شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

طبيعة الصلاة هي الواجبة وهي المحبوبة.

وبناء على هذا المبنى لا يكون متعلّق الوجوب والحرمة متحدا بل يكون الفرد المختار متعلّق الحرمة فحسب ، نعم هو مصداق متعلّق الوجوب إلاّ أنّ ذلك لا يقتضي اتّحاد متعلّق الوجوب والحرمة بل يبقى متعلّق الوجوب هو الطبيعي ولا يسري الوجوب والمحبوبيّة منه إلى الفرد المختار الواقع متعلّقا للحرمة.

والنتيجة أنّ المورد الأول يكون مستحيلا بناء على المبنى الأول والثاني وممكنا بناء على المبنى الثالث.

المورد الثاني :

افتراض متعلّق الوجوب هو الطبيعي أيضا بنحو صرف الوجود وافتراض متعلّق الحرمة هو الطبيعي ولكن بنحو مطلق الوجود ـ وهذا ما يقتضي انحلال الحرمة إلى حرمات بعدد أفراد طبيعي المتعلّق ـ ويكون عنوان متعلّق الوجوب مغايرا لعنوان متعلّق الحرمة إلاّ أنّ العنوانين يتصادقان خارجا على فرد واحد.

وهذا المورد لا إشكال في استحالته بناء على المبنى الأول والمبنى الثاني ، وأمّا بناء على المبنى الثالث فهو ممكن كما هو الحال في المورد الأوّل ؛ وذلك لأن الفرد الذي أصبح مجمعا للعنوانين ليس متعلّق الوجوب ولا يسري الوجوب أو مبادؤه من طبيعي المتعلّق إليه ، إلاّ أنّه لو تنزلنا وقلنا بالاستحالة حتى بناء على المبنى الثالث فهل أنّ تعدّد العنوان ـ والذي هو مفترض هذا المورد ـ يصلح لرفع الاستحالة؟

وبعبارة أخرى : إنّ المورد الأول لا يختلف عن المورد الثاني إلاّ من

١٢١

حيث إنّ متعلّقي الوجوب والحرمة متغايران عنوانا في المورد الثاني ، فلو افترضنا أنّ المورد الأوّل مستحيلا على جميع المباني فهل انّ تعدّد العنوان في متعلّقي الوجوب والحرمة مسوّغ لإمكان الاجتماع أو لا؟

مثلا لو كان متعلّق الوجوب هو الصلاة بنحو صرف الوجود ـ المقتضي للتخيير العقلي ـ وكان متعلّق الحرمة هو الغصب بنحو مطلق الوجود ـ والمقتضي للإطلاق الشمولي وكون كلّ فرد من أفراد الحرمة متعلّقا لحرمة مستقلّة ـ فلو صلّى المكلّف في الأرض المغصوبة فإنّ هذا الفعل صار مجمعا لعنوانين أحدهما متعلّق الوجوب والآخر متعلّق الحرمة ، فهو متعلّق الوجوب بلحاظ كونه صلاة ومتعلّق الحرمة بلحاظ كونه غصبا ، فهنا نقول : إنّ تعدّد العنوانين هل يصلح لرفع الاستحالة وأنّ الوجوب والحرمة لم يقعا على متعلّق واحد؟

والجواب أنّ في المقام ثلاثة مبان ، اثنان منها يقتضيان ارتفاع الاستحالة والثالث يقتضي الاستحالة.

المبنى الأوّل : أنّ متعلّق الأحكام دائما هي العناوين ، وهذا ما يقتضي تعدّد متعلّق الوجوب والحرمة في مفترض هذا المورد ، إذ أنّ متعلّق الوجوب هو عنوان الصلاة ومتعلّق الحرمة هو عنوان الغصب فالاجتماع في عالم العناوين ليس متحقّقا ، نعم هما متصادقان خارجا إلاّ أنّ ذلك لا يضرّ بعد أن لم يكن الخارج هو متعلّق الوجوب ولا متعلّق الحرمة ، فنحن وإن كنا نسلّم باتحاد العنوانين حقيقة في الخارج إلاّ أنّ الخارج لمّا لم يكن هو متعلّق الوجوب ولا هو متعلّق الحرمة فهذا يعني أنّ التعدّد في متعلّق الوجوب والحرمة يبقى ثابتا ، وبه يخرج هذا المورد موضوعا عن اجتماع

١٢٢

الأمر والنهي.

المبنى الثاني : وهو يفترض أيضا أنّ متعلّق الأحكام هي العناوين إلاّ أنّه يبني على أنّ تعدّد العنوان يكشف عن تعدّد المعنون ، فحينما يكون متعلّق الوجوب هو الصلاة ومتعلّق الحرمة هي الغصب فهذا يعني عدم تصادقهما حتى خارجا وما يتراءى من اتّحاد العنوانين خارجا فهو ليس اتحادا حقيقيّا بل هو اتّحاد انضمامي ، أمّا واقعا فهما شيئان متغايران ، أحدهما مصداق لعنوان الصلاة والآخر مصداق لعنوان الغصب.

وبناء على هذا المبنى يكون خروج هذا المورد عن موضوع اجتماع الأمر والنهي أوضح ؛ وذلك لتعدّد العنوانين وتعدّد المعنونين.

المبنى الثالث : أنّ الأحكام متعلّقة روحا بالمعنونات أي بالوجودات الخارجيّة ، والعناوين إنّما تكون طريقا وواسطة في الكشف عمّا هو متعلّق الأحكام واقعا ؛ وذلك لأنّ العناوين ليست أكثر من مفاهيم ذهنيّة مر تسمة عن الخارج ، كما أنّ تعدّد العنوان لا يكشف عن تعدّد المعنون ؛ وذلك لأنّ الشيء الواحد قد تنتزع منه مجموعة من العناوين باعتبار اختلاف اللحاظ ، فزيد مثلا بلحاظ علاقته الزوجيّة بهذه المرأة يكون زوجا وبلحاظ أنّه ولد لعمرو يكون ابنا وباعتباره أنّ عمره جاوز الأربعين يكون كهلا وهكذا.

فهذا المبنى إذن ينكر تعلّق الأحكام بالعناوين ويبني على أنّها متعلّقة بالمعنونات كما ينكر كاشفيّة تعدّد العنوان عن تعدّد المعنون.

وعلى هذا المبنى تثبت الاستحالة لهذا المورد ؛ وذلك لأنّ متعلّق الوجوب هي الصلاة الخارجيّة كما أنّ متعلّق الحرمة هو الحرمة خارجا ، فإذا افترضنا أنّ المكلّف صلّى في الأرض المغصوبة فهذا يعني أنّ فعلا واحدا

١٢٣

صار متعلّقا لحكمين متنافيين وهو مستحيل.

الثمرة المترتّبة على استحالة الاجتماع وإمكانه :

أما بناء على استحالة اجتماع الأمر والنهي فإنّه لا إشكال في تحقّق التعارض المستحكم بين دليل الوجوب ودليل الحرمة في مورد الاجتماع ، إذ لا يمكن العمل بإطلاق دليل الوجوب ودليل الحرمة ؛ وذلك لأنّ مقتضى إطلاق دليل الوجوب هو وجوب الصلاة الواقعة في الأرض المغصوبة ونفي الحرمة عنها ، كما أنّ إطلاق دليل الحرمة هو حرمة الصلاة في الأرض المغصوبة ونفي الوجوب عنها ، فتكون الصلاة واجبة بحكم الدليل الأوّل وحراما بحكم الدليل الثاني ، وهذا يعني التناقض والتكاذب بين الدليلين وهو معنى التعارض.

ومن هنا يجب معالجة هذه المسألة طبقا للضوابط المذكورة في باب التعارض.

وأمّا بناء على إمكان اجتماع الأمر والنهي يمكن العمل بمقتضى إطلاق دليل الوجوب والحرمة دون أن يلزم من ذلك اجتماع حكمين متنافيين على متعلّق واحد ، إمّا لتغاير العنوانين أو لتغاير العنوانين والمعنونين معا.

١٢٤

الوجوب الغيري لمقدّمات الواجب

ذكرنا ـ فيما سبق ـ أنّ المقدّمات على نحوين فتارة تكون مقدّمات للحكم وأخرى تكون مقدّمات لمتعلّق الحكم.

والأولى : يعبّر عنها بمقدّمات الوجوب ، ولا إشكال في عدم وجوبها ؛ لأنّها أخذت مقدرة الوجود ، فإذا اتّفق تحقّقها خارجا أصبح الحكم فعليّا ، وهذا يقتضي وقوعها في رتبة العلّة للحكم ومن هنا يستحيل ترشح الوجوب من الحكم عليها. ومثال المقدّمات الوجوبيّة هو الاستطاعة بالنسبة لوجوب الحج والزوال بالنسبة لوجوب صلاة الظهر.

والثانية : يعبّر عنها بمقدّمات الواجب أو بالمقدّمات الوجوديّة ، إذ أنّ وجود الواجب متوقّف على تحقّقها.

وهي محلّ البحث في المقام حيث يبحث عن وجوب المقدّمات الوجوديّة شرعا بعد الفراغ عن لزوم تحصيلها عقلا ؛ وذلك لأنّ المتعلّق « الواجب » لمّا كان لازم التحصيل فإنّ كلّ ما يتوقّف تحصيل الواجب « المتعلّق » عليه يحكم العقل بلزوم تحصيله وإلاّ لو لم يحصّل المكلّف مقدمات الواجب لما كان متمكنا من تحصيل الواجب ؛ وذلك لافتراض أنّ الواجب منوط تحصيله بتوفير تلك المقدّمات ، ومثال ذلك السفر للحج بعد تحقّق فعليّة الوجوب للحج والوضوء للصلاة بعد افتراض تحقّق فعليّة

١٢٥

الوجوب للصلاة بتحقّق الزوال ، فإنّ المولى حينما قيّد الواجب « الصلاة » بالوضوء فإنّ الواجب يصبح متحصصا بخصوص هذه الحصة ، وهذا يقتضي توقّف امتثال هذه الحصّة على الإتيان بالوضوء.

إذن فلزوم تحصيل مقدّمات الواجب عقلا ليست محلاّ للنزاع ، وإنّما النزاع وقع في وجوب هذه المقدّمات شرعا.

وإذا ثبت أنّ هذه المقدّمات واجبة شرعا فهي واجبة بالوجوب الغيري أي أنّ الوجوب إنّما ثبت لها بواسطة وجوب ذيها وهو الواجب النفسي مثل الصلاة ، فوجوبها إذن تابع لوجوب ذي المقدّمة فهي ليست مصبا للحكم وليست متعلقا للغرض أصلا بل تبعا ، ولهذا تكون إرادتها مترشّحة عن إرادة الواجب ووجوبها معلول لوجوب الواجب.

وكيف كان فهناك ثلاثة أقوال في مقدّمات الواجب من حيث وجوبها وعدم وجوبها شرعا :

القول الأوّل : هو وجوب مقدّمات الواجب شرعا ؛ وذلك للملازمة بين وجوب الشيء ووجوب ما يتوقّف إيجاد ذلك الشيء الواجب عليه ، ولمّا كانت مقدّمات الواجب كالسفر والوضوء ممّا يتوقّف الواجب النفسي « الحج والصلاة » عليها فهذا يقتضي أن يترشّح وجوب من الواجب النفسي « ذي المقدّمة » إلى مقدماته ، وكذلك تكون إرادة شيء مقتضيه لإرادة مقدماته المتوقّف إيجاد ذلك الشيء عليها.

وهذه الملازمة ـ المدركة بالعقل ـ بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته وبين إرادة الشيء وإرادة مقدّماته هي الموجبة لثبوت الإيجاب الشرعي لمقدّمات الواجب.

١٢٦

إذن فوجوب مقدّمات الواجب تكون معلولة للوجوب النفسي للواجب فما لم يتحقّق وجوب الواجب النفسي فلا تكون مقدّمات الواجب واجبة بالوجوب الغيري ، والوجوب النفسي كما عرفت سابقا يكون منوطا بمقدّمات الوجوب ، وهذا ما يعني تأخّر الوجوب الغيري عن مقدّمات الوجوب أيضا ؛ إذ أنّ الوجوب الغيري معلول للوجوب النفسي ولمّا كان الوجوب النفسي ـ والذي هو علّة الوجوب الغيري ـ متأخرا عن مقدّمات الوجوب فمن الطبيعي أن يكون الوجوب الغيري متأخرا عن مقدّمات الوجوب.

وبتعبير آخر : إنّ مقدّمات الوجوب علّة الوجوب النفسي والوجوب النفسي علّة لإيجاب مقدّمات الواجب.

القول الثاني : هو عدم وجوب مقدّمات الواجب شرعا وعدم إرادتها شرعا أيضا فلا يكون توقّف إيجاد الواجب النفسي على مقدّمات موجبا لوجوب المقدّمات شرعا ، ولا تكون الإرادة الشرعيّة لإيجاد الواجب مستلزمة لإرادة شرعية متعلقة بتحصيل المقدّمات الوجودية للواجب.

القول الثالث : هو إنكار الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته شرعا مع التسليم بالملازمة بين إرادة شيء وإرادة مقدّماته ، بمعنى أنّ المحبوبيّة الثابتة لذي المقدّمة تثبت بالتبع للمقدّمات التي يتوقّف إيجاد ذي المقدّمة عليها.

والصحيح من هذه الأقوال بنظر المصنّف رحمه‌الله هو القول الثالث. أمّا بالنسبة لإنكار الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّماته فلأنّ الملازمة تعني ضرورة ثبوت الوجوب للمقدّمات حين إيجاب ذي المقدّمة ، وهذا لا

١٢٧

يناسب كون الإيجاب من الأفعال الاختياريّة الخاضعة لإرادة الجاعل للوجوب.

وبتعبير آخر : إنّ افتراض الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّماته يعني لابدّيّة إيجاب مقدّمات الواجب وهذا خلف كونها إرادية للمولى ، فقد يكون الفعل واجدا للملاك والإرادة ومع ذلك يكون للمولى الاختيار في أن يجعل الوجوب على ذلك الفعل وله أن لا يجعل عليه الوجوب ، فجعل الوجوب دائما يكون تابعا لاختيار المولى ، ومن أين لنا العلم أنّ المولى قد اختار الوجوب بعد أن لم تكن إرادته للفعل هي العلّة التامة لجعل الوجوب على الفعل؟!

وأمّا بالنسبة لثبوت الملازمة بين إرادة ذي المقدّمة وإرادة مقدّماتها المتوقف إيجاد ذي المقدّمة عليها فالحاكم بهذه الملازمة هو الوجدان ، إذ أنّنا نجد أنّ محبوبيّة شيء تقتضي محبوبيّة ما يتوقّف تحقّق المحبوب أصالة عليه ، فحينما تكون لنا إرادة لشرب الماء فإنّنا نجد أنّ هذه الإرادة يترشّح عنها إرادة أخرى لتحصيل الماء.

إذن الوجدان هو الحاكم بثبوت الملازمة بين إرادة شيء وإرادة مقدّماته الوجوديّة ، وليس في المقام برهان يمكن الاستدلال به على ثبوت أو نفي الملازمة بين إرادة شيء وإرادة مقدّماته.

خصائص الوجوب الغيري :

إنّه بناء على القول بوجوب مقدّمات الواجب شرعا فإنّه ـ كما قلنا ـ يكون وجوبا غيريا ، والوجوب الغيري له مجموعة من الخصائص يتميّز بها عن الوجوب النفسي ، وقد ذكر المصنّف خصوصيّتين منها :

١٢٨

الأولى : هو عدم ترتّب المؤاخذة على تركه بصورة منفصلة عمّا يترتّب من مؤاخذة على ترك أصل الواجب فلا تكون هناك مؤاخذتان وعقوبتان وإلاّ لكان على المكلّف مجموعة من المؤاخذات والعقوبات لو كان للواجب عدّة مقدّمات ، وهذا واضح الفساد.

الثانية : أنّ الوجوب الغيري لمّا كان تابعا للوجوب النفسي فهذا يقتضي عدم إمكان التحرّك والانبعاث نحو امتثاله ما لم يكن الباعث على التحرّك والانبعاث هو الوجوب النفسي ، إذ لا يمكن أن يكون المكلّف قاصدا لامتثال الوجوب الغيري ومع ذلك لا يكون عازما على امتثال الوجوب النفسي ، إذ أنّ التحرّك عن الوجوب الغيري يعني أنّه في طريق الانقياد لإرادة المولى ، ولمّا كانت إرادة المولى للوجوب الغيري إنّما هي باعتبار إرادته للوجوب النفسي فهذا يقتضي قصد الوجوب النفسي والعزم على امتثاله حتى يكون التحرّك عن الوجوب الغيري مطابقا لإرادة المولى.

وبتعبير آخر : إنّه يستحيل أن يتحقّق العزم على إطاعة المولى بامتثال الوجوب الغيري إذا كان المكلّف عازما على ترك الوجوب النفسي أو لم يكن عازما على امتثاله ؛ وذلك لأنّ قصد امتثال الوجوب الغيري يعني أنّ المكلّف إنّما هو بصدد تحقيق إرادة المولى ، ومن الواضح أنّ إرادة المولى للوجوب الغيري إنّما هو تبع لإرادته للوجوب النفسي فهو لا يريد الوجوب الغيري حينما لا يمتثل الوجوب النفسي ؛ إذ أنّ إرادته للوجوب الغيري هي إرادة تكوينيّة ، أي أنّها ناشئة عن إدراك عدم إمكان تحقيق الإرادة التشريعيّة المتمثّلة في إيجاد الواجب النفسي إلاّ بواسطة امتثال الوجوب الغيري ، فحينما يريد المكلّف أن يحقّق إرادة المولى فلابدّ أن يكون

١٢٩

قصده من الإتيان بالوجوب الغيري هو العبور به إلى امتثال الوجوب النفسي وإلاّ لا يكون قاصدا لتحقيق إرادة المولى ، مثلا حينما يأتي المكلّف بسفر الحج فإنّه لا يمكن أن يكون قاصدا لامتثال الوجوب الغيري ما لم يكن عازما على امتثال وجوب الحج.

ثمّ إنّه وبناء على القول بالملازمة أيضا وقع البحث فيما هو الواجب من المقدّمات هل هو خصوص المقدّمات الموصلة أو الأعم؟

والمراد من المقدّمات الموصلة هي ما يتّفق ترتّب الواجب النفسي عليها خارجا ، فحينما يأتي المكلّف بالسفر أو بالوضوء ثمّ يأتي بالحج أو بالصلاة فالسفر حينئذ يكون مقدّمة موصلة وكذلك الوضوء.

أمّا لو افترض عدم تحقق ذي المقدّمة « الواجب » بعد الإتيان بالمقدّمة سواء كان ذلك عن اختيار المكلّف أو عن غير اختياره فإنّ المقدّمة التي جاء بها لا تكون مقدّمة موصلة ، وبهذا لا تكون واجبة بالوجوب الغيري بناء على اختصاص الوجوب بالمقدمات الموصلة ، نعم بناء على أنّ الوجوب الغيري ثابت لمطلق المقدّمة ـ سواء كانت موصلة أو غير موصلة ـ يتحقّق بما جاء به امتثال الوجوب الغيري.

الثمرة المترتّبة على القول بوجوب مقدّمة الواجب شرعا :

قد يقال بعدم ترتّب أي ثمرة على القول بوجوب المقدّمة شرعا ؛ وذلك لأنّ الوجوب الغيري للمقدّمة لا يستتبع مؤاخذة وعقابا وإنّما العقاب والمؤاخذة تأتي من جهة ترك الواجب النفسي ، وعلى هذا لا يتميّز القول بوجوب المقدّمات شرعا ؛ إذ أنّ التميّز المنتظر من القول بوجوب المقدّمات

١٣٠

شرعا هو ترتّب العقاب على مخالفته فإذا كان ذلك منتفيا فلا فرق بين القول به والقول بعدمه من هذه الجهة.

وأمّا تحريك المكلّف نحو الإتيان بالمقدّمات فهو لا ينشأ عن الوجوب الشرعي لها وإنّما يكون ناشئا عن وجوب ذي المقدّمة ، فوجوب ذي المقدّمة هو المنقّح لإدراك العقل لثبوت المسؤوليّة تجاه تحصيل المقدّمات التي يتوقّف امتثال وجوب الواجب النفسي عليها.

إلاّ أنّه مع ذلك يمكن أن تكون هناك ثمرات مترتّبة على القول بوجوب المقدّمات شرعا.

منها ما يقال في المقدّمة المحرّمة لو افترض كون ذي المقدّمة أهمّ ملاكا منها فإنّ الثمرة تظهر في مثل هذا الفرض لو اتّفق عدم ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة ، أي أنّه بعد ما جاء بالمقدّمة المحرمة لم يأت بذي المقدّمة فإنّه بناء على وجوب المقدّمة شرعا وأنّ الواجب هو الأعم من الموصلة وغير الموصلة تكون الحرمة منتفية عن هذه المقدّمة بل وتتعنون بعنوان الواجب ؛ إذ أنّ افتراض أهميّة ذي المقدّمة وتوقفها على المقدّمة المحرّمة أوجب سقوط فعليّة الحرمة عن المقدّمة لاستحالة أن تكون الحرمة باقية وثابتة للمقدّمة ومع ذلك يعرض الوجوب عليها.

أمّا لو كان البناء هو عدم وجوب المقدّمة شرعا أو كنّا نبني على الوجوب ولكن في خصوص المقدّمات الموصلة فإنّ الحرمة تظلّ ثابتة للمقدّمة ولا يكون هناك ما يقتضي سقوطها ؛ لأنّ المقتضي لسقوط الحرمة هو مزاحمة الواجب الأهم لها وهو مفروض العدم لافتراض عدم تحقّق الواجب خارجا وهذا يقتضي عدم مزاحمته لفعليّة الحرمة ، نعم لو اتّفق

١٣١

تحقّق الواجب لكانت الحرمة ساقطة بناء على وجوب المقدمات الموصلة شرعا.

ويمكن التمثيل لذلك بما لو توقف إنقاذ الغريق الواجب على عبور الأرض المغصوبة ، فإنّ عبور الأرض المغصوبة يكون مقدّمة لإنقاذ الغريق الواجب فلو اتّفق أن عبر المكلّف الأرض المغصوبة إلاّ أنّه لم ينقذ الغريق فإنّ هذا العبور يكون واجبا ومقتضيا لسقوط الحرمة بناء على القول بوجوب مقدّمة الواجب شرعا لو كنّا نبني على أنّ الوجوب لا يختص بالمقدّمة الموصلة ، وبعكس ذلك لو كنّا نبني على عدم وجوب المقدّمة شرعا أو أنّ الوجوب مختص بالمقدّمة الموصلة فإنّ فعليّة الحرمة لعبور الأرض المغصوبة تظلّ ثابتة في هذا الفرض ، نعم لو ترتّب على العبور إنقاذ الغريق لكان ذلك مقتضيا لسقوط الفعليّة عن حرمة العبور من أوّل الأمر.

١٣٢

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضده

والمراد من العنوان أنّه لو ثبت لفعل الوجوب فهل أنّ ثبوت الوجوب له يقتضي ـ بنحو من أنحاء الاقتضاء ـ تحريم ما يضاده ويعانده ، مثلا لو ثبت أنّ إنقاذ الغريق واجب فهل أنّ ذلك يستوجب حرمة ترك الإنقاذ ويستوجب أيضا حرمة النوم أو السفر الذي يزاحم الإنقاذ ويمنع تكوينا من امتثاله؟

فالضد المذكور في العنوان يراد منه الأعم من الضدّ المنطقي وذلك لشموله للنقيض ، ويعبّر عن الضد الذي بمعنى النقيض بالضد العام وعن الضدّ المنطقي بالضدّ الخاص.

أمّا الضدّ العام : فهو عبارة عن عدم الفعل الذي ثبت له الوجوب ، والبحث فيه يقع عن أنّ عدم الفعل الذي ثبت له الوجوب هل هو حرام أو لا؟

مثلا حينما يثبت الوجوب للصلاة فهل أنّ ثبوت الوجوب لها يقتضي ثبوت الحرمة لعدمها والذي هو نقيض الصلاة؟

وأمّا الضدّ الخاص : فهو عبارة عن الفعل الوجودي الذي يعاند وجوده وجود الفعل الواجب ويزاحمه بحيث يستحيل اجتماعهما أي يستحيل صدورهما عن المكلّف ، فحينما يأتي المكلّف بالفعل الوجودي المضاد فإن ذلك يستوجب العجز عن الإتيان بالفعل الواجب.

١٣٣

مثلا حينما يكون إنقاذ الغريق واجبا فإنّ الاشتغال عنه بالنوم أو السفر يستوجب فوات القدرة على الإنقاذ ؛ وذلك لسقوط موضوع التكليف بالإنقاذ حيث يموت الغريق ، فهل أنّ ذلك يقتضي حرمة الفعل الوجودي المضاد ، وهو السفر والنوم أو لا؟.

وكذلك لو كانت إزالة النجاسة عن المسجد واجبة فورا فإنّ الاشتغال عنها بالصلاة يستوجب فوات القدرة على تحصيل شرط الفوريّة ، فهل أنّ ذلك يقتضي حرمة الصلاة أو لا؟

فالبحث إذن يقع في مقامين :

المقام الأول : في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه العام :

ولم يقع خلاف يذكر بين الأعلام « رضوان الله عليهم » في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه العام ، نعم وقع البحث عن نحو هذا الاقتضاء أي عن منشأ استفادة حرمة الضد العام من وجوب الشيء ، فهل أنّ منشأ ذلك هو عينيّة إيجاب الشيء لتحريم ضدّه العام؟ أو أنّ إيجاب الشيء يتضمّن النهي عن ضدّه العام؟ أو يلازمه؟

وبيان ذلك : إنّ الأقوال في نحو الاقتضاء ثلاثة :

الأوّل : إنّ اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه العام باعتبار أنّ وجوب الشيء هو عين النهي عن ضدّه العام ، بمعنى أنّهما تعبيران يصبّان في معنى واحد فلا فرق بين أن يقال تجب عليك الصلاة أو يحرم عليك ترك الصلاة.

أو يكون المراد من العينيّة هو أنّه لمّا كان وجوب شيء يعني طلب ترك نقيض الشيء فهذا يعني اتّحاده مع حرمة ترك الشيء لأنّه يعني طلب

١٣٤

نقيض ترك الشيء.

مثلا : وجوب الصلاة معناه طلب ترك نقيض الصلاة وترك نقيض الصلاة هي الصلاة ، إذ أنّ نفي النفي إثبات ، وحرمة ترك الصلاة يعني طلب نقيض ترك الصلاة ، ونقيض ترك الصلاة هي الصلاة.

أو يكون المراد من العينيّة هو أنّ وجوب الشيء يعني أنّ فعله ذو مصلحة وتركه ذو مفسدة وأن فعله مراد وتركه مبغوض ، وكذلك حرمة ترك الشيء فإنّ ترك فعل الشيء ذو مفسدة ومبغوض وفعله ذو مصلحة ومحبوب ، فالعينيّة إذن بناء على هذا المعنى تكون في مرحلة المبادئ ، ويمكن تصوير العينيّة بشكل آخر وهو أنّ وجوب الشيء والنهي عن تركه ينتجان نتيجة واحدة وهي لزوم الإتيان بالفعل الواجب فعله والمنهي عن تركه.

الثاني : إنّ اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه العام باعتبار أنّ وجوب الشيء يتضمّن النهي عن ضدّه ؛ وذلك لأنّ مفهوم الوجوب هو طلب الفعل مع النهي عن الترك ، فالنهي عن الترك ـ والذي هو حرمة الضدّ ـ مأخوذ في مفهوم الوجوب ، فالوجوب يدلّ على حرمة الضدّ العام بالدلالة التضمنيّة ، فحينما يقال إنّ مفهوم الإنسان هو الحيوان الناطق فإنّ مفهوم الإنسان يدل بالدلالة التضمنيّة على الناطقيّة ، وهذا هو مبرّر أنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام ، أي أنّ النهي عن الضدّ العام مدلول تضمني لوجوب الشيء.

الثالث : إنّ اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه العام باعتبار أنّ وجوب الشيء يلازم النهي عن ضدّه العام ، والمراد من اللازم هو المحمول الخارج عن الموضوع اللازم له إمّا بنحو اللازم بالمعنى الأخصّ أو اللازم بالمعنى الأعم ـ وقد بينّا ذلك في مباحث القطع ـ ، فحرمة الضدّ العام غير

١٣٥

وجوب الشيء إلاّ أنّه لازم له كما أنّ الزوجيّة غير الأربعة إلاّ أنّها لازمة للأربعة. فالمبرّر لاقتضاء وجوب الشيء للنهي عن ضدّه هو التلازم بين وجوب الشيء والنهي عن ضدّه العام.

وكيف كان فوجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام سواء كان منشأ الاقتضاء هو العينيّة أو التضمنيّة أو التلازم.

المقام الثاني : في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه الخاص :

وقد ذهب البعض لاقتضاء الوجوب لذلك خلافا لآخرين ، وقد استدلّ لصالح القائلين باقتضاء وجوب الشيء للنهي عن ضدّه الخاص بما حاصله :

أنّ أحد الضدّين يكون تركه مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ؛ وذلك لاستحالة أن يجتمع الضدّان فلابدّ أن ينعدم أحّدهما حتى يوجد الآخر ، وإذا كان كذلك فعدم الضدّ الأوّل ـ مثلا ـ يكون مقدمة لتحصيل الضدّ الآخر ؛ وذلك لتوقف تحصيل الضدّ الآخر على انعدام الضدّ الأوّل فيكون عدم الضدّ الأوّل من مقدّمات الضدّ الواجب « الضدّ الآخر » ، وبهذا يكون واجبا بالوجوب الغيري ، وإذا كان عدم الضدّ واجبا ففعله حرام ؛ لأنّ وجوب الشيء يقتضي حرمة نقيضه « الضدّ العام » ، وبهذا تتّضح حرمة الضدّ الأوّل مثلا.

وهذا هو مبرّر أنّ وجوب الشيء « الضدّ الآخر » يقتضي حرمة ضدّه الخاص « الأوّل ».

ولمزيد من التوضيح نطبق ما ذكرناه على مثال :

إنّ إنقاذ الغريق والصلاة أمران وجوديان متضادّان ؛ إذ أنّ وجود

١٣٦

أحدهما يعاند وجود الآخر ويجعل المكلّف عاجزا عن تحصيله ، فمتى ما صلّى المكلّف فإنّه عاجز عن الإنقاذ وإذا ما أنقذ الغريق فإنّه يتعذّر عليه الإتيان بالصلاة حين الإنقاذ ، ومن هنا يكون عدم أحدهما مقدّمة لفعل الآخر ، فعدم الصلاة مقدّمة لإنقاذ الغريق ، وإذا كان كذلك فعدم الصلاة يكون من مقدّمات الواجب « الإنقاذ » حيث يتوقّف تحصيل الإنقاذ عليه ـ أي على عدم الصلاة ـ وبهذا يثبت أنّ عدم الصلاة واجب بالوجوب الغيري ، فإذا كان عدم الصلاة واجبا ففعله حرام ؛ لأنّ وجوب الشيء يقتضي حرمة نقيضه ، ولمّا كان عدم الصلاة واجبا فنقيضه حرام وهي الصلاة كما ثبت ذلك في المقام الأول.

والجواب عن هذا الدليل :

وقد أجاب المصنّف رحمه‌الله على هذا الدليل بجوابين أحّدهما حلّي والآخر نقضي.

أمّا الجواب الحلّي :

فحاصله : هو إنكار المقدمية بين ترك أحد الضدّين لفعل الضدّ الآخر ؛ وذلك لأنّ المقدّمة قد افترضت علّة أو جزء علّة لفعل الضد الآخر والحال أنّ علّة فعل الضدّ هو اختيار المكلّف ، فقد يترك أحد الضدّين ومع ذلك لا يتحقّق الضد الآخر ؛ وذلك لعدم اختيار المكلّف لفعل ذلك الضد ، فوجود الضدّ وعدم وجوده منوط باختيار المكلّف كما هو أوضح من أن يخفى ، فلا فعل الضدّ معلول لترك الضدّ الآخر ولا ترك الضدّ الآخر معلول لفعل الضدّ الأوّل ، بل إنّ الفعل والترك معلولان معا لاختيار المكلّف.

مثلا حينما ينقذ المكلّف الغريق لا يكون هذا الإنقاذ معلولا لترك الصلاة كما لا يكون ترك الصلاة معلولا للإنقاذ ، بل إنّهما معلولان معا

١٣٧

لاختيار المكلّف ، فمتى ما تحقّقت الإرادة التامّة للمكلّف حرك عضلاته تجاه الإنقاذ مثلا.

وأمّا الجواب النقضي :

إنّ دعوى مقدمية ترك أحّد الضدّين لفعل الضدّ الآخر يلزم منه الدور المحال ؛ وذلك لأنّ افتراض ترك أحّد الضدّين مقدّمة يعني كما تقدّم أنّه علّة أو جزء علّة لفعل الضدّ الآخر « المعلول » ، وهذا يعني أنّ نقيض عدم الضدّ الأوّل علّة لنقيض الضدّ الآخر « المعلول » ؛ وذلك لأنّ نقيض كلّ علّة يكون علّة لنقيض المعلول ، فإذا افترضنا أنّ عدم الليل علّة لوجود النهار فهذا يعني أنّ نقيض العلّة وهو الليل علّة لنقيض المعلول « عدم النهار ». فعدم الليل علّة لوجود النهار والليل علّة لعدم النهار.

فإذا ثبت أنّ عدم الضدّ علّة لفعل الضدّ الآخر فهذا يعني أنّ فعل الضدّ الأوّل علّة لعدم الضد الآخر ، وإذا كان عدم الضدّ الآخر علّة أيضا لفعل الضد الأول فهذا يعني أنّ فعل الضد الآخر علّة لعدم الضدّ الأول ، فيكون عدم الضدّ الأوّل علّة ومعلولا لشيء واحد وهو فعل الضدّ الآخر.

أمّا أنّه علّة فلأنّنا افترضناه مقدّمة وعلّة لفعل الضدّ الآخر.

وأمّا أنّه معلول فلأنّنا قلنا إنّ فعل الضدّ الآخر علّة لعدم الضدّ الأوّل ، فيكون عدم الضدّ الأوّل معلولا لفضل الضدّ الآخر ؛ إذ أنّ عدم الضدّ الآخر علّة لفعل الضدّ الأوّل فيكون نقيض عدم الضدّ الآخر علّة لنقيض الضدّ الأول ، وهذا يعني أنّ عدم الضدّ الأول معلول لفعل الضدّ الآخر ، وقد افترضناه علّة لفعل الضدّ الآخر ، وهذا هو معنى أنّ عدم الضدّ علّة ومعلول لشيء واحد ، وهو الدور المحال.

ولمزيد من التوضيح نطبّق ما ذكرناه على مثال إنقاذ الغريق والصلاة

١٣٨

فنقول :

إنّ دعوى مقدميّة ترك الصلاة للإنقاذ تعني أنّ ترك الصلاة علّة لفعل الإنقاذ ، وإذا كان ترك الصلاة علّة لفعل الإنقاذ فهذا يعني أنّ فعل الصلاة علّة لعدم الإنقاذ.

وإذا افترضنا أيضا أنّ ترك الإنقاذ مقدّمة وعلّة لفعل الصلاة فهذا يقتضي أنّ الإنقاذ علّة لترك الصلاة ، وبهذا يكون ترك الصلاة علّة ومعلولا لشيء واحد وهو الإنقاذ.

أمّا أنّه علّة لفعل الإنقاذ فهو مقتضى كون ترك الصلاة مقدمة للإنقاذ ، وأمّا أنّ ترك الصلاة معلول للإنقاذ فلأنّنا قلنا إنّ الإنقاذ علّة لترك الصلاة فيكون ترك الصلاة معلولا للإنقاذ ؛ وذلك لأنّ نقيض الإنقاذ لمّا كان علّة للصلاة فيكون فعل الإنقاذ علّة لنقيض الصلاة ، ونقيض الصلاة هو ترك الصلاة ، فترك الصلاة في الوقت الذي هو علّة لفعل الإنقاذ هو معلول لفعل الإنقاذ ، وهذا هو الدور المحال.

محاولة أخرى لإثبات مقدمية أحد الضدّين لفعل الضدّ الآخر :

وإيضاحها يحتاج إلى تقديم مقدمة :

وهي أنّ العلّة التامّة المنتجة للمعلول تتقوّم بثلاثة أركان كلّ واحد منها يعبّر عنه بجزء العلّة :

الأوّل : المقتضي : وهو الركن الأساسي في العلّة التامّة ، والمراد منه المؤثر والسبب في ترتّب الأثر والمعلول عنه بحيث تكون مؤثريّته وسببيّته في ترتّب المعلول عنه ذاتيّة ، أي ناشئة عن مقام ذاته ، أي أنّ ذات المقتضي بنفسها موجبة للتأثير في المعلول.

١٣٩

ومثال ذلك النار ، فإنها بذاتها مقتضية للإحراق.

الثاني : الشرط : وهو الذي ينقل المقتضي من مرحلة الشأنيّة إلى مرحلة الفعليّة ، فما لم يكن الشرط متحقّقا فإنّ المقتضي لا يمكن أن يؤثّر فعلا بمعنى أنّ المقتضي تبقى له شأنيّة التأثير إلى أن يتحقّق شرط التأثير ، فإذا ما تحقّق أثّر المقتضي أثره وهو إنتاج المعلول ، فالنار وإن كانت مقتضية للإحراق إلاّ أنّ ذلك لا يعني أكثر من قابليتها لأن تحرق ، أمّا فعليّة الإحراق فيتوقّف على تقريب جسم لها يقبل الاحتراق.

الثالث : عدم المانع : وهو عدم وجود ما يمنع من أن يؤثر المقتضي الفاعل أثره ، إذ أنّ المقتضي قد يكون موجودا وشرط فعليّته متحقّق إلاّ أنّ وجود ما يمنع من تأثير المقتضي لأثره يجعل وجود المعلول مستحيلا.

ومن هنا لا بدّ من إعدام ذلك المانع حتى ينتج المقتضي معلوله ، فالنار المقتضية للإحراق لو قرّب لها الجسم القابل للاحتراق فإنّ من المستحيل احتراقه لو افترض وجود رطوبة على الجسم ، فلابدّ من عدم الرطوبة لكي يتحقّق الاحتراق عن النار.

وباتّضاح هذه المقدّمة يتّضح أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة وإذا كان كذلك فترك أحّد الضدّين من أجزاء علّة الضدّ الآخر ، إذ أنّه يستحيل وجود الضدّ الآخر لو كان الضدّ الأوّل موجودا فالضدّ الأوّل إذن مانع عن وجود الضدّ الآخر فيثبت كون عدمه جزء علّة للضدّ الآخر.

وبهذا تثبت مقدميّته للضدّ الآخر فيكون واجبا بالوجوب الغيري ، وإذا وجب عدم الضدّ الأول فنقيضه وهو نفس الضدّ الأول حرام ؛ لأنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام.

١٤٠