شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

وفي كلا الصورتين تجري البراءة عن التكليف لو كان الشك في تقيّد التكليف بعدم المسقط ؛ وذلك لأنّه حينئذ يكون شكا في فعليّة التكليف.

وبيان ذلك :

أمّا بنحو الشبهة الحكميّة فلأن الشك في أصل مسقطيّة الهدي للأمر بالعقيقة ـ بنحو يكون الأمر بالعقيقة مقيدا بعدم ذبح الهدى ـ يعني الشك في فعليّة الأمر بالعقيقة مع تحقّق الذبح خارجا.

وذلك مثل ما لو شككنا بتقيّد وجوب الحج بعدم وجوب أداء الدين ، فلو وجب أداء الدين على المكلّف فإنّه عندئذ يشك في حدوث الفعليّة لوجوب الحج عليه ، والشك في فعليّة التكليف مجرى لأصالة البراءة.

والحاصل أنّ الشك في ثبوت المسقط شرعا يساوق الشكّ في فعليّة التكليف لو اتّفق تحقّق ما يشك في مسقطيته شرعا.

وأمّا بنحو الشبهة الموضوعيّة فلأن الشك في مجيئه بما يسقط الوجوب شرعا يعني الشك في حدوث الفعليّة للوجوب ، إذ أنّ المسقط قد أخذ عدمه في تحقّق الفعليّة للوجوب ، فإذا شك في تحقّق المسقط خارجا فهذا يعني أنّه يشك في حدوث الفعليّة للوجوب.

وذلك مثل ما لو علمنا بأن وجوب الصلاة مقيّد بعدم الحيض ، فلو شكت المرأة بعد ذلك في حدوث الحيض لها قبل ابتداء الوقت فإنّ هذا يساوق الشك في تحقّق الفعليّة لوجوب الصلاة ؛ وذلك لأنّ وجوب الصلاة قد أخذ عدم الحيض قيدا في وجوبها ، فالشك في تحقّق المانع عن الفعليّة يؤول إلى الشك في تحقّق الفعليّة للوجوب فيكون مجرى لأصالة البراءة.

وهكذا المقام فإنّ الشك في تحقّق ما يعلم بمسقطيّته للتكليف يساوق

٢٦١

الشك في حدوث الفعليّة للتكليف ، وذلك لاحتمال تحقّق المسقط خارجا.

المعنى الثاني : هو أنّ المسقطيّة تعني إناطة بقاء الوجوب بعدم المسقط ، فالوجوب معلوم الحدوث إلاّ أنّ الشك في رافعيّة المسقط ـ لو حدث ـ للوجوب ، وذلك كأن يقول المولى « تجب العقيقة على كلّ مكلّف إلاّ إذا ذبح هديا في الحج ، فإن وجوب العقيقة يسقط عنه » فيكون حينئذ عدم ذبح الهدي قيدا في بقاء الوجوب للعقيقة.

ويمكن التنظير لهذه الحالة بما لو اعتبرنا السفر رافعا لوجوب الصوم في نهار شهر رمضان ، فوجوب الصوم معلوم الحدوث في أوّل النهار إلاّ أنّه لو اتّفق أن سافر المكلّف قبل الزوال فإنّ وجوب الصوم يرتفع ؛ وذلك لأنّ عدم السفر أخذ قيدا في بقاء الفعليّة لوجوب الصوم ، ومن هنا لو شكّ المكلّف في تحقّق السفر منه فإنّ ذلك يساوق الشك في بقاء وجوب الصوم.

وكيف كان فقد ذهب المشهور إلى جريان أصالة الاشتغال عند الشك في تحقّق المسقط ؛ وذلك لكون التكليف معلوم الحدوث ، فلابدّ من إحراز الخروج عن عهدة ذلك التكليف المعلوم ، فهو نظير الشك في الامتثال بعد العلم بتنجّز التكليف ، فإنّه لا إشكال في جريان أصالة الاشتغال ؛ وذلك لأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

فالمكلّف حينما يكون عالما بوجوب العقيقة ويشك بعد ذلك في حدوث المسقط ـ وهو ذبح الهدي ـ فإنّ ذلك لا يبرّر سقوط الوجوب بعد ما علم بمسؤوليته عن امتثاله ، نعم لو أحرز وجود المسقط فإنّ ذلك يوجب سقوط الوجوب عن العقيقة أمّا مع عدم العلم بتحقّق ذبح الهدي منه فإنّ الشغل اليقيني بوجوب العقيقة يستوجب إفراغ الذمّة عن ذلك الوجوب

٢٦٢

يقينا.

إلاّ أنّ المصنّف رحمه‌الله خالف المشهور في هذا المورد وذهب إلى جريان البراءة ؛ وذلك لأنّ الشك في وجود المسقط يساوق الشك في بقاء الوجوب وهو معنى آخر عن الشك في فعليّة الوجوب ، وهذا هو موضوع البراءة إلاّ أنّ موضوع الاستصحاب متحقّق في المقام أيضا ؛ وذلك للعلم بحدوث التكليف والشك في بقائه ، ومن هنا فالجاري في المقام هو أصالة الاستصحاب ؛ وذلك لتقدمه على البراءة كما سيأتي ذلك في محلّه إن شاء الله تعالى.

الجهة الثالثة : البراءة عن الاستحباب :

ويقع البحث في المقام عن حدود مجرى أصالة البراءة ، وهل أنّها تسع موارد الشك في التكاليف غير الإلزاميّة ـ وهي الاستحباب والكراهة ـ أو أنّها مختصة بموارد الشك في التكاليف الإلزاميّة؟

ويعرف الجواب عن ذلك بمراجعة أدلّة البراءة ، وقد صنّف المصنّف رحمه‌الله الأدلّة إلى طائفتين :

الطائفة الأولى : وهي الآيات والروايات التي تقتضي السعة ونفي الضيق من جهة التكاليف المشكوكة وتقتضي كذلك التأمين من استتباع ترك التكاليف المشكوكة للعقاب والإدانة ، وذلك مثل قوله عليه‌السلام « الناس في سعة ما لا يعلمون » (١) وقوله تعالى ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (٢)

__________________

(١) هكذا تعارف نقل الرواية في كتب الأصول ، والظاهر عدم وجود هذا اللسان في كتب.

٢٦٣

وقوله تعالى ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (٣) ، وهذه الطائفة من الأدلّة لا تشمل موارد التكاليف غير الإلزاميّة جزما ؛ وذلك لأنّ المكلّف في سعة من جهتها لو ثبتت فضلا عمّا لو لم تثبت ، فليس في إجراء البراءة عنها توسعة زائدة على المكلّف ، كما أنّ مقتضى كونها غير إلزاميّة عدم استتباع العقاب والإدانة على تركها فلا نحتاج في التأمين عن تركها في موارد الشك إلى إجراء أصالة البراءة.

الطائفة الثانية : وهي الروايات التي رتبت رفع المنجّزية عن التكليف في حالات عدم العلم ، وذلك مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رفع عن أمتي ما لا يعلمون » (٤) ، وقوله عليه‌السلام « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (٥).

وهذه الطائفة من الروايات لم تخصّص رفع التكليف بحالات لو كان التكليف فيها ثابتا لكان تركه موجبا للعقاب والإدانة حتى تكون مختصة بالتكاليف الإلزامية بل إنّها أفادت رفع التكليف المشكوك في ظرف عدم العلم ، وهذا يشمل التكاليف غير الإلزامية.

__________________

ـ الأخبار ، نعم ورد ما يقارب هذا اللسان في رواية السفرة ، حيث ورد في ذيلها « هم في سعة حتى يعلموا ». والإشكال في سند الرواية من جهة النوفلي ، ولا يبعد صحة الاعتماد على الرواية الوسائل باب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ١١.

سورة الطلاق آية ٧.

(٣) سورة الإسراء آية ١٥.

(٤) الوسائل باب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ح ١.

(٥) الوسائل باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٣٣.

٢٦٤

ولكنّه مع ذلك لا يمكن القول بجريان البراءة في موارد التكاليف غير الإلزاميّة لأنّ إجراء البراءة عنها لا يخلو عن أحد معنيين :

إمّا أن يكون المراد من جريان البراءة عن التكاليف غير الإلزاميّة هو الترخيص في تركها وهذا أشبه شيء بتحصيل الحاصل ، إذ أنّ الترخيص في الترك هو مقوّم التكاليف غير الإلزامية.

وإمّا أن يكون المراد من جريان البراءة عنها هو أنّه في حالات الشك في التكليف غير الإلزامي يكون الاحتياط مرجوحا وغير مطلوب شرعا ، وهذا لا يمكن المصير إليه للقطع برجحان الاحتياط عقلا وشرعا بنحو مطلق.

ولكي يكون المطلب مأنوسا أكثر نذكر هذه الأمثلة :

الأوّل : لو شكّ المكلّف في استحباب صلاة الغفيلة ولم يعثر على دليل معتبر يثبت استحبابها ، فإنّه لو قلنا بجريان البراءة عن الاستحباب المشكوك فإنّ ذلك ينتج نفي استحباب الاحتياط ؛ وذلك لأنّ البراءة في التكاليف الإلزاميّة تنفي وجوب الاحتياط فهي في التكاليف غير الإلزاميّة تنفي استحباب الاحتياط.

وأما لو قلنا بعدم جريان البراءة عن الاستحباب المشكوك فإنّ ذلك يقتضي عدم وجود ما ينفي استحباب الاحتياط.

الثاني : لو شك في كراهة النوم بين الطلوعين ولم يعثر على دليل معتبر على ثبوت حكم الكراهة ، فإنّه لو قلنا بجريان البراءة عن الكراهة المشكوكة فإنّ ذلك يقتضي نفي استحباب الاحتياط ، وهو يعني أن الاحتياط بترك النوم بين الطلوعين ليس مطلوبا شرعا.

٢٦٥

أما لو قلنا بعدم جريان البراءة فلا موجب لنفي استحباب الاحتياط بترك النوم بين الطلوعين.

الثالث : لو شك في شرطيّة أو جزئيّة شيء في مركب عبادي مستحب ، كما لو شك في جزئيّة السورة في النافلة أو شك في شرطية تكرار اللعن في زيارة عاشوراء.

فإن قلنا بجريان البراءة فإنّ ذلك يقتضي نفي جزئية ذلك الجزء للمركّب العبادي ، ونفي اشتراط استحباب المركّب العبادي بذلك الشرط المشكوك.

أمّا مع القول بعدم الجريان فإنّ استحباب الاحتياط ـ بإتيان ما يشك في جزئيته وإيجاد ما يشك في شرطيّته ـ باق على حاله لعدم وجود ما يوجب رفعه.

٢٦٦

قاعدة منجّزية العلم الإجمالي

١ ـ منجزية العلم الإجمالي عقلا

٢ ـ جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي

٣ ـ تحديد أركان القاعدة

٤ ـ دوران الأمر بين الأقل والأكثر

٥ ـ دوران الأمر بين التعيين والتخيير

٢٦٧
٢٦٨

قاعدة منجّزية العلم الإجمالي

ذكرنا في مباحث القطع أنّ المراد من العلم الإجمالي هو العلم بالجامع مع الشك في انطباق الجامع على أحد أطرافه.

فالعلم الإجمالي مشتمل على حيثيّتين :

الحيثيّة الأولى : هي العلم بالجامع بين الأطراف.

الحيثيّة الثانية : هي الشك في أنّ أيّ الأطراف هي منطبق الجامع.

والمراد من الجامع هو الكلّي المعلوم القابل للانطباق على كلّ واحد من أطرافه.

وأمّا المراد من أطراف الجامع فهي الأفراد التي لو لوحظ كلّ واحد منها على حدة لكان من المحتمل انطباق الجامع عليه ، أمّا لو لوحظت بنحو المجموع لكان من الممكن إحراز عدم كونها جميعا منطبقا للجامع ، وذلك لو كنّا نحرز أنّ المعلوم بالإجمال أقل من أطراف العلم الإجمالي.

وهناك واقع متقرّر في نفسه ومتشخّص في حدّ ذاته إلاّ أنّه مشكوك عند المكلّف ، أي أنّ المكلّف يجهل موضع استقراره وهل هو الطرف الأول أو الثاني أو الثالث وهكذا ، وهذا هو المعبّر عنه بالمعلوم بالإجمال ، وهو غير الجامع ، إذ أنّ الجامع معلوم تفصيلا.

فالمعلوم بالإجمال هو متعلّق الجامع ، أمّا أنّه معلوم فلأنّنا نقطع

٢٦٩

بوجوده ، وأمّا أنه معلوم بالإجمال فلأنّنا نجهل موضع استقراره ، فجهة الغموض في المعلوم بالإجمال هي مشخصاته الثابتة في نفس الأمر والواقع والمجهولة عند المكلّف.

ولأجل أن يتضح ما ذكرناه نطبقه على هذا المثال :

لو قطعنا بوقوع نجاسة في أحد الأواني الثلاثة ، فالجامع الصالح للانطباق على تمام هذه الأطراف الثلاثة هو عنوان « أحد الأواني الثلاثة » ، وهذا الجامع معلوم تفصيلا ؛ وذلك لأنّ العلم بالجامع يعني العلم بوجود الكلّي الطبيعي والذي يتحقّق بوجود أحد أفراده ، فإذا علمنا بوجود فرد للكلّي فهذا يعني العلم بوجود الكلّي ، وفرض الكلام أننا نعلم بوجود فرد للكلّي ، غايته أنّ الفرد غير متشخّص إلا أنّ ذلك لا يوجب غموضا من ناحية وجود الكلّي ، مثلا لو كنّا نعلم بوجود فرد من الإنسان فإنّ هذا يساوق العلم بوجود كلّي الإنسان ؛ ولذلك نستطيع أن نقول إننا عالمون بوجود الإنسان في الخارج ، غايته أننا نشك في هوية ذلك الفرد إلاّ أنّه غير الشك في الكلّي كما هو أوضح من أن يخفى.

وأمّا أطراف الجامع فهي الأواني الثلاثة التي نحتمل انطباق الجامع على كل واحد منها.

وأمّا المعلوم بالإجمال فهو الإناء الذي وقعت فيه النجاسة واقعا فهو متقرّر ومتشخص في نفس الأمر والواقع ، إذ أنّ الشيء ما لم يتشخص لا يوجد ، غايته أنّنا نجهل بمشخصاته ، وهذا ما سبّب اتّصافه بالإجمال ، فالإجمال من ناحيتها لا من ناحيته.

ومع اتّضاح المراد من العلم الإجمالي يقع الكلام عن أيّ الأصول

٢٧٠

الجارية في مورده ، فنقول :

إنّ البحث الذي فرغنا عنه هو البحث عن مجرى الأصل في موارد الشك البدوي ، وقد انتهينا إلى جريان البراءة الشرعية في مورده ، ويقع الكلام في المقام عمّا هو الأصل الجاري في موارد الشك المقرون بالعلم الإجمالي أي ما هي الوظيفة العملية تجاه أطراف العلم الإجمالي ، والبحث يقع في جهتين :

الجهة الأولى : فيما هو مقتضى الحكم العقلي.

الجهة الثانية : ما تقتضيه الأصول العملية الشرعية.

٢٧١
٢٧٢

الجهة الأولى

منجّزيّة العلم الإجمالي عقلا :

والبحث في هذه الجهة عن حدود منجّزية العلم الإجمالي بعد الفراغ عن منجّزيّته للجامع لكونه معلوما أي لأنّه متعلّق العلم الإجمالي ، والعلم حجّة بذاته فينجّز معلومه بلا ريب.

إنّما الكلام في حدود هذا التنجيز وهنا ثلاثة احتمالات ثبوتية :

الاحتمال الأول :

أنّ المنجّز بالعلم الإجمالي هو الواقع بمعنى أنّ الجامع المعلوم لمّا كان له منطبق واقعا وفي نفس الأمر ـ وهو متعلّق الجامع واقعا ـ فيكون هو المنجّز بالعلم.

وبعبارة أخرى : إنّ العلم يعني الصورة الذهنيّة الحاضرة بنفسها في الذهن ، وهذه الصورة الذهنية تحكي عن متعلّقها وهو المعلوم ، ولو تأمّلنا في موارد العلم الإجمالي لرأينا أنّ الصورة الذهنيّة تحكي عن الواقع الشخصي لمعلومها ومتعلقّها ؛ وذلك لأنّه متى ما تعلّق العلم بالواقع الخارجي فإنّ العلم ـ وهو الصورة الذهنيّة ـ تكون مسانخة لمعلومها ، ولمّا كان معلومها متشخصا في نفس الأمر والواقع باعتبار العلم بالوجود الخارجي ـ والشيء ما لم يتشخص لا يوجد ـ فهذا يقتضي أنّ المعلوم الخارجي والذي نحرز وجوده متشخص في نفسه ، ولهذا ـ وبمقتضى التسانخ

٢٧٣

بين العلم والمعلوم ـ تكون الصورة الذهنيّة ـ الحاكية عن معلومها ـ في موارد العلم الإجمالي شخصية تبعا لشخصية متعلقها ومعلومها.

فمتعلّق العلم الإجمالي إذن هو الواقع المتشخّص في نفسه والمتميّز في واقعه ، فإذا كان العلم الإجمالي هو نجاسة أحد الإنائين فمتعلّق هذا العلم هو الإناء الذي وقعت فيه النجاسة واقعا ، فلو كان هو الإناء الأول فمتعلّق العلم هو الإناء الأول ، فهذا عين ما لو كنّا نعلم علما تفصيليا بوجود زيد فمتعلّق العلم هو وجود زيد ، غايته أنّه في موارد العلم الإجمالي تكون في الصورة الذهنيّة الحاكية عن متعلّقها ضبابيّة وهذه الضبابيّة هي التي جعلت من العلم إجماليّا بمعنى أنّ واقع متعلّق العلم ليس فيه تشويش بل هو متعيّن ، والعالم إجمالا يعرف ذلك إلا أنّ الصورة الذهنية في موارد العلم الإجمالي تكون حكايتها وكاشفيتها عن المعلوم المحدد واقعا مشوشة وليست صافية.

ويمكن تنظير ذلك بالمرآة المتكدرة ، فإنّ الصورة المنطبعة في المرآة ليست هي الجامع بحدّه الوسيع بل هي منطبق الجامع ، وهي الذات المتشخّصة في نفسها الواقفة أمام المرآة ، غايته أنّ المرآة لمّا كانت متكدّرة فإنّها لا تكشف عن تمام معالم الذات الواقفة أمام المرآة ، نعم المنكشف بواسطة المرآة هو رجل مثلا.

وباتّضاح معنى أنّ متعلّق العلم الإجمالي هو الواقع يتّضح منشأ دعوى أنّ المنجّز بالعلم الإجمالي هو الواقع ، إذ أنّ العلم إنّما ينجّز معلومه باعتبار كشفه عنه ولا منكشف في موارد العلم الإجمالي إلا ذلك الفرد المتعيّن في حدّ ذاته والذي هو الإناء الأول في مثالنا ، إذ هو الإناء الذي عرضته النجاسة واقعا ، فهو المنجّز بالعلم الإجمالي إذن ، إلا أنّه باعتبار عدم تشخص ذلك الواقع للمكلّف يحكم العقل بلزوم الإتيان بتمام أطراف العلم

٢٧٤

الإجمالي ليحرز بذلك امتثال الواقع ، فيكون الإتيان بسائر الأطراف مقدمة علميّة لإحراز الخروج عن عهدة الواقع المتنجّز بالعلم الإجمالي.

فلو كان للمكلّف علم إجمالي بوجوب قضاء أحد صلاتين إمّا الظهر وإمّا المغرب فإنّه ـ بناء على هذا الاحتمال ـ يكون ملزما بالإتيان بكلا الصلاتين ، وذلك لإحراز امتثال الواقع المتنجّز.

وبعبارة أخرى : يكون ملزما بالموافقة القطعيّة والتي هي عبارة عن الإتيان بتمام أطراف العلم الإجمالي ، وذلك يوجب القطع بالخروج عن عهدة التكليف الواقعي المتنجّز.

الاحتمال الثاني :

أنّ المنجّز بالعلم الإجمالي هو كلّ الأطراف الواقعة في دائرة العلم الإجمالي ؛ وذلك لأن متعلّق العلم الإجمالي هو الجامع ، ولمّا كانت نسبة الجامع إلى كلّ واحد من أطرافه على حدّ النسبة بينه وبين الطرف الآخر ، فهذا يقتضي أن يكون العلم بالجامع منجّزا لتمام الأطراف.

وقد تقول إنّ واقع الجامع هو أحد الأطراف لا كلّ الأطراف فلماذا تكون تمام الأطراف منجزة؟

قلنا إنّ ذلك لا يبرّر انطباق الجامع على الطرف الواقعي بعد أن كانت نسبته إلى بقية الأطراف كنسبته إلى الطرف الواقعي.

وبعبارة أخرى : إن العلم ينجّز معلومه ، والطرف الواقعي ليس معلوما بنفسه وإنّما المعلوم هو الجامع ، ولمّا كانت نسبته إلى أطرافه واحدة فهذا يقتضي تنجّز الجميع بذلك.

وبهذا تكون الموافقة القطعية ـ بناء على هذا الاحتمال ـ واجبة بنفسها لا باعتبارها مقدمة علمية لإحراز الامتثال بل لأنّ المعلوم هو الجامع

٢٧٥

فيكون متنجّزا وهذا التنجّز يسري إلى تمام أطرافه.

الاحتمال الثالث :

أنّ المتنجّز بالعلم الإجمالي هو الجامع ولكن يكون التنجيز بمستوى ذلك الجامع ، فلو كان الجامع هو أحد الطرفين فإنّ المتنجّز هو أحدهما فحسب ، وإن كان الجامع هو ثلاثة من مجموع الأطراف العشرة فإن المتنجّز هو ثلاثة لا بعينها.

مثلا لو كان العلم الإجمالي هو نجاسة أحد الإنائين لكان الواجب اجتناب واحد من الإنائين لا بعينه ، ولو كان العلم الإجمالي هو نجاسة ثلاثة من الأواني العشرة فالجامع هو الثلاثة من العشرة وبالتالي يكون الواجب هو اجتناب ثلاثة من الأواني لا بعينها ، إذ هو مستوى ومقدار المعلوم فلا يثبت التنجّز لأكثر من ذلك ؛ لانّه بناء على هذا الاحتمال لا يسري التنجّز من الجامع إلى أطرافه بل يقف التنجّز عند حدود الجامع.

وبتعبير آخر : إنّ العلم من المفاهيم ذات الإضافة وهذا يقتضي استحالة أن يكون هناك علم بلا معلوم كما يستحيل أن تكون قدرة بلا مقدور ، فلا يقال إنّ زيدا قادرا إلا أن يكون هناك شيء مقدور له ، وهكذا العلم والذي هو بمعنى الرؤية فلابدّ من مرئي يكون متعلّق الرؤية.

وإذا تمّت هذه المقدمة يثبت أنّ متعلّق العلم الإجمالي هو مقدار المعلوم بالإجمال وإلا لكان العلم أوسع من متعلقه وهذا ينافي كون العلم من المفاهيم ذات الإضافة.

وبهذا يتضح عدم سريان الجامع إلى أطرافه وإلا لكان علما تفصيليّا ، أي أنّ العالم بالإجمال يبقى عالما بالمقدار المعلوم بالإجمال وجاهلا بموضع استقراره ، وافتراض سريان الجامع إلى الأطراف يقتضي تحوّل العلم

٢٧٦

الإجمالي إلى علم تفصيلي ، وإذا كان العلم بالجامع لا يسري إلى أطرافه فالتنجّز أيضا الثابت للجامع لا يسري إلى أطرافه.

ومن هنا فالمتنجّز هو مقدار الجامع ومع الالتزام بمقدار الجامع تنتفي المخالفة القطعية ؛ وذلك لأنّ المخالفة القطعيّة لا تكون إلاّ بترك امتثال مقدار الجامع المعلوم.

فلو كان يعلم بنجاسة ثلاثة من عشرة أواني فإن المخالفة القطعية تحصل بأحد أمرين ، إمّا أن يستعمل كل الأطراف العشرة وإمّا أن يستعمل مقدارا يتجاوز مقدار الجامع كأن يستعمل ثمانية من تلك الأواني أو تسعة.

أو كان يعلم بوجوب صلاتين من ثلاث صلوات « الظهر والمغرب والصبح » فلو ترك تمام الصلوات الثلاث فهو مخالف قطعا للتكليف المعلوم بالإجمال وكذلك لو جاء بصلاة وترك صلاتين فإنه يقطع بالمخالفة ؛ إذ أنّ مقدار الجامع صلاتان وما جاء به إنما هي صلاة واحدة.

إذن المخالفة القطعية ـ بناء على هذا الاحتمال ـ غير جائزة ؛ وذلك لأنّها تستوجب القطع بمعصية المولى جلّ وعلا ، نعم المخالفة الاحتمالية لا ضير فيها بناء على هذا المبنى ؛ وذلك لأنّ الواجب هو الإتيان بمقدار الجامع ـ كما قلنا ـ وهو يتحقّق بالإتيان بمقدار ما هو المعلوم بالإجمال ، وبه تتحقق الموافقة الاحتمالية والتي تعني احتمال مطابقة ما جاء به للمعلوم بالإجمال.

وهذا الاحتمال ـ والذي يبني على أنّ المتنجّز بالعلم الإجمالي هو مقدار الجامع ـ هو ما تبناه المصنّف رحمه‌الله إلا أنّه التزم بوجوب الموافقة القطعية في موارد العلم الإجمالي وذلك لمنجزية الاحتمال كما هو مقتضى مسلك حق الطاعة ، فمنجزيّة الزائد عن مقدار الجامع لم تنشأ عن العلم الإجمالي وإنّما نشأت عن مبناه في حدود حق الطاعة وأن دائرته تتسع لمطلق الانكشاف

٢٧٧

الشامل للانكشاف بمرتبة الاحتمال.

ولمّا كانت الأطراف الأخرى الزائدة عن مقدار الجامع محتملة المطابقة للواقع فهذا الاحتمال منجّز ، وبه يلزم المكلّف الاحتياط في مورده ما لم يكن مؤمّن عنه ، وفي المقام لا مؤمّن كما هو واضح لعدم جريان البراءة الشرعية في موارد الشك المقرون بالعلم الإجمالي.

وأمّا بناء على مسلك المشهور من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في موارد الشك والاحتمال فإنّه لا يكون المكلّف ملزما في حالات العلم الإجمالي بالموافقة القطعية ، بل اللازم امتثاله هو مقدار الجامع ؛ لأنّه هو المعلوم وبالتالي يكون خارجا موضوعا عن القاعدة ، وأمّا الأطراف الزائدة عن مقدار الجامع فموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان متحقق في موردها ، ومن هنا تجري البراءة العقليّة عنها.

والنتيجة أنّه ـ بناء على مسلك حق الطاعة ـ تحرم المخالفة القطعيّة وتجب الموافقة القطعية.

أمّا حرمة المخالفة القطعية ـ والتي تعني عدم الالتزام بمقدار الجامع ـ فمنشؤها العلم الإجمالي ، وأمّا وجوب الموافقة القطعية ـ والتي تقتضي الالتزام بالأطراف الزائدة عن مقدار الجامع ـ فمنشؤها هو منجزيّة الاحتمال.

وأمّا بناء على مسلك المشهور فتحرم المخالفة القطعيّة ولا تجب الموافقة القطعيّة ؛ لجريان البراءة العقليّة في الأطراف الزائدة عن مقدار الجامع.

٢٧٨

الجهة الثانية

جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي :

ويقع البحث عن هذه الجهة في ما هو مقتضى أدلّة الأصول الشرعية المؤمّنة ، وهل أنّها تجري في موارد الشك المقرون بالعلم الإجمالي أو لا؟

والبحث في مقامين :

المقام الأول : هو مقام الثبوت :

وهل أنّه يمكن جريان الأصول الشرعيّة المؤمّنة في تمام أطراف العلم الإجمالي؟

ذهب المشهور إلى عدم إمكان ذلك واستدلوا على ذلك بدليلين :

الدليل الأول : هو أنّ إجراء الأصول المؤمّنة في تمام أطراف العلم الإجمالي يلزم منه المنع عن حجيّة القطع ؛ وذلك لأنّ التأمين عن تمام الأطراف يعني الإذن في المخالفة القطعيّة للحكم المقطوع بتنجّزه بحكم العقل ، وهذا يعني الإذن في المعصية والذي يحكم العقل بقبحه.

والجواب : إنّ هذا الدليل أشبه شيء بالمصادرة ، إذ أنّ البحث عن إمكان الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي معناه البحث عن أنّ منجّزيّة العلم الإجمالي هل هي مطلقة أو معلّقة على عدم الترخيص الظاهري؟ فإذا قلنا باستحالة الترخيص لتمام الأطراف فهذا هو عين الدعوى التي نبحث عن دليلها ، إذ أنّ معنى استحالة الترخيص هو أنّ منجزيّة العلم الإجمالي

٢٧٩

مطلقة وليست معلّقة ، حيث إنّ من الواضح أنّ المنجّزية لو كانت معلّقة على عدم الترخيص لما كان الترخيص في تمام الأطراف مستحيلا وذلك لأنّه في مثل هذا الفرض لا يكون الترخيص منافيا لمنجزية العلم الإجمالي ؛ إذ أنّ المنجّزية مقيدة بعدم الترخيص فإذا ورد الترخيص انتفى قيد المنجّزيّة فيكون الترخيص ـ بتعبير آخر ـ رافعا لموضوع المنجّزية ، إذ أنّ موضوعها عدم الترخيص فيكون ثبوت الترخيص ـ معدما لموضوعها ، وبهذا يتضح أنّ هذا الدليل ليس إلاّ مصادرة.

الدليل الثاني : هو استحالة عروض اللزوم والترخيص على موضوع واحد حيث يلزم منه اجتماع حكمين متضادين على موضوع واحد.

وأمّا كيف يلزم من القول بإمكان الترخيص في تمام الأطراف اجتماع حكمين متنافيين على موضوع واحد؟ فهو لأنّ العلم الإجمالي يعني القطع بوجوب المعلوم بالإجمال فإذا رخّص المولى في ترك تمام الأطراف فهذا يعني الترخيص في ترك امتثال الوجوب لمتعلّق المعلوم بالإجمال ، ومؤدى ذلك هو اجتماع الوجوب ـ والذي هو إلزامي ـ مع الترخيص على موضوع واحد وهو المعلوم بالإجمال.

وهذا الدليل يختلف عن الدليل الأول من جهة أنّ الدليل الأول متكىء على تقبيح العقل للترخيص في المعصية.

وأمّا الدليل الثاني فمنشؤه هو حكم العقل باستحالة اجتماع الضدين ، فالأول إذن من مدركات العقل العملي والثاني من مدركات العقل النظري.

والجواب : هو أنّ هذا الدليل إنّما يتم لو كان الحكم بوجوب المعلوم بالإجمال والترخيص في ترك تمام الأطراف متواردين على موضوع واحد ،

٢٨٠