شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

حينذاك في بقاء الوجوب.

ومن هنا يتضح أن تعريف الاستصحاب لا بدّ وأن يختلف باختلاف المبنى فيما هو حقيقة الاستصحاب وهل أنّه أمارة أو أصل ؛ وذلك لعدم وجود تعريف جامع يتناسب مع كون الاستصحاب أمارة وأصلا عمليّا.

وقد أورد المصنّف رحمه‌الله على ما أفاده السيد الخوئي رحمه‌الله ثلاثة إيرادات :

الإيراد الأول :

أنّه لو كان البناء هو تعريف الاستصحاب بما يتناسب مع كونه أمارة لما صح أن يعرّف « باليقين بالحدوث » ؛ وذلك لأنّ منشأ أمارية الاستصحاب ليس هو اليقين بالحدوث بل هو نفس الحدوث ؛ إذ أنّ طبع كل حادث أنّه يبقى ، فطبيعة الحادث بنفسها تكشف عن البقاء والاستمرار ، فحينما يتحقق الوجوب فإنّ تحققه وتقرّره يقتضي بقاءه وكذلك حينما يكون الشيء نجسا فإن ذلك يقتضي بقاء نجاسته.

وهذا الاقتضاء يكشف كشفا ظنيا عن البقاء ، فليس لليقين دور في أمارية الحدوث على البقاء ، نعم اليقين له دور الكاشفية عن تحقّق الأمارة ، فاليقين بالحدوث يكشف عن تحقق الحدوث والحدوث أمارة على البقاء ، وهذا مثل خبر الثقة في الأحكام والبينة في الموضوعات ، فإنّه حينما نعلم بالوجدان قيام البينة على وقوع شيء فإنّ العلم الوجداني لا يكون هو المبرّر لكاشفية البينة عن وقوع ذلك الشيء وإنما يكون دور العلم الوجداني هو الكشف عن قيام البينة ويكون دور البينة هو الكشف الظني عن وقوع ذلك الشيء الذي دلّت البينة على وقوعه ، فالبينة بنفسها أمارة وكاشفة عن مؤدّاها حتى لو لم يكن علم وجداني بتحققها ، وهكذا الكلام في اليقين

٣٢١

بالحدوث ، فإنّ الحدوث أمارة على البقاء بقطع النظر عن اليقين به ، غايته أنّ اليقين يثبت أنّ الحدوث قد وقع خارجا.

فالصحيح أن يعرّف الاستصحاب ـ لو كنّا نبني على أماريته ـ بالحدوث ، أي أنّ الاستصحاب هو أمارية الحدوث على البقاء.

الإيراد الثاني :

إنّ الاستصحاب بناء على كونه أمارة أو بناء على كونه أصلا عمليّا لا ينتج إلا حكما ظاهريا ، إذ أنّ حجيته على المبنيين إنّما هي في طول العلم بالحكم الواقعي ، وإذا كان كذلك فيمكن تعريف الاستصحاب بما يتناسب مع أماريته وبما يتناسب مع اعتباره أصلا ، وذلك بأن يكون التعريف مشتملا على الحيثية المشتركة وهي منتجيته للحكم الظاهري ، فهو بناء على كونه أمارة فهو يكشف عن الحكم الشرعي الظاهري وبناء على كونه أصلا عمليّا فهو يحدّد وظيفة المكلّف في ظرف الشك المسبوق بالعلم ، وهذه الوظيفة من الأحكام الظاهرية كما هو واضح.

وبهذا اتّضح أنّ الحيثية المشتركة بين المبنيين وهي المنتجية للحكم الظاهري صالحة لأن تكون مركزا في تعريف الاستصحاب على المبنيين ولا يلزم أن يؤخذ في تعريف الاستصحاب حيثية الكشف أو حيثية الوظيفة المحضة.

الإيراد الثالث :

إنّه لا نقبل دعوى عدم وجود تعريف جامع لتمام المباني المختلفة في تحديد هوية الاستصحاب ، فإنّه بالإمكان تعريفه « بمرجعية الحالة السابقة بقاء » بمعنى أنّ المكلّف إذا كان على يقين بالحدوث فإنّه يمكن أن يعوّل على

٣٢٢

ذلك اليقين بالحدوث ويعتمد عليه باعتباره كاشفا عن الحكم الشرعي أو مثبتا للتنجيز والتعذير أو أنّه مثبت لجعل حكم شرعي مطابق لما هو متيقن الحدوث.

فتعريف الاستصحاب بمرجعية الحالة السابقة يتناسب مع تمام المباني في تحديد هوية الاستصحاب ، فهو يتناسب مع كون الاستصحاب أمارة ؛ وذلك لأنّ أمارية الاستصحاب تعني أنّ الحالة السابقة المتيقنة يمكن التعويل عليها في مقام استكشاف الحكم الشرعي أو استكشاف الموضوع ذي الأثر الشرعي.

كما يتناسب مع كون المجعول في الاستصحاب هو المنجزية والمعذريّة ؛ وذلك لأنّ مرجعية الحالة السابقة حينئذ تعني إمكان الاستناد إليها في مقام إثبات المنجزيّة والمعذريّة للحكم المشكوك.

كما يتناسب هذا التعريف مع كون الاستصحاب هو الحكم ببقاء المتيقن في ظرف الشك في بقائه ـ والذي هو الأصل العملي ـ وذلك لأنّ الحالة السابقة هي الموضوع المنقّح لجريان الاستصحاب.

التمييز بين الاستصحاب وغيره :

ومن أجل أن يتحرّر معنى الاستصحاب أكثر لا بدّ من بيان تميّزه عن بعض القواعد التي يتوهم بدوا أنها عين الاستصحاب أو متداخلة معه ، وهذه القواعد هي قاعدة اليقين وقاعدة المقتضي والمانع.

أمّا قاعدة اليقين :

فهي كما قالوا عبارة عن الشك الساري لليقين أي العادم لليقين أو قل إنّه الشك الذي يطرد اليقين ويحلّ محلّه.

٣٢٣

وبتعبير أوضح : إنّ قاعدة اليقين هي عبارة عن تحوّل اليقين بشيء إلى الشك فيه بحيث يتضح للمتيقّن أنّه كان مخطئا في يقينه وأنّه لم يكن ثمة موجب لليقين فتستقر نفسه على الشك وتستقرّ على أنّ يقينه كان محض وهم ، وهذا بخلاف الاستصحاب فإنّ اليقين في مورده يظلّ ثابتا في النفس ، غايته أنّ الشك يكون في بقائه.

والمتحصّل أنّ اليقين والشك ـ في قاعدة اليقين ـ يتواردان على متعلّق واحد أما قاعدة الاستصحاب فمتعلق اليقين فيه غير متعلّق الشك ؛ إذ أنّ متعلّق اليقين هو الحدوث ومتعلّق الشك هو بقاء الحادث.

مثلا : لو كنت على يقين بعدالة زيد في السنة الماضية ثم شككت في عدالته ، فتارة يكون الشك في عدالته من حيث وجودها واقعا في السنة الماضية بمعنى أنني أشك بأنّ عدالته لم تكن وأن يقيني لم يكن في محلّه ، فهذا هو الشك الساري وهو قوام قاعدة اليقين.

وتلاحظون أنّ متعلّق الشك ومتعلّق اليقين ـ في قاعدة اليقين ـ واحد وهو عدالة زيد ، فعدالة زيد هي المتيقنة وهي المشكوكة كما أنّ زمن اليقين بالعدالة هو زمن الشك في العدالة وهي السنة الماضية في المثال ، غايته أن حالة الشك تأخرت عن حالة اليقين إلاّ أنّهما قد تبادلا على موضوع واحد في زمن واحد.

أما لو كان الشك في عدالة زيد شكا في استمرار العدالة ـ والتي لا زال اليقين بحدوثها على حاله ـ فهذا هو موضوع الاستصحاب.

وتلاحظون أنّ الشك في مورد الاستصحاب لا يطرد اليقين ولا يعدمه ؛ إذ أنّ متعلّق أحدهما غير متعلّق الآخر ، فمتعلّق اليقين هو وجود

٣٢٤

العدالة في السنة الماضية ومتعلّق الشك هو استمرار العدالة إلى ما بعد السنة الماضية ؛ ولذلك لا يتنافى اليقين والشك في قاعدة الاستصحاب فيمكن أن يجتمعا في نفس واحدة ، وهذا بخلاف قاعدة اليقين فإنّ الشك لا يمكن أن يجتمع مع اليقين فمتى ما تحقق الشك انعدم اليقين.

ومن أجل أن يتضح الفرق أكثر نذكر هذا التطبيق : لو أوقع المكلّف الطلاق بمحضر زيد معتقدا عدالته ثم بعد ذلك شك في عدالته ، فتارة يكون شكه من نحو الشك الساري بمعنى تحوّل يقينه بعدالة زيد في وقت إيقاع الطلاق إلى شك في عدالته.

وهنا لا يكون الطلاق الذي أوقعه صحيحا لاشتراط العدالة الواقعية في شاهد الطلاق ، ولمّا لم تكن عدالة الشاهد ـ وهو زيد ـ محرزة فالطلاق بمحضره لا يكون محرز النفوذ.

أما لو كان الشك في عدالة زيد من جهة بقاء اتصافه بالعدالة لا من جهة وجودها حين إيقاع الطلاق فإنّ الاعتقاد بعدالته حين إيقاع الطلاق لم يطرأ عليه شك ، فهذا النحو من الشك هو المقوّم لقاعدة الاستصحاب إذ أنّ الشك في هذه الصورة لا ينافي اليقين ، ومن هنا يكون ما أوقعه من طلاق في محضر زيد صحيحا ونافذا لتوفره على شرط الصحة وهو إحراز عدالة الشاهد على الطلاق.

وبهذا اتضح أن قاعدة اليقين وقاعدة الاستصحاب وإن كانا يتقومان بالشك واليقين إلاّ أنّ حيثية الشك في قاعدة اليقين تختلف عن حيثيته في قاعدة الاستصحاب ، فالأول يكون الشك نافيا لليقين والثاني لا يكون كذلك.

٣٢٥

وبتعبير آخر : إنّ نقض الشك لليقين في قاعدة اليقين تكويني وحقيقي ، أمّا في قاعدة الاستصحاب ، فناقضية الشك لليقين ليست بمعنى امتناع اجتماعهما بل بمعنى انتهاء أمد اليقين وابتداء مرحلة جديدة هي الشك في الموضوع الذي تعلّق به اليقين سابقا ، على أنّه يمكن دعوى عدم تقوّم الاستصحاب بالشك في البقاء ؛ وذلك لأنّ الشك في البقاء ليس مطرّدا في تمام حالات جريان الاستصحاب.

ومثال ذلك ما لو علمنا بوقوع النجاسة في مائع معين إلاّ أننا لا ندري متى وقعت النجاسة هل هي في الساعة الواحدة أو الساعة الثانية ظهرا؟ ثم بعد ذلك وقع الشك في ارتفاع النجاسة ، فإن بالإمكان إجراء استصحاب النجاسة إلى الساعة الثانية رغم أنّ الساعة الثانية لا يحرز أنّها بقاء للنجاسة ، إذ لعلها وقعت في الساعة الثانية فتكون الساعة الثانية هي زمن الحدوث لا زمن البقاء ، فلو كان الاستصحاب متقوّما بالشك في البقاء لما كان جاريا في المقام ؛ إذ أننا لا نحرز أن الشك في الساعة الثانية شك في البقاء ، نعم نحن نشك في وجود النجاسة في الساعة الثانية إلاّ أنّ اتّصافه بأنّه شك في البقاء محلّ تردد ، إذ لو كان زمان الحدوث للنجاسة ـ المعلوم وقوعها ـ هو الساعة الثانية لما كان الشك حينئذ شكا في البقاء بل هو شك في وجود النجاسة المحرز وقوعها على أيّ حال ، فالشك في البقاء إذن ليس مقوّما للاستصحاب بل إنّ مقوّم الاستصحاب هو الشك فحسب.

ومن هنا يمكن أن يقال بكفاية إحراز وجود الحادث لإجراء الاستصحاب لو أردنا إثبات المستصحب « الحادث » حين الشك.

وأما قاعدة المقتضي والمانع :

فالمراد منها هو ترتيب آثار وجود المعلول عند اليقين بوجود

٣٢٦

المقتضي ـ والذي هو الركن الأساسي في عليّة العلة ـ مع عدم إحراز انتفاء المانع والذي هو الجزء الآخر لعليّة العلّة.

وتوضيح ذلك :

إنّه تارة نحرز تحقق المقتضي للمعلول ونحرز عدم وجود ما يمنع عن تأثير المقتضي أثره فهنا لا ريب في تحقق المعلول ؛ وذلك لتمامية علته.

ومثال ذلك أن نحرز وجود النار المقتضية لإحراق الخشب ونحرز عدم وجود ما يمنع النار عن إحراق الخشب ، وهنا لا ريب في تحقّق المعلول وهو احتراق الخشب.

وفي حالة أخرى نحرز وجود المقتضي إلاّ أنّنا نشك في انتفاء المانع فلعلّه منتف ولعلّه موجود ، وهنا يكون مجرى قاعدة المقتضي والمانع ، ومفادها هو البناء على عدم المانع وبالتالي يكون المقتضي أثّر أثره وأوجد معلوله ـ والذي يعبّر عنه بالمقتضى بصيغة المفعول ـ.

ومثاله أن نحرز وجود النار في الخشب إلا أنّنا لا نعلم بما إذا كان هناك مانع من تأثير النار أثرها وهو إحراق الخشب ، فهنا نبني ـ بمقتضي هذه القاعدة ـ على عدم وجود المانع وأن المقتضي وهو النار قد أحرقت الخشب.

وتلاحظون أنّ هذه القاعدة تتفق مع قاعدة الاستصحاب من جهة أنها متقومة بالشك واليقين إلاّ أنها تختلف عن الاستصحاب من جهة أنّ مورد الشك فيها مباين ذاتا لمورد اليقين ، فمتعلّق اليقين فيها هو وجود المقتضي ومتعلّق الشك هو وجود المانع ، أما قاعدة الاستصحاب فالمتيقن هو المشكوك ، غايته أنّ حيثية الشك تختلف عن حيثية اليقين ، فمتعلّق

٣٢٧

اليقين والشك هي نجاسة المائع ـ مثلا ـ إلاّ أن جهة اليقين هي الحدوث وجهة الشك هي البقاء.

وبهذا البيان اتّضح الفرق بين القاعدتين ، واتّضح أيضا أنّ القواعد الثلاث لا تتصل إحداها بالأخرى ، ثم إنّ هناك فارقا آخر بين القواعد الثلاث يتصل بمنشأ كاشفية هذه القواعد عن الواقع.

فقاعدة الاستصحاب إنّما تكشف عن بقاء الحادث واستمراره باعتبار أنّ من طبع الحادث إذا حدث أن يستمر ويبقى.

وأما قاعدة اليقين فهي تكشف عن واقعيّة المتيقن باعتبار ندرة وقوع الخطأ في حالات اليقين ؛ فلذلك يكون الشك في متعلّق اليقين لا اعتداد به وأنّ اليقين أقرب للصواب منه إلى الخطأ.

وأما قاعدة المقتضي والمانع فهي تكشف عن انتفاء المانع وتأثير المقتضي أثره باعتبار أنّ الحالة الغالبة عند وجود المقتضي هي عدم وجود ما يزاحمه ويمنع عن تأثيره.

إذن فمنشأ الكشف الظني في كل قاعدة يختلف عنه في القاعدة الأخرى ، وهذا ما يبرّر عدّه في ضمن الفوارق بين هذه القواعد الثلاث.

٣٢٨

أدلّة الاستصحاب

وقد استدل لحجيّة الاستصحاب بثلاثة أنحاء من الأدلة :

النحو الأول : هو الاستدلال على الاستصحاب باعتبار أنّ ركنه المقوّم ـ وهو اليقين بالحدوث أو قل الحدوث نفسه ـ موجب للظن النوعي بالبقاء ؛ وذلك لأنّ الحالة الغالبة هي بقاء الحادث بعد حدوثه ، وهذه الغلبة في بقاء الحادث هي الموجبة للظن النوعي باستمرار الحادث ، وكل ما كان هناك ظن نوعي فإنّ له الدليليّة والحجيّة ، أي أنّ الظن النوعي موجب للجريان على وفقه شرعا.

ويمكن أن تؤيد دعوى إيجاب اليقين بالحدوث للظن النوعي بالبقاء بما جرت عليه سيرة العقلاء من البناء على بقاء الحادث وترتيب آثار البقاء بمجرّد أنه محرز الوقوع والحدوث ، فإذا كان البناء العقلائي على ذلك مع الالتفات إلى أن العقلاء لا يعتمدون في مقام استكشاف الواقعيات إلاّ على ما يوجب الاطمئنان أو الظن النوعي فإذا لم يكن الاستصحاب موجبا للاطمئنان فهو لا أقل موجب للظن النوعي في نظرهم ، وهذا ما يعزز كون الحدوث أمارة البقاء.

والجواب عن هذا الدليل : أنه موهون في صغراه ومؤيدها وكذلك كبراه.

٣٢٩

أما الصغرى : فلا نسلّم أنّ الحدوث بنفسه موجب للظن النوعي بالبقاء ، نعم قد ينشأ الظن بالبقاء عند إحراز وجود الحادث إلاّ أنّه لا لاقتضاء الحادث نفسه للظن في البقاء ، إذ أننا وبالوجدان نجد أنّ إحراز وجود الحادث لا يقتضي في حالات كثيرة البقاء مما يعبّر عن أنّ هناك منشأ آخر للظن بالبقاء وليكن هو طبيعة الحادث المقتضية للبقاء إلى حين زمان الشك ، كما لو علمنا بتولّد إنسان صحيح البدن وشككنا بعد سنة في بقائه ، فإنّه لو رجعنا إلى أنفسنا لوجدناها ترجّح جانب البقاء إلا أنّ هذا الترجيح ـ والذي هو الظن بالبقاء ـ لم ينشأ عن العلم بتولّد هذا الإنسان وإنّما نشأ عن معرفة طبيعة هذا الحادث وأنّه حينما يحدث يبقى لأكثر من سنة ؛ ولذلك لو علمنا ـ مثلا ـ أنّ خطيبا قد بدأ خطبته ثم وقع الشك بعد ساعتين في استمراره في خطابه فإنّه لا يحصل الظن بالاستمرار وما ذلك إلاّ لعدم اقتضاء هذا النحو من الحادث للبقاء إلى هذه الفترة الزمنيّة.

وأما المؤيد : فهو لا يصلح للتأييد ؛ وذلك لاحتمال أن يكون منشأ التباني هو الجريان على مقتضى الألفة والعادة كما هو الحال في الحيوانات أو يكون المنشأ ـ ولو في بعض الحالات ـ هو رجاء البقاء ، أو أنّ المنشأ هو قوة المحتمل ، مثلا قد يتحرك العطشان نحو المحل الذي كان يقطع بوجود الماء فيه لا لأنه يظن ببقاء الماء بل لشدة اهتمامه بالمطلوب ، فلعلّ احتمال بقاء الماء في ذلك المحل ضئيل جدا ومع ذلك يتحرّك نحوه لعله يجده ، وما هذا إلا لقوة المحتمل والذي هو المطلوب.

وأمّا الكبرى : فلأنّ الظن ليس حجة بذاته ، فلابدّ لإثبات الحجيّة له من قيام دليل قطعي على الحجيّة ولمّا لم يكن دليل على حجيّة هذا الظن

٣٣٠

فهو ساقط عن الاعتبار.

النحو الثاني : وهو الاستدلال بالسيرة العقلائية القاضية بالبناء على الحالة السابقة وترتيب آثار البقاء بمجرّد إحراز الحدوث.

والجواب : أنّ هذه السيرة لا يمكن الاستدلال بها على الاستصحاب لأنّ مجرّد البناء على الحالة السابقة لا يعبّر عن وجود اعتبار عقلائي قاض بترتيب آثار البقاء عند إحراز الحدوث ، فإنّ كثيرا من السير منشؤها التسامح خصوصا في السلوك الذي لا يشكّل الجريان عليه خطورة وتهديدا للصالح العام في المجتمع العقلائي ، فلعلّ هذه السيرة من ضمن تلك السير التي تكون مبتنية على ما تقتضيه حالة التسامح من الاسترسال مع مقتضيات الألفة والعادة والتي لا تنفك عادة عن الغفلة والذهول ؛ ولذلك لا يمكن استكشاف الإمضاء لهذا النحو من السير خصوصا إذا لم تكن منافية لأغراض الشارع ، على أنّه يمكن القول بأنّ البناء على الحالة السابقة ناشئة في كثير من الأحيان عن الاطمئنان بالبقاء أو ناشئة ـ كما قلنا ـ عن رجاء بقاء المطلوب أو عن قوة المحتمل.

النحو الثالث : هو الاستدلال بالروايات وهي المستند في إثبات الحجيّة للاستصحاب.

ومن هذه الروايات صحيحة زرارة ، قال : « قلت له الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، فإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء ، قلت : فإن حرّك في جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بيّن وإلا فإنّه على يقين من

٣٣١

وضوئه ولا تنقض اليقين أبدا بالشك ولكن انقضه بيقين آخر » (١).

ويمكن صياغة الرواية بأسلوب أوضح :

إن زرارة رحمه‌الله كان يحرز أن النوم من نواقض الوضوء إلاّ أنّه كان يسأل عن حالة الشك في تحقق هذا الناقض وعن أنّ الخفقة والخفقتين مما يوجب تحقق الناقض أو لا؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام بأن المناط في تحقق الناقض هو نوم العين والأذن والقلب معا ، فما لم يتحقق نوم المجموع فإنّه لا يتحقق النوم الناقض للوضوء ، ثم سأل زرارة عن أمارية الحركة القريبة مع عدم الإلتفات إليها على تحقق النوم الناقض أو أنّ ذلك ليس أمارة؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام أنّ ذلك غير موجب لإحراز الناقض بل غاية ما ينتجه ذلك هو الشك وهو غير معتبر في ثبوت الناقضية بعد أن كان المكلّف متيقنا بالطهارة من الحدث ولا يرفع اليد عن اليقين بالطهارة بالشك فيها ، نعم الموجب لرفع اليد عن الطهارة المتيقنة هو إحراز حدوث الناقض ، ثم ذيّل الإمام عليه

السّلام كلامه بكبرى كليّة نهى فيها عن نقض اليقين بالشك.

ثم إنّ الكلام في الرواية يقع في جهات :

الجهة الأولى :

والبحث فيها عن فقه هذه الفقرة من الرواية وهي قوله عليه‌السلام « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك ». وهو من ناحيتين :

__________________

(١) الوسائل باب ١ من أبواب نواقض الوضوء ح ١ ، والرواية مضمرة حيث لم يصرّح زرارة رحمه‌الله باسم المسؤول إلا أنّ ذلك لا يخرجها عن الاعتبار بعد أن كان من المطمأن به أن زرارة رحمه‌الله لا يسأل غير الإمام عليه‌السلام ، وذلك يتّضح بملاحظة أجواء الرواية مع الالتفات إلى مكانة زرارة العلميّة.

٣٣٢

الناحية الأولى : هي أنّ الرواية عبّرت عن الشك في البقاء أنّه نقض لليقين رغم أنّه لا تنافي بين اليقين بالحدوث والشك في البقاء ؛ وذلك لعدم اتحاد المتعلّق في كل من اليقين والشك ، حيث إنّ متعلّق اليقين هو نفس الحدوث ومتعلّق الشك هو بقاء الحادث ، ومع عدم اتحاد متعلّقي اليقين والشك كيف يكون الشك نقضا لليقين؟! وقد ذكرنا في بحث التمييز بين الاستصحاب وقاعدة اليقين أن الشك في قاعدة اليقين هو الموجب لنقض اليقين ؛ وذلك لأن الشك يسري إلى نفس متعلّق اليقين ويوجب تحوّل اليقين بالحدوث إلى الشك في نفس الحدوث ، فالنقض هنا تكويني ، إذ من المستحيل أن يكون الشيء الواحد هو متيقن الحدوث وهو مشكوك الحدوث ؛ ذلك لأن اليقين يعني الاستقرار النفسي نتيجة وضوح الرؤية للمتعلّق ، وهذا بخلاف الشك فإنّه يعني تردد النفس واضطرابها نتيجة الضبابية المكتنفة بالمتعلّق.

فطبيعة هاتين الحالتين تقتضي عدم اجتماعها فلذلك حينما يأتي الشك ينعدم اليقين وحينما يأتي اليقين ينعدم معه الشك ، وهذا هو معنى ناقضية أحدهما للآخر تكوينا.

وهذا النحو من ناقضية الشك لليقين لا تحصل في موارد الاستصحاب ؛ وذلك لأنّ المرئي والمتيقن إنّما هو أصل الحدوث ، ومورد التردد إنّما هو استمرار الحدث ، ومن الواضح أنّ استمرار الحدث غير الحدث ، فالشيء قد يحدث إلاّ أنّه يرتفع وينتفي بعد ذلك.

إلاّ أنه مع ذلك قد يطلق على الشك في البقاء أنّه ناقض لليقين تجوّزا وتسامحا ومجاراة مع الاستعمالات العرفية التي تتسامح كثيرا في تحديد الموضوعات ، فنشاهدهم يعتبرون الموضوعات المتباينة دقة ذات مفهوم

٣٣٣

واحد لمجرّد وجود تشابه نسبي بينهما ، وهذا النحو من التسامح يكثر في تحديد الأوزان والكميات والمسافات والأزمنة.

ومن هنا صحّ إطلاق النقض لليقين على الشك في البقاء رغم تباين موردي اليقين والشك ، وما ذلك إلاّ لإلغاء حيثية الزمن بين متعلّقي اليقين والشك واعتبار الحدوث واستمراره شيئا واحدا. وبهذا الإلغاء يتحد المتعلّقان ويصير مورد الشك هو مورد اليقين ، ولمّا كان الشك واليقين لا يجتمعان على متعلّق واحد فيكون مجيء الشك بعد اليقين موجبا لانتقاض اليقين ، وهذا هو مبرّر إطلاق الإمام عليه‌السلام عنوان النقض لليقين على الشك في البقاء فيكون المتفاهم العرفي من الرواية هو عدم اعتناء الشاك في البقاء بشكه وأن الشارع لا يأذن في رفع اليد عن اليقين بالحدوث بمجرّد الشك في البقاء ، فهو وإن كان ناقضا بنظر العرف إلا أنّ الشارع لم يرتّب الأثر على هذا النحو من النقض ، ولم يسمح بنقض اليقين إلاّ بيقين مثله والذي هو ليس نقضا حقيقيا أيضا ؛ وذلك لعدم اتحاد مورديهما كما بينا ذلك.

الناحية الثانية : والكلام فيها يتصل بهذه الفقرة من الرواية « لا حتى يستيقن أنّه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بيّن وإلا فهو على يقين من وضوئه » فإنّ الظاهر من هذه الفقرة أنّها جملة شرطية وأنّ قوله عليه‌السلام « لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام » هو شرط هذه الجملة فكأنّه قال : « إن لم يستيقن أنّه قد نام » فهذا على غرار قوله تعالى : ( لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) (١) أي إن لم يلج الجمل في سم الخياط فلا يدخلون الجنة ، وهذا المقدار لا إشكال فيه ، إنّما الكلام في تحديد جزاء هذا الشرط ، وهنا

__________________

(١) سورة الأعراف آية ٤٠.

٣٣٤

ثلاثة احتمالات :

الاحتمال الأول : أنّ الجزاء ليس مذكورا في الجملة وإنّما هو مقدّر ، وتقديره « لا يجب الوضوء » فيكون مساق الجملة هكذا : « إن لم يستيقن أنّه قد نام فلا يجب الوضوء ». ومن هنا يكون قوله عليه‌السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » بيان لعلّة عدم وجوب الوضوء لمن لم يستيقن النوم.

والإشكال على إرادة هذا الاحتمال من الرواية هو أنّ الأصل عدم التقدير خصوصا إذا كان الكلام يتم بدونه ، إذ لا يلجأ إلى التقدير إلاّ في حالات عدم استقامة الكلام بدونه ، على أنّه لا بدّ من إبراز قرينة على المحذوف المقدّر وإلا فلا مسوّغ لتعيّن ذلك المقدّر فلعلّه أراد غيره ، هذا أولا.

وثانيا : إنّه يلزم من تقدير عدم وجوب الوضوء تكرار الحكم ، لأنه عليه‌السلام قد بيّن عدم وجوب الوضوء في حالات عدم استيقان النوم بقوله « لا » عندما سأله زرارة « فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم » والتكرار خلاف الأصل أيضا لأنّ الأصل في الكلام أن يكون تأسيسيّا ، وهذا ما يوجب استبعاد هذا الاحتمال ؛ إذ أنّ الإتيان بالحكم مرتين بلا موجب.

ويمكن أن ينتصر لهذا الاحتمال بدفع الإشكالين :

أما الأول : إنّ التقدير الذي يكون على خلاف الأصل إنما هو التقدير المجرّد عن القرينة أمّا إذا كان مشتملا على قرينة توجب تحديد المقدّر فإن ذلك لا يكون على خلاف الأصل بل هو متعارف ومتناسب مع مقتضيات الكلام الفصيح ، والمقام من هذا القبيل ، إذ أنّ الحكم المقدّر قد بيّن قبل ذكر الشرط الذي نبحث عن جزائه ، وهذا الحكم هو المفاد بقوله عليه‌السلام « لا » بعد

٣٣٥

سؤال زرارة له عن الحكم عند عدم استيقان النوم.

وأما الثاني : إنّ التكرار المخل للكلام ـ والذي لا يستسيغه أهل البيان ـ إنّما هو التكرار الفعلي والذي يعني إعادة الكلام إمّا بلفظه أو بمعناه ، أمّا إعادة الكلام بطريقة التقدير بأن يكون المعنى الواحد في الكلام الواحد مذكورا تارة ومقدّرا أخرى فهذا ما لا سبيل إلى استهجانه وبالتالي استبعاد احتمال إرادته باعتبار أنّ المتكلم من أهل الفصاحة والبلاغة.

ومن هنا لا يكون هذا الاحتمال مستبعدا لعدم ورود كلا الإشكالين.

الاحتمال الثاني : هو أنّ جزاء هذه الجملة هو قوله عليه‌السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » ولهذا لا يرد الإشكال الوارد على الاحتمال الأول ؛ إذ أنّ الجزاء بناء على هذا الاحتمال غير مقدّر بل هو مذكور ، فيكون مساق الرواية ـ بناء على هذا المعنى ـ « إن لم يستيقن أنه قد نام فإنّه على يقين من وضوئه ».

والإشكال على هذا الاحتمال :

إنّه لا معنى لترتّب اليقين بالوضوء على عدم استيقان النوم ، إذ أنّ اليقين بحدوث الوضوء موجود بقطع النظر عن عدم استيقان النوم ، وإنّ منشأ يقينه بالوضوء إنّما هو استحضاره للحالة التي مارسها والتي هي أفعال الوضوء ، فسواء استيقن أنه قد نام أو لم يستيقن فإنّ يقينه بالوضوء مستقر في نفسه.

ومن هنا لا يمكن قبول هذا الاحتمال لاستلزامه إناطة شيء غير مرتبط تكوينا بالمناط به ، إلا أنّه مع ذلك يمكن إجراء بعض التعديل على هذا الاحتمال ليكون معقولا ، وذلك بأن نعتبر جملة الجزاء ـ والتي هي جملة خبرية ـ أنّها جملة إنشائية في صورة الجملة الخبريّة ، أي أنّها خبر أريد به

٣٣٦

الإنشاء فهي على غرار قوله تعالى ( وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ) (١) فإنّ الجزاء في هذه الآية الشريفة هو قوله تعالى « يغلبوا ألفين » وهي جملة خبرية أريد منها الإنشاء ؛ ولهذا لا يجوز الفرار من الزحف عندما يكون عدد المسلمين ألفا ويكون عدد الكفار ألفين ، والكلام في المقام من هذا القبيل فقوله عليه‌السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » لا يراد منه الإخبار وإنّما يراد منه إنشاء حكم شرعي مفاده أن الذي يشك في بقاء وضوئه فحكمه البناء على بقاء الوضوء ، فكما أنّه لو كان على يقين من الوضوء يرتّب آثار الطهارة الحدثية ـ من قبيل دخوله في الصلاة ومس كتابة القرآن الكريم ـ كذلك عندما يشك في بقاء وضوئه ، فالرواية ليست في صدد الإخبار عن صدور الوضوء منه حتى يرد الإشكال وإنّما هي في صدد إنشاء حكم تعبدي ببقاء الوضوء عند الشك في البقاء ، وهذا ممكن جدا فإنّ الشارع له أن يتعبّد المكلّف ببقاء وضوئه ويرتّب هذا التعبّد على عدم الاستيقان بالنوم ، إلا أنّه مع ذلك لا يمكن قبول هذا الاحتمال ؛ إذ أنّ حمل الجملة الخبريّة على أنّها إنشائية خلاف المتعارف عند أهل اللسان ، فهذه العناية تحتاج إلى مبرّر لم يبرزه مدّعي هذا الاحتمال.

الاحتمال الثالث : هو أنّ الجزاء في هذه الجملة هو قوله عليه‌السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » ويكون قوله عليه‌السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » توطئة لهذا الجزاء فيكون مساق الرواية هكذا : « فإن لم يستيقن أنه قد نام ولأنه على يقين من وضوئه فلا ينقض اليقين بالشك ».

__________________

(١) سورة الأنفال آية ٦٦.

٣٣٧

والإشكال على هذا الاحتمال : واضح ، فإنّ تصدير الجزاء بالواو خطأ لا يحمل كلام الإمام عليه‌السلام عليه ، على أنّ جعل الموطىء ـ بصيغة الفاعل ـ للجزاء مصدّرا بالفاء غير متعارف ؛ إذ أنّ التوطئة ينبغي أن تكون بصياغة تتناسب مع التعليل ؛ وذلك لأنّ التوطئة تعني التعليل وبيان الملاك للجزاء ، فالذي يناسبها هو باء السببية أو لام التعليل أو « لأن » أو ما إلى ذلك ، ولعلّ من ذلك قوله تعالى : ( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) (١) ، فإنّ جملة الشرط في الآية هي « لو يؤاخذ » والجزاء « ما ترك على ظهرها » أمّا قوله تعالى « بما كسبوا » فإنه توطئة للجزاء ، وتلاحظون أنها اشتملت على ما يناسب التعليل وهي باء السببيّة ، وبهذا يتضح أن أضعف الاحتمالات هو الاحتمال الثالث.

مختار المصنّف من هذه الاحتمالات :

وقد اختار المصنّف رحمه‌الله الاحتمال الأول واعتبره أقوى الاحتمالات ؛ وذلك لعدم تمامية ما أورد عليه.

ثم أضاف أنّ قوله عليه‌السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » جملة خبريّة أريد منها الإنشاء ؛ وذلك لظهور الرواية في فعليّة اليقين بالوضوء ، وهذا لا يتناسب مع شكه الفعلي بالوضوء نتيجة احتماله بحدوث الناقض وهو النوم ، ولو كان المراد من اليقين هو اليقين السابق بصدور الوضوء لكان المناسب أن يعبّر بهذا التعبير « فإنّه كان على يقين من وضوئه » فحيث لم يعبّر بهذا التعبير والحال أنّ اليقين الحقيقي لا يتناسب مع الشك الفعلي فيتعين أن يكون المراد من اليقين هو اليقين التعبدي ، فيكون مفاد هذه الفقرة ـ كما

__________________

(١) سورة فاطر آية ٤٥.

٣٣٨

ذكرنا في الاحتمال الثاني ـ هو أنّ الشارع قد حكم بالبناء على بقاء الوضوء في ظرف الشك في بقائه بسبب الشك في طروء الناقض ، فكأن الشاك في انتقاض وضوئه متيقن بعدم الانتقاض ، فكما أنّ المتيقن بوضوئه يرتّب آثار الطهارة من الحدث فكذلك الشاك في انتقاض الوضوء يترتّب آثار الطهارة.

وبتعبير آخر : إنّ المراد من قوله عليه‌السلام « فإنه على يقين » تحتمل ثلاثة احتمالات :

الأول : هو اليقين الحقيقي ، وهذا الاحتمال ساقط ؛ وذلك لعدم وجود يقين حقيقي فعلي في ظرف الشك في انتقاض الوضوء بالنوم.

الثاني : أنّ المراد من اليقين هو اليقين بصدور الوضوء في مرحلة سابقة ، وهذا الاحتمال يعني أنّ اليقين في الرواية ليس فعليّا وهو خلاف الظهور ، إذ لو كان المراد من اليقين هو اليقين السابق لكان عليه أن يصدّر الفقرة بالفعل الماضي « كان » بأن يقول « فإنّه كان على يقين من وضوئه » فلمّا لم يأت بما يدلّ على إرادة اليقين السابق فإنّ احتمال إرادته يكون ساقطا.

وبهذا يتعيّن الاحتمال الثالث وهو التحفّظ على فعليّة اليقين إلا أنّه اليقين التعبدي والذي يعني أنّ الشارع اعتبر الشاك في انتقاض وضوئه متيقنا ببقائه تعبدا.

قد يقال إنّ المكلّف حتى بعد الشك في انتقاض الوضوء فإنّ يقينه بصدور الوضوء عنه فعلي ، إذ أنّ اليقين بصدور الوضوء يظلّ ثابتا حتى بعد طروء حالة الشك ، إذ أنّها لا تنفيه بعد أن كان متعلقها غير متعلّق اليقين.

ومن هنا لا يكون حمل اليقين في الرواية على اليقين الحقيقي منافيا لظهور الرواية في فعلية اليقين ؛ إذ أنّ اليقين الحقيقي فعلي فلا مانع من حمل قوله عليه‌السلام

٣٣٩

« فإنه على يقين من وضوئه » على اليقين الحقيقي.

والجواب : إنّ هناك قرينة تدلّ على أنّ اليقين لو كان الحقيقي لكان منتقضا وغير فعلي ، وهذه القرينة هي قوله عليه‌السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » إذ أنّ المبرّر ـ كما قلنا ـ في اتّصاف الشك في البقاء بالناقض لليقين هو إلغاء زمن الحدوث وزمن البقاء ، وبهذا يصبح متعلّق اليقين ومتعلّق الشك واحدا.

ومن الواضح أنّه إذا كان متعلّقهما واحدا فإنّه يستحيل اجتماعهما ، وبهذا يكون حدوث الشك موجبا لطرد اليقين ونفيه ، ومن هنا لا يكون اليقين فعليّا حين الشك في انتقاض الوضوء ، وعليه لا بدّ من حمل اليقين في الرواية على اليقين التعبدي حتى يتناسب مع ظهور الرواية في الفعلية ، إذ أنّه بناء على حمل اليقين على اليقين التعبدي فهذا يعني أنّ الشارع قد تعبدنا في حالات الشك في انتقاض الوضوء بالبناء على عدم انتقاضه فكأننا على يقين بالوضوء ، فيكون الشارع قد اعتبر الشك في انتقاض الوضوء موضوعا لليقين التعبدي كما بينا ذلك.

إلاّ أنّه مع ذلك يكون الالتزام بحمل اليقين على اليقين التعبدي يستوجب صرف قوله عليه‌السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » عن ظهوره في الإخبار إلى الإنشاء ، فنكون بين محذورين حيث إنّه إن حملنا اليقين على الحقيقي لزم من ذلك ألا يكون هناك مبرّر لإطلاق عنوان الناقضية على الشك في انتقاض الوضوء وإن كان ذلك يتناسب مع ظهور الفقرة في الإخبار.

وإن حملنا اليقين في الرواية على اليقين التعبدي لزم من ذلك صرف ظهور الفقرة في الإخبار إلى الإنشاء وإن كان ذلك يتناسب مع إطلاق

٣٤٠