شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

يكتفى ببيان الجامع والعقل هو الذي يدرك التخيير بين أفراد الجامع ، وأمّا الوجوب التخييري الشرعي فهو وإن كان متعلّقه الجامع أيضا إلاّ أنّ الشارع هو الذي يتصدّى لبيان أفراد الجامع.

فالتخيير العقلي والتخيير الشرعي يشتركان في أنّه ليس لأيّ واحد من أفراد الجامع فيهما خصوصيّة موجبة لأن يكون هو متعلّق الوجوب ، بل إنّ متعلّق الوجوب هو الجامع وهو محطّ غرض المولى.

التفسير الثاني : ويمكن تقريره بهذا البيان : وهو أنّه قد يكون هناك ملاكان مختلفان كلّ واحد منهما كاف لأن يوجب تكليفا مستقلا إلاّ أنّه وبسبب علم المولى بعدم قدرة المكلّف على تحصيل كل من الملاكين يجعل للمكلّف الخيار في تحصيل واحد منهما غير المعين ولا يأذن في تفويت كلا الملاكين ؛ ولهذا يجعل على المكلّف وجوبين كلّ واحد منهما يفي بأحد الملاكين إلاّ أنّه يقيّد كلّ وجوب بعدم امتثال الآخر ، فترك أحد الوجوبين يحقّق الفعلية للوجوب الآخر ويكون المكلّف عند ذلك مسؤولا عن تحصيل الوجوب الآخر.

وبهذا يكون الوجوب التخييري منحلا روحا إلى وجوبين كلّ واحد منهما مقيّد بعدم امتثال الآخر.

والسبب لجعل المولى وجوبين هو وجود ملاكين للمولى يكفي كلّ واحد من الملاكين لجعل وجوب مستقل ، وأمّا سبب تقييد كلّ وجوب بعدم امتثال الآخر فهو عجز المكلّف عن امتثال كلا الوجوبين ، أي عجزه عن تحصيل كلا الملاكين.

ويمكن توضيح هذا التفسير للوجوب التخييري بهذا المثال ، وهو أنّه

١٠١

لو كان المولى جائعا وعطشانا ، فإنّ كلّ واحد من هذين الملاكين كاف في إلزام العبد بتحصيله ، ولمّا كان تحصيل الملاك الأول لا يفي بالملاك الثاني ولا الثاني يفي بالملاك الأول ؛ إذ أنّ الطعام لا يرفع الظمأ كما أنّ الماء لا يسدّ الجوع ، فإنّ المولى في هذه الحالة يلزم العبد بإلزامين ، الأول يفي بالملاك الأول والثاني يفي بالملاك الثاني ، فإذا كان المولى يعلم بعدم قدرة العبد على تحصيلهما معا فإنه يجعل كلّ واحد من الإلزامين مقيدا بعدم الالتزام بالآخر ، فيقول « اسقني ماء أو التمس لي طعاما » ، أي أنّك إن التزمت بالأوّل سقط الثاني عن الفعليّة وهكذا العكس.

الإشكال على التفسير الثاني :

وقد أورد على هذا التفسير بإيرادين :

الإيراد الأوّل : لمّا كان كل وجوب تستلزم مخالفته العقوبة فالمكلّف حينما لا يمتثل كلا شقي الوجوب التخييري يكون مستحقا لعقوبتين ؛ وذلك لأنّ الوجوب التخييري ـ بناء على هذا التفسير ـ ينحلّ إلى وجوبين مستقلّين ، وباعتبار أن فعليّة كلّ واحد منهما منوطة بعدم امتثال الآخر فحينما لا يمتثل كلا الوجوبين تكون فعليّة كلّ وجوب متحقّقة لتحقّق شرطها. وهذا الإشكال قد ذكرناه في حالات التزاحم بين الواجبين لو افترض عدم امتثال المكلّف لكلا الوجوبين المتزاحمين.

والجواب :

إنّ المنشأ في عدم إيجاب التكليفين بنحو مطلق ـ وأنّ أحدهما مقيّد بالآخر ـ هو عجز المكلّف عن الجمع بينهما ، وهذا يعني أنّ ترك أحدهما ضروري على أيّ حال ، وإذا كان كذلك فلا يصحّ أن ينسب تفويت كلا

١٠٢

الملاكين إلى المكلّف لأنّ أحدهما متعذّر الوقوع لا محالة ؛ ولهذا لا يكون المكلّف مرتكبا لمعصيتين حتى يكون مستحقّا لعقوبتين.

وبعبارة أخرى : إنّ استحقاق المكلّف لعقوبة المولى ينشأ عن تفويته لغرض المولى بواسطة تركه للتكليف المحقّق للغرض المولوي ، فإذا فوّت المكلّف غرضا للمولى بمحض اختياره فهو مستحق للعقوبة ، أمّا إذا كان فوات الغرض خارجا عن قدرة المكلّف فيستحيل مؤاخذته على ذلك لاستحالة التكليف بغير المقدور.

ودعوى استحقاق المكلّف للعقوبة الثانية عند تركه لكلا شقي الوجوب التخييري تعني مؤاخذة المكلّف على ما هو خارج عن قدرته ؛ وذلك لأنّ أحد الوجوبين متعذّر الوقوع فلا يمكن ان ينسب تفويت الملاك الثاني غير المعين إلى المكلّف لاستحالة وقوعه على أيّ حال.

الإيراد الثاني : هو أنّه لمّا كانت فعليّة كلّ واحد من شقي الوجوب التخييري منوطة بعدم امتثال الآخر فهذا يقتضي عدم فعليتهما لو اتّفق إيجاد المكلّف لهما معا ، وهذا يعني عدم تحقّق الامتثال من المكلّف في ظرف إيجاد المكلّف لكلا شقّي الوجوب التخييري ، إذ أنّ كلّ واحد منهما ليس مأمورا به لعدم تحقّق شرط الفعليّة والمسؤوليّة ، ومن الواضح أنّ الإتيان بالتكليف قبل تحقّق شرط الفعليّة لا يعدّ امتثالا ؛ ولهذا لو تحقّقت الفعليّة بعد ذلك يكون المكلّف مطالبا بامتثال التكليف ، فلو حجّ المكلّف قبل الاستطاعة لا يكون ذلك مجزيا بل إنّه يكون مسؤولا عن امتثال وجوب الحج لو حصلت له الاستطاعة بعد ذلك. وهكذا الكلام في المقام فلو توجّه للمكلّف وجوب بعتق رقبة أو الإطعام إلاّ أنّ أحدهما منوط بعدم امتثال الآخر ، فلو

١٠٣

أعتق المكلّف رقبة فهذا يعني عدم فعليّة وجوب الإطعام ؛ وذلك لعدم تحقّق شرط الفعليّة له ، وهي عدم إعتاق الرقبة ، وكذلك لو امتثل وجوب الإطعام فإنّ فعليّة وجوب الإعتاق لا تكون متحقّقة لانتفاء شرط الفعليّة لوجوب الإعتاق.

والجواب عن هذا الإيراد :

إنّ الإتيان بكلا شقي الوجوب التخييري له صورتان :

الصورة الأولى : أن يأتي بأحد التكليفين ثمّ يأتي بالتكليف الآخر ، وهنا لا إشكال في فعليّة الوجوب الأوّل لتحقّق شرطه وهو عدم الإتيان بالثاني ، ويكون الإتيان بالثاني بعد ذلك لاغيا لاستحالة تحقّق شرط الفعليّة له ، إلاّ أنّ هذا مبني على أنّ شرط الفعليّة هو عدم الإتيان بالتكليف الثاني مثلا حين الاشتغال بالتكليف الأوّل ، أمّا إذا كان الشرط هو عدم الإتيان بالثاني في عمود الزمان ـ وإلى الأبد ـ فهذا الجواب غير نافع.

الصورة الثانية : أن يأتي بكلا شقي الوجوب التخييري في عرض واحد ، وهذه الصورة منافية لما هو مقتضى الفرض من عجز المكلّف عن الجمع بين التكليفين أو عجزه عن تحصيل كلا الملاكين ، ومع ذلك لو اتّفقت هذه الصورة لكان كلا التكليفين فعليا لو كان شرط الفعليّة هو عدم الإتيان بالتكليف الآخر لا عدم مقارنته بالتكليف الآخر.

وهذا الجواب يحتاج إلى تعميق لا يسعه هذا الكتاب.

وباتّضاح ما ذكرناه يتّضح أنّ هناك مجموعة من النتائج مترتّبة على الوجوب التخييري بكلا تفسيريه.

الأولى : أنّ امتثال الوجوب التخييري يتحقّق عند إيجاد أحد شقّي

١٠٤

الوجوب التخييري غير المعيّن.

الثانية : أنّ معصيّة الوجوب التخييري لا تكون إلاّ حين يترك المكلّف كلا شقي الوجوب التخييري.

الثالثة : أنّ العقوبة المترتّبة على ترك الوجوب التخييري بتمام شقوقه هي عقوبة واحدة.

الرابعة : أنّ إيجاد كلّ شقوق الوجوب التخييري يعدّ امتثالا للوجوب التخييري.

الثمرة المترتّبة على تفسيري الوجوب التخييري :

إنّه لمّا كان متعلّق الوجوب التخييري ـ بناء على التفسير الأول ـ هو الجامع فهذا يقتضي أنّ التقرّب يكون بالجامع ، فلذلك لو تقرّب المكلّف بأحد شقي الوجوب التخييري يكون قد تقرّب للمولى بغير المأمور به ، إذ أنّ كلا شقي الوجوب التخييري ليس مأمورا بهما لأنّهما ليسا متعلقا للوجوب ، نعم الوجوب التخييري يسقط بالإتيان بأحدهما إلاّ أنّ ذلك بسبب أنّ كلّ واحد من شقي الوجوب مشتمل على الجامع الذي هو متعلّق التكليف روحا وواقعا.

وبعبارة ثانية : إنّ التفسير الأول للوجوب التخييري لمّا كان مرجعه إلى التخيير العقلي فهذا يقتضي أن يكون المأمور به هو الجامع ، والتقرّب للمولى إنّما يكون بالمأمور به وغير الجامع ليس مأمورا به.

وأمّا بناء على التفسير الثاني فكلّ واحد من شقي الوجوب التخييري يكون متعلّقا للتكليف ، وهذا يقتضي صحّة التقرّب بأي واحد منهما عند

١٠٥

الإتيان به ، وأنّ كلا منهما يكون مأمورا به.

الوجوب التخييري بين الأقلّ والأكثر :

إنّ ما ذكرناه من إمكان الوجوب التخييري بل وقوعه في الشرع وعند العقلاء إنّما هو التخيير بين المتباينين أي بين العنوانين الذين لا تكون بينهما علاقة العموم والخصوص المطلق كالإطعام والصيام والفقير والهاشمي.

والكلام في المقام عن إمكان التخيير بين الأقل والأكثر بحيث يكون أحد طرفي الوجوب مستوعبا للطرف الآخر وزيادة ، كأن يأمر المولى عبده بأن يطعم عشرة مساكين أو تسعة تدريجا.

ولكي يتحرّر محل النزاع نذكر للأقل والأكثر ثلاث صور :

الصورة الأولى : ما إذا كان وجود الأقل مباينا لوجود الأكثر بمعنى عدم التداخل بينهما فلا يكون الأقل مشمولا للأكثر كالخطين المستقيمين الذين يكون أحدهما طويلا والآخر قصيرا ، فإن الخط القصير له وجود مستقل عن وجود الخط الطويل ؛ وذلك لأن الخط القصير له وحدة اتّصالية تقتضي أن يكون للخط القصير حدود عدمية مانعة عن أن يدخل وجوده في إطار الوجودات الأخرى والتي منها الخط الطويل ، وكذلك الحال في الخط الطويل فإنّ له وحدة اتصالية تقتضي حدودا عدميّة مانعة من دخول وجوده في الوجودات الأخرى ، ولهذا لا يقال إن الخطّ الطويل هو المشتمل على خطين قصيرين بل إنّه وجود واحد ذو ماهيّة واحدة.

وهذه الصورة خارجة عن محلّ النزاع بلا ريب ؛ وذلك لأنّ التخيير بين الأقل والأكثر فيها تخيير بين المتباينين ، فيمكن تطبيق كلا تفسيري الوجوب التخييري عليها ، فيقال إنّ الوجوب التخييري متعلقه الجامع بين

١٠٦

الأقل والأكثر وهو في المثال الخط المستقيم ، كما يمكن أن يقال إنّ الوجوب التخييري منحلّ إلى وجوبين يكون متعلّق كلّ واحد من الوجوبين أحد طرفي الوجوب التخييري ، إذ من الممكن جدا أن يتعلّق غرض بإيجاد خطّين مستقيمين أحدهما قصير والآخر طويل إلاّ أنّه وبسبب علمه بعدم قدرة المكلّف على تحصيل كلا الغرضين والملاكين يأمر بهما على نحو يكون كلّ واحد منوطا بعدم الإتيان بالآخر.

الصورة الثانية : ما إذا كان وجود الأقلّ قابلا لأن يكون مشمولا للأكثر ، أي قابلا للدخول في إطار الأكثر إلاّ أنّه قد أخذ في الأقل عدم الزيادة ، وبهذا القيد يمتنع التداخل ويكون التخيير بين الأقل والأكثر تخييرا بين المتباينين.

وبهذا تخرج هذه الصورة أيضا عن محلّ النزاع ، إذ أنّ التخيير بين المتباينين لا إشكال في إمكانه بل في وقوعه كما تقدّم.

ومثال هذه الصورة التخيير في المواطن الأربعة بين القصر والتمام فإن القصر قد أخذ فيه عدم الزيادة ، ولهذا لو أضاف المكلّف على الركعتين ركعة لما عدّ ممتثلا رغم أن الركعتين قد جيء بهما في ضمن الثلاث ، إلاّ أنّ الركعتين لمّا أن كان قد أخذ فيهما عدم الزيادة فهذا يقتضي ألا يكون المكلّف ممتثلا حينما يأتي بالثلاث ؛ وذلك لأنّ الركعتين في إطار الثلاث ليست متوفّرة على القيد المطلوب تحصيله وهو عدم الزيادة ، فعدم الزيادة هو الذي أوجب بينونة الأقل عن الأكثر.

ومن هنا يمكن تطبيق كلا تفسيري الوجوب التخييري على هذه الصورة بنفس التقريب السابق.

١٠٧

الصورة الثالثة : هي عين الصورة الثانية إلاّ أنّه لم يؤخذ في الأقل شرط عدم الزيادة ، فالأقل لا بشرط من جهة الزيادة وعدمها.

وهذه الصورة هي محلّ النزاع حيث ذهب البعض إلى إمكان التخيير فيها بين الأقل والأكثر وذهب البعض إلى استحالتها ومنهم المصنّف رحمه‌الله.

ومنشأ دعوى الاستحالة أنّ المكلّف إذا جاء بالأقل فقد جاء بالمأمور به ولا يوجد حالة يؤتى فيها بالأكثر إلاّ وقد جيء قبله بالأقلّ فيكون الإتيان بالأكثر عندئذ بلا مبرّر بعد أن سقط الأمر بامتثال الأقلّ ، ومن هنا لا يمكن أن تكون هناك حالة يكون فيها الأكثر مصداقا للواجب.

وبتعبير آخر : إنّه لمّا كان الأقل لا بشرط من جهة الزيادة وعدمها فهذا يعني أنّه بمجرّد أن يؤتى بالأقل يكون المكلّف قد امتثل الوجوب ، ولمّا كان تحقّق الأكثر متقوّما بتحقّق الأقل فهذا يعني أنّ الأكثر لا يؤتى به إلاّ بعد سقوط التكليف ، ومن هنا جاز تركه دون بديل ، وكل فعل يجوز تركه دون بديل فهو غير واجب وإلاّ للزم الإتيان به أو ببديله.

وبهذا اتّضح استحالة جعل الأكثر عدلا للأقل ؛ إذ أنّ عدل الواجب ينبغي أن يكون مباينا للواجب حتى يصدق أنّه ترك الأولى وأتى بالثاني ، أمّا إذا كان الإتيان بالثاني لا يكون إلاّ عبر الإتيان بالأول فهذا لا يصلح أن يكون عدلا للأول.

الوجوب الكفائي :

ويتّضح المراد من الوجوب الكفائي بهذا البيان :

إنّ بعض الأفعال التي تتعلّق إرادة المولى بصدورها من المكلّف قد لا يكون لشخص المكلّف وهويته أي دخالة في إرادة المولى بل إنّ إرادته قد

١٠٨

تعلّقت بأن يصدر الفعل عن طبيعي المكلّف بنحو صرف الوجود بمعنى عدم ملاحظة خصوصيّات المكلّف الذي يصدر عنه الفعل المراد فمتى ما تحقّق الفعل من أيّ مكلّف كان فإنّ إرادة المولى بذلك تكون قد تحقّقت وبذلك يسقط التكليف.

ومنشأ سقوط التكليف هو صدور الفعل المأمور به من أهله وهو أحد أفراد طبيعي المكلّف الذي وقع موضوعا للتكليف.

وبهذا البيان يتّضح أنّ غرض المولى كما يمكن أن يتعلّق بطبيعي الفعل بنحو صرف الوجود يمكن أن يتعلّق بطبيعي المكلّف بنحو صرف الوجود.

مثلا حينما يقول المولى للمكلّف « صلّ » فإنّ غرضه قد تعلّق بطبيعي الصلاة دون الاعتناء بمشخّصات وخصوصيّات أفراد الطبيعة ، فكلّ فرد من الطبيعة مهما كانت هويّته فإنّه محقّق لغرض المولى ، وهذا ما يقتضي التخيير بين أفراد الطبيعة.

فحينما يقول المولى « إنّ مكلفا مسؤول عن دفن الميّت » فإنّ غرضه قد تعلّق بصدور الفعل وهو « الدفن » من طبيعي المكلّف بنحو صرف الوجود بمعنى أنّه أراد من واحد من طبيعي المكلّف ـ دون ملاحظة من هو ذلك المكلّف ـ أن يقوم بذلك الفعل ، فأيّ مكلّف مهما كانت هويّته يأتي بالفعل المطلوب فإنّ غرض المولى يكون بذلك متحقّقا وهذا هو الوجوب الكفائي المناسب للوجوب التخييري العقلي.

وفي مقابل الوجوب الكفائي يكون الوجوب العيني ، وهو الذي يكون فيه الغرض المولوي متعلقا بصدور الفعل من كلّ فرد من أفراد المكلّفين على نحو مطلق الوجود بمعنى أن شخص المكلّف دخيل في غرض

١٠٩

المولى ، وبهذا لا يكون غرض المولى متحقّقا حينما يقوم مكلّف ما بالفعل المطلوب من جهة المكلّف الآخر ، بل يبقى غرض المولى متعلّقا بأن يصدر الفعل المطلوب من المكلّف الآخر.

وبتعبير آخر : إنّ التكليف بنحو مطلق الوجود من جهة المكلّف يعني أنّ هناك تكاليف متعدّدة بعدد أفراد المكلّفين ، فكلّ مكلّف يكون قد تعلّق الغرض المولوي بأن يصدر عنه الفعل المطلوب ، فيكون لخصوصيّة الفرد دخل في غرض المولى وبالتالي دخل في سقوط التكليف.

وبهذا البيان اتّضح المراد من الوجوب الكفائي واتّضحت الجهة التي يشابه فيها الوجوب التخييري ، إلاّ أنّ هذا البيان إنّما يوضح الوجوب الكفائي المناسب للوجوب التخييري بنحو التفسير الأوّل وهو الوجوب التخييري العقلي.

ونحتاج إلى بيان ثان للوجوب الكفائي يناسب الوجوب التخييري بنحو التفسير الثاني والذي يعني رجوع الوجوب التخييري إلى وجوبات مشروط كلّ منها بعدم امتثال الآخر فنقول :

إنّه قد يتعلّق غرض المولى بأن يصدر الفعل من كلّ مكلّف إلاّ أنّ ذلك الغرض متحيّث بحيثية توجب سقوط التكليف عندما يصدر الفعل المطلوب من مكلف ما.

مثلا : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممّا تعلّق غرض المولى بأن يصدر عن كلّ مكلّف بحيث يكون كلّ مكلّف بخصوصياته قد تعلّق الغرض المولوي بأن يصدر الأمر بالمعروف عنه ، إلاّ أنّ هذا الغرض يرتفع في حال صدور الأمر بالمعروف عن أحد المكلّفين فيكون ما صدر عن هذا

١١٠

المكلّف المعيّن قد صدر عن المكلّف الذي تعلّق الغرض بأن يصدر عنه الفعل بخصوصه إلاّ أنّه وببركة صدور الفعل عن المكلّف المطلوب منه بخصوصه أن يصدر عنه الفعل تسقط سائر الأغراض المتعلّقة بكل مكلّف بخصوصه ، وذلك لتحيّثه من أوّل الأمر بذلك ، وهذا ما برّر تقييد فعليّة كلّ تكليف ـ من التكاليف المتعدّدة بتعدّد المكلّفين ـ بعدم امتثال المكلّف الآخر له.

وهذا النحو من التكليف له ما يناظره في حياة العقلاء فقد يتعلّق غرض المولى العرفي بأن يهيّىء له عبيده الطعام بحيث يكون كلّ واحد منهم بخصوصه مسؤولا عن تهيئة الطعام إلاّ أنّ طبع هذا الغرض يقتضي ارتفاعه حينما يقوم أحد العبيد بإيجاده.

ومن هنا يتّضح الفرق بين هذا التقريب للوجوب الكفائي وبين التقريب الأول ، فإنّ موضوع التكليف بناء على التقريب الأول هو جامع المكلّفين ويكون الفرد الذي يصدر عنه التكليف هو منطبق الموضوع « الجامع » لا أنّه موضوع التكليف ، وأمّا بناء على التقريب الثاني فإن موضوع التكليف فيه هو كلّ مكلّف بخصوصيّاته.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ الوجوب الكفائي يقتضي ـ وبناء على التفسيرين ـ أن يكون الثواب لمن يصدر عنه التكليف ؛ وذلك لأنّ الثواب مترتّب على من يحقّق غرض المولى فعلا ، ومن الواضح أنّ الذي لم يصدر عنه التكليف لم يكن قد حقّق غرض المولى وإن كان ذلك ناشئا عن عدم قدرته لتحقيق غرض المولى بسبب ارتفاع الغرض ، نعم لا يكون المكلّف مثابا على صدور التكليف عنه إلاّ في حالة يكون ذلك المكلّف ممّن يشمله

١١١

التكليف ، وهذا حاصل في الوجوب الكفائي ـ على التفسيرين ـ فبناء على التفسير الأول يكون المكلّف الذي صدر عنه التكليف منطبق الجامع ـ الذي هو موضوع التكليف ـ فيكون التكليف قد صدر عن الجامع بواسطته.

وأمّا بناء على التفسير الثاني فالأمر أوضح ؛ إذ أنّ المكلّف الذي صدر عنه التكليف هو موضوع التكليف.

وكذلك يقتضي الوجوب الكفائي ـ وبناء على التفسيرين ـ استحقاق جميع المكلّفين للعقوبة لو اتّفق عدم صدور التكليف عن واحد منهم ؛ وذلك لأن العقوبة مترتّبة على تضييع الغرض المولوي اختيارا ولكن بحيث يكون تضييع الغرض ممّن تعلّق بأن يصدر الفعل المراد عنه ، وهذا حاصل في الوجوب الكفائي على التفسيرين ، إذ أنّه بناء على التفسير الأول يكون الغرض والتكليف واقعا على جامع المكلّف فيكون كلّ فرد من أفراد الجامع مشمولا للغرض والتكليف ، وبناء على التفسير الثاني يكون أوضح لأنّ كلّ مكلّف بخصوصه يكون موضوعا للتكليف ، وبهذا تكون المسؤوليّة عن تحقيق الغرض ثابتة على عهدة كلّ مكلّف ، فيكون تفويت الغرض منهم جميعا موجبا لمعاقبتهم جميعا.

ويمكن إجمال ما ذكرناه في الوجوب الكفائي في نقاط :

الأولى : إنّ الوجوب الكفائي يشابه ـ إلى حد ما ـ الوجوب التخييري ، فكما يمكن تصوير الوجوب التخييري على أساس أنّه متعلق بالجامع بنحو صرف الوجود فكذلك الوجوب الكفائي ، وكما يمكن تصوير الوجوب الوجوب التخييري على أساس أنّه مجموعة من الوجوبات

١١٢

مشروط كلّ واحد منها بعدم امتثال الآخر فكذلك الوجوب الكفائي.

الثانية : إنّ الوجوب الكفائي يفترق عن الوجوب التخييري في أنّ التخيير فيه بلحاظ الموضوع « المكلّف » والوجوب التخييري يكون التخيير فيه بلحاظ المتعلّق ، فحينما نقول : الوجوب الكفائي متعلّق بالجامع فإنّنا نقصد أنّ موضوع الوجوب الكفائي هو الجامع أي طبيعي المكلّف ، وهذا بخلاف الوجوب التخييري فإنّ تعلّقه بالجامع بمعنى أن متعلّقه هو الجامع والذي هو طبيعي الفعل الواجب كالصلاة والصوم.

وحينما نقول : إنّ الوجوب الكفائي يرجع إلى وجوبات مشروطة فإنّ معناه أنّ الوجوبات متعدّدة بتعدّد المكلّفين أي بتعدّد الموضوعات ، فكلّ مكلّف يكون موضوعا لتكليف ، أمّا الوجوب التخييري فإن تعدّد الوجوبات فيه تكون بلحاظ أفراد المتعلّق أي الفعل الواجب ، فتكون هناك وجوبات مشروطة بعدد أفراد المتعلّق « الواجب ».

الثالثة : إنّ الوجوب الكفائي بتفسيريه يقتضي أن تكون المثوبة لمن يصدر عنه الفعل الواجب كما يقتضي عدم ترتّب العقوبة على ترك التكليف إذا صدر التكليف عن واحد من المكلّفين.

ويقتضي أيضا استحقاق جميع المكلّفين للعقوبة لو اتّفق عدم صدور الفعل الواجب منهم جميعا.

أمّا الوجوب التخييري فيقتضي استحقاق المكلّف للثواب إذا أتى بالواجب على التفسير الثاني أو جاء بفرد من أفراد طبيعي الواجب بناء على التفسير الأول ، كما يقتضي عدم استحقاق المكلّف للعقوبة على ترك الوجوبات الأخرى بناء على التفسير الثاني أو ترك بقيّة أفراد طبيعي

١١٣

الواجب بناء على التفسير الأول ، إلاّ أنّ المكلّف لا يكون معاقبا إلاّ عقابا واحدا لو اتّفق تركه لطبيعي الواجب بتمام أفراده بناء على التفسير الأول أو ترك امتثال جميع الوجوبات بناء على التفسير الثاني ، وقد ذكرنا منشأ ذلك فيما سبق.

التخيير العقلي في الواجب :

عرفنا أنّ الوجوب التخييري العقلي هو ما كان متعلّقه الجامع وأنّ التخيير والإطلاق البدلي فيه إنّما يكون مستفادا بواسطة القرينة العقليّة ، إذ أنّ المولى حينما يجعل التكليف على صرف الوجود للفعل فإنّ ذلك يعني عدم وجود خصوصيّة لأحد أفراد طبيعي المتعلّق وإلاّ كان على المولى أن ينبّه على ذلك وإلاّ كان ناقضا لغرضه ، إذ أنّ إرادة شيء مع إهمال بيانه يكون نقضا للغرض كما هو واضح ، ولمّا كان الحكيم لا ينقض غرضه عرفنا أنّ المولى ليس له اعتناء بخصوصيّة الفرد ، وهذا ما يبرّر الإطلاق البدلي وأنّ المكلّف له اختيار تطبيق الجامع على أي فرد من أفراده.

إذن جعل التكليف على صرف الوجود للمتعلّق « الفعل الواجب » يقتضي الإطلاق البدلي ، والمراد من صرف الوجود للمتعلّق هو وجود المتعلّق بقطع النظر عن تمام الحيثيّات المشخّصة لأفراده ، فوجود المتعلّق بما هو يكون هو متعلّق الغرض ومتعلّق التكليف ، وهذا في مقابل جعل الوجوب على مطلق الوجود ؛ إذ أنّ هذا يعني السريان والإطلاق الشمولي ، فكلّ فرد يكون متعلّقا للتكليف وهذا ما يقتضي انحلال التكليف إلى تكاليف متعدّد بعدد الأفراد ، وجعل الطبيعة هي متعلّق التكليف إنّما هو لغرض الإشارة إلى أفرادها لا أنّها متعلّق التكليف ، ففرق بين أن يقول

١١٤

المولى « أكرم زيدا » وبين أن يقول « أكرم زيدا بكلّ أنحاء الإكرام » ؛ إذ أنّ متعلّق التكليف الأول هو صرف الوجود ، وهذا ما يقتضي الإطلاق البدلي ومتعلّق الثاني هو مطلق الوجود وهذا ما يقتضي الإطلاق الشمولي.

فالأوّل يكون المكلّف فيه مخيّرا بين أفراد طبيعة المتعلّق أمّا الثاني فالمكلّف فيه مسؤول عن جميع أفراد الطبيعة ويكون كلّ فرد من أفرادها متعلّقا لتكليف مستقل فلذلك يكون معاقبا على ترك كلّ فرد من أفراد الطبيعة ومثابا على فعل كلّ فرد من أفراد الطبيعة ، فيمكن أن يكون مثابا ومعاقبا في آن واحد ، فهو مثاب على امتثال الأوّل ومعاقب على عصيان الثاني.

والمتحصّل أنّ التخيير العقلي لمّا كان متعلّقه الجامع ـ وهو طبيعي الفعل المأمور به بنحو صرف الوجود ـ فهذا يقتضي عدم سريان الوجوب من الجامع إلى أفراده ؛ وذلك لأنّ الوجوب إنّما جعل على الجامع فلا مبرّر للتحوّل منه إلى أفراده.

ومن هنا لو اختار المكلّف أحد أفراد الجامع فلا يعني ذلك أنّ الفرد المختار أصبح هو متعلّق الوجوب بل يبقى الجامع هو متعلّق الوجوب ، غايته أنّ الفرد المختار هو منطبق الجامع ومصداقه ، والذي ينبّه على ذلك أنّ المكلّف لو اختار فردا آخر للجامع غير الذي اختاره لكان الفرد الآخر هو منطبق الجامع ولتمّ امتثال الجامع بواسطته وهكذا الحال في سائر أفراد الجامع.

وبهذا يتّضح أنّ الإتيان بأحد أفراد الجامع لا يكون امتثالا للمأمور به ؛ وذلك لأنّ المأمور به هو طبيعي الفعل ـ والذي هو الجامع بنحو صرف

١١٥

الوجود ـ وقد قلنا إنّ الوجوب لا ينتقل من الجامع إلى أفراده ، نعم يكون الفرد المأتي به مصداقا للجامع وموجبا لسقوط التكليف بالجامع أو قل إنّ الإتيان بالفرد يكون واسطة لامتثال التكليف بالجامع لا أنّه امتثال للتكليف بنحو مباشر ، إذ لا يعقل أن يتمّ الامتثال بغير المأمور به.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من أنّ الوجوب التخييري يكون متعلّقه الجامع ـ فلا يسري الحكم من الجامع إلى أفراده ـ إنّما يناسب المبنى القائل إن الأوامر متعلّقة بالطبايع لا بالأفراد ، وفي مقابل هذا المبنى يوجد مبنى آخر يرى أنّ الأوامر متعلّقة بالأفراد لا بالطبايع وهذا المبنى هو المناسب للتفسير الثاني للوجوب التخييري وحاصله :

إنّ الوجوب الذي يكون متعلّقه طبيعي الفعل الواجب يؤول روحا إلى وجوبات بعدد أفراد طبيعي الفعل « الجامع » فيكون كلّ فرد من أفراد طبيعي الفعل الواجب متعلّق لوجوب مستقل ، غايته أنّ فعليّة كل وجوب مقيّدة بعدم امتثال الوجوبات الأخرى ، وبناء على هذا المبنى يكون الإتيان بأحد أفراد طبيعي الفعل امتثالا للمأمور به وتنتفي به سائر الوجوبات المتعلّقة بالأفراد الأخرى.

١١٦

امتناع اجتماع الأمر والنهي

ذكرنا ـ فيما سبق ـ أنّ الأحكام التكليفيّة متنافية ذاتا فيما بينها ، أي أنّ الوجوب مثلا في حدّ ذاته وبما له من مبادئ ينافي الحرمة والاستحباب وهكذا ؛ ولهذا يستحيل الاجتماع بين حكمين تكليفيّين لاستحالة اجتماع الضدّين ، نعم استحالة اجتماع الحكمين المتضادّين إنّما يكون في ظرف اتّحادهما في المتعلّق فما لم يكن متعلّق الحكمين واحدا فإنّ الاستحالة لا تكون ثابتة فلا محذور في أن يكون عمل الصور حراما ويكون اقتناؤها مباحا ولهذا لو اجتمع ضرب اليتيم تشفيا مع الصوم الواجب أو مع الطواف الواجب لما كان في ذلك محذور ؛ وذلك لأنّ متعلّق الحرمة ـ وهو ضرب اليتيم ـ مغاير لمتعلّق الوجوب ـ وهو الصوم أو الطواف ـ. وهذا بخلاف ما لو كان متعلّق الوجوب هو عين متعلّق الحرمة كما لو كان متعلّق الوجوب هو صلاة الجمعة ومتعلّق الحرمة هو صلاة الجمعة أيضا فإنّه لا إشكال في استحالة ذلك لاستلزامه اجتماع الحكمين المتضادّين على متعلّق واحد.

إذن الاستحالة في ظرف اتّحاد المتعلّق والإمكان في ظرف التعدّد لا إشكال فيه كبرويا.

وإنّما الإشكال في بعض الموارد وهل هي من قبيل اتّحاد المتعلّق حتى يكون اجتماع الحكمين المتنافيين في موردها مستحيلا أو أنّها من قبيل تعدّد

١١٧

المتعلّق فيكون الاجتماع ممكنا؟ وهذا ما يقتضي كون البحث عن امتناع أو إمكان اجتماع الأمر والنهي بحثا صغرويا.

والبحث فيه عادة ما يقع في موردين :

المورد الأوّل :

وهو افتراض أن يكون المتعلّق في الوجوب هو طبيعي الفعل بنحو صرف الوجود ويكون متعلّق الحرمة فردا من أفراد ذلك الطبيعي ، فقد يقال في مثل هذه الحالة باتّحاد المتعلّق في الحكمين « الوجوب والحرمة » ؛ وذلك لأنّ وجود الفرد وجود للطبيعي ، إذ أنّ الطبيعي إنّما يوجد بفرده ولا يتعقل أن يكون هناك وجودان أحدهما للطبيعي والآخر لفرده ، إذ الوجود ما لم يتشخّص لا يوجد ، فالطبيعي ما لم يكن في فرده فيستحيل وجوده خارجا ، فالفرد هو الطبيعي ذاته إلاّ أنّه متلبّس ببعض المشخّصات الموجبة لتميّزه عن سائر أفراد الطبيعي.

وقد يقال بتعدّد المتعلّق في الحكمين « الوجوب والحرمة » ؛ وذلك لافتراض أنّ متعلّق الوجوب مطلق ومتعلّق الحرمة مقيّد ، وهذا المقدار كاف في التغاير بين متعلقي الوجوب والحرمة حيث إنّ افتراض كون متعلّق الوجوب مطلقا يعني أنّ الطبيعي بسعته هو متعلّق الوجوب ، وهذا بخلاف افتراض المتعلّق مقيدا فإنّه يعني أنّ المتعلّق متحصّص بما يوجب المنع عن دخول سائر أفراد الطبيعي في المتعلّق.

ويمكن التمثيل لهذا المورد بإيجاب الصلاة بنحو صرف الوجود ـ أي بنحو التخيير العقلي ـ والمنع عن حصّة من طبيعي الصلاة وهي الصلاة في الحمام مثلا ، فإنّه قد يقال باستحالة ذلك لاتّحاد متعلّقي الوجوب والحرمة

١١٨

بالتقريب السابق.

وقد يقال بإمكان ذلك لتعدد متعلقي الوجوب والحرمة بالتقريب السابق.

والصحيح أنّ المسألة تختلف نتيجتها باختلاف المبنى في التخيير العقلي وهما مبنيان والمبنى الثاني ينقسم على نفسه إلى قسمين :

فالمباني في التخيير العقلي ثلاثة :

المبنى الأول : أنّ الوجوب إذا كان متعلّقه طبيعي الفعل فهذا يعني انحلال الوجوب إلى وجوبات متعدّدة بعدد أفراد الطبيعي غير أنّ كلّ واحد منها مقيّد بعدم امتثال الآخر ، فالوجوب الأول متعلّقه الفرد الأول والوجوب الثاني متعلّقه الفرد الثاني وهكذا ، غايته أنّ فعليّة الوجوب الأول ـ والذي متعلّقه الفرد الأول ـ يكون منوطا بترك سائر الوجوبات الأخرى الواقعة على الأفراد الأخرى للطبيعي.

وبناء على هذا المبنى يكون متعلّق الوجوب والحرمة واحدا فتثبت الاستحالة في موردهما ؛ وذلك لأنّ الفرد الذي وقع متعلقا للحرمة هو متعلّق لوجوب من الوجوبات المنحلّة عن الوجوب التخييري العقلي.

فالصلاة في الحمام ـ والذي هو متعلّق الحرمة ـ هو متعلّق الوجوب أيضا ؛ وذلك لأنّه فرد من أفراد الطبيعي وقد قلنا إنه بناء على هذا المبنى يكون كلّ فرد متعلّقا لوجوب مستقل مشروط ، فالوجوب والحرمة عرضا على متعلّق واحد وهو الصلاة في الحمّام وهذا ما يقتضي الاستحالة لاستلزام ذلك اجتماع حكمين متضادّين على متعلّق واحد حقيقة.

المبنى الثاني : أنّ الوجوب إذا كان متعلّقه طبيعي الفعل فهذا لا يعني

١١٩

أكثر من انّ هناك وجوبا واحدا واقعا على متعلّق واحد وهو الجامع ، نعم لو اختار المكلّف فردا من أفراد الجامع وطبّقه على الجامع بحيث جعله مصداق المتعلّق للوجوب فإنّ ذلك يقتضي سراية الوجوب من الجامع إلى ذلك الفرد ، فإنّ الوجوب وإن كان متعلّقه الجامع إلاّ أنّه لا يبقى إلى الأبد كذلك بل إنّه يتحوّل إلى الفرد الذي يأتي به المكلّف امتثالا للوجوب ويجعله منطبق الجامع ، أو نفترض أنّ الوجوب لا يسري من الجامع إلى الفرد المختار إلاّ أنّ الإرادة والمحبوبيّة المتعلّقة بالجامع تسري إلى الفرد المختار فيكون الفرد المختار مرادا ومحبوبا للمولى تبعا لإرادة الجامع ومحبوبيّته.

وبناء على هذا المبنى يلزم اتحاد متعلّق الوجوب والحرمة لو اختار المكلّف الفرد الذي وقع متعلّقا للحرمة ؛ وذلك لأنّ اختياره لذلك الفرد أوجب سراية الوجوب من الجامع إلى ذلك الفرد ، فإذا كان هذا الفرد متعلّقا للحرمة لزم اجتماع الحكمين المتضادّين على متعلّق واحد ، وكذلك إذا افترضنا أنّ السراية إنّما تكون من مبادئ الحكم « الإرادة » ـ المتعلّقة بالجامع ـ إلى الفرد فإنّ ذلك يلزم أن يكون الفرد المختار محبوبا وذلك لسراية المحبوبيّة من الجامع إليه ومبغوضا لكونه متعلقا للحرمة.

المبنى الثالث : أنّ الوجوب إذا كان متعلّقه طبيعي الفعل فإنّ الوجوب يبقى واحدا ولا ينحلّ إلى وجوبات بعدد أفراد الطبيعي كما أنّ الوجوب لا يسري من طبيعي المتعلّق « الجامع » إلى الفرد المختار ولا مبادئ الوجوب تسري من الطبيعي إلى الفرد المختار ، غايته أن الفرد المختار يكون منطبق الجامع ومصداقه الموجب لسقوط التكليف بالجامع ، فاختيار الصلاة في الحمّام لا يكون واجبا أي متعلّقا للوجوب ولا يكون محبوبا ، بل تبقى

١٢٠