شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

أمّا عدم ورود المحذور الأوّل وهو اجتماع الضدّين فلأننا قلنا في بحث اجتماع الحكم الواقعي والظاهري إنّه لا محذور في اجتماع حكمين متغايرين على موضوع واحد إذا كان أحدهما واقعيّا والآخر ظاهريّا ، والمقام من هذا القبيل إذ أنّ الترخيص في أطراف العلم الإجمالي معناه الترخيص في كل طرف على حدة ، والشك في كل طرف موجود. إذا الترخيص الثابت لكل طرف هو ترخيص ظاهري إذ هو ترخيص في مورد الشك والترخيص في مورد الشك حكم ظاهري لا يستحيل اجتماعه مع الحكم الواقعي.

أمّا المحذور الثاني : وهو جريان الحكم الظاهري في موارد العلم بالحكم الواقعي فقد اتّضح مما ذكرناه في المحذور الأوّل إذ أننا أثبتنا أنّ المجرى في أطراف العلم الإجمالي هو الحكم الظاهري وذلك لتحقق موضوعه وهو الشك.

وبهذا البيان يتّضح الدليل الذي استدلّ به المصنّف رحمه‌الله على إمكان الترخيص في الجامع أي إمكان الترخيص في العلم الإجمالي.

هذا هو تمام الكلام في مقام الثبوت.

المقام الثاني ، وهو مقام الإثبات :

ويبحث في هذا المقام عن الأدلّة الإثباتيّة على الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي وفي الجامع ، وقد أرجأ المصنّف البحث عن هذا المقام إلى بحث الأصول العملية.

٨١

القطع الطريقي والقطع الموضوعي

والبحث فيه يتمّ في جهتين :

الأولى : في بيان الفرق بين القطعين.

الثانية : في الثمرة المترتّبة على القطعين.

أمّا الجهة الأولى : في بيان الفرق بين القطعين : وقبل ذلك لا بدّ من تقديم مقدّمتين :

المقدّمة الأولى : في تحديد العلاقة بين الموضوع والحكم في مطلق القضايا المنطقيّة ، فنقول : درسنا في المنطق أن القضية تتكوّن من موضوع وحكم ، والحكم يأتي في مرتبة متأخّرة عن الموضوع ، فأوّلا يتنقّح الموضوع ثم يحمل عليه الحكم ولا يمكن أن يوجد الحكم مع كون الموضوع معدوما إذ الأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما ، وبهذا يتّضح أن علاقة الحكم بالموضوع هي علاقة التابع بالمتبوع ، فالتابع هو الحكم والمتبوع هو الموضوع وهذا يعني أن الموضوع أشبه بالعلّة للحكم ، فكما أن العلّه تولّد المعلول فكذلك الموضوع يولّد الحكم ، نعم تفترق العلّة عن الموضوع أن العلة تفيض الوجود على المعلول وتخرجه من كتم العدم إلى حيّز الوجود ، والموضوع ليس كذلك دائما بل إنّه قد يكون كذلك وقد لا يكون ، إلاّ أنه دائما يكون موجودا قبل وجود الحكم ويساهم ـ إذا صحّ التعبير ـ في توليد الحكم.

وخلاصة الكلام : أن علاقة الحكم بالموضوع علاقة التابع للمتبوع ، وهذا معنى قولهم : إن الأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما.

المقدّمة الثانية : في بيان وظيفة الأدلّة الإثباتية : إن الأدلّة الإثباتيّة

٨٢

ـ التي منها القطع ـ ليس لها دخالة في ثبوت الحكم للموضوع بل إن ثبوت الحكم للموضوع تابع لعلّته الثابتة في نفس الأمر والواقع والأدلّة الإثباتيّة إنما هي كاشفة عن ذلك الثبوت الحاصل بين الموضوع والحكم ، فلها دور الكشف عن الواقع فهي مرآة الواقع ، فكما أنّ المرآة لا تثبت الحسن لوجه زيد والقبح لوجه عمرو ، وإنما تكشف عنه ، فكذلك الأدلّة الإثباتية ، وكما أن المرآة ليس لها قدرة على تغيير الحسن عن وجه زيد والقبح عن وجه عمرو ، كذلك الأدلة الإثباتية ليس لها القدرة على نفي الحكم عن موضوعه أو جعل حكم لموضوع.

ويمكن تنظير الأدلّة الإثباتية بشيء آخر وهي عين الإنسان التي تكشف عن الحوادث الخارجية وليس لها أي دور في ثبوتها أو نفيها ، فحينما ترى العين إنسانا يحترق فإنها لم تكن السبب في احتراقه وليس لها القدرة على دفع الاحتراق عنه كما أنها لا تقدر على تغيير الواقع ونفي احتراق هذا الإنسان واقعا فإنّ كل ذلك خارج عن وظيفتها إذ أن وظيفتها مقتصرة على إحداث العلم ـ باحتراق ذلك الإنسان ـ في عقل المشاهد ، فالمشاهد علم بالحادثة عن طريق عينه ، فكذلك الأدلة الإثباتية فإنّها وسائل العلم ، فالمطّلع على الأدلّة الإثباتية يحصل له العلم بمدلولات هذه الأدلّة دون أن يكون لهذه الوسائل العلمية دخل في ثبوت هذه المدلولات واقعا.

إذا اتضحت هاتان المقدمتان نصل لبيان معنى القطع الطريقي ومعنى القطع الموضوعي.

أما القطع الطريقي : فهو الذي عبّرنا عنه في المقدّمة الثانية بالدليل الإثباتي ، فالقطع الطريقي نوع من أنواع الأدلة الإثباتية وهو الذي يكشف

٨٣

عن متعلّقه « عن ثبوت حكم لموضوع أو نفي حكم عن موضوع » دون أن يكون مؤثرا في ثبوت وتحقق ذلك المتعلّق ، فدوره دور المرآة ودور عين الإنسان حينما تشاهد حادثة من الحوادث فكما أن المرآة وعين الإنسان لا تغيّران واقعا ولا تثبتان حكما لموضوع وإنما وظيفتهما الكشف عن الواقع الخارجي كذلك القطع الطريقي دوره دور الكاشف فهو وسيلة من وسائل العلم والمعرفة ، فمثلا حينما يقطع المكلف بأن الخمر حرام مثلا ، فهذا القطع طريقي إذ أنه كشف للمكلّف عن حرمة الخمر في الشريعة ولم يتدخل في أكثر من إثبات هذه القضية وتحقيق العلم بها للقاطع ، إذ أن ثبوت الحرمة للخمر موجود سواء حصل القطع للمكلف أو لم يحصل ، فهذا يدلّ عن أن القطع أجنبي عن هذه القضية فكما أنّ حسن وجه زيد ثابت في الواقع نظر إلى المرآة أو لم ينظر إليها كذلك القطع الطريقي ، نعم المرآة أحدثت في نفس زيد العلم بأنه حسن الوجه وقبل أن ينظر إلى المرآة لم يكن يعلم بحسن وجهه كذلك القطع الطريقي أوجب العلم بحرمة الخمر ومن قبل لم يكن المكلف يعلم بذلك.

إذن كل قطع ليس له إلا دور الكشف عن متعلّقه فهو قطع طريقي.

أما القطع الموضوعي : فهو القطع الذي جعل موضوعا أو جزء موضوع لحكم من الأحكام.

وبتعبير آخر إن القطع الموضوعي هو ما كان مؤثرا في الحكم وما يكون الحكم مترتّبا عليه « القطع » أو عليه مع غيره وهو يختلف عن القطع الطريقي في أن القطع الطريقي ليس له تأثير في ثبوت الحكم ولا الحكم مترتب عليه وإنما له دور الكشف فلذلك يكون متعلّق القطع الطريقي

٨٤

موجودا قبل القطع الطريقي ، ولمزيد من التوضيح نقول : إن القطع الموضوعي هو ما يكون موجودا قبل الحكم فهو مؤثر في وجود الحكم ؛ وذلك لأنه موضوع الحكم وقد قلنا إن الأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما.

ويمكن أن نمثّل له بهذه القضية « الخمر المقطوع الخمرية حرام » ، فالقطع قد وقع جزءا في موضوع القضية ، وإذا أردنا أن نطبق ما ذكرناه في التعريف على المثال فأننا نستطيع أن نقول إن المقطوع الخمرية الذي وقع جزءا في الموضوع أثر في وجود الحكم وهو الحرمة إذ أن الحرمة لا يمكن أن تثبت لو لا القطع « الموضوع » وكذلك نقول إن مقطوع الخمرية تنقّح وتحقق قبل الحرمة « الحكم » وكذلك يمكن أن نقول إن الحرمة « الحكم » تابعة للخمر المقطوع كونه خمرا « الموضوع ».

والنتيجة أن الحرمة لا تثبت للخمر في المثال لو لا القطع بالخمرية إذ أن القطع بالخمرية جزء الموضوع في القضية وجزء الموضوع له تمام آثار الموضوع من المؤثرية والمقدمية والمتبوعية وهذا هو معنى قول المصنّف رحمه‌الله إن القطع الموضوعي مولّد للحكم إذ المولّد مؤثر والمؤثر متقدّم على المتأثر ولذلك يكون متبوعا والمتأثر به « الحكم » تابعا.

إذا اتضح القطع الطريقي والقطع الموضوعي والفرق بينهما يقع الكلام في الجهة الثانية.

الجهة الثانية في بيان الثمرة المترتّبة على القطعين :

أما القطع الطريقي فهو حجّة في إثبات متعلّقه بمعنى أنه واسطة في إثبات التنجيز والمسؤولية ـ تجاه الحكم المقطوع ـ على المكلّف وذلك أنه

٨٥

كاشف عن التكليف وقد قلنا إن الكاشفيّة منجزة ، وكلما ذكرناه في بحث حجية القطع فإننا نقصد منه القطع الطريقي.

وأما القطع الموضوعي فليس بحجة بالمعنى الذي ذكرناه في القطع الطريقي ؛ وذلك لأنه مجرّد موضوع ، والموضوع ليس من آثاره الحجية إذ ليس له كاشفية ، فالقطع بالخمرية في المثال الذي ذكرناه مثل النار في قولنا « النار محرقة » فالنار لا تكشف عن الإحراق ولا تكشف عن ثبوت الإحراق لنفسها ، فلعل الموضوع كما في المثال لا يدري عن الأحكام المحمولة عليه فكيف يكون كاشفا عنها ، نعم الموضوع مؤثر في وجود الحكم إلا أن هذا لا ينفعنا في إثبات الحجية للقطع كما هو واضح.

ومن هنا لو أردنا أن نثبت الحجية لهذه القضية وهي أن الخمر المقطوع الخمرية حرام فإننا نحتاج إلى قطع طريقي يكشف عن ثبوت هذه القضية ، وبالتالي تثبت المنجزية لهذه القضية بواسطة القطع الطريقي أمّا نفس القطع بخمرية هذا السائل فلا يستطيع أن يثبت القضية المذكورة ، أي يثبت الحرمة للخمر المقطوع الخمرية.

تنبيه :

في أن القطع الطريقي قد يتحوّل إلى قطع موضوعي ولكن في قضية ثانية غير التي كشف عنها.

وبعبارة أخرى ، أن القطع الطريقي الذي كشف عن حكم يمكن أن يقع موضوعا لحكم آخر.

ومن هنا يتّضح أنه يمكن للمولى أن يجعل حكمين ، حكما يجعله

٨٦

مترتّبا على موضوع من الموضوعات ، والحكم الثاني يجعل موضوعه القطع بالحكم الأول ، فإذا قطع المكلّف بالحكم الأول ترتب الحكم الثاني لتحقق موضوعه وهو القطع بالحكم الأول مثلا لو قال المولى « إن الخمر حرام » فهذا هو الحكم الأول وموضوعه الخمر ، وهو غير متصل بالقطع ، ثم لو قال « إذا قطع المكلف بحرمة الخمر فبيعه حرام » فموضوع القضية الثانية هو القطع بالحكم الثابت في القضية الأولى إلاّ أن الحكم فيها غير الحكم في القضية الأولى ، ويمكن أن نمثل لذلك بمثال آخر وهو : أنه لو قال المولى « إن الفقّاع نجس » ثم قال « إذا قطع المكلف بنجاسة الفقّاع حرم عليه شربه » ، فنجاسة الفقاع هو الحكم الأول وموضوعه الفقاع ، وهو غير مرتبط بالقطع ، وأما الحكم الثاني وهو حرمة شرب الفقّاع فموضوعه هو القطع بالحكم الأول في القضية الأولى إلاّ أنّ حكم القضية الثانية غير الحكم في القضية الأولى وإنما القطع بثبوت القضية الأولى صار موضوعا للحكم في القضية الثانية ، فلو انكشف لنا الحكم الأول وقطعنا به ، فهذا القطع يكون طريقيا وموضوعيا أما أنه طريقي فبالنسبة للحكم الأول لأنه كشف عنه وليس له أيّ دور سوى أنه كاشف لذلك فهو قطع طريقي ، وأما أنه موضوعي فبالنسبة للحكم الثاني لأنه وقع موضوعا له في القضية الثانية.

جواز الإسناد للمولى :

ويقع البحث في جهات :

الجهة الأولى : في المراد من جواز الإسناد : المراد من جواز الإسناد هو صحة نسبة الحكم المقطوع إلى المولى فكما أنّ المكلف إذا قطع بوجود

٨٧

حكم إلزامي ثبتت بهذا القطع المنجزيّة ، وإذا قطع بحكم ترخيصي ثبتت بهذا القطع المعذرية كذلك تثبت إضافة إلى المنجزيّة والمعذريّة صحة الإسناد أي نسبة وإضافة هذين الحكمين ـ الإلزامي والترخيصي ـ إلى المولى بأن تقول إنّ المولى حرّم هذا ورخّص في ترك هذا.

ومن هنا نستطيع أن نقول إنّ صحة الإسناد والإضافة من آثار القطع كما أنّ المنجزيّة والمعذرية من آثاره ، ويمكن إجمال ذلك في هذه العبارة المعروفة « إنّ القطع مصحح للإسناد والاستناد » فالإسناد هو نسبة وإضافة الحكم المقطوع للمولى ، والاستناد هي المعذرية والمنجزية ، إذ أنّ الاستناد إلى القطع معذر في موارد القطع بالترخيص ومنجز في موارد القطع بالإلزام.

الجهة الثانية : في حقيقة القطع المصحّح للإسناد : القطع المصحح للإسناد هو القطع الموضوعي وذلك لأنّ جواز الإسناد حكم شرعي موضوعه القطع بحكم من الأحكام ، فكأنّما المولى قال : « كلما قطع المكلّف بحكم من الأحكام فإنّه يجوز له أن يسند ذلك إليّ » ، مثلا إذا قطع المكلّف بحرمة العصير العنبي فإنّ هذا يكون موضوعا لجواز الإسناد هكذا القطع بحرمة العصير العنبي مصحح للإسناد ، فالقطع بالحرمة صار موضوعا لجواز الإسناد.

الجهة الثالثة : في الدليل على جواز الإسناد للمولى :

إذا اتضح ما ذكرناه نعرف أن المصحح للإسناد هو القطع الموضوعي وإذا كان المصحح له هو القطع الموضوعي فهذا يعني أنّه ( جواز الإسناد ) يفتقر إلى دليل إذ أنّ القطع الموضوعي لا يكشف عن الحكم وإنما يولّده ، ومعرفة أنّ له صلاحية توليد حكم من الأحكام يحتاج إلى دليل إثباتي إذ

٨٨

أننا نجهل ذلك أي ثبوت هذا الحكم لهذا الموضوع فلعلّه ثابت ولعلّه غير ثابت ، فالذي يكشف لنا عن الثبوت هو الدليل الإثباتي ، ولذلك استدلّ المصنّف على جواز الإسناد في موارد القطع بتكليف من التكاليف بقوله « إنّ الشارع قد أذن في القول بعلم » فهو يشير إلى أنّ الحكم بجواز الإسناد قام الدليل القطعي على جوازه وإلاّ فنفس وقوع القطع بحكم من الأحكام موضوعا لا يكشف عن جواز الإسناد كما فصلنا ذلك ، وإلاّ انقلب إلى قطع طريقي.

تلخيص ومقارنة : عرفت مما تقدم في بحث حجية القطع أنّ هناك طريقين في إثبات الحجية للقطع.

الأوّل : ما سلكه المشهور وهو أنّ الحجية لازم ذاتي للقطع وأنها من خواص القطع فكل تكليف وصل إلينا بواسطة القطع فهو حجة أمّا إذا كان الوصول بغير القطع فهو ليس بحجة بل هو مجرى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الثاني : ما ذهب إليه المصنّف رحمه‌الله من أنّ الحجية إنّما تثبت للقطع لكون القطع منقّح لموضوع حق الطاعة للمولى ففي الواقع أنّ الحجية موضوعها أوامر المولى والقطع كاشف عن ذلك الموضوع فإذا كشف القطع عن موضوع الحجية ترتّبت الحجيّة والتي هي حكم العقل بلزوم طاعة أوامر المولى.

وبهذا يتّضح أنّ الحجية ليست من خواص القطع بما هو قطع بل لأنّ القطع نحو من أنحاء الانكشاف ، فكل انكشاف ـ بغضّ النظر عن مرتبة كشفه ـ منقّح لموضوع حكم العقل بلزوم طاعة المولى.

٨٩

نعم ، الحجية في موارد القطع آكد منها في غير مورده وذلك لأنّه أعلى مراتب الكشف فتكون الإدانة في موارده أشد.

وخلاصة الكلام أنّ الذي أوجب ثبوت الحجية للقطع بالتكليف المولوي هو إدراك العقل لزوم حق الطاعة للمولى على عباده فلا بدّ من ملاحظة الحدود التي يحكم العقل فيها بلزوم حق الطاعة للمولى ، وإذا رجعنا إلى عقولنا نجد أنّه لا حدود لحق الطاعة للمولى على عباده بل إنّ لزوم طاعته تعالى ثابتة له مطلقا إلاّ في موارد القطع بعدم التكليف ، وبهذا يثبت التنجيز لكل تكليف وصل إلينا بأي نحو من أنحاء الوصول حتى ولو بالاحتمال ، وهذا هو معنى ما عبّر عنه المصنّف بمسلك حق الطاعة.

فالمصنّف رحمه‌الله يتّفق مع المشهور في منجزيّة القطع وإن كان يختلف معهم في كيفية الاستدلال على ذلك ويختلف مع المشهور أيضا في غير موارد القطع والعلم ، فالمشهور ذهبوا إلى جريان « قاعدة قبح العقاب بلا بيان » في كل مورد لم يقطع فيه بالتكليف المولوي ، أمّا المصنّف رحمه‌الله فقد ذهب إلى منجزيّة مطلق الانكشاف ولو كان بمرتبة الاحتمال وعبّر عن هذا المبنى بمسلك حق الطاعة.

وهذا الخلاف مؤثر في المنهجيّة التي يسير عليها الفقيه لغرض الوصول إلى النتائج وكذلك في النتائج.

٩٠

الأدلّة

ويقع البحث فيها عن الأدلة التي يثبت بها الحكم الشرعي الأعم من الواقعي والظاهري ، وهذه الأدلة يمكن تصنيفها إلى قسمين :

الأول : الأدلة المحرزة.

الثانية : الأصول العملية ( الأدلة العملية ).

٩١
٩٢

تحديد المنهج في الأدلة والأصول

إنّ المنهجيّة التي يسير عليها الفقيه في عملية الاستنباط للأحكام الشرعية تختلف باختلاف نوع الدليل الذي يعتمد عليه في عملية الاستنباط فتارة يكون الدليل من سنخ الأدلّة المحرزة والتي يكون لها الكشف عن الحكم الشرعي ، وأخرى يكون من سنخ الأدلّة العملية التي ليس لها الكشف عن الحكم الشرعي ودورها يقتصر على بيان الوظيفة العملية للمكلّف. والنوع الثاني من الأدلة تختلف المنهجيّة فيه أيضا باختلاف المبنى تجاه التكليف المنكشف بالظن أو الاحتمال ، فالبناء على جريان قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ) يؤثر على سير البحث عن الأدلة العملية بشكل يغاير سير البحث بناء على مسلك حق الطاعة.

ومن هنا لا بدّ من بيان المنهجيّة التي يسير عليها الفقيه في كلا النوعين من الأدلة ومتى يكون للفقيه الانتقال من النوع الأول من الأدلة إلى النوع الثاني منها « الأصول العملية ».

أمّا الكلام حول المنهجية التي يتعامل فيها الفقيه مع الأدلة المحرزة ، ومتى يتحوّل من دليل محرز إلى دليل محرز آخر ومنها إلى الأدلة العملية ، فخلاصته ( وسوف يأتي تفصيله في ما بعد ) : أنّ الأدلة المحرزة لمّا كانت منقسمة على نفسها إلى قسمين ـ بينهما طولية ـ أدلة قطعية وأخرى ظنيّة ـ قام الدليل القطعي على حجّيتها ـ فمن الواضح أن يكون المتقدّم في مقام

٩٣

استنباط الأحكام الشرعية هو الدليل القطعي إذ هو الكاشف التام عن الأحكام الشرعية والنافي لموضوع الدليل الظني ؛ وذلك لأنّ موضوعه عدم الدليل القطعي فإذا وجد الدليل القطعي فلا مجال لجريان الدليل الظني لانعدام موضوعه وهذا هو معنى الطولية بينهما ، نعم إذا فقد الدليل القطعي تصل النوبة للدليل الظني لتحقق موضوعه وهو انعدام الدليل القطعي ، ثمّ إنّ الفقيه ليس له التحوّل إلى الأدلّة العملية ما دام هناك دليل محرز سواء كان قطعيا أو ظنيا معتبرا وذلك لتقدّم الأدلّة المحرزة بقسميها على الأدلة العملية على ما سيأتي تفصيله في بحث التعارض ، نعم مع فقدان الأدلة المحرزة يمكن للفقيه الرجوع إلى الأدلة العملية لغرض الوقوف على الوظيفة العملية المقرّرة للمكلّف في ظرف عدم وجود الدليل المحرز.

ومن هنا يصل بنا الكلام إلى بحث المنهجيّة التي يسير عليها الفقيه في الأدلة العملية وقد قلنا بأنها تختلف باختلاف المبنى تجاه التكليف المنكشف بالظن أو الاحتمال.

فالمنهجيّة بناء على مسلك حق الطاعة ـ وأنّ التكليف المنكشف بالظن أو الاحتمال منجّز ـ غير المنهجيّة بناء على مسلك قبح العقاب بلا بيان والتي تنفي التكليف في غير موارد القطع.

ومن هنا لا بدّ من بيان كلّ من المنهجيّتين على حدة.

المنهج بناء على مسلك حق الطاعة :

كل فقيه وقبل أن يطّلع على الأدلة المحرزة إذا أراد أن يستنبط حكما شرعيا لا بدّ من أن ينقّح في مرحلة سابقة ما هو مجرى الأصل والموقف

٩٤

العملي لو اتفق عدم العثور على دليل محرز إذ الوقائع بأكملها لا تخلو من أصل عملي يجري في موردها في حال عدم العثور على الدليل المحرز لها وبالتالي لا بدّ من تحرير مجاري الأصول في كل واقعة من الوقائع الشرعيّة والاحتفاظ به من أجل الاستفادة منه في موارد الجهل بالدليل الشرعي أو إجماله ، والأصول في حدّ نفسها متفاوتة من حيث المرتبة والمرجعية ، فكلّما كان موضوع الأصل مشتملا على قيد زائد كلّما كان متقدّما على الأصل الفاقد لذلك القيد ، فمثلا الشبهة البدوية مجرى لأصلين ، الأول : البراءة ، والثاني : الاستصحاب ، إلاّ أنّ الاستصحاب مقدّم في مقام الاعتماد والمرجعية على البراءة ؛ وذلك لأن موضوعه ليس الشبهة البدوية بنحو مطلق بل هي مع إضافة قيد زائد وهو وجود يقين بحكم سابق ، وكذلك البراءة وقاعدة منجزيّة العلم الإجمالي فإنّ موضوعهما الشبهة إلاّ أنّ قاعدة منجزيّة العلم الإجمالي مقدّمة على البراءة وذلك لاشتمالها على قيد زائد بالإضافة إلى الشبهة وهو كون الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي ، وهكذا سائر الأصول في علاقاتها مع بعضها البعض.

ولذلك تقدّم الأصول العمليّة التي موضوعها مطلق في مقام البحث على الأصول التي يكون موضوعها مشتملا على قيود إضافية ، ويكون الأصل الثاني المشتمل على القيود الإضافية بمثابة المستثنى من الأصول العملية الأولية وهذا هو معنى أعميّة بعض الأصول على بعض.

إذا اتّضح هذا فنقول : إنّ المصنّف رحمه‌الله ادعى أنّ أعم الأصول هو أصالة الاشتغال والاحتياط العقلي الذي هو عبارة ثانية عن مسلك حق الطاعة وذلك في مقابل قول المشهور حيث ذهبوا إلى أنّ أعم الأصول هو

٩٥

أصالة البراءة العقلية التي هي عبارة ثانية عن مسلك قبح العقاب بلا بيان.

وهذا يعني أنّ كل الأصول الأخرى مستثناة عن أصالة الاحتياط العقلي بناء على مبنى المصنّف وأصالة البراءة العقلية بناء على المبنى المشهور.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ المجرى العملي والمرجع العام للفقيه بناء على مسلك حق الطاعة هو الاحتياط العقلي ولا يسوغ للفقيه التنازل عنه إلاّ مع قيام دليل محرز أو أصل عملي ـ ناف لموضوع أصالة الاحتياط العقلي ـ والذي عبّرنا عنه بالأصل العملي المشتمل موضوعه على قيد زائد مضاف إلى موضوع الاحتياط العقلي ـ والذي هو احتمال التكليف ـ إذ أنّ موضوع بقية الأصول هو احتمال التكليف أيضا ولكن بإضافة قيود أخرى.

ومن هنا لا بدّ من بيان ما أجملناه إذ أننا قلنا إنّ الذي يوجب التنازل عن مرجعية الاحتياط العقلي هو إمّا الدليل المحرز وإمّا الأصل العملي ـ الذي موضوعه عين موضوع الاحتياط العقلي بإضافة قيد زائد ـ فما يوجب رفع اليد عن الاحتياط العقلي يقع في موارد :

المورد الأول : القطع بالترخيص : وهو من الأدلّة المحرزة بل هو أقوى الأدلة المحرزة وهو معذّر كما قلنا بمقتضى حكم العقل بذلك ، ومعه لا يبقى موضوع لأصالة الاحتياط العقلي حيث إنّ موضوعه الظن أو الاحتمال بالتكليف ، ومن الواضح أنّه لا وجود لذلك في موارد القطع.

المورد الثاني : القطع بالتكليف : فهنا أيضا لا مجال للتمسّك بأصالة الاحتياط العقلي وذلك لأن الذي أثبت الحجية والمنجزيّة هو القطع ، فأصالة الاحتياط وإن كانت تشترك مع القطع بالتكليف في النتيجة وهي

٩٦

التنجيز إلاّ أنّ التنجيز لا يسند إليها بل يسند إلى القطع ، فمثلا لو نصّت آية على حرمة الميتة فإنّ ذلك يوجب القطع بالحرمة ، فلو أردنا أن نثبت للخصم حرمة الميتة فإننا لا نستدل على الحرمة بالاحتياط العقلي بل نستدل بالنص القرآني نعم اشتراكهما في النتيجة يؤكد الحكم.

المورد الثالث : قيام دليل ـ قام الدليل القطعي على حجّيّته ـ على وجود حكم ظاهري بالترخيص : فإنه لا بدّ معه من التنازل عن الاحتياط العقلي والعمل بمقتضى الدليل الظني وذلك لقيام الدليل القطعي على حجيّته فهو في قوّة القطع بالترخيص الذي هو المورد الأول حيث قلنا إنّ القطع بالترخيص ينفي موضوع الاحتياط العقلي ، فكذلك في المقام ، نعم الفرق بينه وبين الأوّل أنّ الأوّل ينفي موضوع الاحتياط العقلي حقيقة ، بخلاف المقام فإنّ موضوع الاحتياط العقلي فيه موجود بالوجدان حيث إنّ احتمال وجود تكليف واقعي باق على حاله ، نعم هو منتف تنزيلا وتعبّدا ، مثلا لو دلّ خبر الثقة على حليّة لحم الأرنب فإنّ ذلك موجب لرفع اليد عن الاحتياط العقلي ، وذلك لقيام الدليل القطعي على حجيّة خبر الثقة ، ولهذا يمكن أن نقول : إن إخبار الثقة بحليّة لحم الأرنب ناف لموضوع الاحتياط العقلي ـ المقتضي للحرمة ـ إلا أن نفي خبر الثقة لموضوع الاحتياط العقلي ليس كنفي القطع لموضوع الاحتياط العقلي إذ أن القطع ينفي الموضوع حقيقة ، أما خبر الثقة فينفيه تعبّدا إذ أننا بالوجدان نجد الموضوع للاحتياط وهو احتمال التكليف باقيا على حاله.

إذا اتّضح هذا فنقول : إن هذا المورد ـ وهو قيام الدليل على الترخيص الظاهري ـ يمكن تقسيمه إلى قسمين :

٩٧

القسم الأوّل : قيام دليل ظني محرز على الترخيص كقيام خبر الثقة أو انعقاد إجماع منقول على الترخيص أو قيام شهرة فتوائية على ذلك ، فإنّ هذه أدلة ظنيّة تكشف عن الواقع بكشف ناقص ولكن لمّا كان هذا الكشف الناقص قد تمّمه الشارع بجعل الحجيّة له أوجب ذلك تقدّمه على الاحتياط العقلي.

القسم الثاني : قيام أصل عملي شرعي على الترخيص الظاهري فإن ذلك موجب أيضا لرفع اليد عن الاحتياط العقلي وذلك لأن هذا الأصل العملي الشرعي قد قام الدليل القطعي على حجّيّته وهذا يعني أن الشارع قد تنازل عن حقّه الثابت بحكم العقل عن الاحتياط العقلي ، ومثال ذلك أصالة البراءة الشرعيّة ـ وهي الترخيص الشرعي الظاهري في موارد الشك في التكليف الإلزامي ـ فإنها مما قام الدليل القطعي على حجّيتها وجريانها في موارد الشك في التكليف الإلزامي ، فإذا كان كذلك فهذا يعني أن المولى قد أذن في الترخيص في حالات الظن والاحتمال بالتكليف وتنازل عن حقّه المقتضي للاحتياط العقلي.

المورد الرابع : قيام دليل ـ قام الدليل القطعي على حجّيّته ـ على عدم الترخيص الظاهري وعدم الإذن في ترك التكليف الإلزامي المظنون او المحتمل.

وبعبارة أخرى : قيام دليل غير قطعي ـ إلا أنّه دلّ الدليل القطعي على حجّيته ـ على حرمة فعل من الأفعال ، فهذا المورد يتّفق مع الاحتياط العقلي موضوعا وحكما إذ أن الموضوع لكل من الدليل غير القطعي « الأمارة أو الأصل » وأصالة الاحتياط العقلي هو الظن بالتكليف أو

٩٨

احتماله وكذلك الحكم إذ أنّ الحكم لكلّ من الدليل غير القطعي وأصالة الاحتياط العقلي هو الحرمة وذلك لأنّ خبر الثقة مثلا أخبر عن ثبوت الحرمة وأصالة الاحتياط العقلي تقتضي الحرمة وبهذا تتأكّد الحرمة.

إذا اتّضح هذا الكلام ، فنقول : إن هذا المورد يمكن تقسيمه إلى قسمين :

الأوّل : قيام دليل ظني محرز على حرمة فعل من الأفعال كظهور آية على تحريم شيء أو إخبار ثقة كذلك فإن ظهور الآية دليل ظني محرز إلا أنه قام لدليل القطعي على حجيّته ، وبهذا تتأكّد الحرمة ـ كما قلنا ـ لقيام الدليل المحرز عليها وكذلك الاحتياط العقلي.

الثاني : قيام أصل عملي شرعي على الاحتياط في موارد الشك في التكليف ، فمثلا لو قام الدليل القطعي الشرعي على أن الأصل في الدماء والفروج هو الاحتياط فإن هذا أصل عملي شرعي قام الدليل القطعي على حجّيته وهو موافق من حيث النتيجة للاحتياط العقلي ، وكذلك الكلام في الاحتياط الشرعي في الشبهات التحريمية بناء على تماميّته وبهذا تتأكّد الحرمة.

فائدة المنجّزيّة والمعذّريّة الشرعيّة :

وقد استعرضنا ذلك في مطاوي الحديث عن الموارد الأربعة ولا بأس بإعادتها بصياغة ثانية فنقول :

الكلام تارة يقع في الموردين الأول والثاني ، وتارة يقع في المورد الثالث وأخرى في المورد الرابع.

٩٩

أمّا الموردان الأوّل والثاني فلا فائدة معهما للمنجزيّة الشرعية ؛ وذلك للقطع بالترخيص في الأول والقطع بعدم الترخيص في الثاني ، ومن الواضح أنّ القطع معذّر ومنجّز بقطع النظر عن الشارع وذلك لتمامية كشفه عن التكليف أو عدمه فمعذّريّته ومنجّزيّته ليست بحاجة إلى تتميم من الشارع ، فإثبات الحجية الشرعية للقطع تحصيل للحاصل وهذا معنى قولنا إنّه لا فائدة في الموردين للمنجزيّة الشرعية.

وأمّا المورد الثالث فإنّ الاحتياط العقلي فيه ساقط ؛ وذلك لأنّ قيام الدليل القطعي على حجية الدليل الظني المحرز « الأمارة » وعلى حجية الأصل العملي الشرعي النافيين للتكليف في حالات الظن والاحتمال يعني أنّ الشارع قد تنازل عن حقّه في الاحتياط العقلي وأسقط منجزيّة الظن والاحتمال ، وهذا ممكن لا محذور فيه إذ منجزية الظن والاحتمال معلّقة على عدم الترخيص الظاهري كما قلنا.

وأمّا المورد الرابع فللمنجّزيّة فائدة وهي تأكيد مفاد الدليل الظني والأصل العملي الشرعي ـ اللذين قام الدليل القطعي على حجيتهما ـ للاحتياط العقلي ، ومنشأ التأكيد اتحادهما موضوعا وحكما إذ أنّ موضوع الدليل الظني والأصل العملي وكذلك الاحتياط العقلي هو الظن والاحتمال بالتكليف الإلزامي ـ كما شرحنا ذلك في ما سبق ـ والحكم فيهما « الأمارة والأصل والاحتياط العقلي » هو الحرمة إذ أنّ ذلك هو مفاد الدليل الظني والأصل العملي كما هو المفترض في المورد الرابع وهو أيضا مقتضى أصالة الاحتياط العقلي إذ أنها جميعا تقتضي تنجيز التكاليف المظنونة والمحتملة وهو معنى ثان للحرمة ، وبهذا يتّضح أنّ أحدهما مؤكّد للآخر.

١٠٠