شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

وأمّا إسناد الرفع إلى الموضوع فمجازي ؛ وذلك لأنّ صحّة إسناد الرفع إلى الموضوع لا يكون إلاّ بواسطة الحكم.

فحينما يقال رفع السائل المشكوك الخمريّة فإنّ هذا الإسناد يكون مجازيا باعتبار أنّ الرفع فيه قد أسند إلى غير ما هو له ، أي أنّ الرفع لم يسند إلى السائل حقيقة كما هو واضح ، نعم المصحّح لإسناد الرفع إلى السائل هو الحرمة مثلا ، فكأنّه قال « رفعت الحرمة عن السائل المشكوك الخمريّة ».

وبهذا لا يصلح أن يكون معنى الشيء هو الجامع المدلول للاسم الموصول.

الجواب عن هذا الإيراد :

والجواب أنّ إسناد الرفع لكلّ من الحكم والموضوع مجازي ؛ وذلك لأنّ الحكم المرفوع إنّما هو الحكم الظاهري وليس الحكم الواقعي كما اتّضح ذلك من بحث الجهة الأولى.

وإذا كان المرفوع هو الحكم الظاهري فإسناد الرفع إلى الحكم مجازي ؛ وذلك لأنّ الحكم يظلّ ثابتا على المكلّف في ظرف الجهل وعدم العلم ، إذ أنّ أحكام الله مشتركة بين العالم والجاهل ، فالمرفوع عن المكلّف إنّما هو المسؤوليّة تجاه ذلك الحكم وليس الحكم نفسه.

وبهذا يكون إسناد الرفع إلى الحكم مجازي ، وإذا كان كذلك فلا يلزم من إسناد الرفع إلى الجامع الجمع بين إسنادين متباينين في استعمال واحد.

التصوير الثاني للجامع : هو دعوى أنّ مدلول الاسم الموصول هو الحكم المجعول ، أي أنّ المرفوع هو فعليّة الحكم من غير فرق بين أن يكون الشك في فعليّة الحكم ناشئا عن الشك في أصل الجعل ـ أي في

٢٢١

وجود حكم أو عدم وجوده ـ أو يكون ناشئا عن الشكّ في مصداقيّة الموضوع الخارجي لموضوع الحكم المعلوم جعله.

وببيان آخر : إنّ الشك في الحرمة للعصير العنبي مثلا قد يكون ناشئا عن عدم العلم بثبوت حرمة شرعيّة للعصير العنبي وهذه شبهة حكمية ، وقد يكون الشك في فعليّة الحرمة للعصير العنبي ناشئا عن الشك في كون هذا السائل مصداقا للعصير العنبي المعلوم الحرمة أو لا وهذه شبهة موضوعيّة.

والمرفوع في حديث الرفع هو فعليّة الحكم في ظرف الشك بقطع النظر عن منشأ الشك في الفعليّة للحكم.

وإذا كان هذا التصوير للجامع ممكنا فإنّه يمكن إثبات إرادته بواسطة الإطلاق ، وذلك لأنّ إثبات الإطلاق متوقف على قابلية الموضوع لأن يعرض عليه الإطلاق كما بينا ذلك في محله.

وأمّا كيفيّة إثبات إرادة هذا بواسطة الإطلاق فتقريبه :

إنّ مدلول الاسم الموصول لمّا كان يقبل الإطلاق والتقييد ـ باعتبار أنّ مدلوله هو فعلية الحكم ـ فهذا يقتضي ذكر ما يدلّ على التقييد لو كان مرادا ، فعدم ذكر القيد ـ مع أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام بيان ما يرفع عن المكلّف في ظرف عدم العلم ـ كاشف عن عدم إرادته للتقييد وإلاّ كان ناقضا لغرضه. وبهذا يثبت الإطلاق وأنّ المرفوع هو مطلق الحكم المجعول بقطع النظر عن منشئه.

ومع تماميّة الإطلاق تثبت البراءة الشرعيّة النافية للمسؤوليّة عن المكلّف في الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة.

ومنها : رواية زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « ما

٢٢٢

حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (١).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية الشريفة :

هو أنّ تعدية الوضع لمعموله « بعن » يعطي نفس المعنى المفاد من كلمة الرفع المتعدية لمعمولها « بعن » ، فلا فرق بين أن يقال : « رفع عن المكلّف » أو يقال : « وضع عن المكلّف » ، وباعتبار أنّ الوضع في الرواية قد تعدّى لمعموله « بعن » فإن تقريب الاستدلال بها على البراءة الشرعيّة يكون بنفس التقريب المذكور في حديث الرفع.

الإشكال على تقريب الاستدلال :

وقد أورد على تقريب الاستدلال بهذه الرواية بإيرادين :

__________________

(١) الوسائل باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٣٣ ، والرواية مشتملة على إشكالين سنديّين :.

الأوّل : من جهة اشتمالها على أحمد بن محمّد بن يحيى العطار ، وقد قلنا ـ في حديث الرفع ـ إنّه ليس له توثيق صريح في كتب الرجال ، نعم يمكن توثيقه ببعض الوجوه الاجتهاديّة ، فإذا تمّت هذه الوجوه أو بعضها فلا يبقى إشكال في الرواية إلاّ من جهة الراوي المباشر عن الإمام عليه‌السلام وهو زكريا بن يحيى ، فإنّ صاحب الوسائل رحمه‌الله قد نقل أنّ كنية زكريا بن يحيى ـ راوي الحديث ـ هي أبو الحسن وهذه الكنية موجبة للمنع عن انصرافه إلى زكريا بن يحيى الواسطي المشهور أو زكريا بن يحيى التميمي المشهور أيضا ـ والذين قد صرّح بوثاقتهما ـ خصوصا أنّ زكريا بن يحيى الواسطي قد ذكر النجاشي أنّ كنيته أبو يحيى ، وبهذا تكون الرواية ساقطة عن الاعتبار وذلك لعدم العلم بكونه الواسطي أو التميمي ، فيكون الراوي مجهول الحال ، نعم يظهر من جامع الرواة أنّ أبا الحسن زكريا بن يحيى هو الواسطي إلاّ أنّه لم يبرز قرينة على ذلك فلعله اعتمد على الانصراف والذي قلنا إنّه ممنوع باعتبار أنّ كنية أبي الحسن لم يذكر أنّها كنية للواسطي. كما أنّ الإشكال في كبرى الانصراف أيضاً.

٢٢٣

الإيراد الأوّل :

إنّ ظاهر الرواية هو أنّ الأحكام الموضوعة عن المكلّفين هو ما كان خفاؤها ناشئا عن تعمّد الشارع لإخفائها ؛ وذلك لإسناد الحجب إلى الله جلّ وعلا ، فعليه لا تكون الرواية شاملة للأحكام التي نشأ عدم العلم بها عن ضياع النصوص مثلا أو التدليس فيها بحيث يخفى معه الواقع أو نشأ عن إخفاء من له مصلحة في الإخفاء وكانت الأسباب تجري على وفق إرادته ، فتكون الرواية أخصّ من المدعى ؛ إذ أنّ المدعى هو جريان البراءة الشرعيّة عند عدم العلم مطلقا بقطع النظر عمّا هو المنشأ لعدم العلم.

والجواب عن هذا الإيراد :

إنّ نسبة الحجب إلى الله تعالى لا ينافي انتساب الحجب أيضا إلى تطاول الزمن وضياع النصوص وتدخّل أصحاب النفوس الشرّيرة في إخفاء ما ينافي أغراضهم وطموحاتهم ، فإنّ كلّ ما في الكون من خطير وحقير فهو من تدبير الله جلّ وعلا وخاضع لقيّوميّته تعالى ، فانتساب كلّ شيء في هذا الكون إلى الله سبحانه وتعالى لا يكون فيه أيّ عناية وتجوّز حتى يكون المستظهر خلافه ، فحينما يقال : « حجب الله علمه عن العباد » فإنّ هذا الإسناد كما يصدق على الحجب الناشئ عن الله تعالى بلا واسطة يصدق كذلك على الحجب الناشئ عن الأسباب الطبيعيّة كتطاول الزمن وضياع النصوص.

وبهذا لا يكون إسناد الحجب إلى الله تعالى دالا على اختصاص الرواية بالأحكام التي نشأ عدم العلم بها عن الله تعالى بلا واسطة ؛ وذلك لأنّ إسناد الحجب إلى الله تعالى باعتباره القيّوم والمدبّر لشؤون الكون كلّه ،

٢٢٤

نعم لو أسند الحجب إلى الشارع أي إلى الله تعالى باعتباره المشرّع لكان لهذا الإيراد وجه.

الإيراد الثاني :

إنّ ظاهر الرواية هو أنّ الأحكام الموضوعة عن العباد هي الأحكام المحجوبة عن كلّ العباد بحيث لا يكون خفاء هذه الأحكام مختص بمكلّف دون آخر ، فموضوع الوضع ونفي المسؤوليّة هو مجموع العباد ، فلو اتّفق أنّ حكما من الأحكام لم يكن معلوما لكلّ أحد من خلق الله جلّ وعلا فإنّ هذا الحكم هو الموضوع عن العباد وهو الحكم الذي لا يسأل الله عباده عنه ، أمّا الأحكام التي تكون معلومة لبعض المكلّفين ومجهولة لآخرين فغير مشمولة لموضوع القضيّة وهي الحجب عن العباد ، أي لا دلالة للرواية على عدم المسؤوليّة عن مثل هذه الأحكام.

والجواب عن هذا الإيراد :

الظاهر من قوله عليه‌السلام « ما حجب الله علمه عن العباد » هو ما حجبه عن كلّ عبد من العباد ، فكلّ عبد خفي عليه حكم يكون موضوعا لقوله فهو موضوع عنهم ، فالعموم المستفاد من الجمع المعرّف باللام عموم استغراقي ، أي لوحظ باعتباره عنوانا مشيرا إلى أفراده.

والعموم الاستغراقي يقتضي انحلال الحكم إلى أحكام بعدد أفراد الموضوع ، مثلا لو قال المولى « أكرم العلماء » فإنّ العلماء عموم استغراقي ، أي أنّ كلّ فرد من أفراد العلماء موضوع لوجوب الإكرام ، وعنوان العلماء إنّما جيء به لغرض الإشارة إلى أفراده ؛ ولهذا ينحلّ وجوب الإكرام إلى وجوبات بعدد أفراد العلماء فيكون لكلّ وجوب من هذه الوجوبات طاعة

٢٢٥

ومعصية مستقلّة ، فحينما يكرم عالما ولا يكرم آخر يكون مطيعا وعاصيا ، فهو مطيع لإكرامه العالم الأول وعاص لعدم إكرامه الثاني.

أمّا لو كان العموم مجموعيا فالأمر يختلف تماما ، فلو كان عنوان العلماء في المثال لوحظ بنحو العموم المجموعي فإن الحكم لا ينحلّ بعدد أفراد الموضوع ؛ وذلك لأنّ المجموع بما هو مجموع موضوع للحكم ، فلا يوجد إلاّ موضوع واحد وحكم واحد ، ولهذا لا يوجد إلاّ طاعة واحدة ومعصية واحدة ، أي أنّ المكلّف إن أكرم جميع العلماء دون استثناء فهو ممتثل ومطيع وإن أكرم بعضهم ولم يكرم البعض الآخر فهو عاص ، أي كأنّه لم يكرم أحدا ؛ إذ أنّ موضوع الوجوب هو المجموع فلا يتحقّق الامتثال إلاّ بإكرام المجموع.

وباتّضاح الفرق بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي يتّضح ما ذكرناه من أنّ العموم في « العباد » عموم استغراقي فيكون الحكم في الرواية ـ والذي هو الوضع عن المكلّفين ـ منحلا بعدد أفراد العباد الذين يتّفق اختفاء حكم عنهم.

ومنها : رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (١).

__________________

(١) الوسائل باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ١ ، والرواية معتبرة لاعتبار بعض طرقها مثل طريق الشيخ الطوسي رحمه‌الله ، أمّا طريق الشيخ الصدوق رحمه‌الله فيمكن الخدشة فيه ؛ وذلك لأن طريقه إلى الحسن بن محبوب تمّ بواسطة شيخه محمّد بن موسى بن المتوكّل إلاّ أنّه يمكن توثيقه بدعوى ابن طاووس الاتفاق على وثاقته.

٢٢٦

وتقريب الاستدلال بالرواية :

هو أنّ جعل غاية الحليّة معرفة الحرمة يكشف عن أنّ موضوع الحليّة هو عدم المعرفة ، وبهذا المقدار تثبت الحليّة في ظرف عدم المعرفة والعلم بالحرمة ، ويبقى الكلام في أنّ هذه الحليّة هل هي حليّة واقعيّة أو هي حليّة ظاهريّة؟ فإن كانت واقعيّة فهي لا تتّصل بمحلّ البحث ؛ إذ أنّ محلّ البحث هو البراءة الشرعيّة والترخيص الظاهري.

والذي يظهر من قوله عليه‌السلام « فيه حلال وحرام » أن المجعول في قوله عليه‌السلام « فهو لك حلال » هو الحليّة الظاهريّة ؛ وذلك لوضوح أنّ الحلال والحرام في صدر الرواية هما الحلال والحرام الواقعيّين ، إذ هو مقتضى ترتيب الحليّة على الجهل بهما.

وببيان آخر :

إنّ الحرام الذي ينتهي به أمد الحليّة هو الحرام الواقعي وهو عينه الحرام في صدر الرواية ، وإذا كانت الحليّة مغيّاة بمعرفة الحرام الواقعي فهذا تعبير آخر عن أنّ موضوع الحليّة المجعولة هو عدم معرفة الحرام ، والحكم الذي يكون موضوعه عدم المعرفة حكم ظاهري كما هو واضح.

وبهذا تكون الرواية صالحة للاستدلال بها على البراءة الشرعيّة.

إلاّ أنّ الإشكال ينشأ عن دعوى ظهورها في الاختصاص بالشبهات الموضوعيّة ، فقد ذكر ذلك جمع من الأعلام وأبرزوا لذلك قرينتين :

القرينة الأولى :

وهي أنّ المناسب لتقسيم الشيء الواحد إلى الحلال والحرام هو أنّ ذلك الشيء من الطبايع التي لها أفراد مختلفة الحكم ، وهذا الذي يسبّب

٢٢٧

الشبهة والشك لأنّ تعدّد الأفراد واختلاف الحكم فيها من حيث الحليّة والحرمة يوجب عادة وقوع المكلّف في الاشتباه وأنّه ما هو الحلال وما هو الحرام؟ فالجبن مثلا من الطبايع التي يختلف الحكم في أفرادها فمنها ما هو محرّم ومنها ما هو محلّل ، وهذا ما يوجب وقوع المكلّف في الحيرة والاشتباه ، وإذا تمّ هذا فالرواية مختصّة بالشبهات الموضوعيّة ؛ وذلك لأنّه مع استظهار أنّ المنشأ للشكّ هو تعدّد أفراد الطبيعة واختلاف الحكم فيها يكون المناسب لذلك هو الشبهات الموضوعيّة ؛ إذ أنّ الشبهات الحكمية لا ينشأ الشكّ فيها عن ذلك بل عن عدم العلم بأصل الحكم ، فحينما يكون المكلّف شاكا في حرمة العصير العنبي فإن هذا الشك يكون منشؤه عدم العثور على نصّ يدلّ على الحرمة أو ابتلاء النصّ الدالّ على الحرمة بالمعارض.

وهذا بخلاف الشبهات الموضوعيّة فإنّها هي التي قد تنشأ عن اختلاف أفراد الطبيعة الواحدة في الحكم.

القرينة الثانية :

إنّ لفظ « بعينه » في الرواية الشريفة لا يكون له مبرّر عرفا إلاّ إذا كانت الشبهة موضوعيّة ؛ وذلك لأنّ معرفة الحرام بعينه يكون حينئذ احتراز عن معرفة الحرام إجمالا ، وهذا ما يناسب الشبهات الموضوعيّة ، إذ هي التي يكون الاشتباه فيها عادة بنحو الشبهة الإجماليّة ، فالمكلّف حينما يكون عالما بأصل الحرمة يكون عالما أيضا بثبوت الحرمة لأفراد غير معيّنين بنحو العلم الإجمالي ، فالرواية تقول إنّ هذا المقدار من العلم ليس هو غاية الحليّة بل إنّ غاية الحليّة هو معرفة الحرام بعينه ، أي بنحو العلم

٢٢٨

التفصيلي فيكون لفظ « بعينه » في الرواية احترازا عن العلم الإجمالي بالحرمة.

وهذا بخلاف ما لو حملنا الرواية على الشبهات الحكميّة فإنّه لا مبرّر عرفا لكلمة « بعينه » ؛ إذ أنّ معرفة الحرام في الشبهات الحكميّة يعني عادة العلم التفصيلي بالحرام ، فحينما يكون المكلّف جاهلا بحكم لحم الأرنب فإنّ معرفة حكم لحم الأرنب بعد ذلك لا يكون إلاّ بنحو العلم التفصيلي ، فلا تكون المعرفة للحكم هي معرفة أنّ لحم الأرنب إمّا حرام أو حلال أو تكون المعرفة بنحو يكون لحم الأرنب إمّا هو الحرام أو العصير العنبي هو الحرام.

والمتحصّل أنّ المعرفة للحرمة بعد الشبهة الحكميّة لا تكون إلاّ معرفة تفصيليّة فلا تكون لكلمة بعينه فائدة إلاّ التأكيد وهو خلاف الظاهر خصوصا في مثل المقام الذي يكون فيه المؤكّد ـ وهو العلم التفصيلي ـ متعيّنا.

وهذا بخلاف الشبهة الموضوعيّة فإنّ المعرفة بنحو الإجمال عادة ما تكون موجودة بعد افتراض أنّ أصل الحكم معلوم للمكلّف.

فكلّ مكلّف يعلم بحرمة الشراب النجس يعلم أيضا بوجود شراب نجس في الخارج إلاّ أنّه غير متشخّص ، فهل أنّ هذه المعرفة هي غاية الحليّة أو أنّ غاية الحليّة هي المعرفة التفصيليّة للحرام؟ وهذا ما تجيب عليه كلمة « بعينه » فإنّها تقيد أنّ غاية الحليّة هي معرفة الحرام بعينه أي بنحو العلم التفصيلي فيكون لذكر كلمة « بعينه » فائدة مهمّة في الرواية لو كانت الرواية متصدّية لبيان حكم الشبهة الموضوعيّة.

٢٢٩

وبهذه الرواية تمّ الكلام حول أدلّة البراءة الشرعيّة من الكتاب والسنّة.

الاستدلال على البراءة بعموم دليل الاستصحاب :

وذلك بواسطة التمسّك بما دلّ على حجيّة الاستصحاب مطلقا ، فكلّ مورد يكون فيه موضوع الاستصحاب متنقحا فإنّ الاستصحاب يجري في ذلك المورد.

وقد قرّب استصحاب نفي التكليف في حالات الشك بتقريبين :

التقريب الأوّل :

هو استصحاب عدم جعل التكليف والذي هو متيقّن حينما كانت الشريعة في أيّامها الأولى.

فعندنا يقين سابق بعدم جعل هذا التكليف ، ومبرّر هذا اليقين هو أنّ أحكام الله جلّ وعلا لم تشرّع في عرض واحد بل شرّعت بنحو التدرّج ، ولمّا كنا نشك فعلا بجعل التكليف بعد ذلك فإنّه يمكن بذلك إجراء الاستصحاب لنفي جعل التكليف ، وهذا ما ينتج نتيجة البراءة الشرعيّة.

التقريب الثاني :

استصحاب عدم فعليّة التكليف والذي هو متيقّن قبل البلوغ مثلا ، فهنا يقين سابق بعدم فعليّة التكليف في حال عدم البلوغ وشكّ فعلي بثبوت التكليف بعد ذلك فنجري استصحاب عدم فعليّة التكليف وهو ينتج نتيجة البراءة الشرعيّة.

إشكال المحقّق النائيني على تقريبي الاستصحاب :

وقد أورد المحقّق النائيني رحمه‌الله على كلا التقريبين بما حاصله :

٢٣٠

إنّ إجراء استصحاب عدم حدوث التكليف لغرض نفي التكليف تحصيل للحاصل ؛ وذلك لأنّ الشكّ في حدوث التكليف بنفسه يكون موضوعا لنفي التكليف ، إذ أنّ الشك في حدوث التكليف يكون موضوعا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان والتي تعني أو تقتضي نفي التكليف في موارد الشكّ فيه.

فانتفاء التكليف ثابت بالوجدان ، فلا معنى للتعبّد بنفيه عن طريق إجراء استصحاب عدم حدوث التكليف ، إذ أنّ غاية ما سينتجه الاستصحاب هو نفي التكليف المشكوك وهو حاصل ببركة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبتعبير آخر : إنّ مجرى الاستصحاب هو ما لو كان الأثر المراد تحصيله متوقفا على عدم الحدوث ، فإنّ إجراء الاستصحاب ينفع في إثبات عدم الحدوث تعبدا.

ومثال ذلك ما لو وقع الشكّ في جواز التزوّج من امرأة بسبب الشك في كونها متزوّجة ، فإنّ الذي يصحّح الزواج من هذه المرأة هو إحراز عدم تزوجها ، فلو أجرينا استصحاب عدم تزوّجها فإن ذلك ينتج صحّة الزواج منها ، فالاستصحاب هنا قد تعبدنا بعدم تزوّجها وبهذا تنقّح موضوع صحّة الزواج منها ، إذ أنّ صحّة الزواج منها منوط بإحراز عدم تزوّجها وهذا ما حقّقه لنا الاستصحاب وبه تحقّق جواز الزواج من هذه المرأة تعبدا.

أمّا لو كان نفس الشك بعدم الحدوث موضوعا للأثر المطلوب فعندئد لا يكون للاستصحاب فائدة ؛ لأنّ أقصى ما سينتجه الاستصحاب هو نفي الحدوث ، وهذا لا نحتاجه ؛ وذلك لأنّ الشك في الحدوث كاف في

٢٣١

ترتّب الأثر المطلوب فيكون إجراء الاستصحاب تحصيلا للحاصل.

والمقام من هذا القبيل ؛ إذ أنّ الأثر المطلوب تحصيله من الاستصحاب هو نفي التكليف ، ونفي التكليف يكفي فيه الشكّ في حدوث التكليف ؛ وذلك لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فعليه يكون إجراء الاستصحاب بلا فائدة ، لأنّ الذي سينتجه الاستصحاب هو عدم حدوث التكليف وبذلك تنتفي المسؤولية عن التكليف ، وهذا المقدار لا نحتاجه لإثبات نفي التكليف ، إذ أنّ إثبات نفي التكليف يحصل بمجرّد الشك في حدوثه إذ هو موضوع نفي التكليف الناشئ عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الجواب على إشكال المحقّق النائيني :

وقد أجاب المصنّف رحمه‌الله عن هذا الإشكال بجوابين :

إنّ ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله ـ لو تمّ ـ فهو يتمّ بناء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان وإلاّ فبناء على مسلك حقّ الطاعة لا يكون الاستصحاب تحصيلا للحاصل ؛ وذلك لأنّ موضوع الأثر المطلوب ـ وهو نفي التكليف ـ ليس هو الشك في حدوث تكليف بل إنّ موضوعه هو عدم حدوث تكليف ، وهذا الموضوع لا يمكن تحصيله وتنقيحه إلاّ بواسطة الاستصحاب ، فالاستصحاب يعبدنا بعدم حدوث التكليف وبه يتحقّق الأثر المطلوب وهو نفي التكليف.

الجواب الثاني :

إنّ الاستصحاب لا يكون تحصيلا للحاصل حتى بناء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك لوضوح أنّ مرتبة القبح للعقاب بلا بيان متفاوتة في حالات عدم البيان مع الإذن من الشارع في الترك يكون قبح العقاب أشدّ

٢٣٢

من حالات عدم البيان المجرّد عن الإذن الشرعي ، ومن هنا يكون الاستصحاب مفيدا لإثبات المرتبة الشديدة من قبح العقاب.

وبيان ذلك : إنّه لو وقع الشكّ في وجود تكليف إلزامي ولم يكن بالإمكان إجراء الاستصحاب لنفي التكليف فإنّه مع ذلك لو ترك المكلّف ذلك التكليف المشكوك فإنّه لا يعاقب ـ لو اتّفق أنّ ذلك التكليف ثابت واقعا ـ وذلك لقبح مخالفته مع افتراض جهله وعدم علمه.

ولو كان ذلك التكليف الإلزامي المشكوك ممّا يمكن إجراء الاستصحاب في مورده فحينئذ لو أجرى المكلّف الاستصحاب وترك التكليف المشكوك واتّفق ثبوت التكليف واقعا فإنّه لا يعاقب ؛ وذلك لقبح معاقبته إلاّ أنّ القبح في مثل هذه الحالة أشدّ ، وذلك لأنّ التكليف ـ بالإضافة إلى أنّه غير معلوم للمكلّف ـ هو مأذون في تركه شرعا.

إذن فجريان الاستصحاب تكون له فائدة وهي إثبات المرتبة الشديدة من القبح.

٢٣٣
٢٣٤

الاعتراضات على أدلّة البراءة

وقد ذكر المصنّف اعتراضين منها :

الأوّل : إنّ أقصى ما يمكن استفادته من أدلّة البراءة الشرعيّة هو أنّ مورد جريانها يختصّ بالشبهات البدويّة أمّا الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي فلا تجري البراءة الشرعيّة عنها ، وإذا كان كذلك فلا يكون للبراءة الشرعيّة فائدة مهمّة ؛ وذلك لأنّ الشبهات الحكميّة مثلا غالبا ما تكون واقعة في إطار علم إجمالي ؛ وذلك لأنّه لو لاحظناها لحاظا مجموعيا لوجدنا أنفسنا قاطعين بواقعيّة عدد كبير من مجموع التكاليف المشكوكة.

وبعبارة أخرى : إنّ كلّ شبهة حكميّة فهي طرف في علم إجمالي كبير فلا يمكن إجراء البراءة عنها لعدم جريان البراءة في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

وتقريب ذلك : إنّه وإن كنّا نشك في حرمة العصير العنبي مثلا ونشكّ في حرمة لحم الأرنب وفي حرمة ذبيحة الكتابي وهكذا إلاّ أنّه حينما نلاحظ هذه التكاليف المشكوكة لحاظا مجموعيا يحصل لنا القطع بثبوت الحرمة لبعضها غير المعين ، فيكون كلّ واحد من هذه التكاليف المشكوكة طرفا للعلم الإجمالي.

والجواب عن هذا الاعتراض :

إنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا ويجب الاحتياط في تمام أطرافه لو

٢٣٥

افترض عدم انحلاله إلى علم تفصيلي ببعض الأطراف وشك بدوي في بقيّة الأطراف ، أمّا لو افترض انحلاله إلى ذلك فإنّه لا يكون حينئذ منجّزا ؛ وذلك لأنّ افتراض انحلاله يعني افتراض صيرورته علما تفصيليا منجّزا لمتعلّقه وشكا بدويّا مجرى لأصالة البراءة الشرعيّة ، فلو كنّا نعلم إجمالا بوجوب صلاة في ظهر يوم الجمعة إلاّ أنّه وقع الشك فيما هو الواجب هل هو صلاة الظهر أو هو صلاة الجمعة؟ فحينئذ يكون العلم الإجمالي مقتضيا لتنجّز كلا الطرفين إلاّ أن لو اتّفق أنّ علمنا بتعيّن الوجوب في صلاة الظهر فإنّ العلم الإجمالي عندئذ ينحلّ إلى علم تفصيلي بوجوب صلاة الظهر فلو كنّا نحتمل في مثل هذه الحالة بوجوب صلاة الجمعة أيضا لاحتمال وجوب صلاتين يوم الجمعة فإنّ هذا الاحتمال يكون شكا بدويّا ؛ وذلك لأنّ الطرف المقابل له أصبح معلوما تفصيلا ، ومن هنا يمكن جريان البراءة عن وجوب صلاة الجمعة.

والمقام من هذا القبيل فإنّه وإن كنّا نسلّم بوجود علم إجمالي بواقعيّة بعض التكاليف المشكوكة إلاّ أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ إلى علم تفصيلي ببعض الأطراف وشك بدوي في الأطراف الأخرى ؛ وذلك لأنّنا لو لاحظنا مقدار ما هو معلوم إجمالا وافترضناه مئة تكليف من مجموع التكاليف المشكوكة الألف ، ثمّ لاحظنا أنّ ما علمنا بثبوته بواسطة المراجعة للأدلّة لوجدنا أنّ ما علمنا بثبوته هو بمقدار المعلوم بالإجمال أو يزيد عنه وهذا يقتضي انحلال العلم الإجمالي ـ والذي أطرافه الألف ـ إلى علم تفصيلي بمقدار ما توصّلنا إلى ثبوته بواسطة الاستنباط وشك بدوي في بقيّة الأطراف ، ومن هنا يمكن إجراء البراءة عن هذه الأطراف ويبقى وجوب الامتثال خاصا بالموارد المعلومة بواسطة الرجوع إلى الأدلّة.

٢٣٦

وهذا نظير ما لو كان عندنا قطيع من الغنم نعلم بأن عشرا منها موطوءة للإنسان فإنّه في مثل هذه الحالة لا يجوز أكل لحم واحدة منها ، إلاّ أنّه لو افترضنا قيام الدليل بعد ذلك على أنّ عشرة بعينها من هذه الأغنام هي موطوءة الإنسان فإنّ العلم الإجمالي عندئذ ينحلّ إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، فتكون الأغنام العشرة التي علم بكونها موطوءة للإنسان محرّمة وتبقى الأطراف الأخرى مشكوكة بنحو الشك البدوي فتجري عنها البراءة الشرعيّة.

وأمّا دليل الانحلال فله محلّ آخر.

الاعتراض الثاني :

إنّه لو سلّمنا تماميّة أدلّة البراءة الشرعيّة إلاّ أنّها مبتلية بما يعارضها من أدلّة شرعيّة على وجوب الاحتياط في موارد الشك في التكليف ، وهذه الأدلّة المثبتة لوجوب الاحتياط إمّا أن تكون مقتضية لارتفاع موضوع البراءة الشرعيّة وإمّا ألا تكون كذلك ولكنّها متّحدة معها في الموضوع ، أي أنّ موضوع أدلّة البراءة الشرعيّة هو عينه موضوع أدلّة الاحتياط الشرعي إلاّ أنّ أدلّة البراءة تنفي المسؤولية عن التكليف المشكوك وأدلّة الاحتياط تثبتها ، وفي كلا الحالتين تكون أدلّة البراءة الشرعيّة ساقطة.

وبيان ذلك : إنّ أدلّة البراءة الشرعيّة إن كان مفادها هو أنّ موضوع البراءة هو عدم البيان مطلقا أي أنّ مجرى البراءة هو عدم وجود ما يثبت العهدة والمسؤوليّة على المكلّف سواء كان ثبوت العهدة ناشئا عن ثبوت التكليف الواقعي أو ثبوت الاحتياط الشرعي ، فلو كان موضوع البراءة هو عدم ثبوت أحدهما فإنّه ـ بناء على هذا الفرض ـ ينتفي موضوع البراءة ؛ وذلك لثبوت الاحتياط الشرعي والذي أخذ عدمه في موضوع

٢٣٧

البراءة ، فموضوع البراءة ـ على هذا الفرض ـ هو عدم ثبوت الاحتياط الشرعي ومع قيام الدليل على ثبوت الاحتياط الشرعي ينتفي موضوع البراءة.

وبتعبير آخر : إذا كان موضوع البراءة هو عدم العلم بالتكليف الواقعي وعدم العلم بلزوم الاحتياط الشرعي فإنّه لا بدّ في إجراء البراءة حينئذ من ألا يكون علم بالتكليف الواقعي ولا يكون علم بوجوب الاحتياط الشرعي ، إذ أنّه مع العلم بأحدهما لا يكون موضوع البراءة متحقّقا ؛ لأنّ عدمهما مأخوذ في موضوع البراءة ، فعليه لا تجري البراءة الشرعيّة باعتبار ثبوت لزوم الاحتياط الشرعي.

وأمّا لو كان مفاد أدلّة البراءة هو أنّ موضوعها عدم العلم بالتكليف الواقعي فحسب فإنّه ـ بناء على هذا الفرض ـ تكون أدلّة البراءة معارضة بأدلّة الاحتياط الشرعي بنحو التعارض المستقر ؛ وذلك لاتّحاد موضوعهما ، إذ أنّ موضوع الاحتياط هو عدم العلم بالتكليف الواقعي كذلك ، وإذا كان موضوع البراءة والاحتياط واحدا فإنّ دليل كل منهما يعارض الآخر ، إذ أنّ دليل البراءة يقول إنّ البراءة هي الجارية في موارد الشك في التكليف الواقعي ودليل الاحتياط يقتضي أنّ الجاري في موارد الشك في التكليف الواقعي هو الاحتياط الشرعي.

ويمكن إثبات دعوى أنّ موضوع البراءة هو عدم العلم مطلقا ـ أي الأعم من العلم بالتكليف الواقعي والاحتياط الشرعي ـ بقوله تعالى ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١) ؛ وذلك لأنّ عنوان الرسول ـ كما قلنا ـ

__________________

(١) سورة الإسراء آية ١٥.

٢٣٨

ليس له موضوعيّة بل إنّ نفي العذاب يكون في تمام موارد عدم العلم وعدم وجود ما يصلح للاحتجاج به على العباد ، ولمّا كانت أدلّة الاحتياط صالحة لأن يحتجّ بها على العباد فإنّ نفي العذاب لا يكون موضوعه متحقّقا في مورد الاحتياط الشرعي ، وهذا يعني أنّ ثبوت الاحتياط الشرعي ناف لموضوع البراءة الشرعيّة ؛ وذلك لأنّ موضوعها عدم البيان وعدم الحجّة ، والاحتياط حجّة كما هو مقتضى دليله.

ويمكن إثبات دعوى أنّ موضوع البراءة هو عدم العلم بالتكليف الواقعي فحسب ـ أي أنّ موضوع البراءة متحقّق في ظرف ثبوت الاحتياط الشرعي أيضا ـ بمثل حديث الرفع وحديث الحجب فإنّ موضوع الرفع والوضع فيهما رتّب على عدم العلم بالتكليف الواقعي ، فالرفع فيهما ظاهري ـ كما استظهرنا ذلك ـ فهو ينفي مطلق المسؤوليّة تجاه التكليف الواقعي ، ومن الواضح أنّ الاحتياط يثبت المسؤوليّة تجاه التكليف الواقعي المشكوك فيكون حديث الرفع نافيا له ، فلو دلّت أدلّة الاحتياط على ثبوت المسؤوليّة تجاه التكليف الواقعي فهذا يعني تعارضها مع أدلّة البراءة ؛ وذلك لأنّ الأولى مثبتة للعهدة في ظرف الشكّ في التكليف الواقعي والثانية نافية لها في ظرف الشك في التكليف الواقعي وهذا من التعارض المستقر.

ومن هنا لا بدّ من استعراض روايات الاحتياط الشرعي لغرض التعرّف على صلاحيّتها لرفع موضوع البراءة الشرعيّة أو معارضتها لأدلّة البراءة الشرعيّة أو عدم صلاحيتها لذلك :

فمنها : المرسل عن الصادق عليه‌السلام « من اتقى الشبهات فقد استبرأ

٢٣٩

لدينه » (١).

وواضح أنّ هذه الرواية ليست صالحة لإثبات وجوب الاحتياط ؛ وذلك لظهورها في محبوبيّة التجنّب عن الشبهات.

والذي يبرّر هذا الاستظهار هو أنّ سياقها التحفيز على التقوى بقرينة التعليل المصاغ بصيغة النتيجة ، فلا دلالة فيها على لزوم تحصيل هذه النتيجة ؛ إذ الاستبراء للدين لا يعني أكثر من التحفّظ على أغراض الشريعة المجهولة ، وهذا ما نبحث عن لزومه ووجوبه إذ لعلّه غير لازم واللازم هو التحفظ على الغرض الشرعي المعلوم.

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال لكميل « يا كميل أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت » (٢).

وهذه الرواية أيضا لا دلالة فيها على لزوم الاحتياط ، وذلك بقرينة تعليق الأمر بالاحتياط على المشيئة ، ومن الواضح أنّ تعليق الأمر على المشيئة والاختيار يوجب عدم انعقاد ظهور للأمر في الوجوب.

وبهذا لا تكون للأمر دلالة على أكثر من محبوبية الاحتياط.

ومنها : ما عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أورع الناس من وقف عند

__________________

(١) الوسائل باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٦٤ ، وهي مرسلة الشهيد الثاني في الذكرى وقد أرسلها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل إنّها في جامع أحاديث الشيعة مرسلة عن الإمام الصادق عليه‌السلام.

(٢) الوسائل باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٤٦ ، وهي مرويّة عن أمالي الشيخ حسن بن الشيخ أبي جعفر الطوسي رحمهما الله بسند متصل إلى الإمام الرضا عليه‌السلام ، وليس فيها إشكال إلاّ من جهة علي بن محمّد الكاتب ، إذ لم نجد له توثيق في كتب الرجال.

٢٤٠