شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

في السعي إذ أنّ عدم التزام العقلاء لا يكشف ابتداء عن عدم الوجوب وإنّما يفتقر إلى الإمضاء المستكشف من السكوت ، وكذلك المقدّمة الثانية وهي انحصار التعرّف على الحكم الشرعي بالسؤال أو الوقوف على الروايات المتصدّية لبيان الحكم الشرعي المبحوث عنه في حين أنّ معرفة الحكم الشرعي في السير العقلائيّة لا ينحصر بذلك إذ يكفي الرجوع إلى كبرى السيرة العقلائيّة والتي هي النكتة التي برّرت نشوء تلك السيرة ، إذ أنّ السيرة العقلائيّة يمكن أن تكشف عن حكم شرعي غير الجواز بناء على أنّ الإمضاء للسيرة العقلائيّة إنّما يقع على ما هو منشأ وكبرى تلك السيرة.

وبهذا يتضح اختلال المقدّمة الثالثة أيضا ؛ إذ لا حاجة لتكثر الأسئلة والخطابات المبيّنة لحكم المسألة المبحوث عنها مع افتراض كون السيرة عقلائيّة يمكن معرفة حدودها من خلال البحث عن مبرّراتها.

المحاولة الرابعة :

أن يكون بديل السيرة الفعليّة ـ والتي نريد أن نستدلّ على معاصرتها للمعصوم عليه‌السلام ـ منافيا لما هو مقتضى الطبع العقلائي العام بحيث لو كان هو المتبانى عليه آنذاك لكان بديلا شاذّا ، وهذا ما يقتضي احتفاظ التاريخ به كما حفظ لنا التاريخ كثيرا من الظواهر الاجتماعيّة الشاذّة ، ولمّا لم ينقل لنا التاريخ ما هو المتبانى عليه في زمن المعصوم في الإطار المبحوث عنه فهذا يكشف عن أنّه لا يختلف عمّا هو عليه الآن إذ أنّ افتراض كون التزام العقلاء آنذاك بما هو شاذّ عن طبع العقلاء يبرّر وصول ذلك إلينا ولو بشكل محدود ، بعد أن كان المفترض أنّه هو البديل الوحيد عمّا هو ملتزم به فعلا.

ويمكن التمثيل لذلك بالسيرة العقلائيّة الفعليّة القاضية بأحقيّة الدائن

٣٨١

في الاستيثاق على أمواله المدينة برهن أو كتابة أو شهود ، وهذه السيرة هي ما يقتضيه الطبع العقلائي العام ؛ إذ أنّ الذي يخاف على أمواله من الضياع هو الدائن أما المدين فلا خوف على أمواله بعد أن كانت أمواله وأموال الدائن تحت يده.

وإذا أردنا أن نستدلّ على امتداد هذه السيرة لزمن المعصوم عليه‌السلام فإنّه يقال إنه لو لم تكن هذه السيرة هي الجارية في زمن المعصوم عليه‌السلام لكانت السيرة الجارية هي بديلها ، وبديلها الوحيد هو عدم أحقيّة الدائن في الاستيثاق على أمواله ، وهذه السيرة على افتراض وجودها تكون شاذة ؛ إذ أنّها تقتضي أن تكون أموال الدائن في مهبّ الريح وهذا يستوجب انسداد باب المداينة المقطوع بوجوده في زمن المعصوم عليه‌السلام ، وشذوذ هذه السيرة يستدعي احتفاظ التاريخ بها ، ونحن بالوجدان لا نجد من ذلك عينا ولا أثرا ، مما يكشف عن عدم وجود هذه الظاهرة الاجتماعيّة الشاذّة فيتعيّن تطابق ما عليه السيرة في زمن المعصوم عليه‌السلام مع ما عليه السيرة فعلا.

المحاولة الخامسة :

أن نسبر أغوار السيرة الفعليّة وذلك عن طريق الرجوع إلى ما هو مرتكز في أذهاننا من مرتكزات تمثل هذه المرتكزات كبرى هذه السيرة ، فإذا وجدنا أنّ هذه المرتكزات مناسبة لما هو مقتضى الطبع العقلائي والفطرة السليمة بحيث لا يكون ذلك ناشئا عن رواسب التربية أو الثقافة الاجتماعيّة السائدة والتي لا يكتب لها الثبات والاطراد لتمام المجتمعات العقلائيّة ، ففي حالة من هذا القبيل يحصل الوثوق بكون السيرة الفعليّة هي السيرة الجارية في زمن المعصوم عليه‌السلام ، ويمكن أن نحرز ما وصلنا إليه عبر هذا

٣٨٢

التحليل الوجداني بملاحظة ما عليه المجتمعات العقلائيّة على اختلاف مشاربها ومنابع ثقافتها وظروفها ، فإذا وجدناها متفقة مع ما وصلنا إليه من نتيجة فإنّ ذلك يؤكّد أنّ ما وصلنا إليه لم يكن خاضعا لرواسب التربية والثقافة والتي قد تخلق جوا ذهنيّا خاصّا دون أن يشعر الإنسان أنّه واقع تحت هيمنة تلك التربية أو الثقافة التي نشأ في محيطها.

وهذه المحاولة وإن كانت موجبة للوثوق بتطابق السيرة المعاصرة للمعصوم عليه‌السلام مع ما عليه السيرة فعلا إلاّ أنّها ليست طريقة موضوعيّة يمكن التوسّل بها لإثبات المطلوب للخصم بمعنى أنّها ليست برهانية لأنّها تعتمد خطوات لا توصل إلاّ من سار عليها والبرهان ليس من هذا القبيل ؛ إذ أنّ البرهان يعتمد مقدّمات محرّرة في مرحلة سابقة يتمّ عن طريق ضمّها إثبات المطلوب.

نعم الاستدلال على المطلوب بما عليه المجتمعات العقلائيّة على اختلاف مشاربهم وثقافتهم يكون برهانيا.

وكيف كان فالوثوق بمعاصرة السيرة الفعليّة لزمن المعصوم عليه‌السلام لا ينهي البحث ، إذ تبقى مشكلة لا بدّ من حلّها ، وهي أنّه كيف نثبت أنّ هذه السيرة كانت ممضاة من المعصوم عليه‌السلام؟ إذ لعلّه ردع عنها ولم نقف نحن على الردع ، وغاية ما يمكن أن نثبته هو عدم وجدان الردع ، إلاّ أنّ ذلك لا يكشف عن عدم وجود الردع المقتضي للإمضاء.

ويمكن حلّ هذه المشكلة بهذا البيان :

وهو ادّعاء الوثوق بعدم وجود الردع لعدم وصوله بالوجدان ، ومبرّر هذا الادّعاء هو انّ افتراض السيرة العقلائيّة المبحوث عن إمضائها متجذّرة

٣٨٣

ومترسّخة في أذهان العقلاء يقتضي أن يكون مستوى الردع عنها مناسبا لما هي عليه من تأصّل وتجذّر ، وهذا هو مقتضى تحفّظ العقلاء على أغراضهم ، إذ لا يمكن إلغاء سلوك عملي عام له امتداد في أعماق كلّ واحد من أفراد ذلك المجتمع العقلائي كما له مبرّرات مترسّخة ومتوارثة كابرا عن كابر لا يمكن إلغاء مثل هذه السيرة بردع باهت يتم في مجلس محدود ، بل إنّ مثل هذه السيرة يستوجب ردعا مركّزا ومكثّفا بحيث يكون ذلك الردع مناسبا لما عليه تلك السيرة من تجذّر ، وهذا ما يستدعي عادة إثارة الرواة إذ ينساقون للاستفهام عن حيثيّات ذلك الردع ومقداره وما هو البديل عنه ، وهذا ما يقتضي تكثّر الأسئلة والأجوبة ، فإذا لم يصل إلينا شيء من ذلك لا من الردع الابتدائي ولا من الردع المستفاد من لحن الأسئلة والأجوبة رغم أنّ المقتضي للوصول ـ ولو بنحو مناسب لطول الفاصلة الزمنيّة بيننا وبين المعصوم عليه‌السلام ـ موجود إذ أنّ المفترض هو أنّ السيرة متأصّلة ومتجذّرة في مرتكزات العقلاء وهذا ما يثير اهتمام الناس فضلا عن المهتمين بحفظ ما يرد عن أهل البيت عليهم‌السلام.

كما أنّ المانع عن الوصول ـ ولو بشكل محدود ـ مفروض الانتفاء بعد أن لم يكن الردع ضارّا بمن له القدرة على الإخفاء.

ومن هنا يستكشف عدم صدور الردع عن السيرة المبحوث عنها.

وبهذا تتوفّر السيرة على كلا الركنين الأساسيّين اللّذين يؤهلانها للدليليّة ، وهما معاصرة السيرة للمعصوم عليه‌السلام وإمضاء المعصوم عليه‌السلام لها.

درجة الوثوق في وسائل الإحراز الوجداني :

إنّ الأدلّة المستكشفة بواسطة ضرب القيم الاحتماليّة في بعضها يكون

٣٨٤

ناتجها إما القطع أو الاطمئنان أو الظن ، إذ أنّ ضرب القيم الاحتماليّة في بعضها قد ينتج تضاؤل احتمال عدم المطابقة إلى حدّ يكون الاحتمال موهوما جدا بحيث لا ينافي القطع بالطرف المقابل ، وقد ينتج ضرب القيم الاحتماليّة تضاؤل احتمال عدم المطابقة إلى حدّ يوجب استقرار النفس بمطابقة الطرف المقابل للواقع ، وقد ينتج تضاؤل الاحتمال الظنّ القوي بمطابقة الطرف المقابل للواقع مع الاحتفاظ بمستوى معتدّ به من احتمال عدم المطابقة للواقع.

ولا إشكال في الحالة الأولى من حيث صلاحيّة الناتج « القطع » لتنجيز المقطوع والتعذير عنه.

وأمّا الحالة الثانية فقد يقال بعدم صلاحيّته بنفسه للدليلية ، بل إنّ دليليته منوطة بقيام الدليل التعبّدي على حجيّته ، ومن هنا قيل إنّ الدليل التعبّدي على حجيّة الاطمئنان هو السيرة العقلائيّة الممضاة من المعصوم عليه‌السلام ، وهذا ما يقتضي القطع بمعاصرة السيرة على العمل بالاطمئنان للمعصوم عليه‌السلام والقطع بإمضاء الشارع لهذه السيرة ؛ إذ أنّ الاطمئنان بتحقّق هذين الركنين لا يثبت حجيّة الاطمئنان للزومه الدور المستحيل ، إذ أنّنا في مقام الاستدلال على حجيّة الاطمئنان فإذا كان دليل الحجيّة هو الاطمئنان فهذا يعني توقف حجيّة الاطمئنان على حجيّة الاطمئنان.

وفي مقابل هذا القول قد يقال بحجيّة الاطمئنان بنفسه كالقطع وذلك لأنّ حق الطاعة ـ أداء لحق المولويّة ـ موجب للجريان على وفق متعلّق الاطمئنان كما هو الحال في القطع ومعذّر عن مخالفة الواقع في موارد الاطمئنان بعدم التكليف كما هو الحال في القطع ، إلاّ أنّ المميّز للاطمئنان

٣٨٥

عن القطع هو إمكان ردع المولى عن الاطمئنان وهو غير ممكن في القطع.

وأمّا الحالة الثالثة فلا إشكال في عدم صلاحيّتها لإثبات الدليليّة بنفسها إذ أنّ الأصل عدم حجيّة الظن ـ كما ذكرنا ذلك في بحث أنّ الشكّ في الحجيّة يساوق القطع بعدم الحجيّة ـ ، نعم لو قام الدليل القطعي على حجيّة ظنّ من الظنون فإنّ ذلك يكسبه الدليليّة إلاّ أنّ ذلك يصيّر هذه الوسائل في موارد الإحراز التعبّدي.

٣٨٦

وسائل الإحراز التعبّدي

وهي الأدلّة الظنيّة التي تكون دليليتها على الحكم الشرعي منوطة بقيام الدليل القطعي الشرعي على ثبوت الحجيّة والدليليّة لها.

وهذه هي المعبّر عنها عند علماء الأصول بمباحث الظنّ ، وهي كثيرة منها ظواهر الخطاب الشرعي ، ومنها قول اللّغوي ، ومنها الشهرة الفتوائيّة ، ومنها خبر الواحد ، وهو كلّ خبر لا يكون مقطوع الصدور ، وقد خصّه المصنّف رحمه‌الله بالبحث في المقام دون بقيّة الأدلّة الظنيّة لعظم فائدته لو تمّت حجيّته ؛ إذ أنّ أكثر الأحكام الشرعيّة الفرعيّة وصلتنا بواسطة خبر الواحد.

وقد تعرّض المصنّف رحمه‌الله في بحثه عن خبر الواحد للأدلّة التي استدل بها على حجيّته والأدلة النافيّة للحجيّة ثمّ بحث بعد ذلك حدود الحجيّة لخبر الواحد وشرائطها بعد افتراض تماميّة الأدلّة المثبتة للحجيّة.

أدلّة حجيّة خبر الواحد :

والبحث عنها يقع تارة في أدلّة الكتاب العزيز على الحجيّة ويقع تارة أخرى عن الأدلّة المستوحاة من السنّة الشريفة على الحجيّة.

أمّا أدلّة الكتاب العزيز فآيات :

منها ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا

٣٨٧

قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (١).

والاستدلال بالآية الكريمة يتمّ بواسطة المفهوم ، إذ أنّ الجملة فيها شرطية ، وقد ثبت أنّ الجمل الشرطيّة ظاهرة في المفهوم وبيان ذلك :

أنّ الآية ظاهرة في تعليق طبيعي الحكم ـ وهو وجوب التبيّن ـ على الشرط والذي هو مدخول أداة الشرط « إن » والشرط هو مجيء الفاسق وموضوع الحكم هو النبأ ، وهو منحفظ في حالتي تحقق الشرط وانتفائه ، وبهذا يكون انتفاء الشرط عن الموضوع يقتضي انتفاء الحكم ؛ أي أنّ انتفاء مجيء الفاسق عن النبأ بأن يكون الآتي به غير فاسق يقتضي انتفاء وجوب التبيّن عن ذلك النبأ.

وبهذا يثبت عدم وجوب التبيّن عن نبأ العادل لانتفاء شرط وجوب التبيّن.

وهذا يقتضي حجيّة نبأ العادل إذ لا معنى لعدم وجوب التبيّن عن نبئه إلاّ ثبوت الحجيّة له وإلاّ كان مساويا لنبأ الفاسق أو أسوأ حالا منه ، وكلاهما منفيّان فيتعيّن ثبوت الحجيّة لنبئه. أمّا افتراض المساواة فمنفي بمفهوم الشرط ، وأمّا افتراض كونه أسوء حالا من الفاسق فلأنّ نبأ الفاسق يمكن أن تثبت له الحجيّة إذا تبيّن صدقه أمّا نبأ العادل ـ بناء على الفرض ـ فلا تثبت له الحجيّة وإن ثبت صدقه.

وبهذا يتضح تعيّن الحجيّة لنبأ العادل بمقتضى مفهوم الشرط.

__________________

(١) سورة الحجرات آية ٦

٣٨٨

الإشكال على الاستدلال بالآية الكريمة :

وقد أورد على الاستدلال بالآية الكريمة بإيرادين :

الإيراد الأوّل : أنّ الجملة الشرطية في الآية الكريمة لا مفهوم لها ؛ لأنّ الشرط فيها سيق لبيان تحقّق الموضوع وفي كلّ حالة من هذا القبيل لا يثبت للقضيّة الشرطيّة مفهوم.

وبيان ذلك : أنّ الشرط وهو مجيء الفاسق هو المحقّق للموضوع « النبأ » ولا يمكن افتراضه في ظرف انتفاء الشرط ؛ إذ أنّ الشرط ـ وهو مجيء الفاسق بالنبأ ـ هو الموجد للنبأ ولولاه لما كان للنبأ وجود ، فلو أنّ للجملة مفهوم لكان مساقها هكذا « إذا لم يجيء الفاسق بالنبأ فلا يجب التبيّن عنه » وهذه قضيّة حتميّة إذ أنّها من السالبة بانتفاء الموضوع ، فمن الطبيعي أنّ الموضوع ـ وهو النبأ ـ لمّا كان منتفيا فينتفي بتبعه الحكم. وهذا بخلاف المفهوم فإنّ الموضوع يظلّ ثابتا ومن هنا يتصوّر انتفاء الحكم عنه لإمكان تصوّر ثبوت الحكم له.

فمثلا الجملة الشرطيّة التي هي من قبيل « إذا جاءك زيد فأكرمه » فإنّ الموضوع وهو زيد له تقرّر وثبوت بغض النظر عن

الشرط وهو المجيء ، ومن هنا يتعقل ثبوت المفهوم لمثل هذه القضيّة إذ أنّ الموضوع في ظرف انتفاء الشرط يتصوّر ثبات الحكم له ، ومن هنا يكون انتفاء الحكم متصوّرا أيضا.

وقد أجاب صاحب الكفاية رحمه‌الله عن هذا الإيراد بما حاصله :

إننا وإن كنّا نسلّم بتماميّة الإيراد ـ بناء على أن الشرط هو مجيء

٣٨٩

الفاسق والموضوع هو النبأ ـ إلا انّه يمكن افتراض كون الموضوع هو الجائي بالنبأ والشرط هو الفسق وبالتالي لا يكون الشرط محقّقا للموضوع ؛ إذ أنّ الموضوع وهو الجائي بالنبأ فرض متقرّرا بقطع النظر عن الشرط وهو مجيء الفاسق به أو عدم ذلك ، فالموضوع ثابت سواء كان الشرط ثابتا أو منتفيا ، وحينئذ يكون مساق الآية الكريمة « إن كان الجائي بالنبأ فاسقا فتبيّنوا » ومن هنا يمكن أن يتصوّر انحفاظ الموضوع مع انتفاء الشرط هكذا : « إن لم يكن الجائي بالنبأ فاسقا فلا يجب التبيّن » وهذا يعني أنّ الجائي بالنبأ إذا كان عادلا فلا يجب التبيّن من نبئه ، وهو معنى الحجيّة لنبأ العادل.

والإشكال على صاحب الكفاية أنّه لم يشر إلى النكتة الاستظهاريّة الموجبة لتعيّن هذا الافتراض ، فهذا الافتراض وإن كان يدفع الإيراد السابق إلاّ انّه لا يحلّ الإشكال من حيث إنه لم يبيّن ما يوجب استظهار هذا الافتراض دون الافتراض الأوّل المبتلي بإشكال محقّقيّة الشرط للموضوع.

الإيراد الثاني : أنّ الآية الكريمة مذيّلة بعلّة الحكم بوجوب التبيّن من خبر الفاسق ، وهذه العلة تشمل بإطلاقها خبر العادل. ومن هنا تكون هذه العلّة قرينة أو صالحة للقرينيّة على عدم إرادة المفهوم من الآية الكريمة.

وبيان ذلك : أنّ الآية الكريمة قد علّلت وجوب التبين من خبر الفاسق بأن عدم التبيّن عمل بغير علم ، ومن الوضوح أنّ هذه العلّة لا تختص بخبر الفاسق بل هي شاملة لخبر العادل لكونه من أخبار الآحاد التي لا توجب العلم ، والعلّة كما قيل تكون معمّمة وتكون مخصّصة ، فحينما

٣٩٠

يقال « حرّمت الخمرة لإسكارها » فهذا يعني أنّ مطلق ما يوجب الإسكار حرام وإن كان من غير سنخ الخمرة وذلك لعموم التعليل.

والمقام من هذا القبيل ولذلك تكون هذه العلّة المعمّمة قرينة على عدم إرادة المفهوم من الآية الكريمة أو لا أقلّ أنّها صالحة للقرينيّة ؛ إذ أنّ العلل المنصوصة ـ كما قلنا ـ صالحة لتعميم الحكم لغير موردها. وإذا كانت العلّة صالحة للقرينيّة فهذا يقتضي إجمال المراد وأنّ المولى هل أراد المفهوم من الآية الكريمة أو لا؟

الجواب عن هذا الإيراد :

وقد أجيب عن هذا الإيراد بثلاثة أجوبة :

الأوّل : إنّ الإصابة بجهالة ـ والتي هي علّة الحكم ـ تعني العمل السفهي ، فكلّ عمل لا يستند إلى الضوابط العقلائيّة يطلق عليه العرب عمل بجهالة ولذلك قال الشاعر عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل مثل جهل الجاهلينا

فأطلق على التعدّي بغير حق عنوان الجهالة ، والمقام من هذا القبيل إذ أنّ ترتيب الأثر على خبر الفاسق والذي لا يتحرّز عن الكذب ينافي ما عليه العقلاء ولذلك يكون العمل به عملا بجهالة.

ومع اتّضاح معنى الجهالة في استعمالات العرب يتّضح عدم شمول الحكم المعلّل بالجهالة لخبر العادل إذ أنّ سيرة العقلاء جاريّة على ترتيب الأثر على خبره ممّا يكشف عن أنّه متوفّر على الضوابط العقلائيّة ؛ إذ أنّ العقلاء بما هم عقلاء لا يجرون إلاّ على ما هو مناسب لمقتضى المرتكزات

٣٩١

المبرّرة عقلائيا.

الثاني : إنّنا لو سلّمنا بعموم التعليل وأنّه شامل لخبر العادل إلاّ أنّ ذلك لا يوجب إلغاء المفهوم ؛ إذ أنّ علاقة المفهوم ـ وهو عدم وجوب التبيّن عن خبر العادل ـ مع عموم التعليل علاقة الإطلاق والتقييد وهو ما يقتضي حمل المطلق ـ والذي هو عموم التعليل ـ على المقيّد والذي هو المفهوم.

وبيان ذلك : أنّ عموم التعليل يشمل مطلق أخبار الآحاد ومقتضى مفاد المفهوم هو عدم وجوب التبيّن عن خبر خصوص العادل ، وهذا ما يقتضي بموجب قاعدة حمل المطلق على المقيّد حمل عموم التعليل على المفهوم.

الثالث : إنّ مفاد المفهوم هو أنّ خبر العادل بيّن بنفسه فلا يحتاج إلى التبيّن من صدقه أو كذبه ، وهذا ما يقتضي خروجه موضوعا عن عموم التعليل ؛ إذ أنّ موضوع التعليل هو عدم العلم وخبر العادل يعطي العلم ولو تعبدا ، ومع تباين الموضوعين لا يمكن تعدية الحكم المعلّل بعلّة لموضوع مباين لموضوع تلك العلّة.

وبعبارة أخرى : لمّا كان مفاد المفهوم هو علميّة مؤدى خبر العادل فهذا يعني عدم شمول الحكم المعلّل في المنطوق له ؛ وذلك لأنّ موضوع علّة الحكم في المنطوق هو عدم العلم وقد قلنا إن الشارع قد افترض مؤدى خبر العادل علما ، وهذا ما يقتضي مباينة موضوع العلّة مع موضوع مؤدّى خبر العادل.

ومنها قوله تعالى ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ

٣٩٢

لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (١).

والاستدلال بالآية الكريمة على حجيّة خبر الثقة أنّ ذلك هو مقتضى إطلاق مطلوبيّة الحذر عند إنذار المنذر سواء أفاد إنذاره العلم أو لم يفد العلم ، إذ لا معنى لمطلوبية الحذر عند إنذاره إلاّ جعل الحجيّة لإنذاره.

وبيان ذلك : أنّ مفاد « لعل » هو الترجي والذي هو من أقسام الطلب ، وهذا يعني أنّ مدخول لعلّ يكون مطلوبا ، وإذا كان كذلك فالحذر لمّا وقع مدخولا لـ « لعل » فهو إذن مطلوب للمولى ، ومطلوبيّته بمقتضى سياق الآية الكريمة هو غاية الإنذار الواجب ، وبهذا يثبت أنّه كلّما تحقّق الإنذار فالحذر مطلوب ، سواء كان الإنذار موجبا للعلم بمطابقة مؤداه للواقع أو غير موجب للعلم ، وبهذا الإطلاق تثبت مطلوبيّة الحذر من إنذار المنذر الواحد ، ولا معنى لمطلوبيّة الحذر عند إنذار المنذر إلاّ صحّة التعويل على إنذاره والاحتجاج به على العبد عند المخالفة إذ أنّ الحذر إذا كان مطلوبا ومع ذلك لا يصح التعويل عليه فهذا أشبه شيء بالالتزام بالضدّين.

الإشكال على الاستدلال بالآية الكريمة :

وقد أورد المصنّف رحمه‌الله على الاستدلال بهذه الآية الكريمة بثلاثة إيرادات :

الإيراد الأوّل :

إنّ الإنذار لمّا كان يعني الترهيب والتخويف من مخالفة ما تستتبع

__________________

(١) سورة التوبة آية ١٢٢

٣٩٣

مخالفته العقوبة فهذا يعني أنّ منجزيّة المنذر به افترضت متقرّرة في رتبة سابقة ، وليس الموجب لتنجز المنذر به هو نفس الإنذار وإنّما وظيفته هي التذكير ـ وبأسلوب وعظي ـ بما ثبتت منجزيّته وموجبيّته للعقاب بمثبت آخر ليس المولى في مقام بيانه.

ومن هنا لا تكون مطلوبيّة الحذر الواقعة غاية للإنذار كاشفة عن حجيّة خبر المنذر ؛ وذلك لأنّ الإنذار لا يولّد الحجيّة لمتعلقه بل إنّ متعلّقه ثابت بحجّة أخرى. فمثلا لو ثبتت حرمة الخمر ، وأنّ شربه حرام يستوجب عقاب المولى فإنّ التذكير بالحرمة وبما يترتّب على مخالفتها من عقوبة هو معنى الإنذار.

ويمكن التمثيل أيضا بالعلم الإجمالي وبالشبهات الحكميّة قبل الفحص فإنّه قد ثبت بحكم العقل منجزيّة الحكم الواقعي في هذين الموردين ، ففي حالة التذكير بهذه المنجزيّة والترهيب من مخالفة مقتضاها يكون مثل هذا التذكير إنذارا ، ومطلوبيّة الحذر حينئذ لا تعني حجيّة خبر المنذر ؛ لأنّ الإنذار لم يولّد المنجزيّة لمتعلقه إذ أنّ الكاشف عن المنجزيّة في الموردين هو العقل ، نعم لو كان الإنذار هو المحقق للمنجزيّة لمتعلقه ومؤدّاه لأمكن تتميم الاستدلال بالآية الكريمة على حجيّة خبر المنذر ، إلاّ أن ذلك خلف ما هو المستفاد من معنى الإنذار.

الإيراد الثاني :

لو تنزّلنا وقلنا إنّ الإنذار يصدق في موارد عدم تنجّز متعلقه في رتبة سابقة بحيث يكون خبر المنذر هو المولّد للتنجيز إلاّ أنّه مع ذلك لا تثبت الحجيّة لخبر المنذر بالمعنى المبحوث ـ والتي تعني المنجزيّة في موارد مطابقة

٣٩٤

الخبر للواقع والمعذريّة في موارد مخالفة الخبر للواقع ، إذ أن أقصى ما يثبت من حجيّة لخبر المنذر هو المنجزيّة والتي تعني نفي البراءة الشرعيّة عن التكليف المحتمل. وهذا المقدار من الحجيّة ناشيء عن أنّ إخبار المنذر بالتكليف الإلزامي يولّد احتمالا بوجود تكليف إلزامي مولوي ، وبه تتحقّق صغرى الحكم العقلي القاضي بمنجزيّة التكاليف المحتملة.

وبهذا يتنقح أنّ الحجيّة الثابتة لخبر المنذر ليس منشؤها الجعل الشرعي وإنّما هو حكم العقل بمنجزيّة التكاليف المحتملة ، وهذا ما يقتضي أنّ المنجزيّة الثابتة له معلّقة على عدم الترخيص ، نعم لو كنّا نذهب إلى جريان البراءة العقليّة في موارد التكاليف المحتملة اعتمادا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأمكن تتميم الاستدلال بالآية الكريمة على حجيّة خبر المنذر ؛ إذ لو لا المنجزيّة الثابتة بالآية الكريمة لجرت البراءة العقليّة عن التكليف المحتمل المفاد بواسطة خبر المنذر.

الإيراد الثالث :

إنّنا لو تنزّلنا وقلنا إنّ الآية الكريمة تثبت حجيّة إنذار المنذر بالمعنى المبحوث إلاّ أنّ هذه الحجيّة لم تثبت لإنذار المنذر باعتباره خبرا حسيّا ـ والذي هو محل البحث ـ وإنّما تثبت الحجيّة لإنذار المنذر باعتباره خبرا حدسيّا ؛ إذ أنّ الإنذار يستوجب صياغة الخبر بأسلوب وعظي مؤثر ، وهذا ما يعني أنّ المنذر حينما يتلقى الخبر لا يلقيه كما هو بل يعرضه على فهمه وعلى المقدّمات المتناسبة مع مستوى إدراكه ثمّ يستنتج من الخبر وبضمه إلى المقدمات المدركه نتائج يصوغها بأسلوب مؤثر ، وإذا كان هذا هو معنى الإنذار فالحجيّة الثابتة له أجنبيّة عن محلّ البحث ؛ إذ أنّ المبحوث

٣٩٥

عنه هو حجيّة خبر الثقة الحسّي ، والحجيّة الثابتة في المقام إنّما هي للخبر الحدسي.

ومنها : قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (١).

والاستدلال بالآية الكريمة على حجيّة خبر الثقة يتم بواسطة الملازمة العقلائيّة بين إطلاق حرمة الكتمان المستفاد من الآية الكريمة وبين القبول من المتلقي للخبر عند امتثال العالم حرمة الكتمان.

وبيان ذلك : أنّ المستفاد من الآية الكريمة هو حرمة كتمان الحق والهدى بنحو مطلق سواء كان بيان الحقّ موجبا للعلم عند المتلقي للخبر أو غير موجب للعلم ، وإذا كان كذلك فإمّا أن يجب القبول والتعويل على ذلك البيان أو لا يصح التعويل والقبول في حالة عدم حصول العلم ، والثاني باطل فيتعيّن الأول.

أمّا بطلان الثاني وهو عدم صحّة القبول في ظرف عدم العلم فلأنّه يلزم منه محذور لا يلتزم به العقلاء ، وهو لغويّة حرمة الكتمان ووجوب البيان في حالة عدم ترتّب العلم على البيان ؛ إذ من العبثية بمكان أن يجب البيان ومع ذلك لا يترتّب عليه أثر. ومن هنا يتعيّن الأول وهو وجوب القبول عند عدم الكتمان وبيان العالم ما عنده من البيّنات والهدى ، وبهذا يثبت المطلوب ، إذ أنّ وجوب القبول في ظرف عدم اقتضاء البيان للعلم معنى آخر للحجيّة.

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٥٩

٣٩٦

الإشكال على الاستدلال بالآية الكريمة :

وقد أورد على الاستدلال بالآية الكريمة بإيرادين :

الإيراد الأوّل :

إن المراد من الكتمان هو إخفاء الحقائق في مورد يكون بيانها موجبا لتجلّيها واتّضاحها عند المخاطب ، أمّا في الموارد التي لا يكون البيان كاشفا عن الحقائق بنحو العلم ، وذلك لانتفاء المبرّرات المساعدة على اتّضاح الرؤية بشكل تامّ للمخاطب فلا يسمّى عدم البيان ـ في مثل هذه الحالات ـ كتمانا فيكون خارجا موضوعا عن الحرمة ، وذلك لأنّ موضوع الحرمة هو الكتمان ولا كتمان في مورد عدم ترتّب العلم على البيان.

الإيراد الثاني :

لو تنزّلنا وقلنا إنّ السكوت عن بيان الحقائق في موارد عدم ترتّب العلم يعدّ كتمانا إلاّ أنّ ذلك لا يلزم منه حجيّة خبر الواحد غير الموجب للعلم ، وذلك لاحتمال أن يكون الدافع من تحريم الكتمان بنحو مطلق هو تحفّظ المولى على غرضه من عدم الكتمان في موارد ترتّب العلم ، ولمّا كان من الصعب تشخيص الموارد التي يترتّب عن البيان فيها العلم والتي لا يترتّب عنه العلم ؛ وذلك لأنّ موارد ترتّب العلم عن البيان لا تخضع لضوابط محدّدة بل إنها ترتبط بقرائن خاصة قد لا يحسن تشخيصها كلّ أحد وهي تختلف من ظرف لآخر ، وهذا ما قد يوجب تفويت غرض المولى في حالات كثيرة ، ومن هنا احتاط المولى لغرضه فحرّم الكتمان مطلقا ، وبهذا ينحفظ غرض المولى وهو عدم كتمان الحقائق في موارد ترتّب

٣٩٧

العلم.

وبهذا تنتفي الملازمة المذكورة في تقريب الاستدلال بين حرمة الكتمان مطلقا وبين الحجيّة لخبر الواحد ؛ وذلك لأنّ قوام الملازمة المذكورة هو لزوم اللغويّة من تحريم الكتمان مطلقا لو لم نقل بلزوم القبول ، وهذه الملازمة لا تتمّ مع هذا الاحتمال إذ أنّه لا لغويّة لو كان الغرض من إطلاق حرمة الكتمان هو احتياط المولى لأغراضه وتحفّظه عليها ؛ إذ من القريب جدا أن يجعل المولى موضوع حكمه أوسع من مقدار الغرض وذلك بدافع التحفّظ على ذلك الغرض.

ومنها : قوله تعالى ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١).

ودلالة الآية الكريمة على حجيّة خبر الثقة مستفاد من الملازمة العقلائيّة العرفيّة بين إطلاق الأمر بالسؤال ، وبين قبول الجواب وترتيب الأثر عليه ، وإلاّ فوجوب السؤال دون أن يصح التعويل على جوابه لغو لا يصدر من الحكيم. وبتعبير آخر : إنّ إطلاق إيجاب الأمر بالسؤال عند عدم العلم يقتضي عقلائيا لزوم ترتيب الأثر على جواب ذلك السؤال وإلاّ فأيّ فائدة تستوجب الأمر بالسؤال في موارد عدم ترتّب العلم من الجواب لو لا أنّ الشارع جعل الحجيّة تعبدا في حالات عدم ترتّب العلم من الجواب.

وبهذا تثبت الحجيّة لجواب العالم حتى لو لم يحصل من جوابه العلم ، ومع إلغاء خصوصيّة وقوع الخبر موقع الجواب تثبت الحجيّة لمطلق خبر

__________________

(١) سورة النحل آية ٤٣

٣٩٨

الثقة ولو كان ابتدائيا.

الإشكال على الإستدلال بالآية الكريمة :

والإيرادات السابقة التي أوردت على الإستدلال بآية الكتمان صالحة للورود على الإستدلال بهذا الآية الكريمة ، وتختص هذه الآية الكريمة بإيرادات أخرى :

الإيراد الأوّل :

انّ المتفاهم العرفي من الأمر بالسؤال في الآية الكريمة انّه نحو احتجاج على المنكرين للرسالة وانّه إرشاد لوسيلة من وسائل التعرّف على حقّانيّة نبوة النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لانّ الخطاب بالأمر بالسؤال انّما هو متوجّه إلى المنكرين للرسالة والمشكّكين في صوابيتها ، وهذا ما يقتضي كون الأمر بالسؤال سيق لغرض التنبيه والإرشاد إذ أنّ الرجوع إلى أهل الذكر يوجب خصم المنكرين واتّضاح الرؤية للمشكّكين.

وهذا هو المناسب لمساق الآية الكريمة إذ انّ المخاطب فيها ـ كما قلنا ـ هم المنكرون والمرتابون وليس من المعقول أن يحتج عليهم بجواب أهل الذكر إذا لم يكن جوابهم مفيدا للعلم ، إذ أنّ الإحتجاج بغير العلم يحتاج إلى جعل شرعي والمخاطب في الآية لمّا لم يكن متعبدا بالمجعولات الشرعيّة فهذا ما يكشف عن أنّ المولى لم يكن بصدد بعث المخاطب مولويا ، وإذا لم يكن الأمر في الآية مولويّا فلا كاشفيّة له عن حجيّة الجواب إذا لم يفد العلم ، إذ انّ ذلك يحتاج إلى جعل شرعي تعبدي وهذا ما يقتضي كون الخطاب صادرا عن المولى بما هو شارع ، وهو خلف ما استظهرناه من الآية وانّ

٣٩٩

المولى في مقام التنبيه والإرشاد.

الإيراد الثاني :

انّ الفاء التي وقع الأمر مدخولا لها مفيدة لتفرّع الأمر بالسؤال على المتفرّع عنه وهو الكلام الذي سبق الفاء. وهذا ما يقتضي اختصاص متعلّق السؤال ـ المأمور به ـ بمورد المتفرّع عنه ، فليس كل ما لا يعلم يجب السؤال عنه بل الذي يجب السؤال عنه هو ما تفرّع الأمر بالسؤال عليه ، ولمّا كان المتفرّع عليه الأمر هو إرسال الله عزّ وجلّ للرسل بواسطة الوحي إليهم يكون مساق الآية هكذا « انّ الله أرسل الرسل بواسطة الوحي إليهم فإذا لم تصدقوا بذلك فاسئلوا أهل الذكر » فمتعلق الأمر بالسؤال ليس فيه إطلاق ، وعليه لا تكون الآية الكريمة دالّة على وجوب السؤال عن كل ما هو غير معلوم لكي يستكشف بالملازمة العقلائيّة العرفيّة وجوب القبول.

الإيراد الثالث :

انّه قد اتضح ممّا تقدّم انّ الآية الكريمة ترتبط باصول الدين ، ولا إشكال في عدم حجيّة خبر الواحد فيما يرتبط باصول الدين.

الإيراد الرابع :

انّ من المحتمل قريبا ان المراد من أهل الذكر هم علماء اليهود والنصارى وإذا تمّ هذا الإحتتمال فالإستدلال بالآية على حجيّة خبر الثقة ساقط إذ انّ الآية ـ بناء على هذا الإحتمال ـ تكون أجنبيّة عن محلّ البحث ، نعم لو كان المراد من أهل الذكر هم أهل العلم والرواية لأمكن تتميم الإستدلال بالآية الكريمة إلاّ أنّه لمّا كان الإحتمال الأول قريبا فإنّه يوجب إجمال المراد من أهل الذكر. وبهذا لا تكون الآية صالحة للإستدلال بها

٤٠٠