شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

يتسطيع أن يقول لم أجد فيما أوحي إليّ ، وعدم وجدانه لحرمة ما يزعمون أنّه حرام يلازم عدم وجود الحرمة.

ومن هنا يتّضح عدم صلاحيّة الآية الكريمة للاستدلال بها على البراءة الشرعيّة ؛ وذلك لأنّ دلالتها على البراءة متوقف على استظهار الملازمة بين عدم وجدان ما يدلّ على الحرمة وعدم وجود الحرمة واقعا أي عدم لزوم الالتزام بحرمة لم يجد عليها دليل ، وهذا الاستظهار غير تام لعدم الملازمة واقعا بين عدم الوجدان وعدم الوجود ؛ إذ لعلّ الحرمة تكون موجودة ومع ذلك لم يطّلع عليها المكلّف.

وإذا لم تكن الملازمة تامة فلا سبيل لاستظهار عدم لزوم الالتزام بالحرمة في حال عدم وجدان دليل على الحرمة.

ومنها : قوله تعالى ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (١).

وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة :

إنّه لا إشكال ولا ريب أنّ نسبة الإضلال إلى الله جلّ وعلا يستبطن معنى العقوبة ، وإذا كان كذلك فنفيها في حال عدم البيان يساوق نفي العقوبة في حال عدم البيان ، ولمّا كان البيان في الآية الكريمة قد أضيف إلى المكلفين « يبين لهم » فهذا يعبّر عن أنّ مساق الآية إنّما هو البيان الواصل.

وبتماميّة هذه المقدّمات الثلاث يتمّ الاستدلال بالآية الكريمة على البراءة الشرعيّة ، إذ يكون معنى الآية حينئذ هو أنّ الله جلّ وعلا لا يعاقب

__________________

(١) سورة التوبة آية ١١٥.

٢٠١

في حال عدم إيصال البيان للمكلّفين ، وهو معنى البراءة الشرعية.

وأمّا الاستدلال بالسنّة الشريفة :

فقد استدلّ بمجموعة من الروايات :

منها : ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (١) ، والذي يرتكز عليه الاستدلال بالرواية الشريفة هو استظهار معنى السعة وإطلاق العنان من قوله « كلّ شيء مطلق » ، واستظهار معنى الوصول من قوله « حتى يرد » ، فلو كان المراد ـ من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » هو أنّ كلّ تكليف فهو غير ملزم ما لم يصل بيان من الشارع ينهى عن تركه أو ينهى عن فعله ـ لكان الاستدلال بالرواية الشريفة على البراءة الشرعيّة تامّ.

ويمكن دعوى أن هذا الاستظهار هو المتعيّن من الرواية الشريفة ؛ وذلك لأنّه لا ريب أنّ معنى الإطلاق يقابل التقييد والتضييق ، فدابّة مطلقة أي أنّ لها حرية الحركة ولا يعوقها عن الحركة عائق وذلك في مقابل الدابة المقيّدة حيث لا يكون لها حريّة التحرّك ، إذ أنّ القيد يمنعها عن الحركة الاختيارية ، فكذلك المكلّف مطلق العنان فإنّ له أن يفعل وله أن لا يفعل ، وهذا يعني أنّه في سعة من جهة القيام بالفعل أو عدم القيام بالفعل.

وكذلك معنى الورود فإنّ المتفاهم عرفا من معنى الورود هو الوصول ، فحينما يقال وردت الإبل الماء أي وصلت للماء ، وبهذا تكون

__________________

(١) الوسائل باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٦٧ ، وهي مرسلة الصدوق وقد عبّر عنها « بقال الصادق » ممّا يشعر بجزمه باعتبار الرواية.

٢٠٢

الرواية دالّة على المطلوب.

والجواب عن الاستدلال بالرواية الشريفة :

إنّه وإن كنّا نسلّم بأن الإطلاق يعني السعة وإطلاق العنان إلاّ أنّنا لا نسلّم بكون المتعيّن من معنى الورود هو الوصول ، إذ قد يطلق الورود ويراد منه الصدور ، وبناء على هذا الاحتمال لا تكون الرواية دالّة على المطلوب ؛ وذلك لأنّ الصدور أعمّ من الوصول فقد يصدر التكليف من الشارع إلاّ أنّه لا يصل إلى المكلّف ، والإطلاق إنّما علّق ـ بناء على هذا الاحتمال ـ على الصدور فيكون مفاد الرواية أنّ المكلّف مطلق العنان حال عدم صدور التكليف ، ومن أين للمكلّف إحراز عدم الصدور في حال عدم الوصول بعد إن لم تكن هناك ملازمة بينهما؟!

فلو كان المتعيّن من الرواية هو الاحتمال الثاني فهي ساقطة عن الاستدلال بلا إشكال ، أما لو لم يكن المعنى الثاني متعيّنا فلا أقلّ من احتماله واحتمال المعنى الأول ، وبذلك تكون الرواية مجملة ، فلا تصلح للاستدلال.

ودعوى أنّ المعنى الأوّل هو المتعين وهو المستظهر من الرواية الشريفة ـ وذلك لأنّ الورود يستلزم معنى الوفود والوصول ولا يأتي بمعنى الصدور غير المتحيّث بحيثيّة الوصول ـ لا يثبت المطلوب ؛ وذلك لأنّه لو سلّمنا بذلك فهو لا يعني أكثر من وصول ووفود النهي على شيء ، وهذا الشيء إمّا المكلّف وإمّا المنهي عنه.

ووصول النهي للمكلّف هو الذي يثبت المطلوب « البراءة » إلاّ أنّه غير متعيّن لاحتمال إرادة الثاني وهو وصول ووفود النهي على المنهي عنه والذي لا يستلزم الوصول للمكلّف.

٢٠٣

ولمزيد من التوضيح نقول :

حينما يقال « ورد النهي » فهنا وارد ومورود ، فلو سلّمنا أنّ الوارد بمعنى الوافد والواصل إلاّ أنّ ذلك وحده لا يثبت المطلوب ، والذي يثبت المطلوب هو كون المورد ـ أي الذي ورد ووصل ووفد عليه النهي ـ هو المكلّف ، إذ به يكون معنى الرواية « كلّ فعل لم يصل للمكلّف فيه نهي فهو مطلق ، أمّا لو كان المورود هو متعلّق النهي ـ أي المنهي عنه ـ فإنّ الرواية حينئذ لا تكون دالة على المطلوب ، إذ يكون معنى الرواية على هذا الاحتمال هو « كلّ فعل لم يصل له نهي ولم يفد عليه نهي فهو مطلق. فشرب الماء لم يفد ولم يصل له نهي ـ أي لم يجعل عليه نهي ـ فهو إذن مطلق.

وهناك ما يوجب استظهار تعيّن المعنى الثاني من الرواية ، وذلك بقرينة عود الضمير في الظرف « فيه » إلى الشيء ، وهذا ما يناسب كون المورود عليه هو المنهي عنه أي متعلّق النهي.

فحينما يقال وردت الحرمة في شرب الخمر فهذا يعني أنّ المورود عليه الحرمة والنهي هو شرب الخمر ، فالورود وإن كان بمعنى الوصول والوفود ولكنّ الواصل له والوافد عليه النهي هو المنهي عنه أي مادة النهي في قولنا « لا تشرب الخمر ».

فمادة النهي هنا هي شرب الخمر ، والمورود عنه النهي هو الشارع المقدّس ، والوارد هو النهي نفسه.

وخلاصة الكلام أنّ المورود عليه هو المنهي عنه أي مادة النهي والوارد هو النهي والمورود عنه أي الذي ورد عنه النهي هو الشارع المقدّس.

٢٠٤

ومن الواضح أنّه بناء على هذا الاحتمال لا يكون للورود دلالة على وصول النهي للمكلّف ؛ إذ يكون معنى الرواية هو أنّ كلّ شيء فهو مطلق ما لم يجعل الشارع عليه النهي ، أي ما لم يصدر عن الشارع فيه نهي ، وهذا لا صلة له بوصول النهي للمكلّف ، ولمّا كان المستظهر من الرواية هو هذا المعنى فلا يكون للرواية حينئذ دلالة على المطلوب ؛ إذ المطلوب إثباته من الرواية الشريفة هو ثبوت السعة وإطلاق العنان حينما لا يصل النهي للمكلّف ، وهذا غير ظاهر من الرواية.

ومنها : حديث الرفع المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رفع عن أمّتي تسعة الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة » (١).

وفقرة الاستدلال بالرواية الشريفة هي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رفع عن أمتي ... ما لا يعلمون ».

وتماميّة الاستدلال بهذه الرواية الشريفة على البراءة الشرعيّة

__________________

(١) الوسائل باب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ح ١ ، وقد رواها الشيخ الصدوق رحمه‌الله في الخصال والتوحيد ، وليس فيها إشكال سندي إلاّ من جهة شيخه أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار ، فإنّه لم يثبت له توثيق صريح ، نعم يمكن توثيقه ببعض الوجوه الاجتهاديّة والتي لا تتّصل بالحسّ ، كأن نستكشف وثاقته باعتباره من المعاريف أو أنّه من مشايخ الإجازة أو وقوعه في الطريق المعتبر إلى كتب الحسين بن سعيد الأهوازي والذي صرّح أبو العباس السيرافي بأن ذلك الطريق معوّل عليه عند الأصحاب. فإن تمّت هذه الوجوه فالرواية معتبرة ، أمّا لو لم تثبت وثاقة أحمد بن محمّد بن يحيى فطريق الصدوق إلى الرواية ضعيف إلاّ إذا تمّت نظريّة التعويض كبرى وصغرى.

٢٠٥

يستوجب استظهار أنّ الرفع في الرواية رفع ظاهري وأنّ المرفوع هو مطلق ما لا يعلمون ؛ إذ أنّه لو كان الرفع واقعيا لأنتج ذلك تقييد الأحكام الشرعيّة بالعالم بها وهذا يعني اختصاص الأحكام الشرعيّة بالعالمين بها وهو شيء آخر غير البراءة الشرعيّة.

ولو كان المرفوع هو الشبهات الموضوعيّة فحسب أو الشبهات الحكميّة فحسب فهذا يقتضي أن تكون الرواية أخصّ من المدعى ؛ إذ أنّ المدّعى هو ثبوت البراءة الشرعيّة في مطلق الشبهات الأعمّ من الموضوعيّة والحكميّة.

ومن هنا سوف يكون البحث عن دلالة الرواية الشريفة على البراءة الشرعيّة في جهتين :

الجهة الأولى : في إثبات أنّ الرفع في الرواية ظاهري :

إنّ الرفع في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رفع ما لا يعلمون » يحتمل أحد معنيين :

المعنى الأوّل : هو أنّ الرفع جيء به لغرض تقييد الأحكام الواقعيّة بالعلم بها ، أي أنّ كلّ الأحكام الصادرة واقعا عن الشارع مقيّدة بعلم المكلّف بها ، فما لم يكن المكلّف عالما بالحكم الشرعي الواقعي فإنّه ليس مكلفا واقعا بذلك الحكم ، لا أنّه مكلّف واقعا بذلك الحكم إلاّ أنّه يكون معذورا باعتبار جهله ، فحرمة شرب الخمر مثلا ليست ثابتة لكلّ أحّد ـ بناء على هذا الاحتمال ـ بل هي مختصّة بمن يعلم بحرمة شرب الخمر ، أمّا من لا يعلم بالحرمة فإنّ شرب الخمر لا يكون عليه حرام ، فلو شربه لم يكن مرتكبا للحرمة واقعا لا أنّه ارتكب الحرمة إلاّ أنّه معذور.

وبناء على هذا الاحتمال لا تكون الرواية صالحة للدلالة على البراءة

٢٠٦

الشرعيّة ؛ وذلك لأنّ البراءة الشرعيّة تعني نفي المسؤوليّة عن التكليف الواقعي في ظرف الشكّ وعدم العلم بالحكم الواقعي فهي تفترض ثبوت الحكم الواقعي على الجاهل إلاّ أنّها تنفي مسؤوليّته عن ذلك الحكم ، أي تثبت المعذوريّة للمكلّف لو اتفق مخالفته للحكم الواقعي الإلزامي ، وهذا يعني أنّ البراءة من الأحكام الظاهريّة التي أخذ في موضوعها الشك في الحكم الواقعي ، في حين أنّ الرفع بناء على هذا ليس حكما ظاهريا بل هو تقييد لأحكام الله الواقعيّة ، فهذا المعنى وإن كان يشترك مع البراءة الشرعيّة في كون المكلّف مطلق العنان في ظرف الجهل بالحكم الشرعي الواقعي إلاّ أنّه يختلف عن البراءة الشرعيّة التي يراد إثباتها.

والجواب عن استظهار هذا المعنى من الرواية :

هو أنّه يلزم منه أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم أي يلزم منه تقييد الحكم بالعلم به وهو مستحيل للزومه الدور المحال كما بينا ذلك في محلّه.

فإن قلت : إنّ تقييد الحكم المجعول بالعلم بالجعل ليس مستحيلا لعدم لزومه الدور كما تقدّم بيان ذلك.

كان الجواب : إنّ تقييد الحكم المجعول بالعلم بالجعل وإن كان ممكنا إلاّ أنّه غير ظاهر من الرواية ؛ وذلك لأنّ الظاهر من الرواية هو اتّحاد المرفوع والمعلوم ، أي أنّ المرفوع بقوله « رفع » هو نفس غير المعلوم لا أنّ المرفوع شيء وغير المعلوم شيء آخر ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رفع ما لا يعلمون » ـ بناء على هذا المعنى ـ معناه مثلا أنّ فعليّة الحرمة غير المعلومة مرفوعة ، فالمرفوع هو نفس فعليّة الحرمة غير المعلومة لا أنّ المرفوع هو فعليّة

٢٠٧

الحرمة في ظرف عدم العلم بجعل الحرمة حتى يكون مآل ذلك إلى أخذ العلم بالجعل في الحكم المجعول ؛ لأنّه إذا كان عدم العلم بالجعل قيدا في رفع الحكم المجعول فالعلم بالجعل يكون قيدا لثبوت الحكم المجعول.

وببيان آخر : إنّ معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رفع ما لا يعلمون » هو أنّ الحكم غير المعلوم قد رفع عن هذه الأمّة ، وهذا يقتضي أنّ الذي رفع هو نفس الحكم غير المعلوم ، فإذا كان الحكم غير المعلوم هو فعليّة الحرمة فالمرفوع هو فعليّة الحرمة ، في حين أنّ دعوى كون المرفوع هو الحكم المجعول وغير الملوم هو الجعل يقتضي أن يكون المرفوع ليس هو عين غير المعلوم ، حيث إنّ الجعل يعني الحكم الإنشائي والمجعول يعني وصول الحكم لمرحلة الفعليّة ، والأوّل غير الآخر كما بينا ذلك في محلّه.

ومع استظهار اتّحاد الحكم المرفوع مع الحكم غير المعلوم يسقط المعنى الأوّل لاستلزامه للدور المحال ؛ إذ أنّه يقتضي أخذ العلم بالمجعول في موضوع الحكم المجعول ، أي أنّ فعليّة الحكم منوطة بالعلم بالفعليّة ؛ وذلك لأنّه إذا كان عدم العلم بالحكم المجعول قيدا في رفع الحكم المجعول فهذا يؤول إلى أنّ العلم بالحكم المجعول أخذ قيدا في ثبوت الحكم المجعول.

وإنّما قلنا باستلزامه لأخذ العلم بالحكم المجعول قيدا في الحكم المجعول ولم نقل أخذ العلم بالجعل قيدا في الجعل لأنّ المناسب للرفع هو الفعليّة والتي تقتضي التنجيز ، أمّا الحكم بمرتبة الجعل فلا يقتضي التنجيز ، فلا يكون رفعه امتنانا على الأمّة.

المعنى الثاني : إنّ المراد من الرفع هو نفي المسؤوليّة عن المكلّف تجاه التكاليف الواقعيّة في ظرف الجهل بها ، فيكون الرفع بهذا المعنى رفعا

٢٠٨

ظاهريا ، وتكون الرواية ـ بناء على هذا المعنى ـ مثبتة للترخيص الظاهري ، أي كلّ حكم واقعي إلزامي افترض جهل المكلّف به فهو في سعة من جهة ذلك الحكم فلا يلزمه الاحتياط لغرض التحفّظ على التكليف الواقعي المحتمل ؛ إذ أنّ المولى ـ بناء على هذا المعنى ـ قد رفع الاحتياط عن المكلّف وأمّنه من العقاب لو اتّفق وقوعه في مخالفة التكليف الواقعي ، وهذا بخلاف ما لو وضع عليه التكليف في ظرف الشك ، فإنّ ذلك يقتضي الاحتياط الشرعي والذي يعني ثبوت المسؤوليّة على المكلّف تجاه التكاليف المشكوكة ، وإذا كان مسؤولا عن التكاليف المشكوكة فإنّه لا يخرج عن عهدة هذه التكاليف إلاّ بواسطة الاحتياط ؛ لأنّه هو الذي يوجب العلم بالخروج عن عهدة التكليف المشكوك.

وعلى أي حال فهذا المعنى للرفع هو المتعيّن من الرواية ؛ وذلك لاستحالة المعنى الأول ، وبهذا تثبت الجهة الأولى وهي استظهار الرفع الظاهري من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رفع ما لا يعلمون ».

الجهة الثانية : إثبات أنّ المرفوع هو مطلق ما لا يعلمون :

وقبل البحث عن ذلك نقدم مقدّمة نبيّن فيها الفرق بين الشبهة الموضوعيّة والشبهة الحكمية :

أمّا الشبهة الموضوعيّة :

فهي عبارة عن الشكّ في الموضوع الخارجي وأنّه هو الموضوع للحكم المعلوم أو لا؟

فالشبهة الموضوعيّة يفترض فيها العلم بالحكم والعلم بالموضوع المجعول عليه الحكم إلاّ أنّ الشك يقع في أنّ هذا الشيء الخارجي هل هو

٢٠٩

مصداق لموضوع الحكم المعلوم أو لا؟

ونذكر لذلك مثالين ، مثالا للشبهة الموضوعيّة التحريميّة ومثالا للشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة.

أمّا مثال الشبهة الموضوعيّة التحريميّة فهو ما لو علم المكلّف بحرمة شرب الخمر ، فالحكم هنا معلوم وهو الحرمة وعنوان الموضوع أيضا معلوم وهو « الخمر ».

وإنّما الشك في المصداق الخارجي لموضوع الحرمة فلو شكّ المكلّف في خمريّة سائل فهذا الشك هو المعبّر عنه بالشبهة الموضوعيّة التحريميّة ، حيث إنّ متعلّق الشك فيها هو مصداقيّة هذا السائل لموضوع الحرمة.

وأمّا مثال الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة ، فهو ما لو علم المكلّف بوجوب إكرام كل عالم وشكّ في مصداقيّة زيد لموضوع الوجوب.

كما أنّ الجدير بالإشارة في المقام هو أنّ الشبهات الموضوعيّة لا تختص بموضوعات الحرمة والوجوب بل هي متصورة في موضوعات سائر الأحكام ، كما لو علم المكلّف باستحباب التصدّق على الفقير وشكّ في مصداقيّة زيد لعنوان الفقير ، وكذلك لو علم المكلّف بنجاسة الدم المسفوح وشك في أنّ الدم الواقع على ثوبه هل هو من الدم المسفوح أو لا؟ وهكذا.

وأمّا الشبهة الحكميّة :

وهي ما لو كان متعلّق الشك هو الحكم كالوجوب والحرمة وكذلك سائر الأحكام ، فالمشكوك هو ثبوت حكم لموضوع أو عدم ثبوته.

ونذكر لذلك مثالين ، مثالا للشبهة الحكميّة الوجوبيّة ومثالا للشبهة الحكميّة التحريميّة :

٢١٠

أمّا مثال الشبهة الحكميّة الوجوبيّة فهو ما لو وقع الشك في وجوب صلاة الجمعة أو عدم وجوبها ، فإنّ متعلّق الشك في المثال هو الحكم والذي هو الوجوب.

وأمّا مثال الشبهة الحكميّة التحريميّة فهو ما لو وقع الشك في حرمة العصير العنبي أو عدم حرمته ، فإنّ متعلّق الشكّ هو الحكم والذي هو الحرمة ، ومن هنا تكون الشبهة حكميّة تحريميّة.

ومع اتّضاح الفرق بين الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة يقع الكلام فيما هو المستظهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رفع ما لا يعلمون » ، وهل أنّ الرفع خاصّ بالشبهات الموضوعيّة؟ أو هو خاص بالشبهات الحكميّة؟ أو هو شامل لكلا الشبهتين؟

وبعبارة أخرى : هل أنّ مجرى البراءة الشرعيّة بمقتضى هذا الرفع الظاهري خاص بحالات الشك في الموضوع أو هو خاص بحالات الشك في الحكم أو هو شامل لهما معا؟

فالمحتملات في المقام ثلاثة :

الاحتمال الأول : وهو اختصاص الرفع بموارد الشك في الموضوع أي بالشبهات الموضوعيّة ، ويمكن استظهار هذا الإحتمال من الرواية بقرينة وحدة السياق.

وبيان ذلك : إنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « ما لا يعلمون » وقع في إطار فقرات متحدة من حيث التعبير عن المرفوع فيها بالاسم الموصول « ما » وهذا يعبّر عن اتّحاد معنى الاسم الموصول في تمام الفقرات والتي منها الاسم الموصول في قوله « ما لا يعلمون » ، ولمّا كان المعنى من الاسم الموصول في

٢١١

سائر الفقرات هو الموضوع الخارجي ناسب أن يكون المعنى من الاسم الموصول في فقرة الاستدلال هو الموضوع الخارجي أيضا وإلاّ لاختلّت وحدة السياق بين الفقرات وهو خلاف الظاهر.

وبتعبير آخر : إنّ المرفوع في سائر الفقرات لا يمكن أن يكون إلاّ الموضوع الخارجي ، وهذا بخلاف « ما لا يعلمون » فإنّه يمكن أن يكون المرفوع فيها الحكم غير المعلوم إلاّ أنّه لو كان المرفوع هو الحكم لأوجب ذلك اختلال السياق ، ومن هنا يتعيّن كون المراد من المرفوع في فقرة الاستدلال هو الموضوع الخارجي ؛ إذ به تكون وحدة السياق منحفظة.

وأمّا أنّه كيف تعيّن كون المرفوع في سائر الفقرات هو الموضوع الخارجي فهذا ما يتّضح بالتأمّل ، إذ أنّ رفع ما أكرهوا عليه لا يمكن أن يكون الحكم فلا يكون المراد من « رفع ما أكرهوا عليه » هو الحكم الذي أكرهوا عليه أو يكون المراد من رفع ما اضطرّوا إليه هو رفع الحكم الذي اضطروا إليه ؛ إذ لا معنى لاضطرار المكلّف للحرمة أو اضطراره للوجوب ، إذ الوجوب والحرمة ليسا من شؤون المكلّف حتى يكون مضطرا إليهما في بعض الحالات ومختارا لهما في حالات أخرى ، نعم هو يضطرّ إلى الأفعال التي ثبت لها الحرمة فهو يضطرّ لأكل الميتة ، وكذلك الكلام فيما « أكرهوا عليه » فهو إنّما يكره على الفعل الخارجي كالزنا مثلا أو شرب الخمر وهكذا الكلام فيما لا يطيقون ، فهو لا يطيق الصوم أو لا يطيق النفقة على الزوجة لا أنّه لا يطيق وجوب الصوم أو وجوب النفقة ؛ إذ أنّ ذلك ليس من شؤونه كما هو واضح.

ومن هنا يتّضح تعيّن الاسم الموصول في سائر فقرات الرواية في

٢١٢

الموضوع الخارجي وبوحدة السياق يستظهر إرادة الموضوع الخارجي في فقرة « ما لا يعلمون » فيكون المرفوع هو موضوع الحرمة غير المعلوم ، فالسائل الخمري المجهولة خمريّته قد رفعت عنه الحرمة.

وبهذا لا يكون الرفع شاملا لموارد الشبهات الحكميّة والتي يكون متعلّق الشكّ فيها هو أصل الحكم.

والجواب عن استظهار هذا الاحتمال :

إنّ إرادة الشبهات الحكميّة من الاسم الموصول في فقرة « ما لا يعلمون » أو إرادة الأعم منها ومن الشبهات الموضوعيّة لا يوجب اختلال وحدة السياق لو كانت الإرادة الاستعماليّة للاسم الموصول هو المعنى المبهم كمعنى الشيء ، فلو كان المراد من الاسم الموصول في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رفع ما أكرهوا عليه ورفع ما لا يعلمون » هو الشيء لكان وزان هاتين الفقرتين هو « رفع الشيء المكره عليه ورفع الشيء غير المعلوم » فتكون وحدة السياق منحفظة ؛ إذ أنّ المعنى من الاسم الموصول في كلا الفقرتين واحد وهو « الشيء » ، غايته أنّ مصداق معنى الشيء أو قل مصداق الاسم الموصول يتفاوت باعتبار ما يتعلّق به ، فحينما يقال : « رأيت شيئا » فإنّ المناسب لمعنى الشيء ـ باعتبار تعلّقه بالرؤية ـ هو أن يكون مصداقه من الأمور المرئيّة إلاّ أنّ ذلك لا يعني أن الشيء الذي استعمل في هذه الجملة يختلف عن معنى الشيء في جملة « حدث لي شيء » ، نعم مصداق الشيء في الجملة الأولى يختلف عن مصداق الشيء في الجملة الثانية ، وهذا لا يوجب تفاوتا في معنى الشيء في الجملتين.

وبهذا يتّضح أنّ معنى الاسم الموصول في تمام الفقرات واحد والتفاوت

٢١٣

إنّما هو في المصاديق وهذا لا يوجب اختلالا في وحدة السياق لأنّ الذي يوجب الاختلال هو أن يكون المراد الاستعمالي للاسم الموصول في أحد الفقرات مختلفا عن المراد الاستعمالي في سائر الفقرات.

وقلنا الإرادة الاستعماليّة ولم نقل الإرادة الجديّة لأنّ الموجب لكون الاستعمال حقيقيّا أو مجازيا هو الإرادة الاستعمالية والتي هي الدلالة التصديقيّة الأولى ، فإذا كان المدلول التصديقي الأول للاسم الموصول واحدا في تمام الفقرات فهذا يكفي لتحقّق وحدة السياق حتى وإن كان المراد الجدّي من الاسم الموصول في أحد الفقرات مغايرا لما هو المراد الجدّي في سائر الفقرات ، فإنّ ذلك لا يوجب اختلال وحدة السياق بعد أن كان الاسم الموصول قد استعمل في تمام الفقرات في معنى واحد.

الاحتمال الثاني : هو اختصاص الرفع بموارد الشك في الحكم أي بالشبهات الحكميّة ، ويمكن استظهار ذلك بهذا البيان :

وهو أنّ المرفوع في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رفع ما لا يعلمون » هو الاسم الموصول المتّصف بعدم العلم ، فلو كان الاسم الموصول هو الموضوع لما كان متّصفا بعدم العلم لأنّ الموضوع الخارجي يكون معلوما ، فالسائل الخارجي يكون معلوما ومشخصا ، غايته أنّنا نشك في اتّصافه بالخمرية أو عدم اتّصافه ، وبهذا لا يكون الاسم الموصول ـ لو كان هو الموضوع الخارجي ـ مجهولا وغير معلوم بنفسه ، وعليه لا يمكن وصف الموضوع الخارجي بعدم العلم ، فلابدّ إذن من أن يكون الاسم الموصول مجهولا بنفسه حتى يمكن اتّصافه بعدم العلم ، وهذا إنّما يناسب الحكم ؛ إذ أنّه يمكن أن يكون مجهولا فلا تكون هويّة الحكم معلومة ، وبهذا يتعيّن كون المراد

٢١٤

من الاسم الموصول هو الحكم الغير المعلوم فيختصّ الرفع بالشبهات الحكميّة.

وبعبارة أخرى : إنّ المعنى الذي استعمل لفظ الاسم الموصول لغرض الدلالة عليه هو معنى متّصف بعدم العلم ، أي أنّ مدلول الاسم الموصول هو الشيء غير المعلوم ، وهذا يقتضي ألا يكون الموضوع الخارجي مدلولا للاسم الموصول ؛ إذ الشك في الموضوع الخارجي لا يكون إلاّ من جهة مصداقيّته للموضوع المجعول عليه الحكم فهو بنفسه مشخص ولا شكّ فيه ، ومن هنا يكون وصف الموضوع الخارجي بأنّه غير معلوم لا يكون إلاّ بنحو العناية والتجوّز.

فلو كنا مثلا نعرف زيدا وأنّه ابن بكر إلاّ أنّنا نشك في عدالته ، فإنّ وصفه في مثل هذه الحالة بأنّه غير معلوم ليس صحيحا ؛ وذلك لكون زيد معلوما ومشخصا عندنا ، غايته أنّنا لا نعلم بكونه مصداقا لعنوان العدالة إلاّ أنّ هذا لا يصحّح وصفه بغير المعلوم إلاّ بنحو التجوّز وهو محتاج إلى قرينة.

وبهذا يتّضح أنّ وصف الموضوع الخارجي بغير المعلوم لا يكون مدلولا للاسم الموصول وإنّما هو مدلول للقرينة المفقودة في المقام ومدلول الاسم الموصول هو غير المعلوم حقيقة ، فعليه لو كان المراد منه الموضوع الخارجي لكان ذلك خلاف الظاهر ؛ وذلك لأنّ الظاهر من الاسم الموصول في الرواية هو الشيء المتّصف بغير المعلوم حقيقة وواقعا وهذا ما يناسب الحكم المجهول في نفسه.

وبهذا يثبت اختصاص الرفع بالشبهات الحكميّة.

٢١٥

والجواب عن استظهار هذا الاحتمال :

أولا : أنّه لو جعلنا مدلول الاسم الموصول هو عنوان الخمريّة للمائع مثلا أو عنوان العدالة لزيد لكان اتّصاف هذا العنوان بغير المعلوم حقيقيّا وليس فيه أي عناية وتجوّز فلا فرق بين عنوان الخمر في المثال وبين الحكم في أنّ كلا منهما غير معلوم حقيقة ، فتكون دلالة الاسم الموصول عليهما بنحو واحد ؛ إذ أنّ مدلول الاسم الموصول هو الشيء غير المعلوم وعنوان الخمريّة لهذا المائع شيء غير معلوم واقعا وبهذا يكون مستفادا من حاق لفظ الاسم الموصول.

وأمّا كيف أنّ عنوان الخمريّة غير معلوم حقيقة فذلك إذا ما جعلنا متعلّق الشك هو خمريّة المائع ، فالمشكوك هو الخمريّة وليس المائع حتى يكون اتّصافه بالشك وعدم العلم مجازيا.

وبتعبير أوضح : تارة نصف المائع الخارجي بأنّه غير معلوم ، وهذا الاتّصاف لا إشكال في مجازيته ؛ إذ أنّ المائع الخارجي معلوم في نفسه والشك إنّما هو في مصداقيته لعنوان الخمر ؛ ولذلك لا يمكن أن يكون المائع الخارجي مدلولا للاسم الموصول ؛ إذ أنّ مدلول الاسم الموصول هو غير المعلوم حقيقة ، فلو كان المراد منه هو المائع الخارجي لما أمكن التعرّف على المراد بواسطة لفظ الاسم الموصول بل لابدّ من نصب قرينة على ذلك المراد.

وتارة نصف خمريّة المائع بغير المعلوم فيكون الوصف حقيقيا ، إذ الموصوف بغير المعلوم هو الخمريّة ، والخمريّة للمائع غير معلومة ، نعم المائع معلوم إلاّ أنّ المائع ليس هو الموصوف في هذا الفرض.

٢١٦

وكذلك الكلام في عنوان العدالة لزيد ، فإنّ وصف عدالة زيد بأنها غير معلومة ليس فيه تجوّز بل هو إسناد حقيقي ، فحينما نقول عدالة زيد غير معلومة لا يكون في هذا الإسناد أيّ تسامح ، نعم لو قلنا زيد غير معلوم لكان هذا الإسناد مجازيّا.

وبهذا تندفع دعوى تعيّن الاسم الموصول في الحكم باعتباره هو غير المعلوم حقيقة ؛ إذ أن إسناد ووصف عنوان الموضوع الخارجي بغير المعلوم حقيقي ، وبهذا يصلح أن يكون مدلولا للاسم الموصول.

ثانيا : يمكن تحويل الشك في الموضوع إلى الشك في الحكم ؛ وذلك لأنّ المكلّف حينما يشك في الموضوع فإنّه يشكّ واقعا في فعليّة الحكم ، إذ أنّ فعليّة الأحكام تابعة لتنقّح موضوعاتها ، فإذا كان موضوع الحكم محرز العدم فإنّه لا شك في فعليّة الحكم بل هناك قطع بعدم الفعليّة للحكم ، أمّا لو وقع الشك في أنّ الموضوع الخارجي هل هو موضوع الحكم أو لا؟ فإنّ ذلك يساوق الشك في فعليّة الحكم.

فلو وقع الشكّ في أنّ هذا المائع الخارجي خمر أو لا فإنّ ذلك يعني الشك في فعليّة الحرمة للخمر.

ومن هنا لو ادّعي اختصاص الاسم الموصول بالشك في الحكم فإنّ ذلك يكون شاملا للشبهات الموضوعيّة ؛ إذ أنّ الشك سواء كان في الشبهات الحكميّة أو الموضوعيّة إنّما هو شك في فعليّة الحكم على المكلّف.

الاحتمال الثالث : شمول الرفع لموارد الشك في الحكم والشك في الموضوع ، أي أنّ المرفوع بحديث الرفع هو الأعم من الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة.

٢١٧

واستظهار هذا الاحتمال يستوجب تصوير جامع بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم ويكون ذلك الجامع صالحا لأن يكون مدلولا للاسم الموصول.

ومن هنا فقد ذكر للجامع تصويران :

التصوير الأوّل للجامع : هو دعوى أنّ مدلول الاسم الموصول هو معنى الشيء ، فيكون الاسم الموصول ـ بناء على هذا التصوير صادقا على التكليف المشكوك والموضوع المشكوك ؛ إذ أنّ كلا منهما مصداق لمعنى الشيء.

الإشكال على هذا التصوير :

هو أنّه يلزم منه الجمع بين إسنادين متباينين في استعمال واحد ، وهو في الاستحالة كاستعمال لفظ واحد في معنيين متباينين ، فكما أنّ الثاني يلزم منه اجتماع لحاظين متباينين على ملحوظ واحد كذلك الأوّل.

وبيان ذلك :

إنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رفع ما لا يعلمون » أسند الرفع فيه للاسم الموصول ، فهنا مسند ومسند إليه ، فالمسند هو الفعل المبني للمفعول « المجهول » والمسند إليه هو الاسم الموصول ، وأمّا الإسناد فهي نسبة الرفع إلى ما لا يعلمون.

والإسناد تارة يكون حقيقيا وأخرى يكون مجازيا :

أمّا الإسناد الحقيقي : فهو ما كان المسند فيه منتسبا إلى المسند إليه حقيقة أي بلا واسطة مصححة للإسناد والانتساب ، كإسناد الفعل المبنى للفاعل إلى من صدر عنه الفعل حقيقة أو إسناد الفعل المبني للمفعول إلى من وقع عليه الفعل حقيقة.

٢١٨

فالأول : كقوله تعالى ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) (١) فالفعل « يتوفّى » قد أسند إلى فاعله الحقيقي وهو الله جلّ وعلا ، إذ هو سبحانه الذي صدر عنه التوفي حقيقة.

والثاني : كقوله تعالى ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) (٢) فالفعل المبني للمفعول قد أسند إلى من وقع عليه الفعل حقيقة وهو القرآن ؛ إذ أنّ انتساب المقروئيّة إلى القرآن حقيقي.

وأمّا الإسناد المجازي : فهو ما يكون فيه المسند منتسبا إلى المسند إليه بواسطة مصحّحة للإسناد وإلاّ فهو بنفسه لا يصلح لأن ينتسب إلى المسند إليه بهذا النحو من الانتساب.

ومثاله قول أبي الطيّب المتنبّي :

ربما تحسن الصنيع لياليه

ولكن تكدّر الإحسانا

فهنا أسند الشاعر الفعل « تحسن » إلى الليالي « المسند إليه » ، والمصحّح لهذا الإسناد هو علاقة الظرفيّة ، أي باعتبار أنّ الليالي وقعت ظرفا لإحسان المحسن الحقيقي صحّح ذلك إسناد الفعل إليها.

وبهذا يتّضح أنّ الإسناد الحقيقي مباين للإسناد المجازي ، وإذا كان كذلك فلابدّ أن يكون إسناد الرفع إلى ما لا يعلمون إمّا إسناد حقيقي أو إسناد مجازي ، ودعوى أنّ الرفع مسند إلى الحكم وإلى الموضوع يقتضي أن يكون الإسناد حقيقيا ومجازيا ، فهو حقيقي بالنسبة إلى الحكم ومجازي

__________________

(١) سورة الزمر آية ٤٢.

(٢) سورة الاعراف آية ٢٠٤.

٢١٩

بالنسبة إلى الموضوع.

وبيان ذلك : إنّه حينما يدعى أنّ المراد من الاسم الموصول ـ والذي هو المسند إليه في الرواية ـ هو معنى الشيء القابل للصدق على الحكم والموضوع فهذا يقتضي أن يكون المراد من الاسم الموصول هو الحكم وهو الموضوع ، وهذا لا محذور فيه لو كان إسناد الرفع للحكم كإسناد الرفع للموضوع ، أي بحيث يكون كلا الإسنادين حقيقيّا أو مجازيا ، كما لو قلنا « جاء القوم » ، أي جاء زيد وبكر وخالد ، فإنّ إسناد المجيء إلى الجامع « القوم » لا إشكال فيه باعتبار أنّ إسناد المجيء إلى جميع أفراد الجامع حقيقي.

أمّا لو كان إسناد الفعل مثلا إلى بعض أفراد الجامع حقيقيّا والإسناد إلى البعض الآخر مجازي فهو غير ممكن ، كما لو قيل « سافر الصحب » وكان المراد من إسناد السفر إلى بعض الأصحاب حقيقيا بأن كانوا قد سافروا حقيقة إلاّ أنّ إسناد السفر إلى البعض الآخر مجازي كأن كان المقصود من سفرهم موتهم ، فهذا مستحيل لاستلزامه اجتماع لحاظين متباينين في آن واحد ـ وهما لحاظ إسناد الفعل مثلا إلى ما هو له ولحاظ إسناد الفعل إلى غير ما هو له ـ على ملحوظ واحد وهي الجملة المستعملة لغرض إفادة الإسناد.

والمقام من هذا القبيل ، إذ أنّ دعوى كون المدلول للاسم الموصول هو « الشيء » الجامع بين الحكم والموضوع يؤول إلى إسناد الرفع إلى الحكم وإلى الموضوع في عرض واحد ، وهو غير ممكن لأنّ إسناد الرفع إلى الحكم حقيقي لقابليّته لأن يرفع حقيقة ، أي أنّ إسناد الرفع إليه لا يحتاج إلى مصحّح وواسطة ، وباعتبار أنّ الحكم شرعي فإنّ للمولى أن يرفعه كما له أن يضعه.

٢٢٠