شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

الشبهة » (١).

وهذه الرواية كالرواية الأولى ، إذ أنّها رتبت الأورعية على الوقوف عند الشبهة ، فلو كانت الأورعية واجبة للزم تحصيلها بواسطة الوقوف عند الشبهة إلاّ أنّ الكلام في وجوب الأورعيّة وما هو الدليل عليه.

ومنها : خبر حمزة بن طيار أنّه عرض على أبي عبد الله عليه‌السلام بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها قال له : كفّ واسكت ، ثمّ قال عليه‌السلام :

« لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه والتثبت والرد إلى أئمّة الهدى حتى يحملوكم فيه على الحقّ ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق ، قال الله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) » (٢).

وهذه الرواية وإن كانت تامّة الدلالة من حيث لزوم الكفّ والتثبّت عند عدم العلم وأنّه لا يسع المكلّف غير ذلك إلاّ أنّ دلالتها على لزوم الكفّ إنّما هو في حالة عدم مراجعة المعصوم عليه‌السلام ، وأمّا بعد المراجعة وعدم العثور على ما يوجب رفع الجهل فإنّ الرواية ساكتة عن بيان حكم هذه الحالة ، وهذه الحالة الثانية هي التي يدعي القائلون بالبراءة جريان البراءة الشرعيّة فيها ، إذ أنّهم يشترطون في صحّة جريان البراءة الفحص عن الحكم الواقعي من الأدلّة ، ولا بدّ أن يكون الفحص تاما ومستقصيا لتمام الموارد

__________________

(١) الوسائل باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٣٨ ، وقد رواها الشيخ الصدوق في الخصال بسند متّصل إلى أبي شعيب ثمّ رفعها أبو شعيب إلى أبي عبد الله عليه‌السلام.

(٢) الوسائل باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٣ ، وليس فيها إشكال إلاّ من جهة راوي الحديث ، وهو معتمد لورود روايات تدلّ على رضا الإمام الصادق عليه‌السلام عنه ـ وفيها ما هو معتبر ـ فقد ورد في معتبرة هشام بن سالم أنّ الإمام عليه‌السلام قال عنه بعد موته « رحمه‌الله ولقّاه نضرة وسرورا فقد كان شديد الخصومة عنّا أهل البيت ».

٢٤١

التي يحتمل العثور فيها على دليل كاشف عن التكليف الواقعي ، أمّا قبل الفحص فيجب التثبت والكف عن الوقوع في الشبهة.

[ الاستدلال برواية عند الشبهه ]

ومنها : رواية أبي سعيد الزهري عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » (١).

وما يمكن أن يقرّب به الاستدلال لصالح القائلين بالاحتياط هو أنّ المكلّف في موارد الشبهة لا يخلو عن أحد حالتين ، إمّا أن يقف عند الشبهة وهو معنى آخر للاحتياط وإمّا أن لا يعتني بالشبهة فيقع في الهلكة ، ومن الواضح أنّ الوقوع في الهلكة عبارة أخرى عن استحقاقه للعقاب وهذا ما يعني مسؤوليته عن التكاليف الواقعيّة المشكوكة والمشتبهة ، ولا يخرج عن هذه المسؤوليّة إلاّ بالالتزام بالحالة الأولى وهي الوقوف عند الشبهة ، وهو معنى آخر للزوم الاحتياط وعدم صحّة إجراء البراءة في موارد الشبهة.

والجواب عن تقريب الاستدلال بالرواية :

إنّ هذه الرواية إمّا مجملة وإمّا ظاهرة في الردع عن الوقوع في الشبهات الاعتقاديّة التي يثيرها أهل الضلال وبيان ذلك :

أنّ الشبهة في اللغة تعني المماثلة والمشاكلة ، وقد شابه زيد عمروا في سمته أي حاكاه وماثله ، وهذا الشيء شبيه لذلك الشيء أي مثله وعلى شاكلته قال الله تعالى على لسان بني إسرائيل : ( إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا ) (٢).

وتطلق الشبهة عادة في ألسنة الروايات على ما يقابل الحقّ ، وإطلاق

__________________

(١) الوسائل باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٢ ، والرواية ساقطة عن الاعتبار ، إذ لم نجد لأبي سعيد الزهري ذكرا في كتب الرجال ، فهو مهمل.

(٢) سورة البقرة آية ٧٠.

٢٤٢

عنوان الشبهة على ذلك باعتبار أنّها تتصوّر بصورة الحق وتأخذ بعض سماته الصوريّة فيوجب ذلك المشابهة والمماثلة في نظر أصحاب العقول الضعيفة والتي لم تقف على كنه الحقّ ، فتحسب الباطل حقا لتلبّسه بصورة الحقّ ؛ وما ذلك إلاّ لأنّ أهل الضلال أضفوا على باطلهم حجابا ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب.

والذي يؤيد ما ذكرناه من معنى الشبهة هو ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال لابنه الإمام الحسن عليه‌السلام « وإنّما سمّيت الشبهة شبهة لأنّها تشبه الحق ، فأمّا أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى ، وأمّا أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى » (١).

ومن هنا يكون ظاهر الرواية هو التصدّي للردع عن الوقوع في شبهات أهل الضلال وأنّ الوقوع في الشبهات يوجب الهلكة والتي تعني السخط الإلهي ، فتكون الرواية ـ بناء على هذا الاستظهار ـ أجنبيّة عن محلّ البحث.

وأمّا مع عدم قبول هذا الاستظهار فاستظهار المعنى الأول غير ممكن ؛ وذلك لأنّ الشبهة وإن كانت تطلق على الشك باعتبار أنّ الشك يؤول إلى التحيّر ، والشبهة كثيرا ما توجب التحيّر ، فالشبهة إذن توجب في أحيان كثيرة الشك إلاّ أنّه مع ذلك لا معيّن لإرادة الشك من الشبهة في الرواية الشريفة وهذا ما يقتضي الإجمال في الرواية ، وبه يسقط الاستدلال بها على لزوم الاحتياط في موارد الشك في التكليف الواقعي.

وقد أجاب جمع من الأعلام على الاستدلال بهذه الرواية بجواب

__________________

(١) الوسائل باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٢٤.

٢٤٣

آخر ، وحاصله :

أنّ ظاهر الرواية هو وجود تكاليف منجّزة في مرحلة سابقة عن هذا التحذير ، وذلك بقرينة التعبير بالوقوع في الهلكة ، والذي يستبطن وجود محاذير متقرّرة يكون تجاوزها موجبا للوقوع في الهلكة ، فهي نظير ما لو أمر المولى عبده بإنجاز بعض الأعمال على نحو اللزوم ثمّ في خطاب آخر حذّره من مخالفة أمره ، فهنا التحذير إنّما هو عن تكليف متنجّز بمنجّز آخر سابق على هذا التحذير.

وإذا كان هذا هو ظاهر الرواية فهي غير صالحة للاستدلال بها على وجوب الاحتياط الذي نبحث عنه ؛ وذلك لأنّ الاحتياط المبحوث عنه هو الاحتياط الرافع بنفسه لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ أنّ مفاد هذه القاعدة هو أنّ العقل يدرك أو يحكم بكون المكلّف في سعة من جهة التكاليف المشكوكة ما لم يقم دليل شرعي على تنجيز التكاليف المشكوكة ، فلو دلّت أدلة الاحتياط على تنجّز التكاليف غير المعلومة فلابدّ حينئذ من رفع اليد عن هذه القاعدة العقليّة ، وبناء على ذلك تكون أدلّة الاحتياط بنفسها موجبة لتنجيز التكليف غير المعلوم لا أنّ التكليف غير المعلوم يكون منجّزا بمنجّز آخر سابق على الاحتياط الشرعي.

وما هو ظاهر الرواية ـ كما ذكرنا ـ هو أنّ التكليف المشكوك منجّز في مرحلة سابقة على الاحتياط فلا تكون الرواية من أدلّة الاحتياط الشرعي والذي ينجّز التكاليف المجهولة بنفسه ويقتضي بنفسه انتفاء موضوع القاعدة العقليّة ، وبهذا يتّضح أنّ التحذير في الرواية إنّما هو عن مخالفة التكاليف المتنجّزة بمنجّزات سابقة كالعلم الإجمالي مثلا.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ هذا الجواب مبني على الإيمان بقاعدة قبح

٢٤٤

العقاب بلا بيان.

ومنها : رواية جميل بن صالح عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « الأمور ثلاثة ، أمر بيّن لك رشده فاتبعه ، وأمر بيّن لك غيّه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله » (١).

وتقريب الاستدلال بالرواية :

إنّ الرواية ظاهرة في انحصار الأشياء في هذه الأمور الثلاثة ، ولا ريب أنّ الشبهات الحكميّة ليست من الأول ولا من الثاني فيتعيّن أنّها من القسم الثالث.

ومن هنا يجب ردّها إلى الله جلّ وعلا ، والردّ إلى الله تعالى لا يكون إلاّ بالتحرّز عمّا يحتمل مخالفته لأوامر الله عزّ وجل الواقعيّة وإلاّ فلا سبيل غير ذلك للتعرّف على حكم الله تعالى بعد افتراض أنّها شبهة حكمية.

وبهذا تكون الرواية من أدلّة الاحتياط الشرعي.

__________________

(١) الوسائل باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٢٨ ، والإشكال في الرواية من جهة الحارث بن محمد بن النعمان الأحول حيث لم يرد فيه توثيق ، وقد نقل عن الوحيد البهبهاني توثيقه برواية ابن أبي عمير عنه إلاّ أنّ ذلك لم يثبت ، نعم روى ابن أبي عمير عن الحارث بواسطة الحسن بن محبوب ، ولعلّ هذا هو مقصود الوحيد رحمه‌الله إلاّ أنّ الإشكال على ذلك هو أنّه لا دليل على أنّ كلّ من وقعوا في طريق ابن أبي عمير إلى الإمام عليه‌السلام فهم ثقات ؛ إذ أنّ كلام الشيخ الطوسي رحمه‌الله في العدّة لا يدلّ على أكثر من وثاقة مشايخ ابن أبي عمير المباشرين ، على أنّ الطريق الوحيد الذي يمكن الاستدلال به على رواية ابن أبي عمير عن الحارث الأحول بواسطة ابن محبوب هو طريق الشيخ رحمه‌الله في ترجمة ابن الأحول وهو ضعيف بأبي المفضّل الشيباني ، فلم يثبت أنّ ابن أبي عمير قد روى عن الحارث بواسطة ابن محبوب ، وبهذا تسقط الرواية عن الاعتبار.

٢٤٥

والجواب عن الاستدلال بهذه الرواية :

وقد أجاب المصنّف رحمه‌الله عن الاستدلال بهذه الرواية بجوابين :

الجواب الأول :

إنّ من المحتمل قويا أن يكون المراد من الردّ إلى الله تعالى هو الرجوع إلى كتاب الله جلّ وعلا وسنة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لأنّهما الوسيلة للتعرّف على حكم الله تعالى ، فيكون الرد بمعنى استنطاق آيات الكتاب العزيز وما ورد عن النبي والمعصومين عليهم‌السلام.

وعلى هذا فيكون معنى الرواية هو أنّ الأمور تارة تكون واضحة الرشد أو واضحة الفساد وهذه لا تحتاج إلى تبيّن ، وهناك أمور خفيّة ومثار للخلاف ، فهذه يجب ردّها إلى الله جلّ وعلا ، والردّ إلى الله تعالى لا يكون إلاّ بواسطة الوسائل التي جعلها الله طريقا لمعرفة أحكامه فلا يجوز الاعتماد على الحدس والظنون والتي هي موجبة لمحقّ الدين كما ورد في روايات أخرى ، وبهذا لا تكون الرواية متّصلة بمحل البحث.

والجواب الثاني :

هو أنّ الشبهات الحكميّة بعد قيام الدليل القطعي على جريان البراءة الشرعيّة فيها لا تكون من الأمور المختلف فيها والتي يجب الاحتياط في موردها بل هي من الأمور البيّنة الرشد ، أي أنّ حكمها وهو البراءة بيّن الرشد ، فلا يتمّ الاستدلال بالرواية حتى بناء على أنّ الردّ هو الاحتياط.

وكيف كان فلا يوجد من الروايات ما يصلح أن يكون دليلا على وجوب الاحتياط في موارد الشك في التكليف الواقعي.

ومن هنا فلا تصلح هذه الأدلّة وما يماثلها ـ ممّا لم نذكره ـ أن تعارض أدلّة البراءة الشرعيّة ، ومع افتراض تحقّق التعارض بين أدلّة البراءة وأدلّة

٢٤٦

الاحتياط فإن الترجيح يكون مع أدلّة البراءة ؛ وذلك أولا لأنّ البراءة مستفادة من القرآن كقوله تعالى : ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (١) ، وأمّا وجوب الاحتياط فهو مستفاد من أخبار آحاد وقد ثبت في بحث التعارض أنّ الدليل القرآني إذا عارضه خبر الواحد فإنّ الدليل القرآني هو المقدّم ، وبذلك تسقط الحجيّة عن خبر الواحد فلا يكون صالحا لإثبات مؤداه.

وثانيا : إنّ العلاقة بين دليل الاحتياط ودليل البراءة هي علاقة العام والخاص ؛ وذلك لأنّ دليل الاحتياط يأمر بالاحتياط في موارد الشبهات البدويّة والشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، وأمّا دليل البراءة فمؤداه هو جريان البراءة في خصوص موارد الشبهات البدويّة.

ومن هنا يمكن الجمع العرفي بينهما ، وذلك بواسطة حمل العام وهو دليل الاحتياط على الخاص وهو دليل البراءة وهذا يعني تقديم أدلّة البراءة على الاحتياط في موارد الشبهات البدويّة وتبقى أدلّة الاحتياط مثبة لوجوب الاحتياط في موارد الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

وثالثا : لو سلمنا باستحكام التعارض بين دليلي الاحتياط والبراءة ـ وعدم وجود ما يقتضي تقديم أدلّة البراءة ـ وترتّب على ذلك سقوط الدليلين عن الحجيّة فإن بالإمكان الرجوع إلى أدلّة الاستصحاب والتي هي أعم من دليلي البراءة والاحتياط ، ومن الواضح أنّ الاستصحاب ـ كما تقدّم ـ يقتضي عدم حدوث التكليف المشكوك ، وبهذا تكون نتيجته كنتيجة البراءة.

وبيان ذلك : إنّ دليل الاستصحاب أعم من دليل الاحتياط ؛ وذلك

__________________

(١) سورة التوبة آية ١١٥.

٢٤٧

لأنّ دليل الاستصحاب ـ مثل قول أبي عبد الله عليه‌السلام في صحيحة زرارة « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر » (١) ـ يشمل مثل موارد الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة ، وأمّا الاحتياط فهو مختص بموارد الشبهات الحكميّة ، وإذا كان كذلك فالمقدّم هو دليل الاحتياط في موارد الشبهات الحكميّة حملا للعام على الخاص ، إلاّ أنّ دليل الخاص « الاحتياط لمّا كان مبتليا بما يعارضه وهو دليل البراءة فحينئذ لا يصلح لتخصيص دليل الاستصحاب ؛ وذلك لسقوطه مع دليل البراءة بالتعارض ، فيبقى عموم دليل الاستصحاب على حاله ، وباعتبار أنّ دليل الاستصحاب يثبت عدم حدوث التكليف المشكوك فهذا يعني أنّه ينتج نتيجة البراءة الشرعيّة وهو التأمين عن التكليف المشكوك.

ولغرض توضيح المطلب أكثر نذكر هذا المثال :

لو ورد دليل مفاده « أكرم كلّ العلماء » ثمّ ورد مخصّص لهذا الدليل مفاده « لا تكرم فسّاق العلماء » فإن هذا الدليل المخصّص يقتضي تخصيص عموم العام فتكون النتيجة هي وجوب إكرام العلماء العدول إلاّ أنّه لو ورد ما يعارض دليل المخصّص مثلا « فساق العلماء يجب إكرامهم » فإنّ المخصّص وهو « لا تكرم فسّاق العلماء » يسقط عن الحجيّة بسبب ورود ما يعارضه ، وبهذا لا يكون صالحا لتخصيص العام ، فيبقى عموم العام على حاله فيكون الواجب هو إكرام جميع العلماء.

والمقام من هذا القبيل ؛ وذلك لأنّ المخصص لدليل الاستصحاب العام سقط بسبب ابتلائه بالمعارض وهو دليل البراءة فيبقى دليل العام صالحا لنفي التكليف المشكوك بواسطة استصحاب عدم حدوثه.

__________________

(١) الوسائل باب ١ من أبواب نواقض الوضوء ح ١.

٢٤٨

تحديد مفاد البراءة

ويقع البحث في المقام عن بيان حدود مجرى هذا الأصل بعد أن ثبتت حجيّته في الجملة وأنه رافع لموضوع الاحتياط العقلي.

والبحث عن حدود مجرى هذا الأصل يقع في جهات :

الجهة الأولى : البراءة مشروطة بالفحص :

والبحث في هذه الجهة عن أن جريان البراءة هل هو مشروط بالفحص في الأدلّة التي يحتمل العثور فيها على ما يرفع الشك أو أنّ مجرى هذا الأصل هو عدم العلم مطلقا؟ فبمجرّد أن يكون المكلّف جاهلا بالتكليف فإنّ له أن يجري أصل البراءة عن ذلك التكليف دون الحاجة إلى أن يتعب نفسه ويكلّفها مؤنة البحث والتنقيب في الأدلّة التي يحتمل العثور فيها على ما يثبت التكليف المشكوك.

قد يقال ذلك باعتبار أنّ بعض أدلّة البراءة مطلقة من هذه الجهة ، وذلك كحديث الرفع حيث رتّب فيه الرفع على عدم العلم دون التقييد بالفحص ، وهذا ما يقتضي صحّة إجراء البراءة قبل الفحص.

إلاّ أنّه يجاب عن هذه الدعوى بأنّ الإطلاق غير مقصود حتما ؛ وذلك لدلالة بعض أدلّة البراءة على لزوم الفحص قبل إجراء البراءة فلابدّ

٢٤٩

من تقييد إطلاق حديث الرفع لو تمّ له إطلاق.

وبيان ذلك :

إنّ المستفاد من قوله تعالى ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١) أنّ البراءة تجري في حالات عدم البيان ؛ وذلك لأنّ عنوان الرسول في الآية ذكر كمثال للبيان ، ومن الواضح أنّ البيان لا يعني حصول العلم الاتفاقي بالتكليف بل هو يعني توفير ما يقتضي العلم بالتكليف ، فإذا هيّأ الله تعالى أسباب العلم بالتكاليف فإنّ له الحجّة على عباده وله أن يعاقبهم على ترك التكاليف ؛ وذلك لأنّه تعالى بيّن لهم تلك التكاليف عن طريق بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصب الأئمة المعصومين عليهم‌السلام أو إيصال آثارهم ومأثوراتهم وجعل الحجيّة والدليليّة لتلك الآثار قال الله تعالى ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (٢).

ومن الواضح أنّ الرسل عليهم‌السلام لا يطرقون باب كلّ مكلّف ليعلّموه أحكام الله جلّ وعلا بل إنّ نفس بعثهم وتصديهم للتبليغ كاف في صدق البيان والإيصال للأحكام.

وبهذا الإيصال تكون الغاية التي علّق عليها نفي العذاب منتفية ؛ إذ أنّ نفي العذاب في الآية المباركة علّق على عدم البيان فمع وجود البيان لا دليل على انتفاء استحقاق العذاب بل بمقتضى مفهوم الغاية يثبت استحقاق العذاب مع البيان ، نعم لو فحص المكلّف في المواطن التي يحتمل العثور فيها

__________________

(١) سورة الإسراء آية ١٥.

(٢) سورة النساء آية ١٦٥.

٢٥٠

على ما يثبت التكليف فلم يجد ما يثبت التكليف فإنّه يكون من مصاديق منطوق الجملة الغائيّة في الآية المباركة ، أمّا مع عدم الفحص رغم وجود وسائل العلم التي يمكن أن يصل عن طريقها إلى العلم بثبوت التكليف لا يحرز المكلّف ـ في مثل هذه الحالة ـ أنّه من مصاديق منطوق الآية وهي أنّ الله لا يعذبه لأنّه لم يبيّن له بل يحتمل أنّه ممن بيّن له التكليف ، وبذلك يكون مستحقا للعذاب عند المخالفة ، ومن هنا لا بدّ من الفحص لإحراز التأمين من العذاب.

وهكذا الكلام في قوله تعالى ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (١) بنفس التقريب السابق وأنّ البيان الذي علّق على عدمه نفي الإضلال إنّما هو إيجاد أسباب العلم فما لم توجد فلا إضلال ولا عذاب ، ومتى ما كانت أسباب العلم موجودة فإنّ الغاية ـ وهي البيان ـ قد تحقّقت ، وبها يكون المكلّف مستحقا للإضلال والعذاب.

ولكي يحرز المكلّف التأمين من العذاب وأنّه لم يبيّن له لا بدّ من الفحص قبل إجراء البراءة ، وبهذا اتّضح عدم إمكان التمسّك بإطلاق حديث الرفع لنفي لزوم الفحص قبل إجراء البراءة الشرعيّة.

ويمكن أن يستدل على لزوم الفحص قبل إجراء البراءة بالإضافة إلى ما ذكرناه بدليلين :

الأوّل : إنّه قد ذكرنا في الاعتراض الأوّل على أدلّة البراءة أنّ المكلّف لو لاحظ الشبهات الحكميّة لحاظ مجموعيّا لوجد نفسه قاطعا بواقعيّة عدد

__________________

(١) سورة التوبة آية ١١٥.

٢٥١

كبير من هذه التكاليف المشكوكة ، وهذا يعني وجود علم إجمالي أطرافه هي جميع الشبهات الحكميّة ، وذكرنا أنّ المخرج من هذه المشكلة إنّما هو مراجعة الأدلّة والخروج منها بما يثبت عددا من التكاليف تكون بمقدار المعلوم بالإجمال ، وبذلك ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي ـ بتلك التكاليف الثابتة بواسطة الاستنباط والمراجعة للأدلّة ـ وشك بدوي في بقيّة الشبهات الحكمية.

ومن الواضح أنّ هذا الانحلال لا يتمّ إلاّ بواسطة الفحص والتنقيب في الأدلّة عمّا يرفع الشبهة ، أمّا مع عدم الفحص فيبقى العلم الإجمالي منجّزا وموجبا للاحتياط في تمام أطرافه.

الثاني : الروايات الآمرة بالتعلّم وأنّ عدم العلم وحده ليس معذّرا ما لم يسع الإنسان لتحصيل العلم.

ومن هذه الروايات ما ورد في أمالي الشيخ بإسناده عن مسعدة بن زياد قال : سمعت جعفر بن محمد عليه‌السلام وقد سئل عن قوله تعالى ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (١) فقال عليه‌السلام : « إنّ الله تعالى يقول لعبده يوم القيامة : عبدي كنت عالما؟ فإن قال : نعم. قال له : أفلا عملت بما علمت؟! وإن قال : كنت جاهلا. قال : أفلا تعلّمت حتى تعمل؟! فيخصمه ، فتلك الحجّة البالغة » (٢).

ومن هنا تكون مثل هذه الروايات الشريفة صالحة لتقييد إطلاق ما دلّ على صحّة إجراء البراءة في موارد عدم العلم ، فتكون أدلّة البراءة نافية

__________________

(١) سورة الأنعام آية ١٤٩.

(٢) أمالي الشيخ أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي رحمه‌الله ١ / ٨ ـ باب ١ ح ١٠.

٢٥٢

للمسؤولية تجاه التكليف في خصوص حالات عدم العلم الذي لم ينشأ عن عدم التعلّم.

ومبرّر هذا التقييد هو أنّ أدلّة البراءة تنفي المسؤوليّة عن المكلّف في حالات عدم العلم مطلقا أي سواء كان عدم العلم ناشئا عن عدم القدرة على تحصيل العلم أو ناشئا عن التقصير في تحصيل العلم.

ورواية مسعدة بن زياد التي ذكرناها تثبت المسؤولية في حالات عدم العلم الناشئ عن التقصير في تحصيل العلم ، فالعلاقة إذن بين أدلّة البراءة ورواية مسعدة هي علاقة الإطلاق والتقييد.

ومن هنا يمكن الجمع العرفي بينهما وهو أن نقيّد إطلاق أدلّة البراءة بمثل رواية مسعدة ، وبذلك تكون أدلّة البراءة خاصة بموارد عدم العلم بعد الفحص لا عدم العلم مطلقا.

الجهة الثانية : التمييز بين الشك في التكليف والشك في المكلّف به :

ذكرنا فيما سبق أنّ مجرى البراءة هو الشك في التكليف بمعنى أنّ المكلّف إذا كان يشك في فعليّة تكليف ـ سواء كان منشأ الشك هو عدم العلم بأصل الجعل أو كان المنشأ هو عدم العلم بمصداقيّة الموضوع الخارجي للتكليف المعلوم ـ فإنّه في سعة من جهة ذلك التكليف ، أي أنّ البراءة الشرعيّة والعقليّة تجريان في هذا المورد ـ بناء على مسلك قبح العقاب بلا بيان ـ وأمّا بناء على مسلك حق الطاعة فما يجري في مثل هذا المورد هو البراءة الشرعيّة ـ كما ذكرنا ذلك مفصلا.

٢٥٣

أمّا لو كان الشك في المكلّف به ـ أي في متعلّق التكليف ـ كأن كان يعلم بوجوب التصدّق على الفقير إلاّ أنّه يشك في تحقّق الامتثال وعدمه فهنا لا تجري البراءة الشرعيّة ولا العقليّة بل الجاري في مثل هذه الموارد هو أصالة الاشتغال العقلي ؛ وذلك للعلم بالتكليف ، غايته أنّ الشك في تحقّق امتثال التكليف وهو لا يصحّح إجراء البراءة ، إذ أنّ موضوع البراءة هو الشك في التكليف لا الشك في امتثال متعلّق التكليف.

ومن هنا لم يختلف أحّد من الفقهاء في جريان أصالة الاشتغال العقلي والتي تقتضي بقاء ذمّة المكلّف مشغولة بذلك التكليف المعلوم حتى يحرز الخروج عن عهدة ذلك التكليف.

وإحراز الخروج عن عهدة التكليف يتفاوت بتفاوت نوع المتعلّق للتكليف ، فتارة يكون إحراز الفراغ بإعادة المتعلّق ، كما لو صلّى وشك في واجديّة صلاته للشروط المأخوذة في صحتها ـ مع افتراض عدم جريان قاعدة الفراغ في ذلك المورد ـ وتارة يكون إحراز فراغ الذمّة باختيار المصداق المتيقّن مصداقيّته لمتعلّق التكليف ، كما في حالة الشك في فقر زيد والعلم بفقر عمرو فإنّ مقتضى قاعدة الاشتغال هو إعطاء زكاة الفطرة مثلا لعمرو وهكذا ، وهذا التفاوت في كيفيّة إحراز الفراغ عن التكليف المعلوم لا يمثّل تفاوتا واقعيّا بل كلّ الكيفيّات ترجع روحا إلى أمر واحد ، وإنّما ذكرنا ذلك لرفع اللبس عن الطالب ، وبالتأمّل يتّضح ما ذكرناه.

وكيف كان فلا إشكال كبرويا في جريان أصالة الاشتغال العقلي في موارد الشكّ في المكلّف به ، وإنّما الإشكال يقع في تمييز موارد الشك في المكلّف به ، فقد يقع الخلط بين الشك في المكلّف به والشك في التكليف ،

٢٥٤

ومن هنا لا بدّ من التروّي قبل إجراء أحد الأصلين « البراءة أو الاشتغال » وأن المورد هل هو من موارد الشك في التكليف أو الشك في المكلّف به.

التمييز بين مجرى الأصلين في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة :

أمّا التمييز في موارد الشبهات الحكميّة فيتم بواسطة ملاحظة متعلّق الشك « المشكوك » ، فتارة يكون الشك في أصل ثبوت التكليف ، وتارة يكون الشكّ في امتثال التكليف المعلوم أي الشك في امتثال متعلّق التكليف ، والأول هو مجرى أصالة البراءة ؛ لأنّ موضوعها الشك في التكليف وهو كذلك ، ومثاله الشك في حرمة العصير العنبي أو الشك في حرمة ذبيحة الكتابي.

والثاني ـ وهو الشك في امتثال التكليف ـ مجرى لأصالة الاشتغال ، ومثاله أن يعلم المكلّف بتعلّق ذمته بدين ويشك في أدائه فإن اللازم عليه هو أداء الدين خروجا عن عهدة التكليف المعلوم.

وأمّا التمييز في موارد الشبهات الموضوعيّة فهو الذي يحتاج إلى مزيد تأمّل ، وأن المورد هل هو من موارد الشك في فعليّة التكليف حتى تجري البراءة أو هو من موارد الشك في المكلّف به حتى يكون المجرى هو أصالة الاشتغال العقلي؟

ونذكر هنا إشكالا قد يخطر في الذهن : وهو أن الشك في الموضوع لا تجري عنه البراءة ؛ وذلك لأنّ التكليف معلوم دائما في حالات الشك في الموضوع ، فالمكلّف حينما يشك في خمريّة هذا السائل إنّما يشك في مصداقيّة هذا السائل للخمر المعلوم الحرمة ، فلا شك في الحرمة ، وإنّما الشك في الموضوع الخارجي ، ومن هنا كيف نصحّح جريان البراءة والحال أنّ

٢٥٥

موضوعها هو الشك في التكليف؟

والجواب عن هذا الإشكال قد اتّضح ممّا ذكرناه مرارا من أنّ الشك في الموضوع قد يؤول إلى الشكّ في فعليّة الحكم ؛ وذلك لأنّ المكلّف في موارد الشك في الموضوع وإن كان يعلم بالحكم إلاّ أنّه يعلم بأصل جعله أمّا فعليته فهي مشكوكة ، إذ أنّه حينما يشك في مصداقيّة هذا السائل للخمر فهذا يعني أنّه يشكّ في تحقّق موضوع الحرمة ، ومن الواضح أنّ فعليّة الحرمة تابع لتقرّر موضوعها وإحرازه ، فالشك في تحقّق الموضوع يساوق الشك في فعليّة الحرمة لذلك الموضوع.

وإنّما قلنا إنّ الشك في الموضوع قد يؤول إلى الشك في فعليّة الحكم لأنّ الشك في الموضوع قد لا يؤول إلى ذلك.

وتمييز الحالات التي يؤول فيها الشك في الموضوع إلى الشك في فعليّة الحكم عن حالات الشك في الموضوع التي لا تكون كذلك هو الذي يحدّد مجرى أصالة البراءة وأصالة الاشتغال العقلي ، فالحالات التي يؤول فيها الشك في الموضوع إلى الشك في فعليّة الحكم هي مجرى أصالة البراءة والحالات الأخرى مجرى لأصالة الاشتغال العقلي.

وبتعبير آخر : إنّ فعليّة كلّ حكم مقيدة بتحقّق موضوعها خارجا ، والشك في الموضوع عبارة ثانية عن الشك في تحقّق قيد الفعليّة للحكم.

ومن هنا لا بدّ من بيان أنحاء الشك في الموضوع أو قل أنحاء الشك في قيد الفعليّة للحكم :

النحو الأوّل : أن يكون الشك في وجود قيد الفعليّة للحكم خارجا مع العلم بأصل وجود الحكم « الجعل » وأنّه مقيد بذلك القيد.

٢٥٦

ومثاله وجوب صوم شهر رمضان المبارك ، فإن وجوب الصوم معلوم وإنّ فعليته منوطة بحلول شهر رمضان معلومة أيضا إلاّ أنّ الشك يقع في حلول شهر رمضان وعدم حلوله ، أي أنّ الشك في تحقّق قيد الفعليّة خارجا.

وهنا لا إشكال في جريان البراءة الشرعيّة وعدم وجوب الصوم في ذلك اليوم الذي وقع فيه الشك من جهة أنّه من أيّام شهر رمضان أو لا ؛ لأنّ هذا النحو من الشك يؤول إلى الشك في فعليّة التكليف بوجوب الصوم في ذلك اليوم ، وهو موضوع البراءة.

النحو الثاني : أن يكون قيد الحكم معلوم الوجود خارجا في بعض الأفراد ومشكوك الوجود في البعض الآخر ، وهذا النحو على قسمين :

القسم الأوّل : أن يكون الحكم شموليّا أي أنّه منحلّ إلى أحكام بعدد أفراد الطبيعة المجعول عليها الحكم ، وذلك مثل قوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ) (١) فإنّ الحرمة للزنا شموليّة ، أي أنّها منحلّة إلى حرمات بعدد أفراد طبيعة الزنا.

فتارة يعلم المكلّف أنّ وطأ هذه المرأة زنا ، ويشك في صدق الزنا على وطأ المرأة الثانية ، والشك في صدق الزنا على وطأ الثانية يساوق الشك في فعليّة حرمة وطأ هذه المرأة فتجري البراءة عن ذلك ؛ لأنّه شك في التكليف الزائد أي أنّه يعلم بثبوت حرمات بعدد أفراد طبيعة الزنا ويشك أنّ هذا الفرد ممّا ثبتت له حرمة بالإضافة إلى الحرمات الأخرى المعلوم ثبوتها ،

__________________

(١) سورة الإسراء آية ٣٢.

٢٥٧

فهو إذن شك في تكليف زائد فيكون مجرى لأصالة البراءة ، إلاّ انّ جريان أصالة البراءة إنّما هو بقطع النظر عن سائر الأصول الأخرى التي قد تكون مقدّمة على هذا الأصل ، وإنّما قلنا بجريان أصالة البراءة في مقابل أصالة الاشتغال.

ولمزيد من التوضيح نذكر مثالا آخر.

لو قال المولى « أكرم العلماء » فلو أنّ المكلّف يعلم باتصاف بعض بعض الأفراد بصفة العالميّة إلاّ أنّه يشك في أنّ زيدا هل هو متوفّر على صفة العالميّة أو لا ، في مثل هذه الحالة هل يجب إكرام زيد أو لا.

نقول إنّ الوجوب لمّا كان شموليا فهو ينحلّ إلى وجوبات بعدد أفراد المتّصفين بالعالميّة ، فما هو معلوم مصداقيّته لعنوان العالم فإنّه يكون موضوعا لوجوب الإكرام وإنّما الكلام في من يشك في عالميّته هل يجب إكرامه؟

والجواب هو أنّه لا يجب إكرامه بل تجري البراءة عن وجوب إكرامه ؛ لأنّ الشك في عالميّته يساوق الشك في فعليّة وجوب إكرامه فيكون شكا في تكليف زائد على التكاليف المتعدّدة بعدد أفراد طبيعة العلماء ، والشك في التكليف الزائد مجرى لأصالة البراءة.

القسم الثاني : أن يكون الحكم بدليّا أي أنّ المطلوب هو صرف الوجود ، وصرف الوجود يتحقّق بفرد من أفراد الطبيعة المجعول عليها الحكم ، فالمكلّف في سعة من جهة اختيار أي فرد من أفراد تلك الطبيعة.

٢٥٨

ومثاله قوله تعالى ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (١) فإنّ الأمر هنا بدلي ، أي أنّ المطلوب هو صرف الوجود من طبيعة التيمّم وهو يتحقّق بفرد من أفراد التيمّم ، فلو كان المكلّف يعلم بمصداقيّة هذه الكيفيّة للتيمّم ويشك في أنّ الكيفيّة الثانية ـ مثل الضرب مرة واحدة أو التي لا يكون معها علوق ـ هل هي فرد من أفراد طبيعة التيمّم أو لا فإنّ هذا الشك لا يساوق الشك في فعليّة التكليف الزائد ، و

هذا هو المميّز بين هذا القسم والقسم الأوّل.

فحينما يقع الشك في مصداقيّة هذه الكيفيّة للتيمّم فإنّه لا يكون شكا في التكليف الزائد ؛ وذلك لأنّه لو كان هذا الفرد واقعا من أفراد التيمّم لما كان ذلك مستوجبا لثبوت تكليف زائد ؛ لأنّ الوجوب لمّا كان بدليّا فإنّ الواجب حينئذ يكون صرف الوجود.

ومن هنا لا بدّ أن يكون الفرد المأتي به ممّا يحرز أنّه من أفراد الطبيعة المجعول عليها الحكم وإلاّ لا يحرز امتثال المأمور به ، ومع عدم إحراز الامتثال تجري أصالة الاشتغال العقلي.

النحو الثالث : هو الشك في تحقّق متعلّق الوجوب خارجا ، كما لو شكّ في أنّه صلّى صلاة الظهر المعلوم وجوبها أو لم يصلّ ، فالشك هنا متمحّض في تحقّق متعلّق الأمر خارجا ، وبهذا لا يكون محرزا للخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، ومن هنا تجري أصالة الاشتغال.

النحو الرابع : الشك في وجود مسقط شرعي للتكليف ، وقد قلنا ـ في بحث مسقطات التكليف ـ إنّ المسقط الشرعي هو الفعل الذي كشف

__________________

(١) سورة النساء آية ٤٣.

٢٥٩

الشارع عن توفّره على ملاك التكليف ، ومن الواضح أنّه إذا كان وافيا بملاك التكليف فإنّ استيفاء ذلك الملاك يكون مقتضيا لسقوط التكليف.

فلو أنّ المولى أمر عبده بأن يأتيه بماء ليشربه ، وكان غرضه الارتواء فلو علم العبد بعد ذلك عن طريق المولى أنّ الإتيان بالشراب الكذائي موجب لسقوط الأمر بالإتيان بالماء فإنّ الإتيان حينئذ بذلك الشراب يكون وافيا بملاك الأمر وموجبا لسقوطه عن العهدة.

وقد ذكر للمسقطيّة معنيان :

المعنى الأوّل : أخذ عدم المسقط قيدا في الأمر بمعنى إناطة فعليّة الأمر بعدم الإتيان بالمسقط ، كأن يقول المولى هكذا : « يجب عليك الإتيان بالماء إذا لم تأت بالشراب الكذائي » ، ففعليّة الأمر بالماء مقيّدة بعدم الإتيان بالشراب الكذائي.

وحينئذ فلو علم المكلّف بالمسقطيّة فلا كلام إنّما الكلام في حالة الشك في المسقطيّة ، وهذا الشك له صورتان :

الصورة الأولى : أن يكون الشك في أصل ثبوت المسقطيّة شرعا كأن يقع الشك في أن الشارع هل جعل الهدي في الحج موجبا لسقوط الأمر بالعقيقة أو لا؟

والشك هنا بنحو الشبهة الحكميّة ؛ وذلك لأنّه يؤول إلى الشك في أصل ثبوت الجعل الشرعي.

الصورة الثانية : أن يكون الشك في تحقّق المسقطيّة خارجا مع العلم بأصل جعل المسقطيّة شرعا ، كأن يشك في أنّه هل ذبح هديا في الحج أم لا؟ مع علمه بأن ذبح الهدي موجب لسقوط الأمر بالعقيقة.

٢٦٠