شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

إمكان النسخ وتصويره

والبحث عن إمكان النسخ يقع في مقامين :

المقام الأوّل : إمكان النسخ في مرحلة مبادئ الحكم.

المقام الثاني : إمكان النسخ في مرحلة الجعل والاعتبار.

أمّا المقام الأوّل : إنّه لمّا كانت الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها فهذا يقتضي أن يدور الحكم مدار المصلحة والمفسدة وجودا وعدما ، فمتى ما كانت المصلحة دائمة كان الحكم معها دائميا ومتى ما كانت مؤقتة كان الحكم مؤقتا ، وإذا افترض أنّ المصلحة معلّقة على قيد كان الحكم كذلك.

وهذا هو سرّ دائميّة بعض الأحكام وتوقيت بعض آخر منها ، إذ أنّ المولى ولإحاطته بأوجه المصالح والمفاسد يعلم أنّ هذا الفعل مثلا يظلّ واجدا للمصلحة التامّة إلى الأبد فلذلك يجعل الحكم عليه دائميا ، وفي حالات أخرى يعلم أنّ هذا الفعل وإن كان واجدا للمصلحة فعلا إلاّ أنّها تزول بعد زمن محدّد فلذلك يجعل الحكم على الفعل مغيّى بانتهاء ذلك الزمن المحدّد.

ويستحيل في حقّه تعالى أن يرى للفعل مصلحة تامّة ودائمة فيجعل على الفعل ذي المصلحة حكما دائميا ثمّ ينكشف له بعد ذلك أنّ المصلحة

١٦١

مؤقّتة أو أنّ المصلحة ليست تامّة بل مزاحمة بما هو أقوى منها ملاكا أو أنّه لا مصلحة في الفعل أصلا وإنّما هي وهم ليس له واقع.

واستحالة ذلك ناشئ عن استحالة الجهل على الله جلّ وعلا كما هو مقتضى البراهين العقليّة القطعيّة ، فهو جلّ وعلا محيط بكلّ شيء ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ولا يحدّه زمان ولا يحيط به مكان.

ومن هنا ينشأ سؤال وهو ما هو إذن مبرّر النسخ في الشرايع السماويّة والشريعة الإسلاميّة والذي لا يمكن إنكار وقوعه فيها؟

والجواب أنّ النسخ إذا كان بمعنى انكشاف منافاة ما كان يرى المولى جلّ وعلا واقعيّته للواقع وأنّه لم يكن أكثر من وهم فهذا مستحيل على الله سبحانه وتعالى فلو كان يرى أنّ المصلحة أو المفسدة في فعل أنّها دائميّة وعليه كانت له إرادة أو مبغوضيّة لهذا الفعل دائميّة فمن المستحيل أن يكون علمه منافيا للواقع وأنّ المصلحة أو المفسدة في الفعل ليست دائميّة بل هي مؤقتة واقعا.

وهذا النحو من النسخ ليست مقبولا عند أحد من المسلمين.

نعم هو ممكن في حقّ سائر المشرعين والمقنّنين والذين ليست لهم إحاطة بأوجه المصالح والمفاسد ، فيرون لفعل مصلحة تامّة وفي الواقع ليست له أي مصلحة بل لعلّه مشتمل على مفسدة تامّة ، أو يرون لفعل مصلحة دائميّة وفي الواقع أنّها مؤقتة ، فتكون إرادتهم لإيجاد الفعل ناشئة عن أوهام ليس لها حظ من الواقع ثمّ بعد ذلك ينكشف لهم الواقع وأنّهم كانوا مخطئين فتنقلب إرادتهم إلى ما يناسب الواقع المنكشف ، فإذا كان هذا هو معنى النسخ الحقيقي في عالم المبادئ فهو مستحيل على الله سبحانه

١٦٢

وتعالى.

وواقع النسخ في الشريعة الإسلاميّة وسائر الشرايع السماويّة هي أنّ المولى جلّ وعلا حينما لا حظ الفعل ولا حظ اشتماله على المصلحة وأنّها ليست دائميّة بل إنّها مؤقّتة ، أو أنّ المصلحة مرتبطة بحيثيّات خاصّة فتعلّقت له إرادة متناسبة من أول الأمر مع حدود المصلحة المتعلّقة بالفعل فهي إرادة مؤقّتة ومحدّدة بحدود المصلحة المتعلّقة بالفعل ، وهذا ما يقتضي زوال الإرادة بزوال مصلحة الفعل وانتفاء الإرادة بانتفاء الحيثيّات الدخلية في اشتمال الفعل على المصلحة ، فالنسخ بهذا المعنى ممكن على الله سبحانه وتعالى ؛ إذ أنّه لا يتنافى مع علمه وإحاطته بأوجه المصالح والمفاسد.

فالنسخ إذن في عالم المبادئ هو انتهاء أمد الحكم ـ المعلوم من حين تشريعه ـ بانتهاء المصلحة عن الفعل الواقع متعلقا للحكم ، وليكن هذا المعنى للنسخ معنى مجازيا ، واستعمال القرآن الكريم والسنّة الشريفة للنسخ بهذا المعنى ليس فيه محذور ، إذ أنّه استعمال مجازي قرينته البرهان العقلي.

المقام الثاني : في إمكان النسخ في مرحلة الجعل والاعتبار :

بعد أن اتّضح عدم إمكان النسخ الحقيقي على الله جلّ وعلا في عالم المبادئ والملاكات وإنّما الممكن في حقّه تعالى هو النسخ بالمعنى المجازي والذي لا يتنافى مع علمه وإحاطته بكلّ شيء.

بعد أن اتّضح ذلك نصل للبحث عن إمكان تصوير النسخ في مرحلة الجعل والاعتبار والتي هي مرحلة إبراز الحكم وجعله.

ومرادنا من الحكم الأعم من الحكم التكليفي والحكم الوضعي فنقول :

إنّ النسخ بالمعنى الحقيقي في مرحلة الجعل والاعتبار يعني أنّ الحكم المجعول

١٦٣

يكون مطلقا من حيث الزمان فلا يختص بزمان دون زمان ثمّ يرفع ذلك الحكم ، والنسخ بهذا المعنى ممكن في الشريعة ، وذلك بأن يجعل المولى حكما ولا يقيّده بزمن خاص رغم علمه بأن مبادئ هذا الحكم مؤقّتة بزمن خاص ، ورغم أنّ إرادته لإيجاد متعلّق الحكم مؤقّتة ومحدّدة بحدود المصلحة الموجودة في متعلّق الحكم إلاّ أنّ المولى ترك ذكر القيد الزماني لحكمة اقتضت ذلك أو لعدم وجود فائدة من ذكر القيد حين تشريع الحكم ، فإنّ المكلّف لمّا كان مسؤولا فعلا عن إيجاد متعلّق الحكم فإنّ اللازم هو بيان تشريع الحكم والحدود الدخيلة فعلا في تشريع وفعليّة الحكم ومتعلّقه وموضوعه ، وأمّا القيود التي ليس لها دخل فعلي في ذلك فلا يلزم بيانها.

وأمّا النسخ بالمعنى المجازي فهو يعني انتهاء أمد الحكم بانتهاء وقته المبيّن في لسان دليله ، فإنّ النسخ بهذا المعنى ممكن جدّا ، والمبرّر لارتفاع الحكم هو ارتفاع موضوعه إذ أنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما ، ولمّا كان قد أخذ في موضوع الحكم وقتا خاصا فهذا يعني أنّ الوقت جزء الموضوع للحكم ، ومن الواضح أنّ انتفاء موضوع أو جزء موضوع الحكم يقتضي انتفاء الحكم.

ومثال ذلك أن يجعل المولى حكما ويصرّح في لسان الدليل أنّ أمد هذا الحكم ينتهي بعد شهر فإنّه بعد انتهاء الشهر ينتهي أمد الحكم.

والمعنى الأوّل هو المتداول استعماله إذ أنّه غالبا لا يطلق النسخ على الحكم المقيّد بزمان مذكور في لسان دليل الحكم.

١٦٤

الملازمة بين الحسن والقبح والأمر والنهي

ويقع البحث في المقام عن ثبوت الملازمة بين ما يحكم به العقل من ثبوت الحسن لفعل أو القبح لآخر وبين الوجوب للأوّل والحرمة للثاني ، فهل أنّ إدراك العقل لحسن فعل يلازم حكم الشارع بوجوبه وأنّ إدراكه لقبح فعل يلازم حكم الشارع بحرمته؟ أو أنّه لا ملازمة بين ما يدركه العقل وبين الحكم الشرعي؟

وقبل البحث عن ثبوت الملازمة وعدم ثبوتها لا بدّ من بيان المراد من معنى الحسن والقبح العقليّين ، فنقول :

إنّ الحسن والقبح من المدركات العقليّة الواقعيّة ، فإدراك العقل لهما كإدراكه لاستحالة اجتماع النقيضين واستحالة وجود المعلول عن غير علّة ، فالحسن والقبح إذن من الصفات الواقعيّة وثبوت الحسن والقبح لمتعلّقاتهما ذاتي ، فالفعل الحسن هو الذي يقتضي بذاته الحسن أي أنّ الحسن ناشئ عن مقام ذاته وكذلك الفعل القبيح ، فكما أنّ اتّصاف كلّ فعل باستحالة اجتماعه مع نقيضه ذاتي فكذلك اتّصاف الفعل بالحسن أو القبح ، فإن اتّصاف الفعل بالحسن أو القبح ليس ناشئا عن المصالح أو المفاسد أو عن ملائمة الفعل للطبع أو عدم ملائمته ، فإنّنا بالوجدان نجد انّ بعض الافعال متّصفة بالحسن ولا يكون اتّصافها بالحسن عن مصلحة فيها ونجد أنّ بعض

١٦٥

الأفعال مشتملة على مصلحة ومع ذلك لا يحكم العقل بحسنها بل قد يحكم بقبحها.

ودعوى أنّ الحسن ناشئ عن ملائمة الفعل للطبع منقوض ببعض الأفعال التي لا تكون منسجمة مع الطبع ومع ذلك تكون متّصفة بالحسن وببعض الأفعال التي تكون منسجمة مع الطبع ومع ذلك تكون مستقبحة.

كلّ ذلك يعبّر عن أنّ اتّصاف الأفعال بالحسن أو القبح ذاتي ، والذاتي لا يعلّل ، كما أنّ الذاتي لا ينقلب عمّا هو عليه ، فالفعل الحسن لا ينقلب إلى القبح وكذلك العكس.

والمتحصّل ممّا ذكرناه أنّ الحسن والقبح من الصفات الواقعيّة وأنّ اتّصاف الأفعال بهما ذاتي وأنّهما من المدركات العقليّة الأوليّة فهما لا يختلفان عمّا يدركه العقل من استحالة اجتماع النقيضين فكلا الحكمين من مدركات العقل الأوليّة ، غايته أنّ الحسن والقبح من مدركات العقل العملي أي أنّهما بذاتيهما يستتبعان أثرا عمليّا أي يستوجبان التحرّك والانبعاث نحو متعلّقيهما ، فالفعل الحسن يدرك العقل أنّه ينبغي فعله والفعل القبيح يدرك العقل أنّه لا ينبغي فعله.

وهذا الأثر لصفتي الحسن والقبح لازم ذاتي لهما ، أي أنّه ناشئ عن مقام الذات لصفتي الحسن والقبح ، ووظيفة العقل ليست أكثر من إدراك هذا اللازم إلاّ أنّه قد يطلق على هذا المدرك العقلي عنوان الحكم العقلي تجوّزا.

ومع ثبوت إدراك العقل أنّ الحسن ينبغي فعله وأنّ القبيح لا ينبغي فعله يصل بنا البحث عن ثبوت الملازمة بين ما يحكم به العقل وبين

١٦٦

الحكم الشرعي ، فقد ذهب مشهور الأصوليّين إلى ثبوت الملازمة بينهما وأنّه إذا حكم العقل بحسن شيء وانبغاء فعله حكم الشرع بوجوب ذلك الشيء ومتى ما حكم العقل بقبح شيء وانبغاء تركه حكم الشرع بحرمة ذلك الشيء.

ومدرك هذه الدعوى أنّ الشارع سيّد العقلاء ومن غير الممكن أن يتطابق العقلاء بما هم عقلاء على حكم ولا يكون ذلك الحكم موافقا لما عليه الشرع.

وقد نفى بعض المحقّقين ثبوت الملازمة بشكل مطلق ، وبيان ذلك :

إنّ الحسن والقبح تارة يقع في مرتبة المعلول للحكم الشرعي وتارة يكون إدراك الحسن والقبح لا يتّصل بالحكم الشرعي أي أنّه لا يقع في رتبة المعلول للحكم الشرعي كحسن العدل وقبح الظلم فإنّ إدراكه لا يكون متأخّرا ولا مترتّبا على ثبوت حكم شرعي بل إنّ إدراكه يكون مستقلا عن الحكم الشرعي.

والنحو الأوّل من إدراك العقل للحسن والقبح يستحيل ثبوت الملازمة في مورده ؛ وذلك لاستلزامه التسلسل المحال ، إذ أنّ معنى وقوع المدرك العقلي للحسن والقبح في رتبة المعلول للحكم الشرعي هو ما يدركه العقل من حسن طاعة الأمر المولوي وقبح عصيان الأمر المولوي ، ومن الواضح أنّه لا يحكم العقل بحسن طاعة أمر المولى إلاّ أن يكون هناك أمر مولوي كما لا يحكم بقبح معصية المولى إلاّ أن يكون هناك أمر مولوي ، فموضوع إدراك العقل لحسن الطاعة وقبح المعصية هو الأمر المولوي الشرعي ، أما لو لم يكن أمر فعلى أي شيء تقع الطاعة والمعصية حتى يدرك

١٦٧

العقل حسن الأول وقبح الثاني؟

ومن هنا صار الحكم الشرعي في رتبة العلّة للحكم العقلي بالحسن والقبح ، فمتى ما حكم الشارع بوجوب الصلاة حكم العقل بحسن طاعة أمر المولى بالصلاة ، ومتى ما حكم العقل بحرمة شرب الخمر حكم العقل بقبح معصية نهي المولى.

فلو كان يلزم من إدراك العقل لحسن الطاعة وقبح المعصية حكم شرعي بوجوب الطاعة وحرمة المعصية لكان هذا الحكم الشرعي الذي استفدناه بواسطة الملازمة مولّدا لحكم عقلي بحسن الطاعة وقبح المعصية ، وهذا الحكم العقلي يلازم حكما شرعيا آخر بوجوب الطاعة وحرمة المعصية ، ويكون هذا الحكم الشرعي مولّدا لحكم عقلي وهكذا إلى ما لا نهاية.

وأمّا النحو الثاني من إدراك العقل للحسن والقبح والذي لا يكون في مرتبة المعلول للحكم الشرعي كحسن العدل وقبح الظلم فدعوى الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي تامّة.

١٦٨

الاستقراء والقياس

إنّ التعرّف على الأحكام الشرعيّة بواسطة الاستقراء والقياس لا يكون ممكنا إلاّ بعد الإيمان بمقدّمة مطوية وهي أنّ أحكام الله جلّ وعلا ليست جزافية واعتباطيّة وإنّما هي ناشئة عن ملاكات في متعلّقاتها ، فالوجوب لا يكون إلاّ عن مصلحة تامّة في متعلّقة والحرمة لا تكون إلاّ عن مفسدة تامّة في متعلّقها وهكذا سائر الأحكام والجعولات الشرعيّة فإنّها لا بدّ أن تكون ناشئة عن علل موجبة لجعلها.

فإذا ما سلّمنا بهذه المقدمة أمكنت الاستفادة من القياس أو الاستقراء في مقام التعرّف على الحكم الشرعي ، إذ أنّ الحكم الشرعي بلحاظ جعله واعتباره لا يمكن استكشافه بواسطة القياس أو الاستقراء وإنّما الذي يمكن استفادته بواسطة القياس أو الاستقراء إنّما هي علل الأحكام ، وحينما نتعرّف على علّة الحكم نتمكّن من الوصول إلى الحكم عن طريق هذه المقدّمة وهي تبعيّة الأحكام لعللها وملاكاتها.

وبعد اتّضاح هذه المقدّمة يصل بناء الحديث إلى البحث عن كيفيّة التعرّف على ملاكات الأحكام بواسطة الاستقراء والقياس.

أمّا الاستقراء :

فهو يعني متابعة مجموعة من القضايا الجزئية المعلومة الحكم لغرض

١٦٩

الوصول إلى مجهول تصديقي تتحد فيه جميع موضوعات تلك القضايا الجزئيّة تحت حكم واحد بحيث يمكن انتزاع موضوع كلّي من مجموع موضوعات تلك القضايا الجزئيّة فيكون الحكم كلّي لكليّة موضوعه.

ومثاله أن يلاحظ المتتبّع والمستقرء أنّ الأسد ذا المخلب يفترس ، وأنّ الثعلب ذا المخلب يفترس ، وأنّ الذئب ذا المخلب يفترس ، وهكذا فيستنتج من هذا التتبع لهذه القضايا الجزئية قضيّة كليّة لم تكن معلومة ، وهي أنّ كلّ ذي مخلب فهو مفترس ، وهذه القضيّة الكليّة المستنتجة متّحدة الحكم مع القضايا الجزئيّة الملاحظة حين التتبّع وإنّما الاختلاف بين النتيجة ومقدماتها هو أنّ موضوع النتيجة كلّي ، أمّا موضوعات القضايا الملاحظة حين الاستقراء فهي جزئيّة ، والذي أفاده الاستقراء هو انتزاع عنوان كلّي جامع لموضوعات القضايا الجزئيّة ، وهذا هو منشأ كليّة وعموم الحكم في نتيجة الاستقراء ، إذ أنّ عموم الحكم أو جزئيّته تابع لعموم موضوعه أو جزئيّته ، ولمّا كان موضوع الحكم في نتيجة الاستقراء عاما فالحكم بتبعه يكون عاما ، وبهذا يكون الاستقراء منتجا لمعلوم تصديقي كان مجهولا قبل الاستقراء ، إذ أنّ المعلوم قبل الاستقراء هو مجموعة من القضايا الجزئيّة ، أمّا بعد الاستقراء فهناك قضيّة كليّة استفيدت بواسطته ، ويمكن الاستفادة من هذه القضيّة ـ لو كان الاستقراء ناقصا ـ في معرفة حكم الموضوعات التي لم تدخل تحت الملاحظة حين الاستقراء إذا كانت تلك الموضوعات داخلة تحت عموم موضوع النتيجة للاستقراء.

ومع اتّضاح معنى الاستقراء تتّضح كيفيّة استنباط ملاكات الأحكام عن طريق الاستقراء ، فإنّ الفقيه حينما يلاحظ أنّ الشارع لم يجعل العدّة على

١٧٠

المطلّقة الصغيرة ويلاحظ أنّ المطلّقة اليائس ـ التي ليس لها قابليّة للحمل ـ ليس عليها عدّة ، وأنّ غير المدخول بها ـ والتي لا يمكن أن تحبل عن زوجها ـ ليس عليها عدّة ، فإنّه يستنتج من هذا الاستقراء والتتبّع أنّ كلّ من ليس لها قابليّة لأن تحبل من زوجها فليس عليها عدّة ، فالتي استؤصل رحمها ليس عليها عدّة باعتبارها غير قابلة لأن تحبل.

فالاستقراء هنا قد كشف لنا عن علّة وجوب العدّة على المطلّقة وبواسطته عرفنا أنّ الشارع حكم بانتفاء العدّة عن كلّ من ليس لها قابليّة لأن تحبل.

والغالب في نتيجة الاستقراء أنّها ظنيّة ؛ وذلك لأنّ الاستقراء غالبا ما يكون ناقصا ، والاستقراء الناقص لا ينتج اليقين ، ومن هنا نحتاج إلى ما يثبت حجيّة الظنّ الناشئ عن الاستقراء ، إذ أنّ حجيّة الظنّ ليست ذاتيّة فلابدّ من دليل قطعي يثبت له الحجيّة ؛ إذ أنّ كلّ ما بالعرض لا بدّ وأن يرجع إلى ما بالذات ، ولمّا كانت الحجيّة عرضيّة بالنسبة للظنّ فهي محتاجة إلى دليل قطعي ؛ وذلك لكون الحجيّة للقطع ذاتيّة.

وأمّا القياس :

وقد ذكرت للقياس باصطلاح الأصوليّين مجموعة من الطرق ذكر المصنّف رحمه‌الله منها واحدا ، وسوف نقتصر على بيان الطريقة التي تعرّض لها المصنّف رحمه‌الله وهي قياس السبر والتقسيم والمشابه في اصطلاح المناطقة للتمثيل.

والغرض من هذا النحو من القياس هو التعدّي من حكم موضوع جزئي معلوم إلى موضوع جزئي آخر مجهول الحكم لإثبات نفس ذلك

١٧١

الحكم ـ الثابت للموضوع الجزئي الأوّل ـ للموضوع الجزئي الآخر المجهول الحكم.

والمراد من قياس السبر والتقسيم هو البحث عن الجهة المشتركة بين الموضوعين ـ الموضوع المعلوم الحكم والموضوع المجهول الحكم ـ والتي يحتمل أو يطمأنّ أن تكون هي علّة ثبوت الحكم للموضوع الأوّل ، والغرض من البحث عن العلّة هو تعدية الحكم المعلّل بها لكلّ موضوع مشتمل على تلك العلّة المشتركة والمستنبطة بواسطة العقل أو الاستحسان أو معرفة ذوق الشريعة أو ما إلى ذلك.

وعبّر عنه بقياس السبر باعتبار أنّ السبر يعني الفحص والتنقيب ، والمجتهد في المقام يفحص وينقّب عن العلّة بواسطة الوسائل المعتمدة عنده كالاستحسان أو معرفة ذوق الشريعة.

وعبّر عنه بقياس التقسيم باعتبار أنّ المجتهد في مقام الفحص عن العلّة يتناول الموضوع المعلوم الحكم بالتصنيف ، فيلاحظه تارة من جهة هذه الصفة المشتمل عليها وتارة يلاحظه من جهة صفة أخرى هو مشتمل عليها حتى يحصي تمام صفاته التي يمكن أن تكون هي منشأ ثبوت الحكم للموضوع.

وبهذا البيان اتّضح أنّ قياس السبر والتقسيم يتقوّم بأمور ثلاثة :

الأوّل : الأصل وهو الموضوع المعلوم الحكم ، ويعبّر عنه بالمقيس عليه.

الثاني : الفرع وهو الموضوع المجهول الحكم والذي يراد تعدية الحكم الثابت للموضوع الأول له ، ويعبّر عنه بالمقيس.

١٧٢

الثالث : العلّة المستنبطة والتي تكون واسطة في تعدية الحكم من الموضوع الأول إلى الموضوع المجهول الحكم باعتبار أنّ الموضوع الثاني إذا كان واجدا لنفس علّة ثبوت الحكم للموضوع الأوّل فهذا يقتضي اشتراكهما في الحكم.

ولكي يتّضح المطلب أكثر نذكر هذا المثال :

لو أردنا أن نبحث عن مطهريّة مادة الكحول « السبرتو » للخبث فإنّه بالإمكان التعرّف على مطهريتها أو عدم المطهريّة بواسطة قياس السبر والتقسيم ؛ إذ أنّه سيكشف عن علّة مطهريّة الماء للخبث ، فإذا ما وجدنا أنّ مادة الكحول مشتملة على علّة المطهريّة فإنّه يمكن حينئذ تعدية حكم التطهير من الماء إلى مادة الكحول.

ونبدأ بتناول الماء ـ والذي هو الموضوع المعلوم الحكم ـ بالتصنيف لصفاته التي يحتمل أن تكون هي المنشأ في ثبوت حكم المطهريّة له فنقول :

أولا : إنّ الماء سائل : فيحتمل أن يكون منشأ مطهريّته هو سيولته ، وهذا الاحتمال بعيد ، لسيولة كثير من المواد رغم عدم مطهريّتها ، فهذا الاحتمال ساقط إذن.

ثانيا : إنّ الماء بارد بالطبع ، فيحتمل أنّه العلّة في ثبوت المطهريّة له ، إلاّ أنّ هذا الاحتمال بعيد أيضا ، وذلك لأنّ الاعتبار العقلائي لا يستسيغ أن تكون البرودة مطهّرة للخبث خصوصا وأنّ البرودة بنفسها لا تزيل عين النجاسة ومن البعيد أنّ الشارع اعتبر البرودة مطهّرة تعبدا ؛ لأنّ التعبديّات لا بدّ وأن تكون مناسبة للاعتبارات العقلائيّة.

ثالثا : إنّ الماء لا لون له ، واحتمال أن يكون هذا هو علّة المطهريّة للماء بعيد جدّا.

١٧٣

وهكذا نستعرض صفات الماء التي من المحتمل أن تكون هي العلّة في ثبوت المطهريّة له إلى أن نظفر بما يصحّ لأن يكون علّة ومناطا في ثبوت المطهريّة للماء ، فإن كانت تلك العلّة موجودة في الموضوع المجهول الحكم أثبتنا له الحكم وإلاّ نفيناه.

وفي مثالنا هناك احتمال قريب إذا تمكنّا من تشييده بالوسائل المعتمدة فإنّه يكون علّة الحكم لمطهرية الماء.

وهو أنّ الماء مزيل للأوساخ والقاذورات ، وهذه الصفة هي التي تميّزه عن سائر السوائل والمواد الأخرى ، والاعتبار العقلائي يساعد على انّ هذه الصفة هي العلّة للمطهريّة ، إذ أنّ الأعراف العقلائيّة على اختلاف مشاربهم يرون للماء هذه الصلاحية ومن البعيد أن يكون منشأ إثبات الشارع المطهريّة للماء غير المنشأ عندهم كما أنّ استبعاد أن تكون الصفات الأخرى هي مناط ثبوت المطهريّة يساهم في نشوء وترسّخ الاطمئنان بكون المناط لثبوت المطهريّة للماء هو إزالته للأوساخ والقاذورات.

فإذا ثبت أنّ هذا هو المناط فحينئذ نعرض هذه الصفة على مادة الكحول ، فإن وجدنا أنّ هذه المادة متوفّرة على هذه الصفة فإنّنا نعدّي الحكم الثابت للماء إلى هذه المادّة ، وبنظرة فاحصة إلى مادة الكحول نجد أنّ هذه الصفة من أبرز سماتها.

وبهذا تثبت المطهريّة الشرعيّة لمادّة الكحول ، هكذا يعرف دين الله جلّ وعلا!!!

وتلاحظون أنّ هذا النحو من القياس يقوم على أساس الحدس والاستحسان ، وهو لا ينتج إلاّ الظن ، فلا تثبت له الحجيّة إلاّ مع قيام دليل قطعي على حجيّته ، « ودونه خرط القتاد ».

١٧٤

حجيّة الدليل العقلي

كان الكلام ـ فيما سبق ـ حول إثبات صغرى الدليل العقلي أي كنّا نبحث عن إثبات وجود المدركات العقليّة التي يمكن أن تقع في طريق استنباط كثير من الأحكام الشرعيّة من مختلف الأبواب الفقهيّة.

وثبوت صغريات الدليل العقلي لا ينهي البحث كما هو واضح ، إذ لا بدّ من إثبات حجيّة هذه المدركات وأنّها صالحة للدليليّة على الحكم الشرعي ، وهذا ما يعبّر عنه بكبرى الدليل العقلي ، فلو تمّ إثبات الحجيّة للدليل العقلي فإنّه يمكن حينئذ تشكيل قياس منطقي ، صغراه تكون إحدى القضايا العقليّة التي تمّ إثبات صحتها وكبراه هي حجيّة ما يدركه العقل.

وبهذا تكون النتيجة هي صلاحيّة الدليل العقلي للكشف عن الحكم الشرعي.

ويمكن تقسيم البحث عن حجيّة الدليل العقلي إلى قسمين :

الأوّل : هو البحث عن حجيّة الدليل العقلي القطعي.

الثاني : هو البحث عن حجيّة الدليل العقلي الظنّي.

أمّا ما يتّصل بحجيّة الدليل العقلي القطعي فباعتبار أنّ الدليل العقلي القطعي منتج لليقين بالحكم الشرعي فالدليل العقلي بهذا يكون حجّة ؛ وذلك لحجيّة القطع بذاته من غير فرق بين أن يكون منشؤه الشرع أو

١٧٥

العقل أو مناشئ أخرى ، وهذا ما تمّ إثباته في مباحث القطع.

إلاّ أنّه ينسب إلى بعض الأخباريّين التفصيل في حجيّة القطع ، فما يكون منه ناشئا عن الشرع فهو حجّة وما يكون منه ناشئا عن العقل فهو ليس بحجّة.

وقد وجّه هذا التفصيل بما لا ينافي البناء على حجيّة القطع مطلقا ، وذلك عن طريق تحويل القطع بالحكم الشرعي المستفاد من الدليل العقلي إلى قطع موضوعي ، وهذا ممكن كما ذكرنا ذلك في مباحث القطع ، وذلك بأن يؤخذ عدم القطع بالحكم الشرعي ـ الناشئ عن الدليل العقلي ـ قيدا في فعليّة الحكم الشرعي.

وبهذا يكون كلّ حكم شرعي فهو مقيّد بعدم نشوئه عن القطع العقلي بالحكم الشرعي ، وهذا ما يجعل عدم القطع العقلي موضوعا لفعليّة الحكم الشرعي.

ومثال ذلك أن يقال إنّ وجوب المقدّمة مقيّد بعدم ثبوته بواسطة العقل ، وهذا يعني انّ وجوب المقدّمة لا تكون معه واجبة ، نعم لو ثبت وجوب المقدّمة بواسطة الدليل الشرعي فإنّ المقدّمة حينئذ تكون واجبة ؛ وذلك لتحقّق قيدها وهو عدم الثبوت بواسطة الدليل العقلي.

وبتعبير آخر : إنّ وجوب المقدّمة يمكن أن يكون ثابتا شرعا بنحو مطلق ويمكن أن يكون مقيّدا وحينئذ يكون الوجوب منوطا بتحقّق القيد ، فلو قام الدليل على أنّ الوجوب الشرعي للمقدّمة مقيّد بعدم القطع بالوجوب للمقدّمة بواسطة العقل فهذا يقتضي أنّ الوجوب لا يثبت في حالات القطع به عن طريق العقل ، وهذا لا محذور فيه بعد أن كان منشأ

١٧٦

عدم الثبوت هو انتفاء قيد الوجوب الشرعي والذي هو عدم القطع العقلي بالوجوب ، فالقطع العقلي لمّا أخذ عدمه موضوعا في ثبوت الفعليّة للوجوب فهذا يعني انقلابه من قطع طريقي كاشف عن متعلّقه إلى قطع موضوعي ، والقطع الموضوعي كسائر القيود والموضوعات تابعة لاعتبار المعتبر ، فأي قيد أو موضوع ـ مهما كانت هويته ـ إذا اعتبره المعتبر دخيلا في ترتّب الحكم فإنّ الحكم عندئذ يكون منوطا به ويكون منتفيا حين لا يكون متوفّرا ، وبهذا لو قطع المكلّف عقلا بوجوب المقدّمة ولم يكن دليل شرعي على وجوب المقدّمة فإنّ الوجوب للمقدّمة يكون منتفيا لانتفاء قيد الفعليّة للوجوب.

وبهذا البيان يندفع ما قد يقال من أنّ هذا يؤول إلى المنع عن حجيّة القطع الطريقي ؛ وذلك لأنّه إذا كان المكلّف قاطعا بالحكم الشرعي ولو بواسطة العقل ، فإنّه من المستحيل أن يكون قطعه بالحكم الشرعي نافيا للحكم الشرعي ، فإنّ قطعه بالحكم الشرعي يورثه القطع بعدم صحّة هذا القيد ، كما أنّه قد ذكرنا في مباحث القطع أنّ المنع عن حجيّة القطع مستحيل حتى بغضّ النظر عن اعتقاد القاطع أيضا.

إلاّ أنّ هذا الإشكال غير وارد ـ كما اتّضح ممّا ذكرناه ـ إذ أنّ المقيّد بعدم القطع العقلي ليس هو الحكم الشرعي بمرتبة الجعل وإنّما المقيّد هو فعليّة الحكم الشرعي أي الحكم بمرتبة المجعول.

فإذا قطع المكلّف بالجعل الشرعي بواسطة العقل فإنّ الحكم الشرعي لا يكون فعليا ؛ وذلك لأنّ الذي أخذ عدم القطع العقلي به في فعليّة الحكم الشرعي هو الجعل الشرعي ، فمتى لم يقطع المكلّف بالجعل الشرعي بواسطة

١٧٧

العقل وإنّما قطع به بواسطة الشرع فإنّ قيد الفعليّة للحكم الشرعي يكون متحقّقا ، ومتى ما تحقّق القطع بواسطة العقل فإنّ فعليّة الحكم تكون منتفية لانتفاء قيدها.

وبهذا يثبت إمكان تحويل القطع الطريقي بالحكم الشرعي بواسطة العقل إلى قطع موضوعي بواسطة اعتبار عدمه قيدا في فعليّة الوجوب.

إلاّ أنّ هذا المقدار لا يثبت الدعوى بالتفصيل ؛ إذ أنّ الإمكان ثبوتا لا يستلزم التقييد إثباتا ، أي أنّ هذه الدعوى وهي تقييد الأحكام الشرعيّة بعدم القطع العقلي بالحكم الشرعي تحتاج إلى دليل إثباتي وهو مفقود.

حجيّة الدليل العقلي الظنّي :

والمراد من الدليل العقلي الظنّي هو كلّ قضيّة يمكن أن تكون عقليّة ـ لو تمّت ـ إلاّ أنّه لم يقم البرهان على ثبوتها أي لم يثبت صحّة إدراك العقل لها ، فيكون كشفها عن متعلّقها ليس قطعيّا ، وبهذا لا تكون مثل هذه القضايا من المدركات العقليّة ، إذ أنّ المدركات العقليّة لا تكون إلاّ قطعيّة ، فهي عقليّة استعدادا أو قل توهما.

وذلك مثل قياس السبر والتقسيم الذي يقوم على أساس استنباط العلّة بواسطة الحدس.

والجزم بالنتيجة من مثل هذا القياس يكون من قطع القطاع.

وكذلك الاستقراء الناقص الذي تبتني نتيجته على أساس تتبّع بعض القضايا الجزئيّة المعلومة الحكم ، فإنّ نشوء القطع بالحكم الشرعي عن هذا الطريق يكون من القطع الناشئ عن مقدّمات شخصيّة ؛ إذ أنّ نوع العقلاء لا يكون مثل الاستقراء الناقص مورثا لهم القطع.

١٧٨

وكيف كان فإن حصل القطع بواسطة هذه الوسائل فإنّه يكون حجّة على القاطع به ، وأمّا إذا لم يورث إلاّ الظنّ فهو ليس بحجّة لعدم قيام الدليل القطعي على حجيّة مثل هذه الظنون.

والظنّ بنفسه ليس بحجّة فحينئذ لا يكون إلاّ الشكّ في الحجيّة وهو يساوق القطع بعدمها ـ كما اتّضح ممّا تقدّم ـ على أنّه قد قام الدليل القطعي على عدم حجيّة مثل هذه الظنون ، فإن الروايات المانعة عن الاعتماد على مثل هذه الظنون بالغة حدّ التواتر.

١٧٩
١٨٠