شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

الأصول العمليّة

١ ـ القاعدة العمليّة الأوليّة في حالة الشك

٢ ـ القاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشك

٣ ـ الاستصحاب

١٨١
١٨٢

الأصول العمليّة

وهي الأدلّة المقرّرة لوظيفة المكلّف في ظرف الشكّ في الحكم الشرعي ، فإنّ المكلّف إذا فقد الدليل الكاشف عن الحكم الشرعي الواقعي ، فإنّ ذلك لا يعني انتفاء مسؤوليّته عن البحث عمّا يلزمه تجاه مولاه ؛ إذ أنّ المكلّف وبحكم عبوديّته ملزم بأن تكون كلّ أفعاله جارية على وفق الضوابط الشرعيّة.

ومن هنا تصدى الفقهاء « رضوان الله عليهم » للبحث عمّا هي الوظيفة المقرّرة للمكلّف في حال فقدان الدليل المحرز الكاشف عن الحكم الشرعي ، ومن الطبيعي أن تكون للشارع أحكام خاصة بمثل هذه الحالة لما ثبت بالدليل القطعي من أنّه لا تخلو واقعة من حكم ولا تخلو حالة ـ من حالات المكلّف ـ من حكم شرعي.

والذي يحدّد الحكم الشرعي للمكلّف في مثل هذه الحالة هو ما يعبّر عنه بالأصل العملي أو بالدليل العملي ، وهذا ما سيتمّ بحثه في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

١٨٣
١٨٤

القاعدة العمليّة الأوليّة في حالة الشك

ذكرنا فيما سبق أنّ الأصول العمليّة لا يلجأ إليها إلاّ حين افتقاد الدليل المحرز أو إجماله ، إذ أنّ موضوع الأصول العمليّة هو الشك في الحكم الشرعي الواقعي ، وهذا الموضوع لا يتنقّح إلا حين فقدان الدليل المحرز أو عدم إمكان الاستفادة منه بسبب إجماله.

وذكرنا أيضا أنّ الأصول العمليّة مترتّبة في المرجعيّة ، فالأصول التي موضوعها الشكّ مع إضافة قيد زائد تكون متقدّمة في مقام المرجعيّة على الأصول الفاقدة لذلك القيد ، فالمبرّر لتقدّم الاستصحاب مثلا على البراءة العقليّة والاحتياط العقلي هو اشتمال موضوعه على قيد زائد وهو اليقين السابق.

ومن هنا يتّضح المراد من الأصل العملي الأولي ، إذ المراد منه المرجع العام حين فقدان الأدلّة المحرزة والأصول العمليّة ذات القيد الإضافي.

وبعبارة أخرى : الأصل العملي الأولي هو الذي يكون موضوعه الشكّ أو قل عدم العلم فحسب دون إضافة قيد زائد ، وبهذا يخرج الاستصحاب مثلا لأنّ موضوعه الشك المسبوق باليقين ، وتخرج أيضا قاعدة منجزيّة العلم الإجمالي لأنّ موضوعها الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي وهكذا.

والبحث في المقام يقع عن الأصل العملي الأولي ، وهل هو البراءة

١٨٥

العقليّة أو هو الاحتياط العقلي؟

فهنا اتّجاهان ، اتّجاه يبني على أنّ الأصل العملي الأولي هو البراءة العقليّة والتي تعني أنّ المكلّف في سعة من جهة التكاليف الإلزاميّة الواقعيّة في حال عدم العلم بها.

ومبرّر هذه الدعوى هو ما يحكم به العقل من قبح العقاب بلا بيان ، وهذا يقتضي أنّ حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا مختص بحال العلم بالتكليف الإلزامي ، فما لم يكن المكلّف عالما بالتكليف فإنّه ليس للمولى أن يطالبه بامتثال ذلك التكليف ، فالمكلّف في سعة من جهة ذلك التكليف أي أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان تؤمن المكلّف من العقاب لو اتّفق مخالفته للحكم الواقعي الإلزامي المجهول ؛ وذلك لعدم اتّساع دائرة حقّ الطاعة للمولى لحالات الجهل المجامع للظنّ أو الاحتمال.

الاتّجاه الثاني :

وهو الذي يبني على أنّ الأصل العملي الأولي هو الاحتياط والاشتغال العقلي ، أي انّ المكلّف ملزم عقلا بالاحتياط في حالات الظنّ والاحتمال بالتكليف الإلزامي وأنّه لا يعذر في ترك التكليف الواقعي وإن كان ذلك التكليف مجهولا ، إذ يكفي في منجّزية التكليف الواقعي احتماله أو الظنّ بوجوده ، فالظنّ والاحتمال منجّزان للتكليف الواقعي عقلا ، نعم لا يكون المكلّف مسؤولا عن التكليف الواقعي لو كان يقطع بعدم وجود التكليف ؛ لأنّ القطع معذّر بذاته ـ كما تقدّم ـ.

وهذا الاتّجاه هو المعبّر عنه بمسلك حقّ الطاعة ، وهو يعني اتّساع دائرة حقّ الطاعة لحالات الظنّ والاحتمال ، فالمكلّف لا يكون مسؤولا عن التكاليف المعلومة فحسب بل عنها وعن التكاليف المحتملة والمظنونة ، نعم

١٨٦

لو أذن المولى في ترك التكاليف المظنونة والمحتملة فإنّ المكلّف حينئذ يكون في سعة من جهتها ، إلاّ أنّ هذا لا يعني عدم استحقاقه بل يعني التنازل عن حقّه جلّ وعلا.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ منجزيّة التكاليف المظنونة والمحتملة معلّقة على عدم الترخيص ، وهذا بخلاف التكاليف المعلومة فإنّ الترخيص في تركها يعني المنع عن حجيّة القطع وقد قلنا باستحالته.

وكيف كان فقد استدلّ المحقّق النائيني رحمه‌الله ـ كما يستفاد من كلماته ـ على صحّة الاتّجاه الأوّل « البراءة العقليّة » بدليلين :

الدليل الأوّل : إنّ التكليف الإلزامي ما دام مجهولا فلا مقتضي للانبعاث نحو امتثاله ؛ إذ الباعث نحو امتثال التكليف إنّما هو العلم بوجوده ، أمّا وجوده في نفس الأمر والواقع فلا يستوجب البعث والتحريك عينا كسائر الأخطار فإنّها إنّما توجب الفرار والتجنّب عنها إذا كانت معلومة ، أمّا إذا كان الخطر موجودا إلاّ أنّه غير معلوم فإنّه لا يكون حينئذ دافع للإنسان نحو الفرار منه ، بل قد يقع في الخطر عن محض اختيار بتوهّم صلاحه وفائدته ، وهذا ما يكشف عن أنّ الوجود الواقعي للخطر ليس موجبا للتحرّك نحو الفرار عنه وإنّما الموجب لذلك هو العلم به ؛ فلذلك ترى الطفل يداعب الثعبان لعدم إدراكه بخطورته وقد يفرّ من الإنسان الوديع ذي الوجه القبيح لتوهّمه بخطورته ، وقد تجد الإنسان واقفا لا يحرّك ساكنا والذئب من ورائه وما ذلك إلاّ لعدم علمه بوجوده ، كلّ ذلك يعبّر عن أنّ الباعث والمحرّك إنّما هو العلم وليس الوجود الواقعي ، وإذا كان كذلك فالتكليف لمّا كان مجهولا فلا شيء يقتضي التحرّك والانبعاث نحو امتثاله ، وإدانة المكلّف بعد ذلك على عدم الانبعاث نحو امتثال التكليف يكون قبيحا

١٨٧

بعد أن لم يكن هناك موجب للتحرّك والانبعاث.

فكما لا يلوم العقلاء من وقع ضحيّة للذئب لغفلته أو جهله بوجوده ويرون معاتبته والسخريّة منه قبيحة فكذلك المقام ، إذ لو اتّفق وقوعه في مخالفة التكليف الواقعي فإنّه لا يكون مسؤولا عن ذلك التكليف لأنّ جعل المسؤوليّة عليه رغم جهله قبيح بنظر العقلاء.

والجواب عن هذا الدليل :

إنّه لا نسلّم أنّ الباعث للمكلّف نحو امتثال التكليف هو العلم بوجود تكليف مولوي إلزامي بل إنّ ذلك مرتبط بحدود حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا ، فلو كان حقّ الطاعة شاملا للتكاليف المحتملة لكان الاحتمال وحده كافيا في البعث نحو امتثال التكاليف المحتملة.

وبعبارة أخرى : إنّ الموجب للانبعاث نحو تحصيل مرادات المولى جلّ وعلا يتحدّد بتحديد دائرة حقّ الطاعة للمولى فإذا ثبت أنّ دائرة حقّ الطاعة للمولى تتّسع لتشمل التكاليف المحتملة والمظنونة فإن مجرّد الظن والاحتمال بوجود التكليف يكون موجبا للتحرّك نحو الامتثال والخروج عن عهدة الحقّ المفروض عليه بحكم عبوديّته للمولى جلّ وعلا. إذن لا بدّ أولا من تحديد دائرة حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا ، فادعاء أنّ المكلّف لا يكون مسؤولا عن غير التكاليف المعلومة يكون مصادرة على الدعوى ، إذ أنّ ذلك هو محلّ النزاع والذي نطالب بالبرهان عليه ، فنحن نبحث عن حدود حقّ الطاعة فإذا قلت انّ المكلّف مسؤول عن التكاليف المعلومة فحسب وانّه غير مسؤول في حالات الظنّ والاحتمال بالتكليف فهذا هو عين ما نبحث عن دليله أي أنّ هذا الدليل هو عين الدعوى التي نبحث عن صحّتها أو فسادها.

١٨٨

نعم لو قلت إنّنا قبل هذا الدليل كنّا نبحث عن حدود حقّ الطاعة وبهذا الدليل ثبت أنّ حدودها مختصّ بحالات العلم بالتكاليف ؛ إذ أنّ العلم هو الموجب الوحيد للانبعاث نحو امتثال تكاليف المولى جلّ وعلا.

كان الجواب أنّ ذلك ليس هو الموجب الوحيد للتحرّك والانبعاث ، فالاحتمال والظنّ بالتكليف أيضا باعثان ومحرّكان للطاعة وامتثال التكاليف المولويّة ؛ وذلك لأنّنا ندّعي اتّساع حقّ الطاعة لحالات الظنّ والاحتمال ، ومع التوجّه لسعة حدود حقّ الطاعة يكون ذلك موجبا لأن يتحرّك المكلّف لغرض الخروج عن عهدة الحقّ المفروض عليه.

والعقلاء لا يأبون ذلك ، فلو أنّ المولى العرفي قال لعبيده متى ما احتملتم تعلّق إرادتي بإيجاد فعل فإنّه يلزمكم الإتيان به فإنّه لو عاقب المولى بعد ذلك عبيده في حال عدم التحرّك عن الاحتمال فإنّه لا يكون ملاما من العقلاء ؛ وذلك لإدراكهم بأنّ الاحتمال صار موضوعا لتنجّز الحق للمولى على عبيده.

الدليل الثاني : ـ على الاتجاه الأول ـ هو أنّ المتبانى العقلائي قاض بقبح معاقبة السيّد عبيده على مخالفة أوامره في حال جهلهم بها ، فالعقلاء لا يرون لهذا السيّد حقّا في أن تمتثل أوامره ولا يرون له الحقّ في معاقبة عبيده على ترك امتثال تلك الأوامر المجهولة ؛ فلذلك تجد أنّ السيرة العقلائيّة جارية على عدم محاسبة الجاهل للقوانين لو اتّفق مخالفته لها ويستبشعون معاقبته على المخالفة.

والجواب عن هذا الدليل :

أنّ السيرة العقلائيّة الجارية على اختصاص حقّ الطاعة للمولى العرفي بالأوامر المعلومة مسلّم ولا إشكال فيه ، إلاّ أنّ هذا التحديد لحقّ

١٨٩

الطاعة للمولى العرفي إنّما نشأ عن الاعتبار العقلائي ؛ ولذلك تكون حدود هذا الحقّ تابعة لحدود الاعتبار ، فلو كان المعتبر أوسع من هذه الدائرة لكان ذلك يقتضي اتّساع حدود الحقّ ولو كان أضيق لاقتضى ذلك ضيق دائرة الحقّ ، فضيق أوسعة دائرة حقّ الطاعة للمولى العرفي تابع لاعتبار من له حقّ الاعتبار وهم العقلاء مثلا أو من يحترم العقلاء اعتباره ، فتبانيهم إذن على أنّ الحقّ الثابت للمولى العرفي مختصّ بحالات العلم نشأ عن ضيق دائرة الاعتبار العقلائي.

والمقام ليس من هذا القبيل ؛ وذلك لأنّ حقّ الطاعة لله جلّ وعلا ليس تابعا للجعل والاعتبار العقلائي حتّى تتحدّد بحدود الاعتبار العقلائي وإنّما هو مدرك عقلي قطعي وليس خاضعا للجعل والاعتبار ، فالعقل يدرك أنّ حقّ الطاعة للمولى من اللوازم الذاتيّة لمولويّة المولى جلّ وعلا ، فكما أنّ النار تستلزم بذاتها الحرارة فكذلك مولويّة المولى الحقيقي تستلزم استحقاقه للطاعة ، إذن فباعتبار أنّ حقّ الطاعة من مدركات العقل فلابدّ أن يكون تحديد حقّ الطاعة ـ وأنّها خاصّة بالتكاليف المعلومة أو أنّها تشمل التكاليف المظنونة والمحتملة ـ من شؤون المدرك العقلي ، وإذا رجعنا إلى عقولنا نجد انّ حدود حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا شاملة لحالات الظنّ والاحتمال بالتكليف.

والمتحصّل أن مدركات العقل العملي قاضية باتّساع حقّ الطاعة لمطلق التكاليف الواصلة ولو بنحو الاحتمال ، والشاهد على ذلك هو الوجدان.

وبهذا يثبت أنّ الأصل العملي الأولي هو الاحتياط العقلي أي تنجّز التكاليف الواصلة ولو بنحو الاحتمال إلاّ أنّ يتنازل المولى عن حقّه فيرخّص في ترك التكاليف المظنونة والمحتملة.

١٩٠

القاعدة العمليّة الثانويّة في حال الشكّ

قلنا فيما سبق إنّ العقل يحكم بلزوم الاحتياط في موارد الظنّ والاحتمال بالتكليف وإنّ ذلك هو الأصل العملي الأولي.

وذكرنا أيضا أنّ هذا الأصل وإن كان من مقتضيات حقّ الطاعة للمولى إلاّ أنّ للمولى أن يتنازل عن هذا الحقّ فيرخص في ترك التكاليف المنكشفة بنحو الظنّ أو الاحتمال ، فعليه يكون الاحتياط العقلي معلّقا على عدم الترخيص الشرعي في حالات الظنّ والاحتمال ، فلو جاء ما يدلّ على ترخيص المولى في ترك التكاليف المظنونة والمحتملة فإنّ ذلك يكون نافيا لموضوع الاحتياط العقلي ؛ إذ أنّ موضوعه هو الشكّ مع عدم الترخيص فمع تحقّق الترخيص ينتفي لزوم الاحتياط لانتفاء موضوعه ـ وهو عدم الترخيص ـ.

وبتعبير آخر : إنّ لزوم الاحتياط العقلي لمّا كان مقيّدا بعدم الترخيص الشرعي فهذا يقتضي انتفاء قيد الاحتياط العقلي ، إذ أنّ قيده هو عدم الترخيص وفرض الكلام هو تحقّق الترخيص.

وبهذا البيان يتّضح أنّه لا مانع ثبوتا من الترخيص الشرعي في ترك الاحتياط العقلي ، وإنّما الكلام في إثبات وجود ترخيص شرعي لترك

١٩١

الاحتياط العقلي وأنّ المولى قد وسّع على عباده تفضلا وأمّنهم عقوبة المخالفة لما يقتضيه الاحتياط العقلي.

ولهذا تصدّى علماء الأصول للبحث عن الأدلّة الإثباتيّة على الترخيص الشرعي والمعبّر عنه بالبراءة الشرعية.

ويمكن تصنيف الأدلّة التي استدلّ بها على البراءة الشرعيّة إلى قسمين :

الأوّل : هو القرآن الكريم.

الثاني : هو السنّة الشريفة.

أمّا الاستدلال بالقرآن الكريم :

فقد استدلّ بمجموعة من الآيات :

منها : قوله سبحانه وتعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (١) ولكي يتّضح تقريب الاستدلال نذكر تمام الآية الكريمة ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ) (٢).

وتقريب الاستدلال بهذه الآية الكريمة :

إنّ الاسم الموصول في الآية الكريمة « ما » له أربعة احتمالات والاحتمال الثالث أو الرابع هو المطلوب إثباته حتّى تكون الآية صالحة للاستدلال.

__________________

(١) سورة الطلاق آية ٧.

(٢) سورة الطلاق آية ٧.

١٩٢

الاحتمال الأوّل : أن يكون المراد من الاسم الموصول هو المال ، فيكون معنى الآية بناء على هذا الاحتمال أنّه لا يكلّف الله أحدا مالا « أي إنفاق مال » إلاّ بالمقدار الذي يملكه ، أمّا إذا لم يكن مالكا للمال فلا تجب عليه النفقة.

الاحتمال الثاني : أن يكون المراد من الاسم الموصول هو الفعل ، فيكون معنى الآية بناء على هذا الاحتمال هو أنّ الله تعالى لا يكلّف أحدا فعلا من الأفعال إلاّ أن يكون قد أقدره على ذلك الفعل ، أي أنّ المكلّف لا يسأل عن امتثال فعل لا يطيقه.

الاحتمال الثالث : أن يكون المراد من الاسم الموصول هو التكليف فيكون معنى الآية الكريمة ـ بناء على هذا الاحتمال ـ هو أنّ الله عزّ وجل لا يسأل عن تكليف إلاّ أن يكون قد أوصله إلى المكلّف ، أي : إلاّ أن يكون ذلك التكليف معلوما للمكلّف ، وهذا يعني عدم التكليف في ظرف عدم العلم ، ولو كان هذا الاحتمال هو المتعيّن من الآية الكريمة لكانت دالّة على المطلوب ، إذ به تثبت عدم مسؤوليّة المكلّف عن التكاليف غير المعلومة وهو معنى البراءة الشرعيّة.

الاحتمال الرابع : هو أن يكون المراد من الاسم الموصول هو الجامع بين هذه الأمور الثلاثة ، فيكون التكليف بكلّ واحد من هذه

الثلاثة بحسبه ، أي بما يتناسب معه.

أمّا الاحتمال الأول فهو القدر المتيقّن من الآية الكريمة ؛ وذلك لأنّ مساق الآية الكريمة هو النفقة على الزوجة المطلّقة ما دامت في العدّة ، وهذا ما يناسب أن يكون الاسم الموصول « ما » هو المال ؛ وذلك لاستبعاد أن

١٩٣

يكون المورد غير مراد ويكون غيره هو المراد.

وأمّا الاحتمال الثاني والثالث فلا يمكن أن يكون أحدهما أو كلاهما مرادا بعينه بحيث لا يكون الاحتمال الأول مرادا معهما ؛ وذلك لأنّ الاحتمال الأوّل هو مورد الآية الكريمة بقرينة السياق ، كما أنّه لا قرينة على تعيّن أحد الاحتمالين الثاني والثالث أو تعينهما معا.

وأمّا الاحتمال الرابع ـ وهو أن يكون المراد من الاسم الموصول هو الجامع الشامل للمعاني الثلاثة ـ فهو المستظهر من الآية الكريمة ، ومبرّر هذا الاستظهار هو الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ وذلك لأنّ الظاهر من الآية هو أنّها في مقام تأسيس كبرى كليّة مفادها أنّ الله جلّ وعلا لا يكلّف بتكليف إلاّ أن يكون ذلك التكليف قد هيّأ مبرّرات امتثاله ؛ إذ مع عدم وجود المال لا يتهيّأ للمكلّف الإنفاق ومع عدم القدرة لا يتهيأ للمكلّف الإتيان بالمأمور به ، ومع عدم وصول التكليف لا يكون هناك دافع للتحرّك نحو امتثاله.

فالآية الكريمة وان كان موردها النفقة إلاّ أنّ ذلك لا يعني عدم انعقاد الإطلاق لها ؛ وذلك لعدم صلاحيّة المورد للقرينيّة على الاختصاص ، إذ أنّنا لا نقول إنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب صالح لهدم الإطلاق أو عدم انعقاده.

فلو كان المولى مريدا لخصوص المال لكان عليه أن يبرز قرينة على ذلك ، فعدم ذكر القرينة على إرادة خصوص المال رغم أنّه في مقام البيان كاشف عن عدم إرادة المال بالخصوص ، وهذا ما ينتج الإطلاق ، وبهذا يثبت ـ وبمقتضى الإطلاق أنّ التكليف غير المعلوم لا يسأل الله المكلّف عنه وهذا هو معنى البراءة الشرعيّة.

١٩٤

الإشكال على الاستدلال بالآية الكريمة :

وقد أورد الشيخ الأنصاري رحمه‌الله على هذا التقريب للاستدلال بما حاصله :

إنّ إرادة المال من الاسم الموصول تعني أنّ الاسم الموصول « ما » مفعول به للفعل المضارع « يكلّف » وهذا ما يقتضي مغايرة الفعل « يكلّف » لمفعوله « ما » ؛ وذلك لأنّ الفعل دائما يغاير ـ من حيث المادة ـ مفعوله ، والتغاير في المادّة يقتضي التغاير في المفهوم أي أنّ مفهوم مادّة الفعل تختلف دائما عن مفهوم مادة المفعول به ، وبهذا تكون نسبة الفعل لمفعوله نسبة المغاير لمغايره ، فالنسبة بين « الضرب » و « عمرو » في قولنا « ضرب زيد عمروا » هي نسبة المفهومين المتباينين ؛ إذ أنّ معنى الضرب من « ضرب » مباين لمعنى « عمرو » والذي هو المفعول به.

وكذلك الكلام في المقام لو بنينا على أنّ الاسم الموصول هو « المال » ؛ إذ العلاقة حينئذ تكون علاقة المفهومين المتغايرين ؛ وذلك لأنّ « المال » في الآية موقعه موقع المفعول به للفعل المضارع « يكلّف ».

ولو كان المراد من الاسم الموصول هو التكليف لكان الاسم الموصول في موقع المفعول المطلق للفعل « يكلّف » هكذا « لا يكلّف الله إلاّ تكليفا » وهذا يقتضي أن تكون العلاقة بين الفعل والاسم الموصول علاقة الحدث بحالة من حالاته ؛ وذلك لأنّ المفعول المطلق دائما يكون مسانخا لفعله ، غايته أنّه يضفي عليه توضيحا قد لا ينفهم من الفعل بمجرده ، فالمفعول المطلق إمّا أن يؤكّد فعله أو يبيّن نوعه أو يحدّد عدده ، ومن الواضح أن

١٩٥

تأكيد الفعل لا يعبّر إلاّ عن اشتداد الحدث ، والاشتداد لا يغاير الحدث وإنّما يكشف عن أنّ مرتبة الحدث كانت شديدة ، فالاشتداد والضعف في الحدث هما من سنخ الحدث وليسا شيئا عارضا على الحدث ، فالحدث إمّا أن يكون شديدا أو ضعيفا ، ويمكن توضيح ذلك بالمفاهيم المشكّكة ، فإنّ صدق النور على الشمس كصدقه على المصباح وإن كانا يتفاوتان شدّة وضعفا.

« فالضرب » في قولنا « ضرب زيد عمروا » هو عينه « الضرب » في قولنا « ضربه ضربا » ، غايته أنّ المفعول المطلق في المثال الثاني كشف عن أنّ مرتبة الضرب كانت شديدة.

ولو كان المفعول المطلق مبينا للنوع فهذا أيضا لا يعبّر عن التغاير بين الفعل ومفعوله المطلق ؛ وذلك لأنّ بيان النوع بيان لواقع الحدث ، إذ انّ صدق الحدث على أنواعه يكون بمستوى واحد ، فالحدث بمثابة الجنس والذي هو الحقيقة المشتركة الجامعة لتمام أنواعها ، ولا يتفاوت صدق الجنس على أنواعه ، فلا يكون النوع معنى مباينا لجنسه بل هو مسانخ له تمام التسانخ ، غايته أنّ لكلّ نوع ما يميّزه عن سائر الأنواع التي يشترك معها في الانضواء تحت الجنس.

والمفعول المطلق يبين أحد هذه الأنواع والتي تعبّر عن حالة من حالات الجنس « الحدث » ، فحينما يقال « جلست جلسة زيد » فإنّ المفعول المطلق « جلسة » هو عين الحدث « جلست » غايته أنّ المفعول المطلق قد أضفى على الحدث توضيحا ـ وهو بيان نوعه ـ وإلاّ فالحدث في واقعه لا بدّ أن يكون متنوعا بأحد أنواعه إذ لا يمكن أن يوجد الحدث إلاّ في إطار أحد أنواعه ، وعليه فيكون دور المفعول المطلق دور الكاشف عن

١٩٦

ذلك النوع الذي وقع الحدث في إطاره.

وبهذا اتّضح أن المفعول المطلق المبين لنوع الحدث ليس شيئا مغايرا للحدث وإنّما هو حالة من حالاته ، فالجنس والذي هو الحدث يتحوّل من حال إلى حال تبعا لوقوعه في إطار أنواعه.

ولو كان المفعول المطلق محددا للعدد فهذا أيضا لا يقتضي التغاير بين الفعل ومفعوله المطلق ؛ إذ أنّ المفعول المطلق حينئذ لا يقتضي أكثر من ترامي الحدث واستمراره بمقدار العدد ، فحينما يقال « خطوت خطوتين » فهذا يعني استمرار الحدث بمقدار خطوتين ، فالمفعول المطلق هنا يعبّر أيضا عن حالة من حالات الحدث.

وبهذا البيان اتّضح أنّ العلاقة بين الفعل والمفعول به تختلف عن العلاقة بين الفعل والمفعول المطلق ، وهذا يعني عدم وجود جامع بينهما ، فإمّا أن يكون الاسم الموصول مفعولا به للفعل « يكلّف » وإمّا أن يكون مفعولا مطلقا ويستحيل أن يكون المراد هو الجامع بينهما لتباين علاقة كلّ واحد بالفعل ، وإذا كانا متباينين فلا يمكن أن يكون بينهما جامع ؛ وذلك لأنّ مقتضى أنّ المراد من الاسم الموصول الجامع هو إرادة معنيين متباينين في عرض واحد ؛ وذلك لأنّ العلاقة بين الفعل ومفعوله تباين العلاقة بين الفعل ومفعوله المطلق ففي الوقت الذي يكون المراد هو العلاقة الأولى يكون المراد هو العلاقة الثانية ـ المباينة للأولى ـ ، وهو مستحيل لاستحالة استعمال اللفظ في معنيين متباينين في عرض واحد ؛ لأنّه يؤول إلى وجود لحاظين متباينين على ملحوظ واحد وهو مستحيل.

فمثلا لفظ العين يمكن استعماله وإرادة العين الباصرة ويمكن استعماله

١٩٧

استعمالا آخر وإرادة العين الجارية ، أمّا أن نستعمله استعمالا واحدا ونريد منه الباصرة والجارية فهذا مستحيل ؛ لأنّ ذلك يقتضي أن تلحظ العين بلحاظين متباينين في عرض واحد ، وذلك لأنّه حينما يستعمل لفظ في معنى فإنّه لا بدّ من تصوّر المعنى أولا وتصوّر اللفظ الذي يراد استعماله لإفادة المعنى ، وحينما يكون الإنسان متصورا لذلك المعنى فإنّ ذهنه لا يمكن أن يكون مشتغلا بمعنى آخر ؛ إذ أنّ صفحة الذهن تكون مشغولة بالمعنى الأول ومن الواضح أنّ المشغول لا يشغل إلاّ أن تخلو صفحة الذهن عن المعنى الأوّل فإنّه بالإمكان حينئذ أن يحلّ المعنى الثاني محلّ المعنى الأول ، وهذا يقتضي الترتّب بينهما وبهذا تثبت استحالة اجتماع معنيين في صفحة الذهن في عرض واحد.

وإذا كان ذلك مستحيلا فإنّ إرادة الجامع من الاسم الموصول يكون مستحيلا ؛ لأنّه يؤول إلى استعمال لفظ واحد وإرادة معنيين متباينين.

ومنها : قوله تعالى ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١).

تقريب الاستدلال بالآية الكريمة :

إنّ الرسول في الآية الكريمة جيء به للتعبير عن البيان ، إذ أنّ الرسول مصداق لوسيلة الكشف عن الأحكام الشرعيّة ، وبهذا تكون الآية الكريمة دالّة على نفي العقاب والإدانة في حالة عدم البيان ، فمعنى أنّ الله لا يعذّب إلاّ في حالة بعث الرسول هو أنّ الله عزّ وجل لا يعاقب على ترك التكاليف الواقعيّة ما لم يبينها ، ومن الواضح أنّه مع الجهل بالتكليف الواقعي يكون

__________________

(١) سورة الإسراء آية ١٥.

١٩٨

ذلك التكليف غير مبيّن فيكون تركه حينئذ غير مستتبع للعقاب ، وهذا هو معنى البراءة الشرعيّة ، إذ أنّها تؤمّن من العقاب على مخالفة التكليف الواقعي في ظرف الجهل وعدم البيان.

والجواب على الاستدلال بالآية الكريمة :

إنّ صلاحيّة الآية الكريمة للدلالة على البراءة الشرعيّة ينشأ عن كون الرسول مثالا للبيان ، فيكون معنى الآية كما ذكرنا أنّ الله لا يعذّب على مخالفة تكليف غير مبيّن ، أما لو لم نسلّم بأن عنوان الرسول مثال للبيان وإنّما هو مثال لصدور البيان فهنا لا تكون الآية دالّة على البراءة الشرعيّة ؛ وذلك لأنّ معنى الآية بناء على هذا الاحتمال هو أنّ الله لا يعذّب أحدا إلاّ بعد صدور البيان عنه جلّ وعلا ، ومن الواضح أنّ صدور البيان لا يلازم وصوله ، وهذا يعني سكوت الآية عن نفي العقاب في حال عدم وصوله ؛ لأنّها لمّا كانت متصدّية لخصوص نفي العقاب في حال عدم صدور البيان وقلنا بعدم الملازمة بين الصدور والوصول ، فقد يصدر البيان ولا يصل ، في هذه الحالة لا تكون الآية مؤمّنة عن العقاب ، إذ أنّها أمّنت من العقاب في حال عدم الصدور ، وهنا الصدور متحقّق ـ كما هو المفترض ـ وإن كان وصول البيان غير متحقّق.

والاحتمال الثاني هو المستظهر من الآية الكريمة ؛ وذلك لأنّ المناسب لعنوان الرسول هو صدور البيان لا وصوله ، إذ أنّ بعث الرسول لا يساوق وصول الأحكام الإلهيّة لكلّ أحد إلاّ أنّه يساوق صدور الأحكام عن الله جلّ وعلا بواسطة الرسول.

وإذا كان المستظهر من الآية هو المعنى الثاني فلا تكون صالحة لأن

١٩٩

يستدل بها على البراءة الشرعية.

ومنها : قوله تعالى ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١).

وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة :

إنّ الآية في مقام بيان ما يحتج به على الذين يلتزمون بالتزامات يزعمون أنّها عن الله جلّ وعلا ، فالآية الكريمة ترشد إلى أنّ الاحتجاج يكون بهذا البيان وهو أنّ ما تزعمون أنّه حرام شرعي لا نجد عليه دليلا من الوحي الإلهي ، وهذا النحو من الاحتجاج يعبّر عن أنّ عدم وجدان ما يدلّ على حرمة شيء من الوحي الإلهي يقتضي عدم لزوم الالتزام بتركه ، وهو يعني جواز ارتكاب ما يحتمل حرمته إذا لم يكن دليل من الوحي الإلهي.

وهذا هو معنى البراءة الشرعيّة التي يكون موضوعها عدم وجدان الدليل على التكليف الإلزامي.

والجواب عن الاستدلال بالآية الكريمة :

إنّ الآية الكريمة وإن كانت بصدد بيان ما يحتج به على من يلتزم بالتزامات يزعم أنّها عن الله جلّ وعلا إلاّ أنّ من الواضح أنّ هذا النحو من الاحتجاج لا يصلح لأن يحتج به كلّ أحد ؛ لأنّه متقوم بالاطلاع التام على الوحي الإلهي ، وهذا لا يكون إلاّ لمثل الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو الذي

__________________

(١) سورة الأنعام آية ١٤٥.

٢٠٠