شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

عن موضوع العلم الإجمالي ؛ وذلك للعلم بوجوب الأقل على أيّ حال ، فلو كان الواجب واقعا هو الأقل فهذا واضح ، ولو كان الواجب هو الأكثر فالأقلّ أيضا يكون واجبا إلاّ أنّه واجب في ضمن الأكثر ، فالأقلّ إذن معلوم الوجوب على أيّ حال.

وبعبارة أخرى : إنّ الجامع معلوم الإنطباق على الأقل ، وهذا ما يجعل الأكثر موردا لأصالة البراءة ؛ إذ أنّ الشك فيه حينئذ بدويّ.

وبهذا يتضح الشك في مقدار متعلّق الصلاة الواجبة وأنّه التسعة أو العشرة ، فإنّ الجزء العاشر يكون مجرى لأصالة البراءة ، إذ أنّ هذه الحالة تؤول إلى علم تفصيلي بوجوب التسعة وشك بدوي في وجوب الجزء العاشر وهذا ما برّر جريان البراءة عنه.

ودعوى أنّ دوران الأمر بين الأقل والأكثر من دوران الأمر بين المتباينين لأنّ التسعة مباينة للعشرة دعوى غير مبررة وذلك لوضوح عدم التباين بينهما في مقام الوجود ، إذ أنّ العشرة متقوّمة بالتسعة ، فلا تكون عشرة ما لم تتحقّق الأجزاء التسعة قبلها.

واتّضح ـ وسيتّضح ـ أنّ أساس البناء على جريان البراءة أو المنجزيّة للعلم الإجمالي هو تحرير واقع دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فالبحث من هذه الجهة صغروي ، فمن تقرّر عنده أنّ واقع الدوران بين الأقل والأكثر هو الدوران بين الأمرين المتداخلين بنى على جريان البراءة عن الأكثر ، ومن تقرّر عنده أنّ الدوران بينهما من الدوران بين المتباينين بنى على المنجزية ولزوم امتثال الأكثر.

وقد عرفنا أنّ المصنّف رحمه‌الله بنى على أنّه من قبيل الأول ، وقد بنى بعض

٣٠١

الأعلام على الثاني وقرّب ذلك بما حاصله :

إنّ واقع الدوران بين الأقلّ والأكثر هو الدوران بين الأقل المطلق أو الأقل المقيّد بالأكثر ، والإطلاق والتقييد لمّا كانا متباينين فهذا يؤدي إلى تباين معروضيهما ، فتكون التسعة المقيدة مباينة للتسعة المطلقة فيكون شرط العلم الإجمالي وهو تباين أطرافه متحقّق في المقام ، ومع تقرّره تثبت له المنجزية.

وأمّا دعوى أنّ العلم الإجمالي منحلّ إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في الأكثر لكون الأقل معلوما على كلا التقديرين ليست تامة ؛ وذلك لأنّه لمّا كان الدوران بين الأقلّ المقيّد والأقلّ المطلق فهذا يقتضي أنّ الأول غير الثاني وأنّ بينهما تمام التباين ، فالأقل المطلق لا يصدق بحال على الأقل المقيد لأن صدقه يعني انتفاء هويته.

وبتعبير آخر : إنّ الأقل المطلق يعني الأقل بنحو اللابشرط الزيادة والأقل المقيّد يعني الأقل بشرط شيء أي الزيادة ، واللابشرط والبشرط شيء من اعتبارات الماهيّة والتي هي متباينة في نفسها ، وكل منها قسيم للآخر وهو دليل المباينة.

إذن المقام من دوران الأمر بين المتباينين ، وجامع هذا العلم لا يحرز انطباقه على أحّد الطرفين بل إنّه مردّد بين الانطباق على الأقل المطلق أو الأقل المقيّد ؛ وذلك لأنّ جامع هذا العلم هو وجوب التسعة وأطرافه هي المقيّدة أو المطلقة ، وإذا كان كذلك فلا ينحل العلم الإجمالي بالأقل ؛ إذ هو نفسه جامع التكليف ، وإذا كان انحلال فلابدّ من أن يكون لأحد الطرفين وهما الأقل المطلق أو الأقلّ المقيّد.

٣٠٢

والجواب عن هذا التقريب :

أن تصوير العلم الإجمالي بهذه الكيفيّة غير تام ؛ وذلك لأنّ التردّد بين الإطلاق والتقييد وإن كان من قبيل التردّد بين المتباينين إلاّ أنّ هذا ليس له اتصال بالمكلّف ، والذي له اتّصال بالمكلّف هو التردّد الموجب للتنجيز.

ومن الواضح أنّ الإطلاق والتقييد ليس أكثر من الكيفيّة التي لاحظها المولى حين جعل الوجوب على الأقل والأكثر ، فلو كان واقعا لاحظ الإطلاق حين جعل الوجوب على الأقلّ فهذا لا يعني أنّ الواجب هو الأقل مع الإطلاق بل يعني أنّ الواجب هو الأقل وليس معه شيء آخر يكون متعلقا لنفس الوجوب ، ولو كان واقعا قد لاحظ التقييد حين إيجاب الأقل فهذا لا يعني وجوب الأقل مع القيد بل إنّ الواجب حينئذ هو الأقل بإضافة الجزء.

ومن هنا يتّضح أنّ الإطلاق والتقييد إنّما هو كيفيّة اللحاظ الذي لاحظه المولى حين جعل الوجوب على متعلقه ، وهذا لا يتصل بالمكلّف وما يتصل بالمكلّف إنّما هو نفس الإيجاب المجعول من المولى ، إذ هو المحرّك للمكلّف نحو الإتيان بالمتعلّق والتردد عند المكلّف حينما يريد التعرّف على مقدار متعلّق الإيجاب هو تردد بين الأقلّ والأكثر ؛ إذ أنّ الوجوب لو كان ملحوظا فيه الإطلاق فالواجب هو الأقلّ ولو كان ملحوظا فيه التقييد لكان الواجب هو الأقلّ مع إضافة الجزء ، وهذا يعني أنّ التردّد عند المكلّف إنّما هو بين الأقل والأكثر فلا علم إجمالي في المقام وإنّما هو علم بوجوب الأقل إمّا باستقلاله أو في ضمن الأكثر.

ومن هنا يكون الشك في الأكثر شكا بدويا فتجري عنه البراءة.

٣٠٣

العلم بوجوب الأكثر مع الشك في إطلاقه :

كان الكلام فيما سبق حول دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في حالة يكون الشك في أصل جعل الأكثر أي الشك في جعل المولى الوجوب للأقل أو جعله للأكثر ، كما لو وقع الشك في أصل جعل الوجوب للسورة في الصلاة.

وقد قلنا إنّ الأكثر يكون حينئذ مجرى لأصالة البراءة فلا يجب الالتزام به.

والكلام في المقام حول دوران الأمر بين الأقل والأكثر من حيث الشك في إطلاق وجوب الأكثر وهل أنّ وجوبه مطّرد في تمام الحالات أو أنّه مختص بحالات دون حالات؟ فوجوب الأكثر معلوم وإنّما الشك في إطلاقه.

مثلا : لو كنّا نعلم أنّ خطبتي صلاة الجمعة جزء من الصلاة إلاّ أننا نشك في أنّ هذه الجزئيّة ثابتة في موارد العجز أو أنّها غير ثابتة ، فالشك إذن في إطلاق الوجوب لا في أصل الوجوب.

والأصل الجاري في المقام هو البراءة أيضا ؛ لأنّ الشك فيه شك بين الأقل والأكثر ، وذلك لأنّ العاجز يشك في أنّ الواجب المتعلّقة ذمته به هل هو الصلاة دون الخطبتين أو هي مع الخطبتين؟

فالأقل ـ وهي الصلاة ـ محرز الوجوب على أيّ حال والأكثر ـ وهي الخطبتين ـ مشكوك الوجوب ، فتجري عنه أصالة البراءة.

وهذا المقدار لا إشكال فيه ، نعم وقع الإشكال في مورد واحد من موارد الشك في إطلاق الأكثر ، وهو ما لو وقع الشك في إطلاق الجزئية

٣٠٤

لحالات النسيان مع إحراز الجزئية في حالات التذكر.

ويمكن التمثيل لذلك بصلاة الطواف بناء على أنّها ليست نسكا مستقلا وإنّما هي جزء من المركب العبادي وهو الطواف ، فلو كنّا نحرز جزئيّتها لحالات التذكر ونشك في إطلاق الجزئية لحالات النسيان ، فهل تجري البراءة عن وجوب صلاة الطواف بالنسبة للناسي ـ وذلك لأنّ الشك في حالة النسيان يؤول إلى الشك بين الأقل والأكثر بالنسبة للناسي ـ أو أن الجاري هو أصل آخر لخصوصيّة في هذا المورد؟

قد يقال بالأول باعتبار أنّ هذا المورد لا يختلف عن موارد الشك في الإطلاق والذي قلنا إنّه مجرى لأصالة البراءة.

إلاّ أنّه في مقابل ذلك قد يقال بعدم جريان أصالة البراءة في الجزء المشكوك في إطلاق الوجوب له في هذا المورد لخصوصية فيه ، وهي تعذّر مخاطبة الناسي بالتكليف ، وبيان ذلك :

إنّ توجيه الخطاب للناسي غير ممكن لو كان التكليف خاصا به ؛ إذ أنّ الناسي حال نسيانه لا يتوجّه إلى أنّه في حالة نسيان بل يرى نفسه متذكرا وهذا ما يجعله غير ملتفت إلى الخطابات الموجهة للناسي لأنّه لا يرى شمولها له ، نعم لو كان الخطاب بالتكليف متوجّها للأعم من الناسي والمتذكر لأمكن ذلك ؛ إذ لا محذور حينئذ في توجيه الخطاب باعتبار وجود من يمكن مخاطبته وهو المتذكر وهو كاف في رفع استحالة توجيه الخطاب للناسي.

ومع اتضاح هذه المقدمة نقول : إنّه لو أجرينا البراءة عن الأكثر في حق الناسي فهذا يعني أنّ الخطاب بالأقل كان مختصا به ، إذ افترضنا أنّ

٣٠٥

المتذكّر يجب عليه الأكثر ، ولمّا لم يكن من الممكن توجيه خطاب خاص بالناسي لافتراضه ناسيا وغير ملتفت إلى أنّه ناس فلا يمكن أن يتحرك عن هذا التكليف الخاص به ، فحينئذ يقع الشك في أنّ ما جاء به من الأقل هل هو مسقط للتكليف الشامل له ـ وهو التكليف بالأكثر ـ أو لا؟

وبتعبير آخر : إنّ استحالة توجيه الخطاب للناسي يقتضي إمّا عدم تكليفه من الأساس وهذا لا يمكن قبوله لإحرازه بتعلّق ذمته بالوجوب ، وإمّا أن يكون الواجب عليه هو الأكثر كما هو الحال بالنسبة للمتذكر ، وحينئذ لمّا كان قد جاء بالأقل نسيانا فإنّ ذلك يوجب الشك في سقوط التكليف عنه ، والشك في المسقط يؤول ـ كما ذكرنا ـ إلى الشك في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، وهو يقتضي إحراز الخروج عن عهدة التكليف ؛ إذ أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

حالة احتمال الشرطية :

كان الكلام حول دوران أجزاء الواجب بين الأقل والأكثر ، والبحث في المقام عن حالات الشك في الشرط ، كما لو شككنا في شرطية الطهارة في السعي أو شرطية القدرة على التسليم في عقد البيع أو شرطية استقبال الذابح والذبيحة في التذكية.

وفي تمام هذه الحالات تجري البراءة عن الشرط المشكوك في شرطيته ؛ وذلك لرجوع الشك فيه إلى الشك بين الأقل والأكثر ، وبيان ذلك :

إنّ مردّ الشرط هو تحصيص متعلّق الحكم بحصة خاصة وهي الحصة الواجدة للقيد ـ كما بينا ذلك في محلّه ـ ومعنى ذلك أنّ المتعلّق للحكم هو

٣٠٦

ذات الفعل مع التقيّد ، فالتقيّد شيء زائد على ذات المقيّد « الفعل » ، فحينما نشك في الشرطية فمعناه الشك في شيء زائد فيكون المقام من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر فتجري البراءة عن الأكثر لعين ما ذكرناه في البحث السابق ، وليس المقام من موارد دوران الأمر بين المتباينين لتجري قاعدة منجّزية العلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ ذات المتعلّق معلوم على أيّ تقدير ، فهو إمّا مجعول باستقلاله أو أنّه مجعول بالإضافة إلى التقيّد.

وهذا البيان يمكن تطبيقه على تمام الأمثلة المذكورة والتي يتصل بعضها بالحكم التكليفي وبعضها بالحكم الوضعي.

ففي امتثال الأول يقع الشك في أنّ متعلق الواجب هل هو السعي وحده أو هو مع إضافة تقيّده بالطهارة ، فيكون الواجب مرددا بين الأقل والأكثر؟ ولمّا كان الأقل ـ وهو السعي بمفرده ـ محرز الوجوب على أيّ تقدير فهذا يعني العلم به تفصيلا والأكثر ـ وهو التقيّد ـ يكون الشك فيه بدويا ، وأمّا المثال الثاني فيقع الشك في متعلّق الصحة المجعولة شرعا وهل أنّ متعلّق الصحة هو الإيجاب والقبول فحسب أو هو مع التقيّد بالقدرة على التسليم؟ وهكذا الكلام في المثال الثالث.

التفصيل بين الشرط الراجع للمتعلّق والشرط الراجع للقيد :

اتّضح ممّا تقدّم أنّ الشك في الشرطية مآله إلى دوران الأمر بين الأقل والأكثر إلاّ أنّه قد يقال بالتفصيل بين الشروط الراجعة إلى متعلّق الحكم والشروط الراجعة إلى موضوع الحكم ، فتجري البراءة عن الأول ويكون الثاني مجرى لأصالة الاشتغال ، وبيان ذلك :

إنّ الشروط قد ترتبط بمتعلّق الحكم مثل قوله عليه‌السلام « لا صلاة إلاّ

٣٠٧

بطهور » (١) فإنّ الطهارة قيد وشرط لنفس الصلاة والتي هي متعلّق الأمر بالصلاة ، وهذا النحو من الشروط هي التي تكون مجرى لأصالة البراءة في حال الشك في شرطيتها ؛ لأنّ مآل الشرط فيها إلى تحصيص الواجب بحصة خاصة وهي الواجدة للشرط فيكون الواجب هو ذات المشروط مع التقيّد بالشرط.

ومن الواضح أنّه في حالات الشك في شرطيّة الطهارة يكون لنا علم تفصيلي بوجوب ذات المشروط ـ وهي الصلاة ـ وشك بدوي في وجوب الأكثر ـ وهو التقيّد بالطهارة ـ فتجري البراءة عنه.

وهناك شروط ترتبط بموضوع الحكم كقوله عليه‌السلام « اشتر فحلا سمينا للمتعة » (٢) فإنّ موضوع الحكم بوجوب الهدي هو الفحل ، وقد اشترط في الفحل أن يكون سمينا ، فهذا قيد راجع إلى موضوع الحكم ، فلو شك في شرطية ذلك فما هو الأصل الجاري في مثل هذه الحالة؟

قد يقال بعدم جريان البراءة؟ وذلك لأنّ تقييد الموضوع بقيد لا يؤول إلى الأمر بالتقيّد ، إذ أنّ اتصاف الموضوع بالقيد ليس من المأمور به ، إذ أنّ المأمور به هو متعلّق الحكم لا موضوعه بل قد لا تكون قيود الموضوع مختارة للمكلّف كما لو قال المولى : « أعتق رقبة مؤمنة » ، فإنّ اتّصاف الرقبة بالإيمان ليس اختياريا للمكلف ، نعم الإعتاق اختياري إلاّ أنّه ليس موضوع الحكم وإنّما هو متعلّق الحكم.

__________________

(١) الوسائل باب ١٢ من أبواب الوضوء ح ٣.

(٢) معتبرة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام الوسائل باب ١٢ من أبواب الذبح ح ٧.

٣٠٨

والمقام من هذا القبيل فإنّ اتّصاف الهدي بالسمانة ليس من المأمور به وإنّما المأمور به هو شراء الهدي في المثال ، فهذا الذي يجب تحصيله ، وليس موضوعات الأحكام وشروطها مما يجب تحصيله ، نعم لو اتّفق وجودها ترتّب الحكم ، كما هو شأن علاقة الموضوعات بأحكامها ، فما لم يكن الموضوع متقررا فإن الحكم لا يترتّب.

ومع اتضاح هذا يتّضح أنّ الشك في ثبوت شرط لموضوع الحكم لا يكون من الشك في وجوب شيء زائد على ذات المتعلّق « الواجب » ، ومن هنا لا تجري البراءة عنه بل الجاري هو أصالة الاشتغال ؛ لأنّ المكلّف لو طبق المأمور به على الموضوع الفاقد للشرط فإنّه لا يحصل له الجزم بالخروج عن عهدة التكليف المعلوم.

والجواب :

أنّ القيود الراجعة إلى الموضوع يمكن إرجاعها إلى قيود متعلّق الحكم ؛ وذلك لأنّ تقييد موضوع الحكم يعني أنّ المتعلّق المأمور به هو الحصة الخاصة وهي المتصفة بالموضوع المقيّد ، أي أنّ المأمور به هو المتعلّق مع متعلقاته ، فالفحل السمين هو متعلّق الشراء المأمور به ، إذ أنّ الشراء تارة يكون متعلّقه الفحل السمين وتارة الفحل الهزيل وتارة يكون غير الفحل ، فالمطلوب هو الشراء المتعلق بالفحل السمين ، وواضح اختيارية هذا النحو من التقييد فلا محذور إذن في أن يتعلّق به وجوب.

ومن هنا لو وقع الشك في تقييد الموضوع بقيد فإنّ ذلك يعني الشك في قيود المتعلّق للحكم وأيّ الحصص من طبيعة المتعلّق هي المطلوبة ، هل هي الحصة المتقيّدة بالموضوع المقيّد أو هي الحصّة المتقيدة بمطلق الموضوع؟

٣٠٩

فلو وقع الشك ـ مثلا ـ في اشتراط أن يكون الفحل سمينا ـ والذي هو موضوع الوجوب ـ فإنّ ذلك يعني الشك في تقييد متعلّق الحكم ، أي الشك في أنّ متعلق الحكم هل هو الطبيعي أو هو الحصة من الطبيعة وهي المتقيّدة بكون متعلّقها هو الفحل السمين؟ فالشراء الذي هو متعلّق الوجوب نشك في حدوده ، والمقدار المحرز منه هو شراء الفحل وهذا يعني وجود علم تفصيلي بوجوب شراء الفحل وشك بدوي في الوجوب الزائد ـ وهو التقييد بكون الفحل سمينا ـ فتجري البراءة عنه.

فلا فرق إذن بين القيود الراجعة للمتعلّق أو القيود الراجعة للموضوع من جهة أنّ الشك فيها يكون من الشك بين الأقل والأكثر.

٣١٠

حالات دوران الواجب بين التعيين والتخيير

الواجب التعييني هو الذي لا يجزي عنه غيره في مقام امتثال الوجوب ، فالصلاة حينما تكون واجبة تعيينا فذلك يعني عدم إجزاء شيء آخر ـ كالصدقة أو الصوم ـ عنها.

والواجب التخييري هو ما يمكن الاستعاضة عنه في مقام الامتثال بواجب آخر ، كما لو ثبت أنّ الواجب على المكلّف الحاج إمّا الحلق أو التقصير ، فالحلق واجب تخييري ولهذا يمكن للمكلّف التعويض عنه بالتقصير الواجب وبه يسقط التكليف عن الحلق.

والبحث في المقام عن دوران الواجب بين التعيين والتخيير ، كما لو وقع الشك في أنّ الصرورة هل يجب عليه الحلق تعيينا فلا يجزي عنه التقصير أو أنّ الواجب هو إمّا الحلق أو التقصير فيكون أحدهما مجزيا عن الآخر؟

والبحث في المقام يعمّ التخيير العقلي والذي يكون فيه الوجوب مجعولا على الطبيعة دون تقييدها بحصة خاصة فيدرك العقل حينئذ أنّ المكلّف مخير في مقام الامتثال بين تمام أفراد حصص الطبيعة.

ومثاله ما لو قال المولى « صلّ » ولم يقيّد الصلاة بحصة خاصة ، فإنّ العقل حينئذ يحكم بالتخيير ـ للمكلف ـ بين أفراد طبيعة الصلاة ، فهو مخير بين الصلاة في المسجد أو في البيت وهكذا ، فلو وقع الشك في الواجب

٣١١

« الصلاة » من جهة أنّ المطلوب هل هو الحصة الخاصة من الصلاة ـ وهي الصلاة في المسجد ـ أو أنّ المطلوب هو مطلق الطبيعة الشامل للصلاة في المسجد؟ فالشك هنا شك بين التعيين ـ وهي الحصة الخاصة من الطبيعة والتي هي الصلاة في المسجد ـ أو التخيير بين حصص الطبيعة ، فتكون الصلاة في المسجد واجبا تخييريا يمكن التعويض عنها بالصلاة في البيت.

كما يشمل هذا البحث التخيير الشرعي وهو التخيير المستفاد من لسان الدليل ابتداء ، ويمكن التمثيل لذلك بالتخيير بين قراءة فاتحة الكتاب أو التسبيح في الركعتين الأخيرتين ، فإنّه قد ورد في بعض الأدلة التصريح بالتخيير كما في رواية علي بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الركعتين الأخيرتين ما أصنع فيهما؟ فقال عليه‌السلام : « إن شئت فاقرأ فاتحة الكتاب وإن شئت فاذكر الله فهو سواء » قال : فقلت فأيّ ذلك أفضل؟

فقال عليه‌السلام : « هما والله سواء إن شئت سبّحت وإن شئت قرأت » (١) ، فحينئذ لو جاء المكلّف بأحد طرفي التخيير فإنّ هذا يكفيه عن الإتيان بالآخر.

والبحث هنا عمّا لو وقع الشك في أنّ الواجب هل هو قراءة الفاتحة تعيينا بحيث لا يجزي عنها غيرها أو أنّ الواجب هو إمّا قراءة الفاتحة أو التسبيح؟ وهنا يكون الشك بين التعيين ـ والذي هو وجوب قراءة الفاتحة دون غيرها ـ أو التخيير بينها وبين التسبيح.

وبعد أن تحرّر محلّ البحث نصل لبيان ما هو الأصل الجاري في موارد الشك بين التعيين والتخيير.

__________________

(١) الوسائل باب ٤٢ من أبواب القراءة في الصلاة ح ٣ والرواية ساقطة عن الاعتبار بسبب علي ابن حنظلة حيث لم يرد فيه توثيق.

٣١٢

ومعرفة ما هو الأصل الجاري في المقام يرتكز على تحديد هوية هذا النحو من الشك ، وهل هو من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر حتى تجري البراءة عن الأكثر أو أنّ المقام من موارد دوران الأمر بين المتباينين فلا تجري البراءة ويكون الجاري هو قاعدة منجّزية العلم الإجمالي لو تمت أركانه؟

والجواب : أنّه قد ثبت في محلّه أنّ الأحكام متعلّقة بالطبايع لا بالأفراد فحينما تجب الصلاة فالواجب هو الطبيعي والذي هو طبيعة الصلاة بمفهومها السّعي ، غايته أنّ هذا الطبيعي الذي وقع متعلّقا للأمر يمكن تطبيقه على أحد مصاديقه.

وإذا كان كذلك فالدوران في المقام إنّما هو بين المتباينين ؛ وذلك لأنّ الشك إنّما هو ـ مثلا ـ بين الحلق تعيينا أو الأعم منه ومن التقصير ، وهذا يعني أنّ الواجب هو إمّا طبيعي الحلق أو طبيعي الجامع بين الحلق والتقصير ، نعم هما متصادقان في أفرادهما خارجا ؛ وذلك لأنّ عنوان الجامع يصدق على أفراد عنوان الحلق إلاّ أنّ ذلك لا يوجب كون الدوران بينهما من الدوران بين الأقل والأكثر ؛ لأنّ الضابطة في تحديد هوية التردد وأنّه بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين إنما هو متعلّق التكليف وهو الطبيعي ، ومتعلّق التكليف في المقام مردد بين طبيعي الحلق وطبيعي الجامع بين الحلق والتقصير ، ومن الواضح أنّهما متباينان في عالم المفاهيم ، فأحدهما غير متحد مع الآخر ولو في الجملة.

وإذا كان الدوران بينهما من الدوران بين المتباينين فهذا يعني وجود علم إجمالي طرفاه هما عنوان الحلق وعنوان الجامع بين الحلق والتقصير ، وجامع هذا العلم هو وجوب أحد العنوانين إلاّ أنّه مع ذلك لا يكون مثل

٣١٣

هذا العلم الإجمالي منجّزا ؛ وذلك لاختلال الركن الثالث منه ـ وهو صحة جريان الأصول المؤمّنة في تمام الأطراف لولا المعارضة ـ إذ أنّه لا يمكن إجراء الأصل المؤمّن عن عنوان الجامع بين الحلق والتقصير حيث إنّ إجراءه يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة.

وبيان ذلك :

إنّ إجراء البراءة عن عنوان الجامع معناه الإذن في ترك الوجوب التخييري دون التعييني ، وهذا لا محصّل له ؛ لأنّه إذا كان معنى ترك الوجوب التخييري هو ترك كل من الحلق والتقصير فهو إذن في ترك التكليف المعلوم وهو يؤدي إلى الإذن في المخالفة القطعيّة.

وبتعبير آخر : إنّ الإذن في ترك الوجوب التخييري ـ والذي متعلّقه جامع العنوانين ـ يعني التأمين عمّا هو مقطوع بوجوبه ، فالوجوب التخييري وإن لم يكن معلوما إلاّ أنّ تركه يؤدي إلى ترك جامع العلم الإجمالي وهو وجوب أحد العنوانين.

وكلّ حالة يلزم من الترخيص في أحد الطرفين الترخيص في ترك جامع التكليف فإنّ البراءة لا تجري عن ذلك الطرف ، وبهذا يختلّ الركن الثالث من أركان منجزية العلم الإجمالي ، فيكون إجراء البراءة عن التعيين بلا معارض ، وإذا كان التعيين غير لازم لجريان البراءة عنه فالمكلّف في سعة من جهة اختيار أحد العنوانين إمّا الحلق أو التقصير.

وهذا بخلاف ما لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي منجّز فإنّ المكلّف يكون ملزما بالواجب التعييني ، إذ هو الذي يحصل بامتثاله الخروج عن عهدة التكليف ، فإن كان الواقع هو التعيين فقد جاء به وإن كان الواجب واقعا هو التخيير فما جاء به هو أحد طرفي الواجب التخييري.

٣١٤

الاستصحاب

١ ـ تعريف الاستصحاب

٢ ـ أدلة الاستصحاب

٣ ـ أركان الاستصحاب

٤ ـ مقدار ما يثبت بالاستصحاب

٥ ـ عموم جريان الاستصحاب

٦ ـ تطبيقات خمسة

٣١٥
٣١٦

الاستصحاب

تعريف الاستصحاب :

وقبل بيان تعريف الاستصحاب لا بدّ من تقديم مقدمتين :

المقدّمة الأولى : في بيان مجرى الاستصحاب بنحو مجمل فنقول : إنّ الاستصحاب لمّا كان مورده الحكم الظاهري فهذا يقتضي عدم جريانه إلاّ في حالات الشك في الحكم الواقعي ؛ وذلك لأنّ الحكم الظاهري أخذ في موضوعه الشك في الحكم الواقعي.

وهذا البيان لا يختص بالاستصحاب بل هو شامل لكلّ مثبت للحكم في ظرف الشك سواء كان من قبيل الأمارات أو من قبيل الأصول العمليّة.

والذي يختص به الاستصحاب دون سائر الأدلة هو أنّه متقوّم بالشك المسبوق باليقين ، فمتى ما كان المكلّف على يقين بشيء ثم وقع الشك في بقاء ذلك الشيء المتيقّن فإنّ الاستصحاب يقتضي تسرية آثار اليقين إلى ظرف الشك ، فكما أننا لو كنّا على يقين بذلك الشيء فإنّنا نرتّب آثار ذلك اليقين فكذلك لو شككنا بعد ذلك في بقاء ذلك الشيء فإننا نتعامل كما لو كنّا على يقين من جهته.

مثلا : لو كنّا على يقين بوجوب صلاة الجمعة في زمن الحضور ثمّ في عصر الغيبة وقع الشك في استمرار ذلك الوجوب فإنّ الاستصحاب يقتضي

٣١٧

في مثل هذه الحالة بقاء الوجوب الثابت في زمن الحضور ، فكما أنّ الوجوب المتيقن يقتضي التحرّك والانبعاث عنه كذلك الوجوب المشكوك إذا كانت حالته السابقة هي اليقين بالوجوب.

المقدّمة الثانية : إنّه وإن كان من المسلّم أنّ المجعول في مورد الاستصحاب هو الحكم الظاهري إلاّ أنّه وقع النزاع في أنّ الاستصحاب كاشف عن الحكم الظاهري أو هو بنفسه حكم ظاهري ، أي أنّ الاستصحاب هل هو من الأمارات ـ والتي شأنها الكشف عن الحكم الواقعي ـ أو هو من قبيل الأصول العمليّة المقرّرة لوظيفة المكلّف في ظرف الشك في الحكم الواقعي؟

ومن الواضح أنّه بناء على الأول يكون دور الاستصحاب دور الكشف عن الحكم الواقعي ، وأما بناء على الثاني فالاستصحاب بنفسه حكم ظاهري ، فجعل الاستصحاب يعني جعل الوجوب الظاهري أو جعل الحرمة الظاهرية أو الشرطية الظاهرية وهكذا.

كما أنّه وقع النزاع بينهم فيما هو دليل الاستصحاب وهل هو من مدركات العقل أي أنّ العقل يدرك بقاء المتيقن على ما هو عليه في ظرف الشك فيكون الدليل على حجية الاستصحاب هو الحكم العقلي القطعي أو الظني؟ أو أنّ مدرك الحجيّة للاستصحاب هو السيرة العقلائية الجارية على اعتبار المشكوك ـ لو كان مسبوقا باليقين ـ متيقنا وترتيب آثار اليقين على حالات الشك؟ أو أنّ مدركه هو الروايات القاضية بحرمة نقض اليقين بالشك؟ وهذا ما سيأتي تفصيله في دليل الاستصحاب.

ومع اتضاح هاتين المقدمتين نصل لبيان تعريف الاستصحاب :

٣١٨

فقد ذكر الشيخ مرتضى الأنصاري بما معناه ـ ووافقه صاحب الكفاية مع تعديل طفيف يرجع إلى الصياغة ـ أنّ أسدّ التعاريف وأخصرها للاستصحاب هو أنّه « الحكم ببقاء ما كان ».

إلاّ أنّ السيد الخوئي رحمه‌الله أورد على هذا التعريف بإيراد حاصله :

أنّه لا يتناسب مع تمام المباني المختلفة في تحديد واقع الاستصحاب وما هو الدليل عليه ، وإنّما يتناسب مع البناء على أنّ الاستصحاب من الأصول العمليّة ، إذ أنّه بناء على أنّ الاستصحاب من الأمارات ينبغي أن يعبّر التعريف عن أهلية الاستصحاب للكشف عن الحكم الشرعي ، ولهذا يمكن أن يقال إنّه ليس للاستصحاب تعريفا يمكن أن يكون معبّرا عن تمام المباني المتباينة من جهة تحديد هوية الاستصحاب ونحو دليليّته وما هو دليل حجيّته.

ومن أجل أن يتّضح إشكال السيد الخوئي رحمه‌الله على التعريف لا بدّ من بيان معنى التعريف وما هو منشأ عدم صلوحه لتعريف الاستصحاب بناء على أماريته فنقول :

إنّ المراد من تعريف الاستصحاب بأنّه « الحكم ببقاء ما كان » هو حكم الشارع باستمرار الحالة المتيقنة في ظرف الشك في استمرارها فما كان متيقنا حقيقة هو متيقن عملا في ظرف الشك في البقاء ، ومن الواضح أنّ هذا التعريف إنّما يتناسب مع كون الاستصحاب أصلا عمليّا ؛ وذلك لأنّ الأمارة ليست حكما شرعيا وإنّما هي كاشف ظني نوعي ، أي أنّ الأمارة هي ما يكون العلم بها موجبا للظن بمؤداها عند نوع العقلاء ، فالاستصحاب لو كان أمارة لما كان بنفسه حكما شرعيا ، نعم يكون كاشفا

٣١٩

ظنيا عن الحكم الشرعي ، وهذا بخلاف الأصل العملي فإنّه من الأحكام الشرعيّة المجعولة على المكلّف حين تحقق موضوعاتها ، فجعل البراءة في ظرف الشك مثل جعل الوجوب للصلاة عند الزوال ، فكما أنّ الوجوب للصلاة مجعول شرعي موضوعه الزوال فكذلك البراءة مجعول شرعي موضوعه الشك في الحكم الواقعي.

وهكذا الكلام في الاستصحاب ـ لو كان أصلا عمليّا ـ ، إذ أنّ الاستصحاب لا يعني أكثر من الوجوب والحرمة والإباحة وهكذا ، فلو كانت الحالة السابقة المتيقنة هي الوجوب فمعنى استصحاب الوجوب هو أنّ الشارع قد جعل الوجوب على المكلّف في ظرف الشك في استمرار الوجوب أو انتفائه وهكذا استصحاب الحرمة فإنّ معناه هو حكم الشارع بالحرمة في ظرف الشك في استمرارها.

وبهذا اتضح أنّ التعريف لا يتناسب إلاّ مع كون الاستصحاب أصلا عمليّا ، ومن هنا عدل السيد الخوئي رحمه‌الله عن هذا التعريف ؛ وذلك لأنّه لا يرى أنّ الاستصحاب من الأصول العمليّة بل هو من الأمارات التي شأنها الكشف عن الحكم الشرعي ، فلابدّ أن يكون التعريف معبّرا عمّا للاستصحاب من أماريّة وطريقيّة ؛ ولذا فالصحيح في تعريف الاستصحاب هو : « اليقين بالحدوث » ، إذ أنّ هذا التعريف هو المتناسب مع كون الاستصحاب أمارة ؛ وذلك لأنّ تعريف الاستصحاب باليقين بالحدوث تعريف له بمنشأ كاشفيته ، إذ أنّ اليقين بالحدوث هو الكاشف الظنّي النوعي عن بقاء ما كان ، فحينما نكون على يقين بوجوب صلاة الجمعة في زمن الحضور فإنّ هذا يكشف عن بقاء الوجوب في زمن الغيبة لو وقع الشك

٣٢٠