث فيها عن ثبوت الاستحالة أو عدم ثبوتها وثبوت الضرورة أو عدم ثبوتها بعد تقرّرها واتّضاح معناها في مرحلة سابقة.

ويمكن التمثيل لهذا النحو من القضايا باستحالة اجتماع الأمر والنهي ، فإنّ البحث عن هذه القضيّة العقليّة بحث عن ثبوت الاستحالة أو عدم ثبوتها بعد أن كانت هذه القضيّة محرّرة وواضحة.

وكذلك يمكن التمثيل باستلزام وضرورة وجوب المقدّمة عند وجوب ذي المقدّمة ، فإنّ البحث عنها يكون عن ثبوت هذه الملازمة وعدم ثبوتها بعد تصوّر هذه القضيّة واتّضاح معالمها.

التقسيم الثالث :

وهو تقسيم خاصّ بالمستقلات العقليّة التركيبيّة ، فلا يشمل غير المستقلاّت كما لا يشمل المستقلات إذا كانت من قبيل القضايا التحليليّة ، وهذا التقسيم إنّما هو بلحاظ ما تدلّ عليه هذه القضايا.

٢١

فالمستقلات العقليّة التركيبيّة تنقسم بهذا اللّحاظ إلى قسمين :

الأوّل : هو ما تكون فيه القضيّة العقليّة دالّة على نفي حكم شرعي.

والثانية : ما تكون فيه دالّة على إثبات حكم شرعي.

أمّا الأوّل : فمعنى نفيها للحكم الشرعي هو أنّه يمكن أن يستنبط منها انتفاء حكم عن أن يكون ثابتا شرعا.

ويمكن التمثيل لهذا النحو من المستقلاّت التركيبيّة بقاعدة ( استحالة التكليف بغير المقدور ) ، فإنّه يمكن أن يستنبط من هذه القاعدة نفي حكم شرعي لو ثبت للزم من ثبوته التكليف بغير المقدور ، فيكفي في استكشاف نفي الحكم لزوم المحال عند افتراض ثبوت ذلك الحكم.

وأمّا الثاني : فمعنى إثباتها لحكم شرعي هو أنّه يمكن أن يستنبط منها ثبوت حكم شرعي.

ويمكن التمثيل لهذا النحو من المستقلاّت التركيبيّة بقاعدة أنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، فإنّه يمكن أن يستنبط من هذه القاعدة وجوب ردّ الأمانة شرعا ؛ وذلك لإدراك العقل حسن ردّ الأمانات إلى أهلها ، وكلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، فهذه القاعدة قد ساهمت في استنباط حكم شرعي هو وجوب ردّ الأمانة.

تفاعل القضايا العقليّة فيما بينها :

والمراد من تفاعل القضايا العقليّة فيما بينها هو : أنّه قد يساهم بعضها في الاستدلال على قضية عقليّة أخرى ، وقد يكون البحث عن قضية عقلية يجرّ إلى البحث عن قضية عقلية أخرى ؛ وذلك لأن تحرير القضيّة العقليّة

٢٢

الأولى منوط بثبوت أو تفسير القضيّة العقليّة الأخرى.

وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى ثلاث حالات من حالات تفاعل القضايا العقليّة فيما بينها :

الحالة الأولى : مساهمة بعض القضايا العقليّة التحليليّة في البرهنة على قضايا عقليّة تحليليّة أخرى.

ومثال ذلك : تصوير تعلّق الأحكام بالطبايع ، فإنّه يساهم في تصوير الوجوب التخييري ، وكذلك تصوير تعلّق الأحكام بالأفراد ، فإنّه قد يؤدي إلى تبنّي أنّ الوجوب التخييري ينحلّ إلى وجوبات مشروطة.

الحالة الثانية : مساهمة بعض القضايا العقليّة التحليليّة في البرهنة على قضايا أخرى تركيبيّة.

ومثاله : القضية العقليّة التركيبيّة وهي إمكان أو استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس الحكم ، فإنّه برهن على دعوى الإمكان بواسطة تصوير مرتبتين للحكم وهي مرتبة الجعل ومرتبة المجعول.

الحالة الثالثة : مساهمة قضية عقليّة تركيبيّة في البرهنة على قضية عقليّة تركيبيّة.

ومثال ذلك : قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور إذا كان المراد منها استحالة المؤاخذة والإدانة على ترك التكليف غير المقدور ، فإنّ مدرك هذه القاعدة العقلية التركيبيّة هو ما يدركه العقل من قبح الظلم واستحالة صدوره عن المولى جلّ وعلا.

وملاحظة البحوث الآتية يوضّح كيفيّة تفاعل القضايا العقليّة فيما بينها أكثر.

٢٣
٢٤

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور

لا إشكال في إدراك العقل لاستحالة التكليف بغير المقدور ؛ لأنّه إذا كان الغرض من التكليف هو جعل العهدة والمسئوليّة على المكلّف بحيث يكون متعلّق الإرادة روحا هو مؤاخذة المكلّف العاجز ومعاقبته وليس له غرض البعث والتحريك نحو امتثال التكليف ؛ وذلك لعلمه بعدم إمكان أن يتحرّك المكلّف عن التكليف بعد افتراض عدم قدرته على ذلك ، فهذا من أجلى صور الظلم ، والذي لا ريب في إدراك العقل لقبحه ، ولمّا كان المولى جلّ وعلا منزّه عن الظلم فهذا يستوجب استحالة أن يصدر عنه ما يلزم منه الظلم.

وأما إذا كان الغرض من التكليف هو بعث المكلّف نحو امتثال التكليف غير المقدور ، فهذا يقتضي إمّا أن لا يكون المولى ملتفتا إلى عدم إمكان أن يتحرّك المكلّف نحو امتثال التكليف ، وإمّا أن يكون ملتفتا ، وكلاهما مستحيل على المولى جلّ وعلا ، أمّا الأول فواضح ، وأمّا الثاني فلامتناع أن يكون العاقل ملتفتا إلى عدم قدرة المكلّف على التحرّك والانبعاث ، ومع ذلك يكون جادّا في بعثه وتحريكه ، فافتراض الالتفات من العاقل حين بعثه نحو غير المقدور لا يخلو عن أحد حالتين :

إما أن يكون العاقل الملتفت عابثا ، وإمّا أن يكون جادّا ، والأول

٢٥

مستحيل على المولى جلّ وعلا ، لتنزّهه عن اللغو والعبث ، والثاني أيضا مستحيل ، إذ أنّ افتراض الجدّ مع الالتفات إلى عدم إمكان أن يتحرّك العبد عن تحريكه وبعثه غير متصوّر أصلا.

وكيف كان فالاستحالة إنّما تثبت في خصوص الموارد التي يلزم منها أحد اللوازم الباطلة ، وهذا ما يستوجب تحرير القاعدة وبيان حدود جريانها فنقول :

إنّ المراد من هذه القاعدة لا يخلو عن أحد معنيين :

المعنى الأوّل : هو أنّ استحالة التكليف بغير المقدور تعني استحالة أن يؤاخذ المولى ويعاقب المكلّف على ترك تكليف خارج عن حدود القدرة ، كمؤاخذة المكلّف على ترك الصلاة في وقتها رغم أنّه كان مغمى عليه في تمام الوقت ، وهذا المقدار من الاستحالة مسلّم ، إذ أنّ المؤاخذة على ترك التكليف غير المقدور من أجلى صور الظلم والذي هو قبيح عقلا ، والمولى منزّه عن ارتكاب القبيح.

ومن هنا يتّضح خروج التكليف بغير المقدور عن حدود حقّ الطاعة للمولى ، لاستلزام ذلك للظلم المستحيل على المولى جلّ وعلا.

المعنى الثاني : أنّ الاستحالة ثابتة لأصل التكليف بغير المقدور حتى مع عدم ترتّب المؤاخذة على ترك المكلّف لمتعلّق التكليف ، فلو كان متعلّق التكليف خارجا عن قدرة المكلّف فإنّ ذلك وحده يستوجب استحالة أن يجعل المولى متعلّق التكليف على عهدة المكلّف حتى مع افتراض عدم المؤاخذة على الترك ، وهذا يعني توسيع دائرة الاستحالة لتشمل أصل التشريع للتكاليف غير المقدورة.

٢٦

وبهذا يتّضح أنّ مصبّ الاستحالة بناء على المعنى الأوّل هو المؤاخذة والإدانة على ترك التكليف غير المقدور ، ولا تعرض له لأصل صدور التكليف بغير المقدور ، وأنّه مستحيل أيضا أم لا. وأمّا موضوع الاستحالة بناء على المعنى الثاني ، فهو أصل صدور التكليف بغير المقدور ، حتى مع افتراض عدم المؤاخذة ، وهذا ما يقتضي توسيع دائرة الاستحالة ، بحيث نستطيع أن نقول إنّ كل فعل خارج عن القدرة يستحيل أن يكون متعلّقا للتكليف المولوي.

ومن هنا سوف يقع البحث عن المعنى الثاني ، إذ هو الذي يحتاج إلى بيان لاستكشاف تماميّته أو عدم تماميّته ، فنقول : إنّ واقع الحكم التكليفي يمرّ بثلاث مراحل ـ كما أوضحنا ذلك في محلّه ـ ويكفي في انتفاء التكليف أن يكون أحد هذه المراحل متعذّر الوقوع.

المرحلة الأولى : من مراحل التكليف هو اشتمال الفعل الذي يراد جعل الحكم عليه ـ على المصلحة أو المفسدة ، وهذا ما يعبّر عنه بالملاك ، إذ لا يمكن أن يكون الفعل مطلوبا فعله أو مطلوبا تركه دون أن يكون مشتملا على المصلحة أو المفسدة ، إذ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.

ومن هنا نتساءل هل يمكن أن يكون الفعل مشتملا على الملاك مع افتراض خروجه عن قدرة المكلّف؟

والجواب بالإيجاب ، إذ أنّ اشتمال الفعل على المصلحة أو المفسدة غير منوط بقدرة المكلّف على تحقيقه خارجا بل منوط بواقع الفعل وما يترتّب عليه من فوائد ومضار ، وهذا أمر وجداني لا يحتاج الإذعان به إلى أكثر من تصوره ، فمفسدة شرب الخمر منحفظة حتّى في موارد إلجاء الغير

٢٧

المكلّف على شربه ، كما أنّ إنقاذ المؤمن حسن وذو مصلحة حتى مع عجز المكلّف عن إنقاذه. إذن لا استحالة بأن يتعلّق الملاك بغير المقدور.

المرحلة الثانية : من مراحل التكليف هو تعلّق الإرادة بالفعل أو المبغوضيّة ، وهذا أيضا غير منوط بقدرة المكلّف على تحقيقه خارجا ؛ إذ أنّ الإرادة ليست أكثر من محبوبيّة الفعل أو الترك ، وهذا لا ارتباط له بقدرة المكلّف وعدم قدرته ، وإنّما هو منوط بتصوّر الفعل وتصوّر ما يترتّب عليه من فوائد متّصلة باهتمامات المولى ، ثم الإذعان والتصديق بترتّب تلك الفوائد على ذلك الفعل ، فمع تحقّق مناط الإرادة فإنّ الفعل عندئذ يكون مرادا ومحبوبا ، وإن كان متعذّر الوقوع خارجا فضلا عمّا إذا كان ممكن الوقوع وكان امتناعه ناشئا عن موانع عارضة. فالإتيان بالصلاة يمكن أن يكون محبوبا للمولى في مورد يكون المكلّف فاقدا للاختيار لعارض الإغماء مثلا. وبهذا يتّضح إمكان تعلّق الإرادة بغير المقدور.

المرحلة الثالثة : من مراحل التكليف هي الاعتبار ، ويمكن تعلّقه بغير المقدور لو كان المراد من الاعتبار هو تكييف النفس بكيفيّة تكون تلك الكيفيّة مسوّغة ـ ولو اعتباطا ـ لجعل شيء لشيء ، إذ أنّ الاعتبار كما قيل سهل المؤنة ، إلاّ أنّه مستحيل على المولى مع افتراض عبثيّة الاعتبار ، أمّا لو افترضنا أنّ تلك الكيفيّة النفسانيّة نشأت عن مبرّر ، وهو الكشف عن الملاك والإرادة ـ فالمعتبر لا يراد منه إلا الكشف عن أن الفعل متوفّر على المصلحة والمحبوبيّة ـ فهنا أيضا لا إشكال في إمكان تعلّق الاعتبار ـ بهذا المعنى ـ بالفعل غير المقدور ، إذ أنّه لمّا كان له مبرّر عقلائي فوقوعه من المولى ممكن جدّا ، فنحن نجد أنّ المقنّنين يجعلون بعض التكاليف على أنّها

٢٨

تكاليف اقتضائيّة ، ولا يقصدون من جعلها إلا الكشف عن اشتمال متعلّقاتها على مبادئ الحكم ، والوقوع أقوى شاهد على الإمكان.

إنّما الكلام في الاعتبار الذي يكون منشؤه داعي البعث والتحريك نحو متعلّق التكليف المعتبر والذي يكون خارجا عن قدرة المكلّف ، فإنّ هذا النحو من الاعتبار يستحيل وقوعه من المولى لأنّه لا يخلو عن أن يكون المولى حين الاعتبار إمّا ملتفتا إلى عجز المكلّف عن تحقيق متعلّق التكليف وإمّا أن يكون غير ملتفت ، وكلاهما مستحيل على المولى ، أما الثاني فواضح ، وأمّا الأول فلأنّه يستحيل على العاقل أن يكون ملتفتا إلى عجز المأمور عن تحقيق المأمور به ، ومع ذلك يكون جادّا في بعثه وتحريكه ، إذ أنّ افتراض جدّيّة البعث والتحريك ينافي الالتفات إلى استحالة الانبعاث والتحرّك.

وبهذا اتّضح استحالة الاعتبار إذا كان بداعي البعث والتحريك نحو غير المقدور. ولمّا كان ظهور حال المولى حين جعل الأحكام واعتبارها على المكلّفين هو البعث والتحريك ، فهذا يقتضي تقيّدها بالقدرة على متعلّقها.

وبتعبير آخر : إنّ الظاهر من الأوامر والنواهي الصادرة عن الشارع المقدّس هو أنّ هذه الأوامر والنواهي يراد امتثالها والتحرّك عنها ، واحتمال كون الغرض من هذه الأوامر هو الكشف عن اشتمال متعلّقاتها على مبادئ الحكم وإن كان ممكنا إلاّ أنّه خلاف الظاهر ، إذ أنّ الظاهر من كلّ مولى حينما يصدر أوامر ونواهي لعبيده هو إرادة بعثهم نحو متعلّقات تلك الأوامر ، وزجرهم عن متعلّقات تلك النواهي ، وتماميّة هذا الاستظهار

٢٩

تستوجب البناء على تقيّد كل تلك التكاليف بالقدرة على متعلّقاتها.

وهذا لا يختصّ بالتكاليف الإلزاميّة بل هو شامل للتكاليف غير الإلزاميّة أيضا وهي الاستحباب والكراهة ، فكما يستحيل جعل الوجوب على فعل غير مقدور أو جعل الحرمة على ارتكاب فعل يتعذّر على المكلّف تركه ، فكذلك يستحيل البعث الاستحبابي نحو فعل خارج عن القدرة أو الزجر الكراهتي عن فعل يكون تركه خارجا عن قدرة المكلّف ، وكذلك يستحيل التكليف بغير المقدور مطلقا ، حتى في موارد كون التكليف مقيدا بقيد داخل تحت اختيار المكلّف ، كما لو قال الآمر إن اشتريت حيوانا فيجب عليك أن تجعله قارئا للقرآن ، فإنّ القيد الذي علّق عليه التكليف غير المقدور وإن كان اختياريّا ، إلا أنّ ذلك لا يرفع استحالة التكليف بغير المقدور ، لعين ما ذكرناه في منشأ الاستحالة.

وبهذا البيان اتّضح أنّ الاستحالة لا تختص بالإدانة والمؤاخذة ، بل إنّ أصل التكليف بغير المقدور مستحيل أيضا ، وذلك لاستحالة البعث والتحريك نحو غير المقدور ، وقد قلنا إنّه يكفي في استحالة أصل التكليف هو تعذّر وقوع أحد مراحله الثلاث ، وقد ثبت ممّا تقدّم أنّ المرحلة الثالثة وهي الاعتبار بداعي البعث متعذّرة الوقوع.

ومن هنا قلنا إنّ أصل التكليف بغير المقدور مستحيل وإنّ كل تكليف فهو مشروط بالقدرة ، نعم مبادئ الحكم والتي هي الملاك والإرادة لا يلزم من تعلّقها بالأفعال كون تلك الأفعال مقدورة كما اتّضح ممّا تقدّم.

إلاّ أنّه من الممكن أن تكون مبادئ الحكم مشروطة بالقدرة بحيث

٣٠

تنتفي المصلحة والإرادة عن الفعل حين افتراض عدم القدرة على تحقيقه.

ومن هنا يمكن أن يقال إنّ مبادئ الحكم بلحاظ القدرة لها حالتان :

الحالة الأولى : هو عدم كونها مشروطة بالقدرة ، فالمصلحة والمحبوبيّة للفعل ثابتة مطلقا ، أي سواء كان ذلك الفعل داخلا تحت القدرة أو خارجا عنها. وكذلك المفسدة والمبغوضيّة للفعل ثابتة مطلقا سواء كان ترك ذلك مقدورا للمكلّف أو أنّ تركه غير مقدور.

ويمكن أن يمثّل لذلك بالصلاة فإنها متوفّرة على الملاك والإرادة مطلقا حتى في ظرف عدم القدرة عليها كما في حال الإغماء ، وكذلك قتل النفس المحترمة فإنّه مشتمل على المفسدة والمبغوضيّة حتى في ظرف كون القتل عن غير اختيار.

الحالة الثانية : أنّ المصلحة والمفسدة في الفعل منحصرة بظرف القدرة بحيث لا يكون الفعل ذا مصلحة أو ذا مفسدة ما لم يكن مقدورا.

ويمكن التمثيل لذلك بأكل الميتة فإنّ مبغوضيّته منوطة بالقدرة على ترك أكلها. وبهذا يكون انتفاء الحرمة عن أكل الميتة ناشئا عن انتفاء المقتضي للحرمة وهي المفسدة والمبغوضيّة لا أنّ المنشأ للحرمة هو المانع والذي هو استحالة التكليف بغير المقدور وإنّ التكليف في واقعه متوفّر على مبادئه وهي الملاك والمبغوضيّة.

وفي الحالة الأولى ـ والتي لا يكون الملاك فيها منوطا بالقدرة ـ يكون اشتراط التكليف بالقدرة شرطا عقليا ، ويعبّر عن القدرة التي يكون التكليف منوطا بها « بالقدرة العقليّة » ، إذ لا منشأ لاشتراط التكليف

٣١

بالقدرة حينئذ إلاّ ما يدركه العقل من استحالة التكليف بغير المقدور ، إذ أننا افترضنا في هذه الحالة أنّ الملاك والإرادة مطلقان وغير منوطين بالقدرة.

وهذا بخلاف الحالة الثانية فإنّ الملاك والإرادة لا وجود لهما في ظرف عدم القدرة ، وهذا يعني أنّه مع افتراض عدم القدرة لا مقتضي للتكليف لا أنّ مقتضي التكليف موجود إلا أنّ المانع عنه هو الاستحالة العقليّة كما في الحالة الأولى ؛ ولذلك يعبّر عن شرط القدرة ـ في التكاليف التي تكون مبادؤها مختصة بحال القدرة ـ بالشرط الشرعي ، ويعبّر عن القدرة في هذه الحالة بالقدرة الشرعية.

إذن التكليف الذي تكون مبادؤه مطلقة يعبّر عن شرط القدرة فيه بالشرط العقلي ، وعن القدرة التي يكون التكليف مشروطا بها بالقدرة العقليّة.

أمّا التكليف الذي تكون مبادؤه مختصة بحال القدرة يعبّر عن شرط القدرة في مثل هذا التكليف بالشرط الشرعي كما يعبّر عن نفس القدرة « بالقدرة الشرعيّة ».

الثمرة المترتّبة على المعنيين :

أمّا الثمرة بناء على المعنى الأول ـ وهو أنّ مصب الاستحالة هو المؤاخذة والإدانة على ترك التكليف غير المقدور ـ فظاهرة وهي أنّ المكلّف ليس مسؤولا عن ترك التكليف غير المقدور ولا يعدّ عاصيا ومتعدّيا على مقام الربوبيّة.

وأما المعنى الثاني والذي يقتضي شمول الاستحالة لأصل التكليف غير

٣٢

المقدور فقد يقال بأنّه لا ثمرة مترتّبة عليه بعد إن لم يكن المكلّف مسؤولا عن ترك التكليف غير المقدور فسواء قلنا إنّ أصل التكليف بغير المقدور ممكن أو مستحيل فالمكلّف غير مؤاخذ على ترك ذلك التكليف ، فلو افترضنا أنّ التكليف بغير المقدور ممكن فما هو الأثر المترتّب على ذلك بعد إن لم يكن المكلّف مؤاخذا على تركه ، إلاّ أنه يمكن إبراز ثمرة للمعنى الثاني وهي عدم القضاء مثلا لو كنّا نبني على استحالة أصل التكليف بغير المقدور ، وثبوت القضاء لو كنّا نبني على عدم استحالة أصل التكليف بغير المقدور.

وبيان ذلك :

إنّ الملاك لمّا لم يكن معلقا على القدرة فقد يكون الفعل متوفّرا على الملاك ويكون المانع عن التكليف به هو عدم قدرة المكلّف على امتثاله ، وهذا ما يقتضي القضاء لو افترض زوال العجز ، وهذا بخلاف ما لو لم يكن الفعل واجدا للملاك في ظرف العجز فإنّ زوال العجز عن المكلّف بعد ذلك لا يستوجب القضاء إذ أنّ الملاك لم يكن حتى يجب تداركه بعد زوال العجز.

ومن هنا تظهر الثمرة بناء على القول باستحالة أصل التكليف بغير المقدور ، إذ بناء عليها يستكشف من الخطاب الشرعي عدم واجدية التكليف غير المقدور للملاك حتى لو لم يقيد التكليف بالقدرة ، إذ أنّ نفس الاستحالة كاشفة عن أن التكليف مشروط بالقدرة ، وهذا يعني عدم فعليّة الملاك في ظرف العجز أو لا أقل عدم وجود ما يكشف عن أنّ الملاك موجود في ظرف العجز وهذا ما يقتضي عدم وجوب القضاء لو زال العذر ، إذ لا كاشف عن فوات الملاك حتى يجب تداركه ؛ إذ أنّ الملاك كما اتضح من

٣٣

بحوث سابقة مدلول التزامي للدليل ومع سقوط الدلالة المطابقيّة للدليل تسقط بتبعها الدلالة الالتزاميّة. والدليل المطابقي الكاشف عن المدلول الالتزامي في المقام هو الخطاب الشرعي المطلق والمثبت للتكليف والذي يستلزم ثبوت الملاك للتكليف ، فإذا قامت القرينة العقليّة ـ وهي استحالة التكليف بغير المقدور ـ على سقوط التكليف في ظرف العجز فالدلالة الالتزامية تسقط أيضا بناء على ما ذهب إليه المصنّف من تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة في الثبوت والانتفاء.

وهذا بخلاف ما لو بنينا على عدم استحالة أصل التكليف بغير المقدور ، فإنه لو كان الخطاب الشرعي مطلقا فإنّه يمكن التمسّك به لإثبات أنّ التكليف شامل للعاجز ، وهذا يقتضي أنّ الفعل واجد للملاك في ظرف العجز ، إذ أن هذا هو المدلول الالتزامي ، ولمّا لم يكن هناك ما يوجب سقوط المدلول المطابقي فهذا يقتضي كاشفيّته عن المدلول الالتزامي وهو وجود الملاك في ظرف العجز ، إذ أنّ فرض الكلام أنّه لا استحالة في أصل التكليف بغير المقدور.

ومن هنا يمكن إثبات القضاء بعد زوال العجز ؛ وذلك لتدارك ما فات من الملاك.

ولمزيد من التوضيح نقول :

إنّه قد اتّضح ممّا تقدّم أنّ مبادئ الحكم من الملاك والإرادة ليست منوطة بالقدرة ، فقد يكون الفعل واجدا للمصلحة والمحبوبيّة مع أنّه خارج عن قدرة المكلّف ، وفي مثل هذه الحالة يكون المقتضي للتكليف موجودا.

٣٤

فهنا نقول إنّه لو بنينا على استحالة أصل التكليف بغير المقدور فكلّ الخطابات الشرعيّة الكاشفة عن التكاليف تكون مقيّدة بالقدرة حتى مع عدم النصّ على التقييد ، إذ أنّ نفس قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور كاشفة عن عدم شمول التكليف للعاجز وأنّ الإطلاق ليس مرادا جديّا من الخطاب ، وبسقوط التكليف عن العاجز تسقط الدلالة الالتزاميّة للخطاب الشرعي الكاشفة عن ثبوت الملاك للفعل المكلّف به مطلقا ، والذي يسقط من الدلالة الالتزاميّة هو مقدار ما سقط من الدلالة المطابقيّة ، فالدلالة المطابقيّة التي دلّت على تكليف العاجز هي التي تسقط بواسطة القرينة العقليّة فيكون الساقط من الدلالة الالتزاميّة هو ثبوت الملاك للفعل في ظرف العجز ، ومنشأ سقوط الدلالة الالتزاميّة هو قاعدة تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة في الثبوت والانتفاء.

ومن هنا يتعذّر إثبات واجديّة الفعل للملاك في ظرف العجز ؛ إذ الكاشف عنه هو المدلول المطابقي المثبت للتكليف في ظرف العجز وقد افترضنا سقوطه بواسطة القرينة العقلية.

وإذا تمّ ما ذكرناه من عدم وجود الدليل على ثبوت الملاك في ظرف العجز فهذا يقتضي عدم وجوب القضاء بعد زوال العجز ؛ وذلك لأنّ القضاء إنّما هو لتدارك الملاك الفائت ولا دليل على فواته بعد أن كان المثبت للملاك قد سقط.

وبهذا تكون الثمرة المترتّبة على القول باستحالة أصل التكليف بغير المقدور هو سقوط المدلول الالتزامي المثبت للملاك في ظرف العجز ، وينتج عن ذلك عدم وجوب القضاء بعد زوال العجز.

٣٥

وأمّا لو بنينا على عدم استحالة أصل التكليف بغير المقدور فلا موجب لتقييد الإطلاقات المثبتة للتكاليف ، وبهذا يكون مقتضى الإطلاق هو ثبوت التكليف في ظرف العجز ، وهذا يقتضي ثبوت الملاك في ظرف العجز إذ هو المدلول الالتزامي لثبوت التكليف ، وهذا ما ينتج وجوب القضاء بعد زوال العجز ؛ وذلك لتدارك الملاك الفائت بسبب العجز.

٣٦

قاعدة إمكان التكليف المشروط

ويقع البحث في المقام عن إمكان أن يكون الحكم مشروطا ، إذ قد يقال باستحالة أن يكون الحكم معلقا ؛ وذلك لأنّ الحكم إما أن يجعل على المكلف وإمّا ألا يجعل ، ولا واسطة بين الحالتين ، فافتراض وجود الحكم يعني افتراض عدم كونه معلّقا ؛ وذلك لأنّ تعليقه على الشرط يعني عدم وجوده.

وبتعبير آخر : إنّ جعل الحكم على المكلّف يعني أنّ المولى قد أعمل مولويّته وأوجد حكما وهذا يقتضي عدم كونه مشروطا ، إذ أنّ افتراض كونه مشروطا يساوق عدم الحكم ؛ لأنّ كل شيء علّق على شرط فهو عدم ما لم يتحقّق شرطه ، وهذا ينافي افتراض إيجاد المولى للحكم. ومن هنا يدّعى استحالة التكليف المشروط.

ومن أجل أن يتّضح ما هو الحق في المقام لا بدّ من بيان مقدّمة :

إنّ جعل الأحكام غالبا ما يكون على نهج القضيّة الحقيقيّة ، والمراد من القضيّة الحقيقيّة هي ما يكون الموضوع فيها مقدر الوجود ، وهذا يعني ملاحظة الموضوع مع كلّ ما يكون دخيلا في ترتّب الحكم ثم جعل الحكم معلقا على تحقق الموضوع المفترض مع جميع القيود المأخوذة معه.

فالجائي بالقضيّة الحقيقيّة يكون قد تصوّر الموضوع وتصوّر معه

٣٧

الحيثيات الدخلية في ترتّب الحكم ثم أناط الحكم بذلك الموضوع المتصوّر هو مع حيثياته.

مثلا لو قال المولى : « إذا كان للمكلّف أموال وكانت بقدر النصاب وحال عليها الحول وهي تحت يده وجبت عليه الزكاة » فإنّ المولى هنا قد تصوّر الموضوع مع تمام الحيثيّات الدخيلة في ترتّب الحكم وهو وجوب الزكاة ثمّ جعل الحكم معلّقا على الموضوع المفترض مع حيثيّاته المفترضة والمقدرة ، ومن هنا قالوا بأن القضايا الحقيقيّة في قوّة القضايا الشرطيّة حتى وإن كانت القضيّة الحقيقيّة بهيئة القضيّة الحمليّة ؛ وذلك لأن القضايا الشرطية يكون الحكم فيها معلقا على شرطه فمتى ما تحقق الشرط ترتّب الحكم المعلّق عليه.

ومع اتّضاح هذه المقدمة نقول :

إنّ فعلية الحكم منوطة بتحقّق موضوعه خارجا ، فما لم يتحقّق الموضوع مع تمام الحيثيّات المأخوذة في ترتّب الحكم لا يكون المكلّف مسؤولا عن امتثال ذلك الحكم ؛ وذلك لأنّ جعل الحكم معلقا على تحقّق موضوعه يعني أنّه بمثابة المعلول لموضوعه ، وإذا كان كذلك فلابدّ من تحقق الموضوع مع حيثياته ، وبعد ذلك يوجد الحكم ـ أي يكون فعليّا ـ ويكون المكلّف مسؤولا عنه.

إلاّ أنّه قد يقال : إذا كان الحكم منوطا بتحقق موضوعه خارجا فأيّ حكم نشأ بواسطة القضية الحقيقيّة؟ فإمّا أن تلتزم أن الحكم ينشأ بواسطة القضيّة الحقيقيّة ، وهذا ما يقتضي وجوده وفعليته بمجرّد وجود منشأ جعله وهي القضيّة الحقيقيّة ، وإمّا أن تلتزم بإناطة وجود الحكم بوجود

٣٨

موضوعه ، وهذا يقتضي أن لا يكون هناك حكم نشأ عن القضيّة الحقيقيّة ، وهذا ينافي كون المولى ـ حين أنشأ القضيّة الحقيقيّة ـ أعمل مولويته وجعل الحكم على المكلّف.

والجواب عن هذا الإشكال :

هو أنّ الذي نشأ بواسطة القضية الحقيقيّة هو الجعل والذي ينشأ بواسطة تحقّق الموضوع خارجا هو المجعول. وبيان ذلك :

أنّ المولى حينما رتّب حكما على موضوع مقدّر يكون قد أوجد حكما بالفعل ، وذلك في مقابل من تصوّر موضوعا مع مجموعة من الحيثيّات إلاّ أنّه تردّد في إثبات حكم لهذا الموضوع مع حيثيّاته ، فلو قدّر لهذا الموضوع بحيثيّاته الوجود في هذه الحالة لا وجود للحكم أصلا ، أمّا في فرض الكلام وهو جعل حكم على نهج القضيّة الحقيقيّة فالحكم موجود ؛ ولذلك يمكن أن يقال إنّ المولى قد حكم بهذا الحكم على ذلك الموضوع.

إذ أنّ الحكم الناشئ عن القضيّة الحقيقيّة هو المعبّر عنه بالجعل والحكم فيه يكون موضوعه مقدر الوجود ، فقوام الحكم الذي هو الجعل هو تصوّر الموضوع مع تصوّر ما له دخل في ترتب الحكم ، فالصورة الذهنيّة للموضوع هي قوام الجعل.

وأمّا ما ينشأ بواسطة تحقّق الموضوع خارجا فهو فعليّة الحكم ، أي أنّ المكلّف يكون مسؤولا عن امتثال الحكم حين تحقق الموضوع خارجا ، فتحقق الموضوع علّة لفعليّة الحكم. وهذا هو المعبّر عنه بالحكم المجعول.

وبتعبير آخر : إنّ الحكم له مرتبتان : الأولى هي مرتبة الجعل والثانية هي مرتبة المجعول ، فما ينشأ بواسطة القضيّة الحقيقيّة هو الحكم بمرتبة

٣٩

الجعل وما ينشأ بواسطة تحقّق الموضوع خارجا هو مرتبة المجعول.

فحينما يقول المولى : « إذا كان للمكلّف أموال وكانت بقدر النصاب وحال عليها الحول وهي تحت يده وجبت عليه الزكاة » ، فإنّ هنا حكم بوجوب الزكاة إلاّ أنّه حكم إنشائي يعبّر عنه بالحكم في مرتبة الجعل ؛ وذلك لأنّ موضوعه مقدّر الوجود فإذا تحقّق الموضوع بأن وجد مكلّف له أموال بقدر النصاب وقد حال عليها الحول وهي تحت يده فإنّ الحكم الذي كان بمرتبة الجعل يصير فعليا على المكلّف ويكون مسؤولا عن امتثاله ، وهذا هو الحكم بمرتبة المجعول.

فالحكم بمرتبة الجعل يكون متحقّقا من حين إنشاء القضيّة الحقيقيّة ، إذ أنّ موضوعه مقدر الوجود وهذا متصوّر حين جعل الحكم ، وهذا هو مبرّر استحالة أن يكون الحكم بمرتبة الجعل مشروطا ؛ إذ أن مشروطيّته تعني عدم وجوده إلاّ بعد تحقّق شرطه والحال أنّه موجود من حين إنشاء القضيّة الحقيقيّة ؛ إذ أنّ المولى حين إنشاء القضيّة الحقيقيّة متصد لإيجاد الحكم وهذا ما يمنع كونه معلقا ومشروطا.

أمّا الحكم بمرتبة المجعول فإنّه معلّق ومشروط بتحقّق موضوعه خارجا فهو لا يوجد بوجود القضيّة الحقيقيّة وإنما يوجد حين تقرّر الموضوع خارجا.

وبهذا البيان يتّضح إمكان الحكم المشروط ، فالحكم المشروط هو الحكم بمرتبة المجعول « الفعليّة » بل إنّ الحكم المجعول دائما يكون مشروطا وذلك لتوقفه على تحقّقق موضوعه خارجا.

فالمراد من الحكم الذي يمكن أن يكون مشروطا هو الحكم المجعول

٤٠