شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

أمّا لو كان أحدهما واقعيا والآخر ظاهريا فهذا يعني أنّ بينهما طولية ، فلا يلزم من اجتماعهما اجتماع للضدين ـ كما بيّنا ذلك في بحث اجتماع الحكم الواقعي والظاهري ـ والمقام من هذا القبيل حيث إنّنا لا ندعي أنّ الترخيص الممكن في ترك تمام الأطراف ـ والتي منها المعلوم بالإجمال ـ هو ترخيص واقعي بل هو ترخيص ظاهري متقوّم بالشك في الحكم الواقعي ، وذلك بأن يلاحظ كلّ طرف من أطراف العلم الإجمالي على حدة ، وحينئذ سنجد أنّ كلّ طرف مشكوك المطابقة للمعلوم بالإجمال ، وهذا ما يسوّغ إمكان الترخيص الظاهري في مورده ، إذ أن الترخيص الظاهري هو ما أخذ في موضوعه أو مورده الشك في الحكم الواقعي ونحن هنا حينما نلاحظ كل طرف على حدة نجده مشكوكا من جهة أنّه متعلّق للحكم الواقعي أو لا وهذا ما يجعله متوفرا على موضوع الحكم الظاهري ، ومن هنا أمكن الترخيص في مورده.

والمتحصّل هو إمكان الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي لعدم لزوم أيّ محذور من ذلك وقد بينا في مباحث القطع في مبحث العلم الإجمالي ما يتصل بهذا المطلب فراجع.

المقام الثاني : هو مقام الإثبات :

ويمكن أن يتمسك بإطلاق أدلة البراءة الشرعية لإثبات الأصل المؤمّن في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي ، وبذلك تكون المخالفة القطعية جائزة ولا محذور فيها ؛ لأنّ المقتضي للجريان ـ وهو إطلاق أدلة البراءة الإثباتية ـ موجود والمانع عن الجريان وهو الاستحالة قد ثبت بطلانه فيكون المانع منتفيا ، وعندئذ يمكن ارتكاب تمام الأطراف.

٢٨١

أمّا لو قلنا باستحالة جريان الأصول المؤمّنة لتمام الأطراف فهذا يشكّل قرينة على عدم الإرادة الجدّية للإطلاق فتكون أدلة البراءة مختصة بغير مقدار ما هو معلوم بالإجمال ؛ لأنه هو الذي قلنا باستحالة إجراء الأصل المؤمّن في مورده ، إذ هو الذي يلزم من إمكانه الترخيص في المعصية أو اجتماع الحكمين المتضادين.

وحينئذ كيف نحدّد الممنوع من إجراء الأصل المؤمّن في مورده ، ومن الواضح أنّه لا طريق للتعرّف على الطرف الذي هو منطبق الجامع والذي لا يجري الأصل المؤمّن عنه. ومقتضى ذلك هو جريان الأصل في كل طرف على حدة؟ لأنّ كلّ طرف مشتمل على موضوع الأصل المؤمّن وهو الشك في مطابقته للواقع وبالتالي تتعارض الأصول فيما بينها ؛ لأنّ إجراء الأصل في الطرف الأول يعارضه إجراء الأصل في الطرف الثاني ، وهذا ما يقتضي تساقط الأصول المؤمّنة.

وتصوير التعارض : هو أنّ إجراء الأصل المؤمّن في كل الأطراف يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعيّة ـ والذي قلنا باستحالته ـ وإجراء الأصل في طرف دون آخر ترجيح بلا مرجّح ، ومن هنا يتعارض الأصلان ؛ لأنّ موضوع الأصل المؤمّن متحقّق في كل طرف فيكون مشمولا لدليل الأصل ، ولمّا كان من المستحيل جريان الأصل المؤمّن فيهما معا يسقط كلا الأصلين فلا تصلح البراءة الشرعيّة للتأمين عن هذا الطرف ولا عن ذاك.

وهنا نحتاج إلى الرجوع إلى الأصل العملي الأولي ، فبناء على أنّ الأصل العملي الأولي هو الاحتياط العقلي تجب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ كل طرف في حدّ نفسه يحتمل مطابقته للواقع فيتنجز بالاحتمال ، ولا رافع لهذا

٢٨٢

التنجّز بعد سقوط الأصول المؤمّنة بالتعارض.

فتكون الموافقة القطعية واجبة ، غايته أنّ منشأ تنجّز مقدار الجامع هو العلم الإجمالي ومنشأ تنجّز المقدار الزائد عن الجامع هو أصالة الاحتياط العقلي القاضية بمنجزية مطلق الانكشاف.

وأمّا بناء على كون الأصل العملي الأولي هو البراءة العقلية فالمتنجّز بالعلم الإجمالي هو مقدار المعلوم بالإجمال ، وهذا يختلف باختلاف الاحتمالات الثلاثة التي ذكرناها في الجهة الأولى.

فبناء على الاحتمال الأول يلزم المكلّف الإتيان بتمام الأطراف ليتمكن من إحراز الواقع والذي هو متعلّق العلم الإجمالي ، وكذلك بناء على الاحتمال الثاني ؛ وذلك لأنّ المعلوم وإن كان هو الجامع إلاّ أنّ نسبته إلى كل الأطراف على حدّ سواء فيسري التنجيز من الجامع إلى كلّ الأطراف ، وأمّا بناء على الاحتمال الثالث فتجري البراءة العقليّة عن المقدار الزائد عن المعلوم بالإجمال ؛ وذلك لعدم سراية المنجزية من الجامع إلى أطرافه.

هذا كلّه بناء على استحالة الترخيص في تمام الأطراف ، وأمّا بناء على إمكانه فلا مانع من التمسّك بإطلاق أدلّة البراءة وبه تجري البراءة في كل طرف على حدة ومقتضى ذلك هو جواز المخالفة القطعية ، إلاّ أنّ هذا غير تام ، فإنّه وإن كنّا قد بنينا على إمكان الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي إلاّ أنا لا نسلّم بتمامية الإطلاق في أدلة البراءة ، وعليه لا تكون شاملة لمورد يلزم من إجرائها الترخيص في المخالفة القطعيّة.

ويمكن إثبات هذه الدعوى بأمرين :

الأمر الأوّل : أنّ السعة اللفظية في أدلة البراءة لا تعبّر عن الإرادة

٢٨٣

الجدّية للإطلاق ؛ وذلك لمنافاة الإطلاق لما هو المركوز عقلائيا من استبعاد إجراء البراءة في مورد يلزم من إجرائها الترخيص في المخالفة القطعية ، فالترخيص الظاهري في حالة من هذا القبيل وإن كان ممكنا ثبوتا إلاّ أنّه غير متعارف ، كما هو ملاحظ بوضوح في علاقات من لهم النظارة على مجتمعاتهم مع رعاياهم ، كما أنّ هذا النحو من الترخيص مستهجن عقلائيا ، فهم لا يرون أيّ مسوّغ لمثل هذه الاعتبارات ، وهذا ما يشكّل قرينة على عدم الإرادة الجدّية للإطلاق.

بل يمكن أن يقال إنّ الشارع لو كان مريدا للإطلاق لكان عليه أن يصرّح بإرادة الإطلاق في مثل هذه الموارد لا أن يعوّل على قرينة الحكمة ؛ وذلك لأنّ مثل هذا الارتكاز العقلائي المتأصّل يمنع ابتداء من انعقاد الظهور في الإطلاق ، فلو أراد الشارع تجاوز ما هو مرتكز عقلائيا ـ وهو ممكن ـ لما صحّ التعويل على عدم ذكر القيد وقرينة الحكمة لعدم تمامية مقدماتها ؛ وذلك لأنّ من مقدمات قرينة الحكمة عدم وجود ما يصلح للقرينة على التقييد ولا إشكال ولا ريب في صلوح هذا الارتكاز للقرينية.

ومن هنا قد ينعكس المطلب فنقول إنّ المولى مريد للتقييد إلاّ أنّه لم يصرّح به اعتمادا على ما هو مركوز عقلائيا من استهجان الترخيص المؤدي إلى الإذن في المخالفة القطعيّة ، وإذا لم تقبلوا ذلك فلا أقل من عدم إحراز الإرادة الجدّيّة للإطلاق لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة.

الأمر الثاني : هو خروج المقام تخصصا وموضوعا عن دليل البراءة الشرعية ؛ وذلك للعلم بالجامع ، فيكون البيان متحققا في مورده وهو ما ينفي موضوع البراءة الشرعية ، إذ أنّ موضوعها عدم البيان والعلم بالجامع

٢٨٤

بيان ، فيكون مصداقا لمفهوم الغاية في الآية المباركة ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١) وكذلك قوله تعالى ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (٢) ، فإنّ منطوق الآيتين هو نفي العذاب إلى أن يتحقق البيان ، فمفهومهما هو ثبوت العذاب حالة وجود البيان ، ولمّا كان العلم بالجامع بيان فهذا يقتضي كونه من مصاديق المفهوم لا المنطوق وبالتالي يخرج المورد عن موضوع البراءة ، إذ أن افتراض الترخيص في المخالفة القطعيّة يعني التوسعة في موضوع البراءة الشرعيّة ، إذ أنّ موضوعها حينئذ هو الأعم من البيان وعدم البيان ، وهذا ما لا يمكن الالتزام به ، وبذلك لو كان هناك إطلاق في بعض أدلّة البراءة فلابدّ من التصرّف فيه.

ومن هنا يكون المتعيّن هو ما ذكرناه في مقام الثبوت بناء على الاستحالة وهو مبنى المشهور ، إذ أنّنا توصّلنا ـ هنا في مقام الإثبات ـ إلى المنع من الترخيص في المخالفة القطعيّة بواسطة القرينة العقلائيّة وكذلك التقريب الثاني وهو خروج محل الكلام عن موضوع أدلّة البراءة ، وحينئذ لا تجري البراءة إلاّ في المقدار الزائد عن الجامع ، ولمّا لم يكن منطبق الجامع متشخصا يكون إجراء البراءة في أحد الأطراف دون الآخر من الترجيح بلا مرجّح بعد أن كان دليل الأصل المؤمّن شاملا لكل واحد بخصوصه على حدّ شموله للآخر ، وهذا ما يستوجب سقوط الأصل عن كلّ الأطراف.

وبهذا يسقط التأمين الشرعي عن المقدار الزائد عن الجامع أيضا ،

__________________

(١) سورة الإسراء آية ١٥.

(٢) سورة اللتوبة آية ١١٥.

٢٨٥

فلو كنّا نبني على مسلك حق الطاعة فلابدّ من إجراء أصالة الاحتياط العقلي في المقدار الزائد على الجامع ، وبه تكون الموافقة القطعيّة واجبة والمخالفة القطعيّة محرمة.

وأمّا لو بنينا على جريان البراءة العقليّة فالعلم بالجامع لا يقتضي أكثر من لزوم التحفّظ على مقدار الجامع ، وهذا يعني حرمة المخالفة القطعيّة وأمّا المقدار الزائد فتجري عنه البراءة العقليّة.

وبهذا يتضح أنّ الأصل العملي الثانوي بعد سقوط البراءة الشرعية هو الاشتغال العقلي بناء على مسلك حق الطاعة ، وهذا الأصل ينتج نتيجة الأصل العملي الأولي وهو أصالة الاحتياط أو الاشتغال العقلي ، ويعبّر عن الأصل العملي الثانوي المناظر للأصل العملي الأولي بقاعدة منجزية العلم الإجمالي.

٢٨٦

تحديد أركان هذه القاعدة

ونبحث في المقام أركان العلم الإجمالي والتي إذا ما توفرت فإن العلم الإجمالي يكون منجزا وإذا ما اختلّ واحد منها سقط العلم الإجمالي عن المنجزية ، وهذه الأركان التي سنستعرضها مستفادة من مجموع ما ذكرناه في الجهتين :

الركن الأول : هو وجود العلم بالجامع والذي هو الكلّي المعلوم القابل للانطباق على كلّ طرف من أطرافه.

ومنشأ ركنية هذا الركن هو أنّ انتفاءه يعني انتفاء العلم الإجمالي ، وبهذا تكون الأطراف حينئذ مشكوكة بالشك البدوي فتجري عنها البراءة الشرعيّة.

فلو كنّا نشك في نجاسة الإناء الأول ونشك في نجاسة الإناء الثاني وكذلك الثالث فهنا لا يوجد علم إجمالي ؛ وذلك لأنّ ملاحظة هذه الأواني الثلاثة متفرقة أو مجتمعة سواء ، إذ أنّه في كلا الحالتين يبقى الشك بدويا وما ذلك إلاّ لعدم العلم بالجامع.

وهذا بخلاف ما لو علمنا بوقوع نجاسة في أحد الأواني الثلاثة فإنّ ملاحظة هذه الأواني متفرقة يختلف عن ملاحظتها مجتمعة ، حيث إنّ اللحاظ الأول ينتج الشك في كل طرف على حدة وأمّا اللحاظ الثاني فينتج

٢٨٧

العلم بأنّ أحد الأواني الثلاث نجس وهذا هو العلم بالجامع.

الركن الثاني : عدم سراية العلم من الجامع إلى أحد أطرافه بمعنى عدم تحوّل العلم بالجامع إلى العلم بطرف خاص من أطرافه ؛ وذلك لأنّ افتراض السراية يعني تحوّل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بالطرف الذي علمنا سراية الجامع إليه ، فكلّ حالة من حالات العلم الإجمالي إذا اتفق فيها سريان الجامع إلى أحد أطرافه ينتفي العلم الإجمالي ويتحوّل إلى علم تفصيلي.

مثلا : لو كنا نعلم بوجوب صلاة ما في ظهر يوم الجمعة هي إمّا صلاة الظهر وإمّا صلاة الجمعة ، فالمنجزية هنا تثبت للعلم الإجمالي لوقوف الجامع وعدم سرايته إلى أحد طرفيه وتبقى المنجزية على حالها ما دام لم يسر الجامع إلى أحد طرفيه ، فلو اتفق أن علمنا أنّ منطبق الجامع هو صلاة الظهر فعندئذ يتحقّق سريان الجامع إلى أحد طرفيه ، ولو لاحظنا أنفسنا عند ذلك لوجدنا أنّ العلم الإجمالي قد انتفى وتحوّل إلى علم تفصيلي بوجوب صلاة الظهر ، ومن هنا لا يكون الطرف الآخر متنجّزا ؛ لأنّ منجّزيته نشأت عن العلم الإجمالي وهو منتف في مفروض المثال.

الركن الثالث : أن تكون تمام الأطراف مجرى لأصالة البراءة لولا المعارضة.

ولكي يتضح هذا الركن نذكر هذا المثال.

لو كنّا نعلم بنجاسة أحد الإنائين ولم نكن نعلم أنّ أحدهما كان متنجّسا ، فهنا يكون أصل البراءة من حرمة شرب كلّ طرف جارية لولا ابتلاء أصل البراءة الأول بالتعارض مع أصل البراءة الثاني ، وهذا ما

٢٨٨

يقتضي تنجّز كلا الطرفين. أمّا لو كنّا نعلم بأن الطرف الثاني كان مسبوقا بالنجاسة فإنّ استصحاب النجاسة في مورده يمنع من إجراء أصل البراءة عنه.

وبهذا لا يكون كلا الأصلين المؤمّنين جاريين لولا المعارضة ، فإنّه حتى لو افترض عدم التعارض فإنّ أصل البراءة لا يجري في الطرف الثاني لأنّه منجّز بالاستصحاب.

ومنشأ ركنية هذا الركن هو عدم إمكان جريان البراءة عن الطرفين بسبب التعارض ، فإذا كانت البراءة لا تجري عن أحد الطرفين يكون إجراء البراءة عن الطرف الآخر بلا معارض ، ولمّا لم يكن إجراء البراءة عن الطرف الأول مستلزما للمخالفة القطعيّة ـ لاحتمال وقوع النجاسة في الطرف المنجّز بالاستصحاب ـ صحّ إجراؤها ؛ لأنّ أقصى ما سيحدث نتيجة إجراء البراءة عن الطرف الأول هو عدم الموافقة القطعية وهي غير واجبة التحصيل ، إذ أنّ وجوبها إنّما نشأ عن تساقط الأصول المؤمّنة والرجوع بعد ذلك إلى أصالة الاحتياط العقلي وفي المقام لا تكون الأصول الشرعية المؤمّنة ساقطة عن الطرف الأول.

ونذكر مثالا آخر ليتّضح المطلب أكثر.

لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين ثم قامت البينة على نجاسة الطرف الثاني ، فإنّ هنا يجري الأصل المؤمّن عن الطرف الأول بلا معارض ؛ وذلك لعدم جريان الأصل المؤمّن في الطرف الثاني بسبب تنجّزه بالبينة ، ومن الواضح أنّ الأصول لا تجري في موارد الأمارات ، فيأتي عندئذ نفس البيان السابق.

٢٨٩

الركن الرابع : أن يلزم من إجراء الأصول المؤمّنة في تمام الأطراف الإذن في المخالفة القطعيّة العمليّة ، كما لو أجرينا الأصل المؤمّن عن الصلاتين الظهر والجمعة ، فإنّ إجراءه في مثل هذه الحالة يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة العمليّة وهي ترك كلا الصلاتين المعلوم وجوب أحدهما ، وهذا بخلاف ما لو كان إجراء الأصل في كلّ الأطراف غير مستوجب عملا للمخالفة القطعية ، كما لو علمنا إجمالا بحرمة أحد الطعامين إمّا الطعام الذي هو في متناول أيدينا وواقع في محل إبتلائنا أو الطعام الذي يتعذّر تناوله والتصرّف فيه كما لو كان الطعام الآخر في بلاد نائية يتعذّر على المكلّف الوصول إليها ، فإنّ إجراء الأصل ـ في مثل الفرض ـ عن كلا الطرفين لا يستوجب المخالفة القطعيّة العمليّة ؛ إذ أنّ الطرف المتعذّر لا يتفق ارتكابه فلا يكون الإذن في المخالفة القطعيّة مستحيلا عقلا أو مستهجنا عقلائيا.

سقوط المنجّزيّة عن العلم الإجمالي :

وبعد أن اتضحت أركان العلم الإجمالي الأربعة يقع البحث عن الحالات التي يسقط فيها العلم الإجمالي عن المنجّزية ، وسنجد أنّ مناشئ السقوط عنها ترجع إلى اختلال أحد أركان العلم الإجمالي.

أولا : سقوط المنجّزيّة بسبب اختلال الركن الأول :

والذي هو العلم بالجامع ، وقد ذكر المصنّف رحمه‌الله أربع حالات للسقوط :

الحالة الأولى : وهي ما لو تبين أنّ العلم بالجامع كان وهما وأنّ الواقع على خلافه.

٢٩٠

ومثاله : ما لو كان يعلم بغصبية أحد الثوبين ثم تبين له عدم مغصوبيتهما معا وأنّ الواقع هو إذن المالك في التصرّف فيهما أو أن المغصوب هو ثوب أخرى غير الثوبين ، ومن هنا تسقط المنجّزية عن العلم الإجمالي بسبب اختلال الركن الأول ، إذ لا علم بالجامع بعد تبيّن الاشتباه.

الحالة الثانية : تحوّل العلم بالجامع إلى الشك أو الظن غير المعتبر.

ومثاله : لو علم المكلّف باشتغال ذمته بدين إمّا لزيد أو لبكر ثم زال ذلك العلم وتحوّل إلى شك بتعلّق ذمته بدين لأحد الطرفين ، فهنا أيضا تسقط المنجّزية عن العلم الإجمالي ، وذلك بسبب سقوط العلم وتحوّله إلى شك وهو معنى ثان لاختلال الركن الأول.

الحالة الثالثة : ما لو كان أحد أطراف العلم الإجمالي ساقطا عن التنجيز لو اتفق أنه هو الواقع.

وبعبارة أخرى : لو كان أحد الأطراف مباحا حتى وإن كان معلوما بنحو التفصيل فضلا عن الإجمال ، كما لو كان المكلّف يعلم بأن أحد الطعامين مشتمل على لحم الميتة إلاّ أنّه كان مضطرا إلى الطعام الأول ، فإنّه في مثل هذه الحالة يكون الطرف الأول مباحا على أيّ حال سواء كان هو المشتمل على الميتة واقعا أو أنّ المشتمل على الميتة هو الطرف الثاني ، وفي مثل هذه الحالة تسقط المنجّزية عن العلم الإجمالي ، أي أنّه يجوز ارتكاب الثاني أيضا.

ومنشأ سقوط المنجزيّة هو عدم وجود علم إجمالي من رأس ؛ وذلك لعدم العلم بالجامع فهو لا يعلم بحرمة أحد الطعامين بل يعلم بحليّة أحدهما ويشك في حرمة الآخر ؛ وذلك لأن الأول وإن كان يحتمل اشتماله على الميتة

٢٩١

إلاّ أنّه وبسبب اضطراره إليه لا يكون محرما عليه فهو معلوم الحليّة على أيّ حال ، وأمّا الطرف الآخر فلا يجزم باشتماله على الميتة ـ وإن كان لو جزم لتنجّزت الحرمة عليه ـ ومنشأ عدم الجزم هو احتمال أن تكون الميتة في الطعام الأول المحلل ، فعليه يكون الشك في مورد الطرف الثاني بدويّا تجري عنه البراءة الشرعية.

الحالة الرابعة : أن يكون أحد الطرفين غير واجب التحصيل بعد قيام العلم الإجمالي.

وذلك كما لو نشأ علم إجمالي بوجوب دفن هذا الميت أو التصدّق على الفقير بعد أن كان المكلّف قد دفن الميت ، وهنا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزية لعدم العلم بالجامع ، إذ أنّ دفن الميت لو كان هو الواجب واقعا فقد سقط موضوعه وهذا يعني إحراز عدم وجوبه لو كان هو الواجب واقعا فيكون الطرف الآخر مشكوك الوجوب فتسقط عنه المنجّزية أي لا يلزم امتثاله.

ثانيا : سقوط المنجّزيّة بسبب اختلال الركن الثاني :

والذي هو عدم سراية العلم بالجامع إلى أحد أطرافه ، وقد ذكر المصنّف لذلك حالتين :

الحالة الأولى : هي سريان العلم من الجامع إلى أحد الأطراف بعينه ، وذلك مثل ما لو علم المكلّف بغصبية أحدى الثوبين ثمّ علم أنّ المغصوب منهما هي الثوب البيضاء ، فإنّه في مثل هذه الحالة ينتقل العلم الإجمالي من الجامع ـ وهو أحد الثوبين ـ إلى الثوب البيضاء ، وبهذا ينحلّ

٢٩٢

العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بالطرف الأول وشك بدوي في الطرف الآخر ، وبهذا لا يكون العلم الإجمالي منجّزا لكلا الطرفين.

أما الطرف الأول فلأنّ التنجيز إنّما نشأ عن العلم التفصيلي.

وأما الطرف الثاني فتجري عنه أصالة البراءة لصيرورة الشك فيه شكا بدويا.

الحالة الثانية : سريان العلم من الجامع إلى جامع آخر أضيق دائرة منه ، وذلك في موارد انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ، فإنّ الركن الثاني للعلم الإجمالي الأول الكبير يختل ؛ وذلك لأن الجامع فيه لم يقف على حده كما هو مقتضى الركن الثاني بل انتقل إلى جامع آخر ، وبالتالي تسقط المنجّزية عنه ، وأمّا بعض أطرافه التي تحوّلت إلى العلم الإجمالي الصغير يكون منجّزها هو العلم الإجمالي الثاني الصغير والأطراف الباقية يكون الشك فيها بدويّا لعدم شمول الجامع الصغير لها وانعدام العلم الإجمالي الأول.

ومثال ذلك : ما لو علمنا أولا أنّ خمسا من شياه ـ في قطيع يساوي عشرين شاة ـ قد تغذّت على لبن خنزيرة ، فجامع العلم الإجمالي في هذا المثال هو خمس شياه من عشرين ، فلو تحوّل العلم بعد ذلك إلى علم بتغذّي خمس شياه من عشر من القطيع فإنّ العلم الإجمالي حينئذ ينحلّ إلى علم إجماليّ آخر بحرمة خمس شياه من عشرة وشك بدوي في العشرة الباقية والتي ليست طرفا للعلم الإجمالي الجديد.

ومنشأ الانحلال هو سراية الجامع من العلم الإجمالي الأول إلى جامع آخر أضيق منه دائرة ، فتكون الأطراف الباقية خارجة عن إطار الجامع

٢٩٣

الثاني ؛ ولهذا يكون الشك فيها بدويّا فتجري في موردها الأصول المؤمّنة بعد أن لم تكن طرفا للعلم الإجمالي لخروجها عن دائرة الجامع الثاني.

وتلاحظون أنّ هذا الانحلال نشأ عن أمرين :

الأمر الأوّل : أن أطراف الجامع الثاني هي بعض أطراف الجامع الأول ، غايته أنّ بعض الأطراف التي كانت للجامع الأول قد خرجت عن دائرة الجامع الثاني ، فالعشرة التي هي سعة دائرة الجامع الثاني هي بعض العشرين التي كانت تمثل دائرة الجامع الأول الكبير ، فلو كانت العشرة من غير دائرة العشرين لم ينحل العلم الإجمالي الأول ، كما لو كانت العشرة من قطيع آخر غير القطيع الذي نعلم إجمالا بحرمة خمس شياه منه.

الأمر الثاني : أنّ مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير نفس مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير الأول ، وهذا ما ساهم في تحقّق الانحلال ، إذ لو كان مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير أقل من مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير لما انحلّ العلم الإجمالي الكبير ؛ وذلك لبقاء مقدار من المعلوم بالإجمال الأول في دائرة العلم الإجمالي الكبير وهذا يعني وجود علم إجمالي دائرته العشرين والمعلوم بالإجمال فيه هو المقدار المتبقي.

فلو علمنا أنّ أربعا من الشياه الخمس في العشرة الأولى من العشرين فإنّ العلم الإجمالي الكبير لا ينحل ؛ وذلك لبقاء واحدة نعلم إجمالا بوجودها في ضمن العشرين من القطيع ، وبهذا يتضح اعتماد الانحلال على هذين الأمرين.

٢٩٤

ثالثا : سقوط المنجّزيّة بسبب اختلال الركن الثالث :

والذي هو جريان الأصل المؤمّن في تمام الأطراف لولا المعارضة ، وقد ذكر المصنّف لذلك حالتين :

الحالة الأولى : وهي ما لو كان أحد طرفي العلم الإجمالي منجّزا بمنجّز غير العلم الإجمالي كما لو كان أحد الطرفين مجرى لأصالة الاستصحاب المثبت للتكليف لا الاستصحاب النافي للتكليف فإنّه خارج عن محل الكلام.

مثلا : لو علمنا بتعلّق حرمة إما بهذا اللحم أو بهذا الشراب إلا أنّ اللحم لمّا كان مجرى لاستصحاب عدم التذكية ـ إذ أننا نعلم سابقا أنّه لم يكن مذكى ونشك فعلا في تذكيته ـ فإنّه لا تجري البراءة في مورده لافتراض تنجّزه بالاستصحاب فنجري البراءة عن الطرف الآخر بدون معارض ، وهذا يعني سقوط المنجزية عن العلم الإجمالي ؛ إذ أنّ الأول لم يتنجّز بالعلم الإجمالي وإنّما تنجّز بالاستصحاب والثاني مؤمّن عنه لعدم وجود ما يمنع عن جريان الأصل المؤمّن في مورده.

والمتحصل أنّ منشأ سقوط هذا العلم عن المنجّزية هو عدم جريان الأصل المؤمّن في تمام الأطراف وإلا لو كانت جميعها مجرى لأصالة البراءة مثلا لأوجب ذلك التعارض وعندئذ تسقط الأصول جميعا عن التأمين.

وهذا النحو من الانحلال يعبّر عنه بالانحلال الحكمي ؛ إذ أنّ العلم الإجمالي لا ينحلّ حقيقة ؛ وذلك لأنّنا بالوجدان نجد أنّ العلم باق على حاله ، نعم هو منحلّ حكما لأنّه لا يترتب على هذا العلم أي أثر عملي ،

٢٩٥

وذلك لما قلنا من أنّ الطرف الأول منجّز بالاستصحاب والثاني مؤمّن عنه ، فوجود العلم في هذه الصورة وعدمه سواء من جهة الأثر العملي ، وهذا بخلاف الانحلال الحقيقي فإنّ العلم يزول في مورده حقيقة.

الحالة الثانية : ما لو كان أحد طرفي العلم الإجمالي خارجا عن ابتلاء المكلّف بمعنى استبعاد وقوعه من المكلّف حتى لو افترض جوازه ، وذلك لعدم قدرته عادة على إيقاعه ، فهو وإن لم يكن متعذّرا إلاّ أنّه متعسّر.

ومثاله ما لو علم المكلّف بنجاسة أحد المائعين إمّا الذي تحت يده وقدرته أو المائع الموجود في بلاد نائية من المتعسّر على ذلك المكلّف الوصول إليها ، فهو وإن كان من الممكن أن يقع ذلك المائع تحت قدرته إلاّ أنّه مستبعد عرفا.

ومن هنا لا تجري البراءة عن مثل هذا الطرف ؛ إذ لا معنى لجريان البراءة إلاّ في مورد لو كان منجّزا لكان المكلّف عرفا قادرا على مخالفته ، أمّا لو كان عدم المخالفة مضمونا لعدم القدرة عليها فلا معنى لجعل البراءة في مثل هذا المورد لأن جعلها وعدمه سواء ، ومن هنا يجري الأصل المؤمّن عن الطرف الآخر دون معارض ؛ لأنّ الذي يفترض أن يكون معارضا لم تجعل له البراءة.

ومن هنا يجوز استعمال المائع الذي تحت يده وإن كان مبتليا بالوقوع طرفا للعلم الإجمالي.

وبهذا يتضح معنى قول الأصوليين من أنّ منجزية العلم الإجمالي مشروطة بوقوع كلا طرفي العلم محلا للابتلاء.

٢٩٦

رابعا : سقوط المنجّزيّة بسبب اختلال الركن الرابع :

وهو استلزام الإذن في تمام الأطراف للترخيص في المخالفة القطعية.

وقد ذكر المصنّف لذلك حالتين :

الحالة الأولى : هو أن يكون طرفا العلم الإجمالي حكمين تنجيزيين إلاّ أنّ تنجيز أحدهما يقتضي الفعل وتنجيز الآخر يقتضي الترك كما هي حالات العلم الإجمالي بوجوب الفعل أو حرمته وهي المعبّر عنها عادة بدوران الأمر بين المحذورين ، وهذا النحو من العلم الإجمالي لو أجرينا البراءة عن كلا طرفيه لم يلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعيّة العمليّة ؛ وذلك لاستحالة ترك امتثال التكليفين أي استحالة المخالفة القطعيّة ، إذ لا يمكن إيجاد الفعل وامتثال الترك في عرض واحد فهو إن صدر عنه الفعل لم يمتثل الحرمة والتي تقتضي الترك ، وإن امتثل الحرمة أي ترك الفعل يتعذّر عليه امتثال الوجوب أي إيجاد الفعل فأحد الامتثالين لا يقع حتما.

وإذا كان كذلك فالمخالفة القطعيّة متعذّرة لأنّه حينما يأتي بالفعل يحتمل أنه منطبق الجامع فيكون ممتثلا ، وحينما يترك الفعل يحتمل أنّ الحرمة هي منطبق الجامع ، فالموافقة الاحتمالية حتمية الوقوع كما أن المخالفة الاحتمالية كذلك ، وبهذا تكون المخالفة القطعية غير ممكنة وكذلك الموافقة القطعيّة وبالتالي لا يكون الترخيص في تمام الأطراف موجبا للترخيص في المخالفة القطعيّة ، ومن هنا يختلّ الركن الرابع.

الحالة الثانية : أن تكون دائرة العلم الإجمالي واسعة جدّا بحيث يتعذّر على المكلّف عادة ارتكاب تمام الأطراف ، وهذا ما يعبّر عنه بالشبهة غير المحصورة.

٢٩٧

وبتعبير آخر : لو كانت أطراف العلم الإجمالي من السعة بحيث يكون من المستبعد جدا المخالفة القطعية فهنا لا يكون إجراء البراءة عن تمام الأطراف موجبا للترخيص في المخالفة القطعية للمعلوم بالإجمال.

ويمكن التمثيل لذلك بما لو علم المكلّف بعدم تذكية واحدة من الذبائح الكثيرة والمتوزعة على أسواق البلاد الكبيرة ، فهنا لو جرت البراءة عن حرمة مجموع الذبائح لم يكن ذلك مستوجبا للترخيص في المخالفة القطعيّة العمليّة لعدم إمكان تناول المكلّف من تمام تلك الذبائح عادة.

ثم إنّ هناك حالات وقع البحث عن أنّها من موارد البراءة الشرعيّة أو أنّها من موارد قاعدة منجزية العلم الإجمالي؟ وقد ذكر المصنّف رحمه‌الله من هذه الحالات ثلاث :

حالة تردد الواجب بين الأقل والأكثر :

وبيان هذه الحالة هي أنّه لو علم المكلّف بجامع التكليف إلاّ أنّه تردد في متعلّقه وهل هو الأقل أو الأكثر؟ وهذه الحالة لها صورتان :

الصورة الأولى : ما لو كان التردد بين متعلّقين استقلاليين. ومثاله ما لو علم بتعلّق ذمته بدين لزيد إلاّ أنّه تردد في مقدار ذلك الدين ، وهل هو درهم أو عشرة؟ وهذه الحالة هي المعبّر عنها بدوران الأمر بين الأقل والأكثر الإستقلاليين ، إذ أنّ وجوب الدرهم ليس له ارتباط بوجوب العشرة لأنّ العشرة لو كانت واجبة فهي روحا منحلّة إلى وجوبات بعدد الدراهم العشرة كل وجوب لا ارتباط له بالآخر بل إنّ لكلّ وجوب طاعة ومعصية مستقلة عن الطاعة والمعصية في الوجوب الآخر ؛ ولذلك لو قضى جزءا من الدين المعلوم وجحد الجزء الآخر لكان مطيعا وعاصيا.

٢٩٨

ومن هنا لم يستشكل أحد في هذه الصورة بل جزموا بجريان البراءة عن المقدار الزائد عن الأقل ، فالواجب في المثال هو أداء الدين لزيد بمقدار الدرهم وأمّا التسعة فهي مجرى لأصالة البراءة الشرعية ؛ وذلك لأنّه من الشك في التكليف الزائد أو قل هو شك في تكاليف أخرى فتجري عنها البراءة بلا ريب.

الصورة الثانية : وهي محلّ البحث في المقام ، وهي ما لو كان التردد بين الأقل والأكثر في مركب واحد ، وهذا هو المعبّر عنه بدوران الأمر بين الأقل والأكثر الإرتباطيين ، إذ الأكثر لو كان واجبا فإنّ التكليف لا يسقط بالأقل.

وبتعبير آخر : إنّ التكليف إذا كان متعلّقه مركبا فإن له طاعة واحدة ومعصية واحدة فإن جاء بمتعلّق التكليف كاملا فهو مطيع وإلاّ فهو عاص ، وهذا هو مبرّر التعبير بالارتباطية.

ومثال ذلك ما لو علم المكلّف بجامع التكليف وهو وجوب الصلاة إلاّ أنّ الشك وقع في مقدار متعلّق التكليف وهل أنّ مقداره تسعة أجزاء أو أنّ مقداره عشرة أجزاء؟ هذا في المركبات العبادية.

وأمّا في المركبات المعاملاتية فمثاله علم المكلّف بصحة الزواج المنقطع إلاّ أنّه تردد من جهة تقومه بذكر الأجل أو عدم تقومه بذلك ، فهذا شك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ؛ إذ أنّ الأمر يدور بين تقوّم هذا العقد بالإيجاب والقبول فحسب أو هما بإضافة ذكر الأجل ، والارتباطية نشأت من أنّ العقد مركب معاملاتي فإمّا أن يقع وإمّا ألا يقع.

ومع اتّضاح هذه الصورة نقول : إنّه قد وقع البحث والنزاع في أنّها من

٢٩٩

مجاري أصالة البراءة أو أنّها من موارد جريان قاعدة المنجزيّة للعلم الإجمالي؟

وبتعبير آخر : هل أنّ الشك في الأكثر شك بدوي حتى تجري عنه البراءة أو هو شك مقترن بالعلم الإجمالي فتجري في مورده قاعدة المنجّزية للعلم الإجمالي؟

والصحيح بنظر المصنّف رحمه‌الله هو أنّ الشك في الأكثر من موارد الشك البدوي فتجري عنه أصالة البراءة ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي لا يكون إلاّ بين طرفين متباينين أي متغايرين بحيث لا يكون بينهما تداخل في الوجود ، فأحدهما لا يتصادق مع الآخر ولو بنحو الموجبة الجزئية ، وذلك مثل دوران النجاسة بين الطرف الأول والطرف الثاني ، وكذلك لو دار الأمر بين وجوب شيء أو حرمة آخر أو دار الأمر بين وجوب شيء أو وجوب شيء آخر بحيث يكون معروض الوجوب الأول مغايرا تماما لمعروض الوجوب الثاني.

ومنشأ تقوّم العلم الإجمالي بتباين طرفيه هو أنّ الجامع المعلوم لا يكون منطبقه مرددا إلاّ في حالة لا يعلم بوجوده في أحد الطرفين على أيّ حال ، إذ لو علم بانطباق الجامع على أحد الطرفين على أي حال سواء كان الطرف الآخر هو الواقع أو أنّ الواقع هو الطرف الأول ـ المعلوم وجود الجامع فيه ـ لكان ذلك يعني وجود علم تفصيلي بواقعية الطرف الذي هو منطبق الجامع وهو خلف الفرض ؛ إذ أنّ الفرض هو وجود علم إجمالي.

إذن العلم الإجمالي لا يكون إلاّ في حالة لا يعلم فيها بانطباق الجامع المعلوم على أحد الأطراف على أيّ حال ، وإذا تمّ هذا فمحلّ الكلام خارج

٣٠٠