شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

الناقضية لليقين على الشك في انتقاض الوضوء.

ومن هنا لا بدّ من ترجيح أحد الاحتمالين ، والظاهر أنّ الاحتمال الأقوى هو الاحتمال الأول والذي يتحفّظ على ظهور قوله عليه‌السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » في الإخبار.

وبهذا يكون معنى الرواية ـ بناء على هذا الاحتمال ـ هو أنّه إذا شك المكلّف في انتقاض الوضوء بالنوم فلا يلزمه إعادة الوضوء ؛ وذلك لأنّه كان على يقين من وضوئه ، ولا يرفع اليد عن اليقين بالحدوث بالشك في البقاء.

الجهة الثانية :

ويقع الكلام في هذه الجهة عن أنّ عدم وجوب الوضوء في الرواية هل نشأ عن قاعدة المقتضي والمانع أو عن قاعدة الاستصحاب؟

قد يقال إنّ عدم إيجاب الوضوء حين الشك في انتقاضه بالنوم نشأ عن قاعدة المقتضي والمانع ، فيكون اليقين بصدور الوضوء عنه هو المقتضي إلاّ أنّ الشك يقع في تأثير هذا المقتضي أثره نتيجة عدم إحراز انتفاء المانع من تأثير المقتضي لأثره ـ وهو النوم ـ إذ لو حدث النوم فإن المقتضي ـ وهو الوضوء ـ لا يؤثر أثره ـ وهو الطهارة ـ إلاّ أنه لمّا كان الشك في وجود هذا المانع فإنّ مقتضى قاعدة المقتضي والمانع هو البناء على عدم وجود المانع فيكون منشأ عدم إيجاب الوضوء هو هذه القاعدة.

ويمكن أن يبرّر لهذه الدعوى بأن قاعدة الاستصحاب ليست جارية في المقام فيتعين جريان قاعدة المقتضي ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب يقوم على أساس الشك في بقاء المتيقن فإذا لم يكن للمتيقن بقاء فلا يجري الاستصحاب لانتفاء ركنه ، وبيان ذلك :

٣٤١

إنّ المتيقن في مورد الرواية هو الوضوء ، ومن الواضح أن الوضوء ليس له بقاء فهو يحدث وينتهي حين حدوثه ، فبمسح القدمين يتحقق الوضوء وينتهي ، فلا بقاء للوضوء حتى يفترض الشك فيه ، نعم إذا حدث الوضوء فإنّ له أثر وهو الطهارة ، فنحن حينما حدث الوضوء لا نشك في بقائه لأنّه لا ريب في عدم بقائه وإنّما نشك في تأثيره لأثره ، ومنشأ الشك هو عدم إحراز انتفاء المانع أي الشك في وجود المانع ـ وهو النوم ـ وهذا الشك يستوجب الشك في تأثير المقتضي المعلوم لأثره.

والجواب عن هذه الدعوى أنّه لمّا كانت مبتنية على توهم أنّ الوضوء ليس له بقاء فبانتفاء ذلك تسقط الدعوى ، وبأدنى تأمل في الاستعمالات الشرعية لعنوان الوضوء يتضح أنّ الشارع قد اعتبر الوضوء حالة استمرارية يكون المكلّف متصفا بها متى ما جاء بأفعال الوضوء ولا يرتفع هذا الاتصاف عنه حتى ينتقض هذا الوضوء بأحد النواقض المعروفة.

ويمكن الاستشهاد على ذلك بمعتبرة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : من طلب حاجة وهو على غير وضوء فلم تقضى فلا يلومنّ إلاّ نفسه » (١) ، فهذه الرواية واضحة الدلالة على اعتبار الوضوء حالة استمرارية ، كما أنّ التعبير في روايات كثيرة بنقض الوضوء يعبّر أيضا عن أنّ الوضوء وصف له الاستمرار ما لم يمنع عن استمراره مانع ، ومن تلك الروايات معتبرة زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال « لا ينقض الوضوء إلاّ ما خرج من طرفيك أو النوم » (٢).

__________________

(١) الوسائل باب ٦ من أبواب الوضوء ح ١.

(٢) الوسائل باب ٢ من أبواب نواقض الوضوء ح ١.

٣٤٢

وبسقوط الدعوى وثبوت أن الوضوء له بقاء يتعقل حينئذ الشك في البقاء ، فلا يكون مانع من جريان الاستصحاب ، ويبقى الكلام في كيفية استظهار ذلك من الرواية ، وقد اتضح ذلك مما سبق ، إذ قلنا إنّ قوله عليه‌السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » ظاهر في إلغاء الزمن واعتبار متعلّقي اليقين والشك متعلقا واحدا ، ومن هنا صح إطلاق عنوان نقض اليقين على الشك في البقاء وإلاّ فلا مسوّغ لوصف الشك في البقاء بالناقض لليقين ؛ إذ لا يكون ناقضا ونافيا لليقين ما لم يكن متعلقهما واحدا وزمانهما واحدا.

وبثبوت هذا يتعيّن ظهور الرواية في الاستصحاب ، حيث إنها نهت عن نقض اليقين بالوضوء بالشك في بقائه.

الجهة الثالثة :

يقع البحث في هذه الجهة عن إفادة الرواية لكبرى حجية الاستصحاب في تمام موارد الشك في البقاء بعد اليقين بالحدوث ، فقد يقال بظهورها في ذلك ، إذ أنّ قوله عليه‌السلام « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » ظاهر في أنّها كبرى كليّة مركوزة أراد الإمام عليه‌السلام التنبيه عليها وإمضائها.

إلاّ أنّه في مقابل ذلك يمكن دعوى الإجمال في هذه الفقرة ، ومنشأ دعوى الإجمال هو عدم وضوح المراد من اللام الداخلة على اليقين في قوله عليه‌السلام « ولا ينقض اليقين » ، إذ يحتمل أنّها لام الجنس فتكون مفيدة للإطلاق حيث إنّ اليقين معها ـ يعني طبيعة اليقين ـ فلا يختص بيقين دون يقين ، فيكون مساق الرواية بناء على ذلك أنّ مطلق اليقين بالحدوث لا يصح نقضه بالشك في البقاء إلاّ أنّ هذا غير متعين لاحتمال إرادة لام العهد من اللام الداخلة على اليقين ، فيكون مفاد الرواية حينئذ « ولا ينقض اليقين بالوضوء بالشك في بقائه » ، وعلى هذا تكون الرواية مختصة بباب الوضوء

٣٤٣

ولا يكون لها إطلاق لتمام حالات اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، ولمّا لم يكن هناك ما يعيّن أحد الاحتمالين تكون الرواية مجملة ، والقدر المتيقن منها هو اليقين بالوضوء.

ويمكن أن يجاب عن دعوى الإجمال بجوابين :

الجواب الأول :

إنّ هناك ما يوجب تعيّن الاحتمال الأول ـ وهو أنّ اللام الداخلة على اليقين في الفقرة المذكورة هي لام الجنس ـ وهذا الموجب لتعيّن الاحتمال الأول هو ظهور الفقرة التي سبقتها في التعليل ، حيث إن قوله عليه‌السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » ظاهر في بيان علّة وملاك الحكم بعدم وجوب الوضوء والذي هو مقدّر ـ كما قلنا ـ ، وعادة ما يكون التعليل بأمر واضح وجلي وإلاّ فما معنى أن يعلّل الشيء بعلّة غير مسلمة أو غير واضحة.

وهذا ما يوجب ظهور التعليل ـ في الفقرة التي سبقت فقرة الاستدلال ـ بما هو واضح ومتبانى عليه عند العقلاء وهو أن اليقين بالشيء لا ترفع اليد عنه بالشك في بقائه ، فتكون الرواية منقحة لموضوع الكبرى المستفادة من فقرة الاستدلال.

ومساق الرواية حينئذ هكذا : إنّ المكلف لمّا لم يكن متيقنا بطروء النوم فلا يجب عليه الوضوء لأنّه كان على يقين من وضوئه ، فتكون حالته موردا وموضوعا للقاعدة الكلية وهي قوله عليه‌السلام « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » ، فكأنّ الإمام عليه‌السلام قد شكّل قياسا منطقيا صغراه أنّه على يقين من وضوئه وكبراه هو القضية الكلية المركوزة في أذهان العقلاء وهي أنه لا ينقض اليقين أبدا بالشك ، وهذا هو المنسجم مع المتفاهم العرفي.

فالنتيجة أن مقتضى مناسبات الحكم والموضوع هو إلغاء خصوصية

٣٤٤

الوضوء لأنّه لا معنى لتعليل حكم خاص ، إذ أنّ الإمام عليه‌السلام يمكن أن يكتفي في مثل هذه الحالة بالتعليل بأن ذلك الحكم هو مقتضى التعبد الشرعي.

وبهذا يتضح تعيّن الاحتمال الأول وسقوط دعوى الإجمال.

الجواب الثاني :

إنّه لو سلّم أن اللام في فقرة الاستدلال عهدية فإن ذلك لا يستوجب الاختصاص ؛ وذلك لأن اليقين المشار إليه بلام العهد استعمل في طبيعة اليقين لا في اليقين المختص بالوضوء ، وإذا كان كذلك فيكون مدخول اللام فى الفقرة الثانية هو طبيعي اليقين أيضا إذ أن لام العهد تشير إلى نفس المعهود ، فإن كان جزئيا فالمعهود جزئي وإن كان كليّا فالمعهود يكون كليّا.

وبيان ذلك : قوله تعالى ( كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) (١) فإنّ « رسولا » في الفقرة الأولى من الآية الشريفة لمّا كان جزئيا ـ كما هو واضح ـ فإنّ المشار إليه بلام العهد في الفقرة الثانية يكون جزئيا أيضا.

وهذا بخلاف قوله تعالى ( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ) (٢) فإنّ الظاهر من كلمة مصباح في الفقرة الأولى هو طبيعي المصباح ، وبذلك يكون المشار إليه في الفقرة الثانية هو طبيعي المصباح أيضا.

وباتضاح هذا نقول : إن كلمة يقين في قوله عليه‌السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » أريد منها طبيعة اليقين ، وذلك بقرينة عدم تعارف تعدية اليقين

__________________

(١) سورة المزمل آية ١٥ ، ١٦.

(٢) سورة النور آية ٣٥.

٣٤٥

إلى معموله بحرف « من » ، فلا يقال « تيقنت من الحدث » وإنّما يقال « تيقنت بالحدث » ، قال الله تعالى : ( وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) (١) أي : كانوا يوقنون بآياتنا. وإذا كان كذلك فإنّ قوله عليه‌السلام « من وضوئه » ليس متعلّقا لليقين فلا يصلح لتقييده ؛ إذ أنّ الذي يصلح لتقييد العامل إنّما هو متعلّقه « معموله » ، وحيث إنّه ليس متعلّقا له فلا يكون مقيدا له بل إنّ « من » في الواقع قيد للظرف والذي هو محذوف ، والتقدير « من جهة وضوئه » فحذف المضاف فدخلت « من » على المضاف إليه وإلا فواقع العبارة هكذا : « فإنه على يقين من جهة وضوئه » فيكون المقيد هو مدخول « من » وهو الظرف ، وبثبوت عدم تقيّد اليقين بحرف الجر ومدخوله يثبت أنّ اليقين قد استعمل في معناه الوسيع ، إذ لا موجب لتقيده بحصة خاصة وهي اليقين بالوضوء بعد أن لم يكن « من وضوئه » متعلّقا لليقين ، وإذا كان كذلك فاليقين الذي هو مدخول لام العهد هو طبيعي اليقين ، وبهذا يثبت أنّ قوله عليه‌السلام « ولا ينقض اليقين بالشك هو قاعدة كليّة أراد الإمام عليه‌السلام من ذكرها التنبيه على ما هو مركوز في أذهان العقلاء ، فتثبت بهذه الرواية حجيّة الاستصحاب مطلقا.

ثمّ إنّ هناك روايات صالحة للاستدال بها على حجية الاستصحاب لم يتعرض لها المصنّف رحمه‌الله وفيها ما هو تام سندا ودلالة.

__________________

(١) سورة السجدة آية ٢٤.

٣٤٦

أركان الاستصحاب

ويقع البحث في المقام عن أركان الاستصحاب والتي إذا توفرت بتمامها أمكن إجراء الاستصحاب وإلا فإن اختلّ أحد الأركان فإن الاستصحاب لا يجري ، وهذه الأركان مستفادة من نفس دليل الاستصحاب ، وهي أربعة أركان :

الركن الأول : اليقين بالحدوث :

وهو يعني أنّ الاستصحاب لا يجري إلا في حالة يكون المكلّف قاطعا بحدوث المستصحب ـ أي الحدث الذي يراد استصحابه ـ فما لم يكن قاطعا لا يجري الاستصحاب ، ومعنى ذلك أنّ الشك وحده لا يسوّغ جريان الاستصحاب ، فلو كان المكلّف يشك في وجوب شيء ولم يكن على علم بوجوبه سابقا فإنّ ذلك مجرى لأصالة البراءة لا الاستصحاب ، كما أنّ أخذ اليقين في موضوع الاستصحاب يعني أنّ الحدوث في نفس الأمر والواقع لا يكون مبرّرا لإجراء الاستصحاب بل لا بدّ أن يكون الحدث متيقنا من قبل المكلّف.

والدليل على ركنية هذا الركن هو قوله عليه‌السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » فإنه ظاهر في أخذ اليقين بالحدوث في موضوع الاستصحاب.

٣٤٧

ومن هنا ينشأ إشكال وهو أنّه لو اتّفق ثبوت الحدث بواسطة الأمارة ثم وقع بعد ذلك الشك فإن الاستصحاب لا يجري ؛ وذلك لأنّ الأمارة لا تنتج العلم والحال أن المتسالم عليه فقهيا هو جريان الاستصحاب في حالات قيام دليل ظني معتبر على ثبوت شيء ثم عروض الشك في بقاء مؤداه.

مثلا لو دلّت الأمارة على وجوب شيء ثم وقع الشك في بقاء ذلك الوجوب فإنّ الاستصحاب يجري في مثل هذه الحالة رغم عدم اليقين بالحدوث.

ومن هنا تصدى الأعلام « رضوان الله عليهم » لمعالجة هذه المشكلة صناعيا وإلاّ فهي مسلمة عمليّا.

المحاولة الأولى : وهي محاولة المحقق النائيني رحمه‌الله وحاصلها : إنّه لما ثبت أنّ الأمارات تقوم مقام القطع الموضوعي فإنّ قيام الأمارة على ثبوت الحدث يكون محققا لموضوع الاستصحاب ؛ إذ أنّ موضوع الاستصحاب هو اليقين بالحدوث والأمارة تقوم مقام اليقين ، وهذا يعني أنه متى ما تحققت الأمارة فقد تحقق موضوع الاستصحاب ، فكما لو قال المولى :

« المرأة المقطوع بكونها في العدة يحرم الزواج منها » يكفي في تنجّز الحرمة قيام الأمارة على كون المرأة في العدة كذلك المقام ، فإن قيام الأمارة على وقوع الحدث كاف في تحقق موضوع الاستصحاب ، وقد بينا كيفية قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي وما هو منشأ دعوى قيامها مقامه.

المحاولة الثانية : هي إلغاء ركنية اليقين من رأس وأن موضوع الاستصحاب هو نفس وقوع الحدث في نفس الأمر ، ومبرّر التعبير في

٣٤٨

الرواية باليقين بالحدث هو أنّ اليقين وسيلة من وسائل انكشاف وقوع الحدث وإلا فليس له موضوعية ، ومن هنا يجري الاستصحاب متى ما تحقق الحدث ، غايته أنّ التعرّف على وقوع الحدث لا يكون إلاّ بواسطة وسيلة من وسائل الكشف ، ومن الواضح أنّ الدليل المحرز المعتبر هو أحد وسائل الكشف فيثبت بواسطته موضوع الاستصحاب.

الركن الثاني : الشك في البقاء :

وهو يعني أنّ المكلّف بعدما كان على يقين من الحدث يحصل له التردد بعد ذلك في بقاء الحدث أو ارتفاعه ، وليس المقصود من الشك ـ الذي هو موضوع الاستصحاب ـ هو خصوص الشك المنطقي والذي يعني عدم ترجّح أحد كفتي الثبوت وعدمه بل المراد من الشك هو عدم اليقين فيشمل حالات الظن والاحتمال ، فلو كان المكلّف على يقين من الحدث ثم ظن بارتفاعه أو ظن بعدم ارتفاعه فإنّ عليه أن يجري الاستصحاب ؛ وذلك لتنقّح موضوعه.

ودليل هذه الدعوى هو قوله عليه‌السلام « ولكن انقضه بيقين آخر » ، فإنّ هذا يعني أنّه لا يجوز رفع اليد عن اليقين السابق إلاّ بيقين آخر ، فمطلق عدم اليقين لا يبرّر رفع اليد عن اليقين السابق. ثم إنّ الشك على نحوين :

النحو الأوّل : هو الشك الفعلي ، والذي يعني فعليّة التردد في ارتفاع الحدث وتبدّل استقرار النفس ووضوح الرؤية إلى التزلزل وتشوش الرؤية بحيث يكون التردد والشك حاضرا في نفسه.

وهذا هو القدر المتيقن من موضوع الاستصحاب ، إذ أنّه الفرد الجلي

٣٤٩

من أفراد الشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب ؛ وذلك لظهور الشك في الفعليّة.

النحو الثاني : وهو الشك التقديري : وهو الشك الذي يجتمع مع الغفلة والذهول عن مرتبة رؤيته للحدث ولو قدّر له أن يلتفت لشك في بقاء الحدث ولكن لذهوله وعدم التفاته لا يحضر الشك في نفسه.

وهذا النحو من الشك قد وقع النزاع في موضوعيته للاستصحاب أو أنّ موضوع الاستصحاب هو الشك الفعلي فحسب.

ويترتب على الخلاف أنّه لو كان موضوع الاستصحاب هو مطلق الشك لكان المكلّف مسؤولا عن ترتيب الآثار الشرعية للاستصحاب الذي كان جاريا حين ذهوله وغفلته ، فلو أنّ المكلّف صلّى غافلا عن شكه في إيقاع الطهارة وبعد أن فرغ من الصلاة عرف أنّه لو كان قد التفت أثناء الصلاة أو قبلها لشك في إيقاع الطهارة ، وهنا يجب عليه إعادة الصلاة لجريان الاستصحاب في حقه أثناء الصلاة أو قبل الدخول فيها.

أما لو كان موضوع الاستصحاب هو الشك الفعلي فهنا لا بدّ من التفصيل ، فإن كان المكلّف متوجها إلى شكه لزمه ترتيب آثاره ومع عدم ترتيبها يترتب على ذلك فساد الفعل العبادي المنوطة صحته بالطهارة مثلا ، فلو أنّ المكلّف وقبل شروعه في الطواف أو أثناء أدائه لنسك الطواف شك في إيقاع الطهارة شكا فعليّا فإنّه ملزم بإجراء الاستصحاب ، فيكون ما جاء به من طواف محكوما بالبطلان وتلزمه عندئذ الإعادة وليس له أن يجري قاعدة الفراغ عند الفراغ من الطواف ، إذ أن الحكم بفساد الطواف كان معلوما قبل الفراغ ، فالاستصحاب حينما كان جاريا لم يتحقق موضوع

٣٥٠

قاعدة الفراغ لأنه لم يكن قد فرغ من طوافه ، ومن الواضح أنّ قاعدة الفراغ لا تجري في حالة يكون فيها الفعل فاسدا قبل جريان القاعدة.

أمّا لو كان المكلّف ذاهلا أثناء طوافه عن شكه في إيقاع الطهارة وبعد أن فرغ من الطواف توجّه إلى أنّه لو كان ملتفتا لشك في إيقاع الطهارة ، فهنا قد يقال بجريان قاعدة الفراغ لنفي الفساد عن الطواف ، إذ أنّ موضوع الاستصحاب غير متحقق حين الأداء ، نعم موضوع الاستصحاب ـ وهو الشك الفعلي ـ قد تحقق بعد انتهاء الطواف وبعد أن تحقق موضوع قاعدة الفراغ فيكون موضوع الاستصحاب وموضوع قاعدة الفراغ قد تحققا بعد الفراغ.

وقد ثبت في محلّه أنّ الاستصحاب لا يجري في موارد جريان قاعدة الفراغ وإلاّ لم يكن لقاعدة الفراغ مورد تجري فيه فتصبح قاعدة الفراغ لاغية ، ومن هنا تكون متقدمة على قاعدة الاستصحاب ، نعم يجري استصحاب عدم الطهارة بالنسبة لصلاة الطواف ، أي يلزم المكلّف أن يأتي بالطهارة لصلاة الطواف لعدم حجيّة قاعدة الفراغ في مثبتاتها ولوازمها كما بينّا ذلك فيما سبق.

الإشكال على هذه الثمرة :

إننا وإن كنّا نسلّم بعدم جريان الاستصحاب أثناء الطواف ـ بناء على أنّ موضوع الاستصحاب هو الشك الفعلي ـ إلاّ أنّه مع ذلك لا تجري قاعدة الفراغ بعد الفراغ من الطواف ؛ وذلك لأن قاعدة الفراغ منوطة بعدم إحراز الذهول والغفلة أثناء العمل.

فحينما يكون المكلّف بعد العمل شاكا في إيقاع الفعل على وجهه ولا

٣٥١

يحرز بأنّه كان ذاهلا أثناء أدائه للعمل بل يحتمل الالتفات وأنّه قد جاء بالفعل تاما ومتوفّرا على تمام أجزائه وشرائطه فهنا تجري قاعدة الفراغ لأصالة الأذكرية والذي هو أصل عقلائي قاض بأنّ الممارس للفعل يكون ملتفتا إلى أنّه يأتي به مراعيا ضوابطه الموجبة لتحققه تاما كاملا ، وهذا ما يشير إليه الإمام عليه‌السلام « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (١).

أمّا لو كان محرزا للغفلة فإن قاعدة الفراغ لا تجري لأنّها مرتكزة على أصالة الأذكرية وهي محرزة العدم في مفروض الكلام ، وإذا تمّ ذلك فإنّ المقام من هذا القبيل إذ أنّ المكلّف محرز لغفلته في الطواف.

وبهذا يتضح عدم تمامية الثمرة المذكورة وأنّه سواء قلنا بأن موضوع الاستصحاب هو الشك الفعلي أو الأعم منه ومن التقديري فإنّ الطواف يكون فاسدا ، نعم بناء على أنّ قاعدة الفراغ غير منوطة بعدم إحراز الغفلة ـ كما لعلّه المشهور ـ فإنّ الثمرة تكون تامة ؛ وذلك لصحة التمسّك بقاعدة الفراغ حتى في موارد غفلة المكلّف عن الشك أثناء الطواف.

الركن الثالث : وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة :

والمراد من هذا الركن أنّ الاستصحاب لا يجري إلاّ في حالة يكون فيها موضوع اليقين وموضوع الشك واحدا ، أي أنّ الذي وقع موردا لليقين هو الذي وقع موردا للشك.

فالوضوء المتيقن الوقوع هو عينه الوضوء المشكوك في بقائه أمّا لو

__________________

(١) معتبرة بكير بن أعين ، الوسائل باب ٤٢ من أبواب الوضوء ح ٧.

٣٥٢

كان الوضوء الذي وقع متعلّقا لليقين قد ارتفع يقينا والشك إنّما هو متعلّق بوضوء آخر فإنّ الاستصحاب لا يجري لافتراض التغاير بين متعلقي اليقين والشك ، وحينئذ لو كانت ثمرة مترتبة على الوضوء المتأخر فإنّها لا تترتب إذ لا استصحاب في مورد الوضوء الثاني.

ومرادنا من وحدة القضية القضية المتيقنة والمشكوكة هو وحدة الموضوع بقطع النظر عن اختلافهما من حيث الزمن ، فلو كان زمان اليقين بالحدوث سابقا ـ كما هو العادة ـ عن زمان الشك فإنّ ذلك لا يمنع من جريان الاستصحاب لكفاية وحدة متعلّق اليقين والشك في تحقّق موضوع الاستصحاب ، إذ أنّ الذي برّر ركنية هذا الركن هو صدق النقض في حالة عدم الاعتناء باليقين السابق ، ومن الواضح أنّ النقض كما يصدق في حالات عدم اتحاد المتعلّقين ذاتا وزمانا يصدق في حالات اتحادهما ذاتا فحسب ؛ وذلك لما ذكرناه من أنّ الزمان يكون ملغيا عرفا فكأن مورد الشك ومورد اليقين واحد ، ومن هنا يكون الشك ناقضا لليقين.

وبتعبير أوضح : إنّ لوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة حالتين.

الحالة الأولى : هو أن لا يحرز كون زمان الشك في بقاء الحادث متأخرا عن زمان اليقين بالحدوث ، وهنا لا إشكال في صدق ناقضية اليقين للشك ، وقد بينا ذلك في بحث تمييز الاستصحاب عن قاعدة اليقين.

الحالة الثانية : هو أن يكون زمان الشك في بقاء الحدث متأخرا عن زمان اليقين بالحدوث ، وهنا قد يقال بعدم صدق ناقضية الشك في البقاء لليقين بالحدوث إلاّ أننا قد ذكرنا أنّ الناقضية تصدق ؛ وذلك لإلغاء العرف الحيثية الزمنيّة واعتبار المتيقن والمشكوك شيئا واحدا ، وهذا ما

٣٥٣

سوّغ صدق النقض على الشك في البقاء ، ومع صدقه يثبت أنّ هذه الحالة متوفّرة على الركن الثالث.

الإشكال الذي ينشأ عن ركنيّة هذا الركن :

وحاصله أنّه لا ريب ـ بناء على ركنية هذا الركن ـ في جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية ؛ وذلك لتعقّل وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة في موردها ، فالمكلّف قد يتيقن بنجاسة ثوبه ثم يشك في ارتفاع النجاسة لاحتمال أنّه قد طهرها أو أنّ غيره قد طهرها فيجري استصحاب النجاسة لأنّ المتيقن والمشكوك واحد وهو نجاسة الثوب ، إنّما الإشكال في الشبهات الحكميّة ، فإنّه لا يتفق اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة في موردها ؛ وذلك لأنّ فعلية الحكم تكون منوطة بتحقّق موضوع الحكم وقيوده فمتى ما كانت متحققة فإنّ الحكم يكون معها فعليّا ومتى ما انتفت هذه القيود أو بعضها فإنّ فعلية الحكم تنتفي تبعا لانتفاء قيوده أو بعضها ، ومن هنا لا يقع الشك في بقاء الفعليّة بل تكون فعليّة الحكم محرزة الانتفاء بعد أن انتفت بعض قيودها ، وحينما تكون القيود موجودة لا يقع الشك في فعليّة الحكم لعدم وجود موجب للشك بعد أن كانت القيود محرزة البقاء.

وبتعبير آخر : عندما تكون القيود موجودة فلا شك في الحكم المجعول وعندما تنتفي بعض القيود فلا شك في البقاء بل هو يقين بانتفاء الفعليّة عن الحكم ، نعم هناك حالة واحدة يمكن أن يتعقل فيها الشك في البقاء وهي ما لو كان المكلّف على يقين من تواجد تمام قيود الحكم وبالتالي يكون على يقين بتحقّق الفعليّة للحكم ، ثم لو أحرز المكلّف بعد ذلك انتفاء بعض الخصوصيات التي يحتمل دخالتها في فعليّة الحكم فإنه يقع الشك

٣٥٤

حينئذ في بقاء الفعليّة للحكم ؛ وذلك لاحتمال أنّ تلك الخصوصية المفقودة من القيود التي رتبت عليها فعليّة الحكم.

ومثال ذلك جواز النظر إلى الزوجة بعد موتها ، فإنّه لا ريب في جواز النظر إلى الزوجة حال حياتها ؛ وذلك لتحقق قيود الفعليّة للجواز وهي العقد التام المتوفّر على شرائط الصحة وإنّما وقع الشك في الجواز بعد الوفاة لاحتمال أنّ خصوصية الحياة من قيود الفعليّة لجواز النظر إلاّ أنّه في مثل هذه الحالة لا تكون القضية المتيقنة والمشكوكة متحدة ؛ وذلك لأنّ متعلّق اليقين هو الزوجة الموجودة ومتعلّق الشك هو الزوجة الميتة فلا اتحاد إذن بين القضيتين ، ومن هنا يصعب جريان الاستصحاب بناء على ركنية هذا الركن.

وقد تصدى الأعلام « رضوان الله عليهم » لعلاج هذه المشكلة ببيان حاصله :

أنّ الوحدة المأخوذة في موضوع الاستصحاب هي الوحدة العرفية والتي لا تعني أكثر من اتحاد متعلّق اليقين ومتعلّق الشك بنظر العرف ، أما الوحدة بحسب التحليل العقلي فليست مشروطة في صحة جريان الاستصحاب ، وهذا يعني أنّ الحالات التي لا تعتبر مقومة بنظر العرف لا تكون مخلّة في حال انتفائها لوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ الخصوصيات المتصور انتفاؤها بعد وجودها على قسمين :

الأول : أن تكون تلك الخصوصيات من الحالات العارضة والتي لا تلحظ عادة حين جعل الحكم على الموضوع ولا يكون انتفاؤها مقتضيا

٣٥٥

لتبدل الموضوع بنظر العرف.

وهذا النحو من الحالات لا يؤثر على وحدة الموضوع لو اتفق انتفاؤها ، والذي يكشف عن هوية هذه الحالات هي مناسبات الحكم والموضوع ، ومثال ذلك أنه لو أحرزنا نجاسة جذع النخلة والتي كانت حين إحراز نجاستها ثابتة في الأرض ثمّ بعد ذلك قطعت تلك النخلة وأصبحت جذعا خاويا ، فإنه يقع الشك في بقاء فعلية الحكم بالنجاسة لاحتمال أنّ تغيّر حالها من نخلة نامية إلى جذع خاو موجب لانتفاء قيد الفعليّة عنها.

وفي مثل هذا الفرض لا يقال إنّ القضية المتيقنة غير القضيّة المشكوكة ؛ إذ أنّ الخصوصية التي انتفت ليست من الخصوصيات المقوّمة لموضوع الفعلية للحكم ، ولهذا لو حكم المولى بنجاسة الجذع في مثل هذه الحالة لما كان حكما جديدا مجعولا على موضوع مباين للموضوع المجعول عليه النجاسة الأولى ، بل إنّ العرف يرى أنّ ذلك استمرار وبقاء للنجاسة الثابتة للنخلة حال حياتها.

ومن هنا أمكن تصوير الشك في البقاء في موارد الشبهات الحكمية مع الاحتفاط بوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة.

ويمكن أن يعبّر عن مثل هذه الحالات ـ والتي قلنا إنّ انتفاءها يوجب الشك في البقاء دون أن تنهدم وحدة المتعلقين ـ بالحيثيات التعليليّة ؛ وذلك لأنّ الحيثيّة التعليليّة لا تكون مأخوذة في موضوع الحكم ، أي لا يكون لها دخل في ترتّب الحكم على الموضوع ، نعم هي تساهم في جعل الحكم على الموضوع إلاّ أنّهم يتوسعون فيطلقونها على كل خصوصية لا تكون مأخوذة في موضوع الحكم ، أي لا تكون قيدا للحكم وإن لم يكن لها

٣٥٦

مساهمة في جعل الحكم على الموضوع ، وذلك لغرض تمييزها عن الحيثيات التقييديّة.

الثاني : وهي الخصوصيات المقوّمة والمصنّفة للموضوع والتي يعدّ انتفاؤها تبدّلا للموضوع المجعول عليه الحكم ، كما لو تغيرت الصورة النوعيّة للموضوع لدى العرف والذي يعبّر عنه بالاستحالة أو الانقلاب.

ومثال الأول : استحالة الماء إلى بخار ، ومثال الثاني انقلاب الخمر خلاّ ، فإنّه في كلا الحالتين تتبدّل الصورة النوعية بنظر العرف ويعتبرون الموضوع الأول مباينا للثاني ، وفي مثل هذه الحالة لا يجري الاستصحاب وذلك لعدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة.

فلو وضع كلب في مملحة وتحلل جسمه وأصبح ملحا. فشككنا في نجاسته فإنّه لا يمكن إجراء الاستصحاب في مثل هذا الفرض وذلك لأن الموضوع الذي كنا على يقين بنجاسته هو الكلب والموضوع الذي نشك في نجاسته فعلا هو الملح الذي استحال عن الكلب ، ولذلك لو حكم المولى بنجاسة هذا الملح لكان حكما آخر ثابتا لموضوع مباين للموضوع الأول.

وهذا بخلاف العلم بنجاسة الطحين الذي صار خبزا فإنّ العرف لا يرى أنّ موضوع النجاسة قد تبدّل ؛ وذلك لأنّه لا يرى أنّ حالة التناثر والتفكك في أجزاء الطحين من الحالات المقوّمة والمصنفة لموضوع الطحين ، ومن هنا تكون حالة التماسك في الطحين لا تمثّل تبدلا للصورة النوعية ، غايته أنّ من المحتمل انتفاء الحكم بالنجاسة ، فلو حكم المولى بنجاسة الخبز لفهم العرف أنّ ذلك إنّما هو استمرار للحكم الأول ، ومن هنا يجري الاستصحاب.

٣٥٧

ويمكن أن يعبّر عن مثل هذه الخصوصيات بالحيثيات التقييديّة ؛ وذلك لتقوّم الموضوع بها وإناطة صدقة بوجودها ، ومن هنا لو جعل حكم على ذلك الموضوع لكانت تلك الخصوصيات مأخوذة في ترتّب الحكم على ذلك الموضوع.

الركن الرابع : أن يكون لاستصحاب الحالة السابقة أثر عملي :

وذلك بأن يكون الاستصحاب موجبا للتنجيز أو التعذير كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

والكلام عن هذا الركن يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في بيان ما هي الصيغة المناسبة لهذا الركن.

الجهة الثانية : في بيان دليل ركنية هذا الركن.

أمّا الكلام في الجهة الأولى : فنقول : إنه قد ذكرت لهذا الركن صياغتان :

الصياغة الأولى : إنّه لمّا كان الاستصحاب من الاعتبارات الشرعية فلابدّ أن تكون مجاريه مما تتصل بالشارع بما هو شارع.

وبتعبير آخر : الاستصحاب من الأحكام التعبديّة ، وهذا يقتضي أن يكون المستصحب مما يتصل بالتعبد الشرعي ، إذ أنّ غيره يكون خارجا عن نطاق الشارع ، ومن هنا يكون مجرى الاستصحاب هو الحكم الشرعي أو موضوعه ، وما سواه يكون خارجا عن إطار التعبد بالاستصحاب فلا يطاله التعبد الشرعي لعدم صلاحيته بما هو شارع لذلك.

والمراد من موضوع الحكم هو ما يكون دخيلا في تحقّق الفعليّة

٣٥٨

للحكم بحيث لو اتفق عدمه أو انتفاؤه بعد وجوده لكان ذلك يقتضي انتفاء فعلية الحكم ، ومن هنا تكون جميع القيود الوجوبيّة مجرى لأصالة الاستصحاب كالاستطاعة للحج والنصاب للزكاة وهلال شوال لزكاة الفطرة والفائدة للخمس والزوجيّة لوجوب النفقة ، وكذلك المقدمات التي تكون قيودا للوجوب والواجب معا كالزوال لصلاة الظهر ويوم عرفة لوجوب الموقف بناء على استحالة الواجب المعلّق.

ويمكن التعرّف على ذلك ـ كما ذكرناه فيما سبق ـ بملاحظة نحو علاقة القيود بالحكم وهل أنّها أخذت مقدرة الوجود أو لا؟ فإن أخذت مقدرة الوجود ـ أي متى ما اتفق وجودها ترتب عن وجودها فعليّة الحكم ـ فهي من موضوعات الحكم ، فتكون مجرى لأصالة الاستصحاب بناء على هذه الصياغة.

والضابطة العامة هي أنّ كل حكم أنيطت فعليته بشيء فإنّ ذلك الشيء يكون موضوعا للحكم فيكون مجرى لأصالة الاستصحاب.

والإشكال على هذه الصياغة :

وقد واجهت هذه الصياغة مجموعة من الإشكالات ذكر المصنّف رحمه‌الله منها إشكالين :

الإشكال الأول : إنّه بناء على هذه الصياغة لا يجري الاستصحاب في موارد الشك في استمرار عدم الحكم بعد إحراز عدمه في مرحلة سابقة ؛ وذلك لأنّ عدم الحكم ليس حكما ولا موضوعا لحكم.

ومثاله ما لو كنا نعلم بعدم حرمة العصير التمري ثم وقع الشك في استمرار انتفاء الحرمة فإنّه لا إشكال فقهيا في جريان استصحاب عدم

٣٥٩

الحرمة ، وكذلك لو علمنا أنّ الشارع لم يجعل خيارا للمكلّف غير الخيارات المنصوصة فإنه لا إشكال في إمكان التمسّك باستصحاب عدم جعل الخيار فيما لو وقع الشك بعد ذلك.

الإشكال الثاني : إنّه بناء على هذه الصياغة لا يجري الاستصحاب في موارد الشك في قيود الواجب كالطهارة والاستقبال والساتر للصلاة ؛ وذلك لأن قيد الواجب ليس حكما كما هو واضح ولا هو موضوع لحكم شرعي ، إذ أنّ موضوع الحكم هو ما أنيطت فعليّة الحكم به ، وقيود الواجب ليست كذلك بل هي ناشئة عنه وبعده ، ومن هنا تكون واجبة التحصيل كما بينا ذلك في محلّه.

وببيان أشمل : قيود الواجب هي القيود المأخوذة في متعلقات الأحكام والتي يكون المكلّف مسؤولا عن تحصيلها.

وهذا النحو من القيود لا ريب في جريان الاستصحاب في مورده حتى عند القائلين بهذه الصياغة ، بل إنّ مورد الرواية ـ التي ذكرناها للاستدلال على حجية الاستصحاب ـ قيد من قيود الواجب والذي هو الوضوء أو قل الطهارة الحدثية ، فإنّ الطهارة من قيود الواجب وهي الصلاة.

ولمزيد من التوضيح نذكر مثالين لكيفية إجراء الاستصحاب في قيود الواجب حتى يتضح الإشكال على هذه الصياغة.

المثال الأول : هو أنّه لو كان المكلّف يعلم باشتماله على الساتر حين الصلاة ثم شك في ارتفاع ذلك الساتر فإنّ له أن يجري الاستصحاب لإثبات اشتماله على الساتر.

٣٦٠