شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

على حجيّة خبر الثقة.

وأمّا السنّة الشريفة :

والإستدلال بها على حجيّة خبر الواحد لا بدّ أن لا يتم بواسطة خبر الواحد إذ يلزم من ذلك الدور المستحيل إذ انّ الإستدلال على حجيّة خبر الواحد بخبر الواحد يعني توقف الشيء على نفسه.

ومن هنا لا بدّ من التوسّل لإثبات الحجيّة لخبر الواحد بالسنّة الشريفة بوسائل أخرى لا يلزم منها محذور الدور.

وقد استدلّ المصنّف على حجيّة خبر الثقة بالسنّة الشريفة بدليلين :

الدليل الأول : التواتر :

وتقريب الإستدلال به هو انّه قد تكثّرت الروايات التي يمكن اقتناص الحجيّة منها لخبر الواحد ، فهي وإن لم ترد بلسان واحد ومضمون واحد ولم تكن مسوقة لغرض واحد إلاّ انه يمكن استفادة جعل الحجيّة للخبر من مجموعها. ومن هنا يكون التواتر المدّعى تحقّقه في المقام هو التواتر الإجمالي والذي يقتضي التمسّك بالمقدار المشترك من مضامين هذه الروايات إذ أنّ المقدار المختص برواية أو روايتين لا يشكّل تواترا وبهذا يكون الإعتماد عليه في إثبات الحجيّة اعتمادا على خبر الواحد الذي نبحث عن حجيّته. ولهذا لو وردت بعض الروايات على حجيّة خبر الواحد بنحو مطلق ودلّت روايات أخرى على حجيّة خبر الثقة ودلّت طائفة ثالثة من الروايات على حجيّة خبر الإمامي وروايات أخرى على حجيّة خبر العدل فإنّ المقدار المشترك من مجموع هذه الروايات هو خبر الإمامي العدل ، فهذا هو الذي تثبت له

٤٠١

الحجيّة بواسطة ما يشكّله مجموع هذه الروايات من تواتر إجمالي.

وقلنا القدر المشترك ولم نقل القدر المتيقّن باعتبار أنّ القدر المشترك قد يفترق عن القدر المتيقّن وبهذا تثبت الحجيّة لما هو أوسع من القدر المتيقّن كما لو كان القدر المشترك من مجموع الروايات هو خبر الثقة كأن لم يكن هناك ما يثبت اختصاص الحجيّة بخبر العدل الإمامي أو كان المقدار الذي يمكن اقتناص حجيّة خبر الثقة منه يشكّل تواترا إجماليا فإنّ الحجيّة حينئذ تكون ثابتة لما هو أوسع من القدر المتيقّن.

الدليل الثاني : السيرة :

انعقاد السيرة على العمل بخبر الثقة ، وبيان ذلك : أنّه إذا أردنا أن نستدلّ بالسيرة على حجيّة خبر الثقة فلا بدّ أولا من إثبات معاصرتها للمعصوم عليه‌السلام ، وإذا كانت السيرة من سنخ السير العقلائيّة فدليليتها منوطة بإمضاء الشارع لها ، وهذا ما يحتاج إلى إثبات أيضا ، ومن هنا يتّجه البحث أولا عن أنّ هذه السيرة المدعاة هل هي معاصرة للمعصوم عليه‌السلام أو لا؟

ويمكن إثبات معاصرتها بهذا البيان :

وهو أنّ من المقطوع به اطّلاع المتشرّعة المعاصرين للمعصوم على روايات كثيرة جدا لا تكون موجبة للعلم بمؤداها أو الاطمئنان الشخصي من كلّ واحد من المتشرّعة بها ، بل إنّ هذا النحو من الروايات يمثّل الجزء الأكبر ممّا يصل عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وذلك لشحّة الوسائل الموجبة لتحصيل العلم آنذاك ، وغالبا ما يبيّن الإمام عليه‌السلام الأحكام الشرعيّة في مجالس خاصة.

ومع الإذعان بهذه المقدمة يقع التساؤل عما هو الموقف العملي

٤٠٢

للمتشرّعة تجاه هذه الروايات والّتي ترتبط بهم أشد ارتباط باعتبارهم متشرّعة ، فهل أنّ سيرتهم جارية على العمل بمثل هذه الروايات أو أنّ الموقف تجاه هذه الروايات كان التوقّف وعدم العمل ما لم يحصل العلم بمؤدّاها.

الظّاهر هو الأول ؛ وذلك لأنّ الثاني يلزم منه ما هو منفي بالوجدان ؛ إذ لو كان سلوكهم جاريا على عدم العمل بمثل هذه الروايات لكان ذلك ناشئا إمّا عن الردع من أهل البيت عليهم‌السلام عن العمل بمثل هذه الروايات ابتداء وإمّا أن يكون ذلك ناشئا عن أجوبة الاستفسارات الواردة عن المتشرّعة ؛ وذلك لمسيس الحاجة للتعرّف على موقف الشارع من هذه الروايات والتي ـ كما قلنا ـ تمثّل الجزء الأكبر ممّا يصل عن أهل البيت عليهم‌السلام ، والذي يعزّز ذلك أنّ عدم العمل بمثل هذه الروايات ينافي ما هو مرتكز في جبلّة المتشرعة بما هم عقلاء ؛ إذ أنّ سيرة العقلاء جارية على العمل بأخبار الثقات والتي لا تورث العلم بمطابقة مضمونها للواقع.

وكيف كان فلو أنّ الموقف من هذه الروايات هو عدم العمل بها لوصلتنا ـ ولو بمستوى محدود ـ البيانات الصادرة عن أهل البيت عليهم‌السلام لغرض الردع عنها أو وصلتنا مجموعة من الأسئلة والأجوبة المتضمّنة للردع في حين أنّنا لا نجد من ذلك عينا ولا أثرا ، ولو كان شيء من هذا القبيل موجودا لبلغنا ولو الشيء اليسير منه ، خصوصا وأنّ هذه المسألة على درجة كبيرة من الأهميّة وليس هناك ما يبرّر الاختفاء لو كان ، وإذا كان الواصل هو ما يؤكد الحجيّة أو يدلّ عليها فهذا موهن آخر للاحتمال الثاني.

٤٠٣

وبهذا يثبت أنّ السيرة الجارية آنذاك للمتشرّعة هي عين ما عليه الآن من العمل بأخبار الثقات.

وما ذكرناه يصلح لإثبات معاصرة السيرة العقلائيّة للمعصوم عليه‌السلام على العمل بأخبار الثقات لو كانت السيرة العقلائيّة الفعليّة جارية على العمل بأخبار الثقات وأردنا إثبات امتدادها لزمن المعصوم عليه‌السلام ، غاية ما في الأمر أنّنا نحتاج لإثبات دليليّة السيرة العقلائيّة على الحجيّة إلى أمر آخر وهو الإمضاء في حين أنّ دليليّة السيرة المتشرعيّة لا تتوقّف على إثبات الإمضاء.

وإذا أردنا في المقام أن نثبت الإمضاء للسيرة العقلائيّة فإنّه يمكن استكشاف ذلك من عدم الردع إذ أنّ الردع الذي نحتاجه لإلغاء مثل هذه السيرة لا بدّ أن يكون ردعا مركّزا ومكثفا ؛ إذ أنّ ذلك هو مقتضى ترسّخ هذه السيرة وتجذرها وهو المناسب لأهميّتها وخطورتها لو كانت منافية لأغراض الشارع المقدّس ، وهذا ما يقتضي وصول شيء من ذلك الردع إذ من المستبعد جدا صدور الردع بالنحو المناسب لمستوى تأصّل هذه السيرة ولا يصل شيء من ذلك الردع إلينا رغم عدم وجود ما يقتضي خفاء الردع لو كان ، ممّا يؤكّد عدم وجود الردع.

ومن هنا يستكشف الإمضاء.

الأدلّة التي استدلّ بها على الردع :

أولا : الآيات الناهية عن العمل بالظنّ ، فإنّه يمكن أن يدّعى كفاية الاعتماد عليها في الردع عن مثل هذه السيرة دون الحاجة لأن يفرد لها

٤٠٤

ردعا خاصا ؛ إذ أنّ مقتضى إطلاق النهي عن العمل بالظن هو أنّ الشارع لم يجعل الحجيّة لمطلق الظنّ والذي منه السيرة ، إذ أنّها لا تكشف عن الحكم الواقعي كشفا قطعيّا.

ثانيا : التمسّك بإطلاق الأدلّة التي دلّت على جريان البراءة في موارد عدم العلم ، ومن الواضح أنّ خبر الثقة لا يورث العلم بمؤدّاه.

ومن هنا تكون أدلّة البراءة صالحة للردع عن العمل بأخبار الثقات.

والجواب :

إلاّ أنه يمكن الجواب على دعوى رادعيّة هذين الأمرين للسيرة بما حاصله :

إنّه قد ثبت ممّا تقدم معاصرة السيرة المتشرعيّة ـ على العمل بأخبار الثقات ـ للمعصوم عليه‌السلام ، فإذا كان ما ذكر رادعا رغم انعقاد السيرة المتشرعيّة على العمل وعدم الجري على ما هو مقتضى دعوى الردع فهذا ما يوجب انقداح مجموعة من الاحتمالات :

الاحتمال الأول : أنّ المتشرعة كانوا ملتفتين إلى أنّ هذه الآيات وكذلك أدلّة البراءة الصادرة لغرض الردع عن مثل هذه السيرة إلاّ أنّهم عصوا واستمرّوا على العمل بأخبار الثقات.

الاحتمال الثاني : أنّ المتشرّعة لم يكونوا ملتفتين إلى صلاحية هذه الآيات وأدلّة البراءة إلى الردع عن السيرة وهذا سرّ استمرارهم على العمل بأخبار الثقات.

الاحتمال الثالث : أنّ هذه الأدلّة ليست بصدد الردع عن السيرة واقعا.

٤٠٥

أمّا الاحتمال الأوّل فمستبعد جدّا ؛ وذلك لافتراضهم متشرعة وأنهم يجرون على وفق ما تقتضيه أحكام الشريعة وافتراض المعصية في حقّهم خلف الفرض إذ أنّهم حينما يخرجون عن سلك الطاعة فمعناه انسلاخهم عن عنوان المتشرّعة وقد افترضنا أنّ السيرة المنعقدة في زمن المعصوم عليه‌السلام كانت سيرة متشرّعيّة.

وبهذا يتعيّن الاحتمال الثاني أو الثالث وكلاهما يصبّان في صالح النافين للردع ، إذ أنّ الاحتمال الثاني لو كان هو المتعيّن لكان ذلك يقتضي أنّ الردع لم يكن متناسبا مع حجم السيرة وإلاّ لما غفل عنه المتشرّعة رغم حرصهم على التعرّف على كلّ ما يصدر عن الشارع خصوصا في مثل هذه الموارد التي تبلغ من الأهميّة درجة لا يتعقّل معها غفلة المتشرّعة عن موقف الشريعة.

وأمّا الاحتمال الثالث فيثبت به المطلوب وهو أنّ هذه الأدلّة ليست رادعة واقعا عن هذه السيرة.

أدلّة نفي الحجيّة :

ويمكن أن يستدل على عدم حجيّة أخبار الثقات بالكتاب العزيز والسنّة الشريفة :

أمّا الكتاب العزيز :

فمثل قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١) حيث نهت هذه الآية الكريمة عن العمل بكلّ ما هو غير علمي والذي منه خبر

__________________

(١) سورة الإسراء آية ٣٦

٤٠٦

الواحد.

والجواب عن الاستدلال بهذه الآية الكريمة أنّ هذه الآية دلّت على النهي عن العمل بالظنّ بنحو الإطلاق ، والأدلّة التي استدل بها على حجيّة خبر الثقة صالحة لتقييد هذا الإطلاق بمقتضى قاعدة حمل المطلق على المقيد.

وتقييد هذا الإطلاق إمّا أن يكون بالأدلّة اللفظيّة الدالّة على حجيّة خبر الثقة مثل الآيات أو الروايات المتواترة. وإمّا بالدليل اللبي وهو السيرة بعد أن لم تكن هذه الآيات صالحة للردع عنها كما اتضح مما ذكرناه سابقا.

وأمّا السنّة الشريفة :

فقد ذكر المصنّف رحمه‌الله طائفتين من الروايات التي يمكن أن يستدل بها على نفي الحجيّة عن خبر الثقة :

أمّا الطائفة الأولى : فهي الروايات التي دلّت عدم حجيّة الأخبار التي لا تورث العلم.

منها : ما رواه محمّد بن إدريس في آخر السرائر نقلا عن كتاب مسائل الرجال لعلي بن محمّد عليه‌السلام أنّ محمّد بن علي بن عيسى كتب إليه يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك عليهم‌السلام قد اختلف علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه؟ أو الرد إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب عليه‌السلام « ما علمتم أنّه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردّوه إلينا » (١).

والذي يرد على هذه الطائفة :

أوّلا : إنّها ساقطة عن الاعتبار لضعف سندها ، فالرواية التي ذكرناها

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٩ من أبواب صفات القاضي الحديث ٣٦

٤٠٧

مثلا نقلها الشيخ ابن إدريس رحمه‌الله عن كتاب مسائل الرجال المنسوب إلى محمّد بن علي بن عيسى وهذا الرجل لم يذكر له توثيق ، نعم ذكر النجاشي أنّه كان وجها بقم وأميرا عليها من قبل السلطان ، وهذا لا يعبّر عن وثاقة الرجل ، كما أنّ طريق الشيخ ابن إدريس للكتاب مجهول حيث إنّ جميع الكتب التي نقل عنها في آخر كتابه السرائر لم يذكر طرقه إليها ، وبهذا تكون جميعها ساقطة عن الاعتبار لمجهولية الطرق التي اعتمد عليها للوصول إلى هذه الكتب ، فهو وإن كان يذهب إلى عدم حجيّة أخبار الآحاد مما يشعر بأن كل الروايات التي استطرفها في آخر كتابه السرائر كانت متواترة إلاّ أنّه لا سبيل إلى إثبات ذلك بعد احتمال اعتماده في الوثوق بالروايات التي نقلها على قرائن توجب بنظره الوثوق بصدور هذه الروايات ، وهي ليست حجة على غيره ، كما أنّها لو كانت متواترة فهي متواترة بنظره ؛ إذ أنّ تحديد مناط التواتر أمر حدسي تتفاوت فيه أنظار العلماء إن لم يكن كبرويا فصغرويا ، ثم إنّه من البعيد أن يكون الشيخ ابن إدريس وقف على طرق تبلغ حدّ التواتر لكتاب مسائل الرجال ، فإنّ الطرق التي وصلتنا لهذا الكتاب هي طريق النجاشي وهو ضعيف وطريق الشيخ الطوسي رحمه‌الله وهو ضعيف أيضا ، وكذلك طريق الشيخ الصدوق رحمه‌الله والذي عرفناه بواسطة الشيخ الطوسي وهو ضعيف أيضا.

وثانيا : إنّها أخبار آحاد ظنية لا تورث العلم ، فما الفرق بينها وبين ما نبحث عن حجيّته ، فهي إذن ليست حجّة في نفي الحجيّة عن خبر الثقة ؛ وذلك لأنّ حجيّتها تقتضي نفي الحجيّة عن نفسها إذ أنّها تنفي الحجيّة عن شيء هي مشمولة له ، ففي الوقت التي تنفي الحجيّة عن الخبر الظنّي لا تعدو

٤٠٨

هي عن أن تكون خبرا ظنيّا فلو تمّت حجيّتها في نفي الحجيّة فهي تنفي حجيّة نفسها ، فكلّ شيء يلزم من حجيّته نفي الحجيّة عن نفسه يستحيل الاستدلال به على نفي الحجيّة ؛ إذ أن كلّ شيء يلزم من وجوده عدمه فهو مستحيل.

وأمّا الطائفة الثانية : فهي الروايات الدالّة على حرمة العمل بالخبر الذي لا شاهد عليه من كتاب الله عزّ وجلّ ، أي أنّ كلّ خبر لا يكون مضمونه موافقا لما في الكتاب العزيز بأن كان الكتاب ساكتا عن ذلك المضمون فهذا الخبر لا يجوز التعويل عليه والعمل بمؤدّاه.

ومن هذه الروايات ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : « إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به وإلاّ فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم » (١).

والجواب عن هذه الطائفة هو أنّ دلالتها على نفي الحجيّة ـ عن الخبر الذي لا شاهد عليه من كتاب الله ـ بالإطلاق فهي تنفي الحجيّة عن الخبر الذي يتصل مضمونه بأصول الدين وتنفي بمقتضى إطلاقها الحجيّة عن الخبر الذي يكون مضمونه متصلا بالأحكام. ومن هنا يمكن تقييد إطلاق هذه الروايات بالأدلّة الدالّة على حجية خبر الثقة في الأحكام.

وبهذا اتّضح عدم تمامية الأدلّة التي استدلّ بها على نفي الحجيّة عن خبر الثقة.

__________________

(١) الوسائل باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١٨

٤٠٩

تحديد دائرة الحجيّة :

وبعد أن ثبتت الحجيّة لخبر الواحد في الجملة ، يقع الكلام حول مقدار هذه الحجيّة سعة وضيقا.

والكلام حول هذا البحث يقع في جهتين :

الأولى : في مقدار الحجيّة من جهة الراوي.

الثانية : في مقدارها من جهة المضمون.

أمّا الجهة الأولى : فلو كان دليل الحجيّة هو آية النبأ فهذا يقتضي تضييق دائرة الحجيّة واختصاصها بخبر العدل ، إذ أنّ هذا هو المقدار الذي يمكن أن يستفاد من المفهوم في آية النبأ كما اتّضح ممّا تقدّم.

أمّا لو كان المثبت للحجيّة هو الروايات والسيرة فدائرة الحجيّة تكون أوسع ؛ إذ أنّ مقتضاها هو أنّ الحجيّة ثابتة لمطلق خبر الثقة ولو كان فاسقا أي أنه يكفي في الاعتماد على الخبر أن يكون المخبر متحرّزا عن الكذب ولو لم يكن متحرّزا عن ارتكاب المعصية.

وهذا هو الذي استقرّ عليه معظم الأعلام ( رضوان الله عليهم ) إلاّ أنه وقع الكلام بينهم في أنّ وثاقة الراوي هل هي معتبرة بنفسها بحيث يكون المناط في حجيّة الخبر هو وثاقة الراوي ـ سواء أفاد خبره الوثوق أو لم يفده ـ أو أنّ الحجيّة الثابتة لخبر الثقة باعتبار أنّ الوثاقة غالبا ما تكون موجبة للوثوق والاطمئنان بصدور الخبر ، ولهذا لو لم يحصل الوثوق بالصدور لوجود ما يوجب وهن الخبر والتشكيك في صدوره فإنّ ذلك يوجب سقوطه عن الاعتبار وإن كان راويه ثقة.

والمبنى الأول يعني أنّ وثاقة الراوي أخذت بنحو الموضوعيّة ، أي أنّ

٤١٠

وثاقة الراوي لمّا كانت موضوعا للحجيّة فمتى ما تحقق الموضوع ترتبت عليه الحجيّة.

والمبنى الثاني يعني أنّ وثاقة الراوي أخذت بنحو الطريقيّة ، أي أنّ وثاقة الراوي لمّا كانت من أهم وسائل الوثوق فإنّ ذلك يبرّر جعل الحجيّة لها ، وإلاّ فموضوع الحجيّة ـ على هذا المبنى ـ هو الوثوق ، ووثاقة الراوي ما هي إلاّ طريق من طرق تنقيح موضوع الحجيّة ، ففي كل مورد لا تكون وثاقة الراوي طريقا للوثوق فهذا يقتضي عدم ثبوت الحجيّة للخبر في ذلك المورد.

والثمرة المترتبة على المبنيين أنّه بناء على موضوعيّة وثاقة الراوي تكون الحجيّة ثابتة بمجرّد إحراز الوثاقة دون الحاجة إلى ملاحظة الحيثيات الأخرى التي قد تساهم في التشكيك في صدور الخبر ، كما لو أعرض مشهور القدماء عن خبر ولم يعملوا به وأحرزنا ـ بطريقة وأخرى ـ أن ذلك الإعراض لم يكن ناشئا عن حدس يتّصل مثلا بمضمون الخبر بأن كانوا يرونه مجملا أو أنّ فيه إشكالا جهتيا أو أنّه معارض بما هو راجح عليه وهكذا.

وأمّا بناء على طريقيّة الوثاقة فإنّ ذلك يقتضي عدم ثبوت الحجيّة إلاّ أن يحصل الوثوق بالصدور ؛ ولهذا يكون الإعراض من القدماء موجبا لسقوط خبر الثقة عن الاعتبار والحجيّة.

ومن هنا ينجرّ البحث إلى الخبر الذي لا يكون راويه ثقة ، وهذا النحو من الأخبار له حالتان ، إذ قد يكون مكتنفا بقرائن موجبة للظن بصدوره ، وقد يكون مجرّدا عن كلّ قرينة موجبة للظن بالصدور.

٤١١

أمّا الحالة الثانية فالخبر فيها ساقط عن الاعتبار والحجيّة من غير فرق بين مبنى موضوعيّة الوثاقة أو طريقيّتها ؛ وذلك لأنّه إذا كان المبنى هو موضوعيّة وثاقة الراوي للحجيّة فهو مفروض العدم ، وإن كان المبنى هو طريقيّة وثاقة الراوي لموضوع الحجيّة ـ والذي هو الوثوق ـ فكذلك لا تكون مثل هذه الأخبار متوفّرة على موضوع الحجيّة ؛ إذ أنّه لا وثوق بعد أن لم يكن الراوي للخبر ثقة ولا أنّ الخبر محتفّ بما يوجب الوثوق بصدوره ، إذ أنّ الفرض في هذه الحالة هو تجرّد الخبر عن كل قرينة.

وأمّا الحالة الأولى فتارة تكون القرائن المحتفّة بالخبر موجبة للاطمئنان الشخصي بالخبر من قبل المطّلع عليها وعلى الخبر ، وهنا تثبت الحجيّة للخبر بواسطة الاطمئنان ، وذلك لحجيّة الاطمئنان كما ثبت في محلّه.

وتارة لا تحقق القرائن اطمئنانا شخصيا للمطلع عليها ، وفي حالة من هذا القبيل تكون الحجيّة منوطة بما هو المبنى في موضوع الحجيّة لخبر الثقة ، فإن كان البناء هو أنّ موضوع الحجيّة هو وثاقة الراوي على نحو يكون هو المناط الوحيد في ترتّب الحجيّة بحيث لا يعتبر معها شيء آخر ـ وهذا ما يعبّر عنه بأخذ الوثاقة في الحجيّة بنحو الموضوعيّة ـ فهذا يقتضي عدم حجيّة الخبر الذي لا يكون راويه ثقة وإن كان الخبر مشتملا على ما يوجب الوثوق النوعي بصدوره ؛ إذ أنّ ذلك لا يكفي في ثبوت الحجيّة لمثل هذا الخبر بعد افتراض انتفاء موضوعها.

وإن كان البناء هو أن موضوع الحجيّة هو الوثاقة والوثوق معا بحيث يكون المعتبر في ترتّب الحجيّة على الخبر هو وثاقة الراوي وفعليّة الوثوق.

٤١٢

وبتعبير آخر إن الوثاقة لمّا كانت طريقا غالبيا للوثوق فهذا يقتضي اتّفاق عدم تحقّق الوثوق في بعض الحالات ، والمعتبر في ثبوت الحجيّة للخبر هو تحقّق الأمرين ، الوثاقة والتي هي السبب والوثوق والذي هو المسبب ، وتحقق الوثاقة دون الوثوق أو تحقّق الوثوق بسبب آخر غير الوثاقة يعني عدم تحقّق تمام الموضوع للحجيّة.

ومن هنا يتضح عدم ثبوت الحجيّة للخبر الذي لا يكون راويه ثقة بناء على هذا المبنى أيضا وإن كان محتفّا بما يوجب الوثوق بصدوره ؛ وذلك لاختلال أحد جزئي موضوع الحجيّة ـ على هذا المبنى ـ فهو وإن كان موثوقا بصدوره إلاّ أنّه لمّا كان الوثوق مسببا عن غير الوثاقة فهذا يقتضي انتفاء ما هو دخيل في موضوع الحجيّة وبذلك لا تثبت الحجيّة.

أما إذا كان البناء هو أن موضوع الحجيّة هو الوثوق فحسب والوثاقة المعتبرة في الحجيّة إنما هي طريق وليس لها أيّ موضوعيّة ، فهذا يقتضي الحجيّة للخبر المحتف بقرائن موجبة للوثوق بصدوره وإن كان راويه غير ثقة ؛ وذلك لأنّ وثاقة الراوي أخذت في موضوع الحجيّة بنحو الطريقيّة المحضة باعتبارها وسيلة غالبية لتحقّق الوثوق ، فإذا اتّفق أن حصل الوثوق بموجب آخر فقد تحقّق موضوع الحجيّة.

وهذه المباني الثلاثة هي منشأ الخلاف بين الأعلام في جابرية الشهرة العمليّة للخبر الضعيف وعدم جابريتها بعد الفراغ صغرويا عن أنّ شهرة العمل بالرواية الضعيفة من القدماء قرينة موجبة للوثوق بالصدور.

أمّا الجهة الثانية : ـ في مقدار الحجيّة من جهة المضمون ـ فإن الحجيّة لا تثبت لمطلق الخبر أيّا كان مضمونه ؛ إذ أنّ أدلّة الحجيّة لا تتّسع لذلك ،

٤١٣

فهي لا تشمل الخبر الحدسي ، كما أنّها لا تشمل الخبر الحسّي الذي يكون مضمونه مخالفا لكتاب الله عزّ وجلّ أو السنّة القطعية.

أمّا عدم شمول الحجيّة للأخبار الحدسيّة فيعرف من خلال ملاحظة الأدلّة التي استدلّ بها على حجيّة خبر الثقة مثل آية النبأ ، إذ النبأ هو موضوع الحجيّة في الآية الكريمة ، وهو غير صادق على الخبر الحدسي المستفاد بواسطة الاجتهاد والنظر ، وكذلك في الروايات والسيرة فإنّ موضوعها جميعا هو الخبر الحسّي.

وأمّا عدم شمول الحجيّة للأخبار المخالفة لكتاب الله والسنّة فمنشؤه تكثّر الروايات الدالّة على عدم حجيّة ما خالف كتاب الله وسنة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومن الواضح أنّ النسبة بين أدلّة الحجيّة وبين هذه الروايات هي نسبة الإطلاق والتقييد ، وبمقتضى قاعدة حمل المطلق على المقيّد نقيّد أدلّة الحجيّة بهذه الروايات النافية للحجيّة عن قسم خاص من الأخبار وهي المخالفة للكتاب والسنة القطعيّة.

٤١٤

قاعدة التسامح في أدلّة السنن

والمراد من هذه القاعدة هو أنّ ما يعتبر في ثبوت الحجيّة للخبر من وثاقة الراوي أو احتفاف الخبر بما يوجب الوثوق بصدوره غير معتبر في الأخبار المتضمّنة للمستحبات وكذلك المكروهات ـ على قول ـ ، فالمراد من التسامح هو التساهل وعدم متابعة السند للتعرّف على وثاقة الواقعين في سلسلته أو عدم وثاقتهم وكذلك التساهل في تحصيل القرائن الموجبة للوثوق.

والمراد من أدلّة السنن هي الروايات الواردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلام والمتصديّة لبيان المستحبات والمكروهات.

ومدرك هذه القاعدة مجموعة من الروايات وفيها ما هو معتبر سندا كمعتبرة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له أجره وإن لم يكن على ما بلغه » (١) ، وهذه الروايات يعبّر عنها بروايات من بلغ ومفادها كما اتّضح من معتبرة هشام أن كلّ من بلغه أنّ الفعل الكذائي يترتّب على الإتيان به الثواب ففعله ، فإنّ له ذلك الثواب وإن كان ما بلغه لا يطابق الواقع.

وتقريب الاستدلال بروايات من بلغ على القاعدة أنّ هذه الروايات

__________________

(١) الوسائل باب ١٨ من أبواب مقدّمات العبادات ح ٦

٤١٥

تصحّح العمل بكلّ رواية متضمّنة لحكم استحبابي. وهذا هو معنى جعل الحجيّة لأخبار السنن أيّا كان إسنادها ودرجة الوثوق بصدورها.

إلاّ أنّ الصحيح أنّ روايات ( من بلغ ) غير متعينة في المعنى المذكور ، بل إنّها محتملة لمعان يكون المعنى المذكور أحدها. وبيان ذلك :

أنّ المعاني المحتملة من روايات « من بلغ » أربعة :

المعنى الأوّل : أنّ روايات « من بلغ » متصدّية لجعل الحجيّة لمطلق الخبر الواصل إذا كان مضمون الخبر استحباب فعل. وهذه الحجيّة إنما هي مجعولة في ظرف الشك وعدم العلم بمنافاة مضمون الخبر للواقع.

وبهذا يتّضح أنّ الإستحباب الثابت للخبر بروايات « من بلغ » هو استحباب ظاهري.

المعنى الثاني : أن تكون روايات « من بلغ » متصديّة لبيان حكم واقعي وهو استحباب الفعل الذي بلغ عليه الثواب ، وهذا الحكم الواقعي المنشأ بواسطة روايات « من بلغ » هو حكم واقعي ثانوي ، أي أنّ تعنون الفعل بكونه قد بلغ عليه الثواب موجب لاستحباب ذلك الفعل واقعا وإن كان الفعل في حدّ نفسه لو لم يبلغ عليه الثواب لما كان مستحبا.

ويمكن تنظير ذلك بالفعل المنذور فإنّه في حدّ نفسه لو لم يقع متعلّقا للنذر لا يكون واجبا ولكن لوقوعه متعلّقا للنذر صار واجبا ، فالوجوب الثابت للفعل المنذور وجوب واقعي إلاّ أنه ثانوي ، والمراد من الثانوي أنّه لو خلّي ونفسه لما اقتضى عروض الوجوب عليه ، وكونه واقعيا باعتبار أنّ ثبوت الوجوب له ليس في ظرف الشك في الحكم الواقعي له بل إنّ الوجوب ثابت له دون واسطة.

٤١٦

إذن الفعل الذي بلغ عليه الثواب مستحب واقعا إلا أنّه ثانوي ، أي أنّه لو خلّي ونفسه ولم يتعنون بعنوان أنه مما بلغ عليه الثواب لما اقتضى عروض الاستحباب عليه ، إلاّ أنّه لمّا بلغ على فعله الثواب أوجب ذلك عروض الاستحباب عليه واقعا.

المعنى الثالث : أن تكون روايات « من بلغ » متصدّية للتنبيه والإرشاد إلى ما يقتضيه العقل من حسن الاحتياط والتحفّظ على مرادات المولى جلّ وعلا ، وإن كلّ من يفعل ما بلغه أنّه مطلوب للمولى ـ رجاء مطلوبيته واقعا ـ يكون مستحقّا لمثوبة المولى جلّ وعلا.

المعنى الرابع : أن تكون روايات « من بلغ » متصدّية للإخبار والكشف عن وعد إلهي لعباده وأنّه يثيب على كلّ فعل بلغهم أنّه مطلوب للمولى ، على أن يكون الغرض من هذا الوعد ـ المنكشف بروايات « من بلغ » ـ متعلّق بنفس الوعد دون أن يكون للأفعال التي بلغ عليها الثواب أي مصلحة تقتضي جعل الاستحباب لها ، نعم قد تكون المصلحة من الوعد هو الترغيب في الاحتياط إلاّ انّ ذلك لا يغيّر من واقع تلك الأفعال التي يقع عليها الثواب بحيث يثبت لها الاستحباب بسبب البلوغ.

والظاهر من هذه المعاني المحتملة هو المعنى الثالث ، وهو أنّ روايات « من بلغ » متصدّية للتنبيه والإرشاد إلى ما يقتضيه العقل من حسن الاحتياط وترتّب الثواب عليه ، وذلك لسقوط المعنى الأول والمعنى الثاني.

أمّا المعنى الأوّل فلأنّه لمّا كان منشأ استظهاره هو أنّ ترتّب الثواب على الفعل الذي بلغ عليه الثواب كاشف عن أنّ الشارع قد جعل له الاستحباب ، إذ لا معنى لترتّب الثواب على فعل إلاّ أنّ الشارع جعل له

٤١٧

الاستحباب ، ولو كان هذا الاستظهار تاما فما معنى ترتّب الثواب حتى في موارد مخالفة ما بلغ للواقع ، وهذا ما يكشف عن أنّ الثواب ليس ناشئا عن جعل الاستحباب للفعل الذي بلغ عليه ثواب ، ومنه يتّضح عدم تصدّي الإمام عليه‌السلام لجعل الحجيّة وإنشاء الاستحباب الظاهري لكل فعل بلغ عليه الثواب ؛ وذلك لأنّ منشأ استظهار هذا الاحتمال فاسد.

وأمّا المعنى الثاني فليس هناك ما يبرّر استظهاره من روايات « من بلغ » فيبقى احتمالا محضا لا شاهد على إرادته ، نعم قد يقال إنّ ترتّب الثواب على فعل كاشف عن مطلوبيته للمولى واقعا وهذا ما يعيّن المعنى الثاني ، إلاّ أنّ هذا القول لا يصغى إليه بعد أن لم تكن مطلوبية الفعل هي المنشأ الوحيد لترتب الثواب ؛ إذ أنّ الثواب قد ينشأ عن الاحتياط الذي يحكم العقل بحسنه ، وبهذا يتعيّن المعنى الثالث ، إلاّ أنّه تبقى مشكلة تواجه استظهار المعنى الثالث من روايات « من بلغ » ، إذ أنّ ظاهرها أنّ الثواب المترتّب على العمل بالفعل الذي بلغ عليه الثواب هو مقدار الثواب المذكور في الرواية وهذا ما لا يتكفّل المعنى الثالث لبيانه إذ أنّه لا يثبت به أكثر من ترتّب الثواب أمّا مقداره فليس له تصد لبيانه.

وعلاج هذه المشكلة يستوجب تعديل المعنى الثالث بالمعنى الرابع بأن يقال إنّ روايات « من بلغ » وإن كان ظاهرها الإرشاد لما يحكم به العقل من حسن الاحتياط إلاّ أنّها متضمّنة لوعد إلهي بترتّب نفس الثواب الموعود به.

٤١٨

إثبات حجيّة الدلالة

في الدليل الشرعي

١ ـ تمهيد

٢ ـ حجية الظهور

٣ ـ موضوع الحجيّة

٤ ـ ظواهر الكتاب الكريم

٤١٩
٤٢٠