شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

هذا هو مقتضى عصمته إذ أنّ العصمة لا تتنافى مع ارتكاب المكروه في حالات نادرة كما أنّ العصمة لا تستلزم عدم صدور غير المستحب عنه ، نعم لو كان الفعل الصادر عنه فعلا عباديّا فإنّ صدوره عنه يستلزم كونه راجحا شرعا ، إذ أنّ الفعل العبادي لا يخلو عن أحد حالتين إمّا أن يكون محرّما أو يكون راجحا ، فإذا صدر عن المعصوم عليه‌السلام فإنّ ذلك يقتضي مشروعيّته ، ومشروعيّة الفعل العبادي هي عين راجحيّته شرعا ، ومن هنا يكون الفعل العبادي الصادر عن المعصوم يكشف عن راجحيّته ، إلاّ أنّ استكشاف الراجحيّة هنا لا تستفاد من حاقّ الفعل الصادر عنه عليه‌السلام إذ أنّ صدور الفعل عنه لا يكشف عن أكثر من عدم الحرمة ، غاية ما في الأمر أن عدم الحرمة هنا تستلزم الراجحيّة الشرعيّة.

وما ذكرناه من عدم دلالة الفعل على أكثر من عدم الحرمة مبني على أنّ العصمة لا تقتضي عدم صدور الفعل المرجوح في موارد محدودة ، أمّا لو بنينا على أن المعصوم لا يصدر منه ما ينافي الأولى ولو في موارد محدودة فإنّ صدور الفعل عنه حينئذ يدلّ ـ بالإضافة الى عدم الحرمة ـ على راجحيّة ذلك الفعل ، ولو لم يكن من قبيل الأفعال العباديّة.

القسم الثاني : ترك المعصوم لفعل من الأفعال في موارد محدودة ، فهنا لا يدلّ تركه عليه‌السلام على أكثر من عدم الوجوب ، ودلالته على ذلك هو مقتضى عصمته ، فإنّ العصمة لا تقتضي عدم ترك المستحب في حالات نادرة ، نعم بناء على أنّ العصمة تعني عدم صدور مطلق المرجوح وعدم ترك مطلق الراجح ولو في موارد محدودة ، فإنّ ذلك يقتضي دلالة ترك الفعل على عدم راجحيّته.

٣٤١

القسم الثالث : صدور الفعل منه عليه‌السلام بنحو المداومة والالتزام ، وهذا يتصوّر على ثلاثة أنحاء :

النحو الأوّل : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال العباديّة ، وهذا النحو من الأفعال لا إشكال في دلالتها على الرجحان إذ أن صدورها عن المعصوم عليه‌السلام يدلّ على عدم حرمتها ، وعدم الحرمة في الأفعال العباديّة يساوق الرجحان ـ كما قلنا ـ ، وهذا النحو من الأفعال يدلّ على الرجحان مطلقا حتى لو كان صدور الفعل منه عليه‌السلام في موارد محدودة.

النحو الثاني : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال التي لا يقتضي الطبع العقلائي ممارسته بنحو المداومة والالتزام ، كالتحنّك في السفر ، أو الابتداء بالقدم اليسرى عند دخول بيت الخلاء ، فإنّ المداومة على فعل من هذا القبيل يكشف عن راجحيّته بناء على منافاة العصمة للمداومة على الفعل غير الراجح ، أما بناء على عدم اقتضاء العصمة لأكثر من عدم ارتكاب المحرّم فإنّ المداومة على الفعل كعدم المداومة عليه من حيث دلالته على خصوص نفي الحرمة عن الفعل الصادر.

النحو الثالث : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال التي يقتضي الطبع العقلائي مزاولتها بنحو المداومة ، مثل البيع أو الذهاب إلى السوق ، فهذا النحو من الأفعال يدلّ على نفي الحرمة ، وهو يدلّ على نفي المرجوحيّة أيضا بناء على اقتضاء العصمة عدم ارتكاب المعصوم عليه‌السلام مخالفة الأولى ، ويدلّ على الراجحيّة بناء على اقتضاء العصمة لعدم المداومة على الفعل غير الراجح.

القسم الرابع : المداومة على ترك فعل من الأفعال ، فإن ذلك يدلّ

٣٤٢

على عدم وجوبه بلا إشكال ، وهو يدلّ على عدم راجحيّة الفعل بناء على اقتضاء العصمة لعدم المداومة على ترك الراجح ، وكذلك يدلّ على عدم الراجحيّة بناء على اقتضاء العصمة لعدم ترك الراجح ولو في موارد محدودة ، أمّا بناء على عدم اقتضاء العصمة لأكثر من عدم ترك الواجب فإنّ المداومة على ترك الفعل كتركه في موارد محدودة من حيث إنّهما يشتركان في الدلالة على خصوص نفي الوجوب.

وما ذكرناه من دليليّة الفعل والترك على الحكم الشرعي إنّما هو في حالة عدم قيام الدليل الخاص على اختصاص المعصوم عليه‌السلام بذلك الفعل أو الترك ، كصلاة الليل ، وصوم الوصال ، والزواج بأكثر من أربع ، فإن الدليل الخاص دلّ على أنها من مختصّات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

القسم الثاني : دلالة السكوت والتقرير :

فإنّ المعصوم عليه‌السلام قد يشاهد أمامه موقفا عمليّا خاصّا أو عاما فيصرّح برأي الشريعة في ذلك الموقف ، فهنا تكون الدلالة على الحكم الشرعي من قبيل دلالة الدليل الشرعي اللفظي.

وقد يشاهد أمامه ذلك الموقف فلا يبدي تجاهه بأيّ تصريح لا سلبا ولا إيجابا بل يسكت عنه ، وهذا هو محلّ الكلام إذ يقع البحث عن دلالة سكوت الإمام عليه‌السلام عن ذلك الموقف على الإمضاء ، وأن ذلك الفعل يتناسب مع الغرض الشرعي أو لا ينافيه.

وقد استدلّ على ذلك بدليلين ، الأول منهما عقلي ، والآخر استظهاري :

٣٤٣

أما الدليل العقلي :

فقد ذكر له تقريبان :

التقريب الأول : هو أنّ المعصوم عليه‌السلام لمّا كان من سائر المكلّفين ، فهذا يقتضي مسؤوليّته عن النهي عن المنكر لو كان الفعل الذي شاهده منافيا للشريعة ، إذ أنّ النهي عن المنكر واجب على كلّ مكلّف ، والمعصوم عليه‌السلام لا يترك واجبا بمقتضى عصمته ، فعدم ردعه عن ذلك الفعل يستلزم عدم منافاة ذلك الفعل لما عليه الشريعة ، وهذا هو معنى دلالة السكوت عقلا على الإمضاء ، وكذلك يجب على المكلّفين تعليم الجاهل ، فلو لم يكن موافقا لما عليه الشارع المقدّس لنبّه الإمام عليه‌السلام على ذلك لأنّ ذلك هو مقتضى عصمته ، إذ أنّ المعصوم عليه‌السلام لا يترك واجبا ، فعدم تنبيه الإمام عليه‌السلام على منافاة الفعل الذي شاهده لما عليه الشريعة يكشف عقلا عن عدم المنافاة.

وهذا التقريب ـ لو تمّ ـ فإنّه منوط بإحراز توفّر شرائط النهي عن المنكر حين مشاهدة المعصوم عليه‌السلام لذلك الموقف ، ويمكن التمثيل للصورتين بمثالين :

المثال الأوّل :

إن المعصوم عليه‌السلام لو شاهد رجلا يشرب العصير التمري ، ومع ذلك سكت ولم يردعه ، فإن ذلك يكشف عن عدم حرمته ، وإلاّ كان على الإمام عليه‌السلام بمقتضى وجوب النهي عن المنكر أن يردعه ، إذ أن عصمة الإمام عليه‌السلام تمنع من تركه للواجب.

٣٤٤

المثال الثاني :

لو شاهد مكلّفا يمسح رأسه في الوضوء نكسا ومع ذلك لم ينبّه الإمام عليه‌السلام ذلك المكلّف على منافاة فعله لما هو المعتبر شرعا ، فهذا يقتضي عدم منافاة المسح نكسا لما هو المعتبر شرعا في الوضوء ، وإلاّ كان على الإمام عليه‌السلام بمقتضى وجوب تعليم الجاهل أن ينبّه المكلّف على منافاة فعله لما هو المطلوب شرعا ، وإلاّ كان الإمام عليه‌السلام مخالفا لفريضة من فرائض الدين ، وهذا لا يناسب العصمة.

التقريب الثاني : إنّ المعصوم لمّا كان مشرّعا ، فإن ذلك يقتضي عقلا عدم السماح بتفويت وتضييع أغراضه ، فسكوته عن الفعل إذا كان موجبا لتفويت أغراضه بما هو شارع يعني أنّ الإمام عليه‌السلام ينقض غرضه ويضيّعه بنفسه ، وهذا لا يتناسب مع عقلانيّته ، إذ أنّ الحكيم لا يضيّع غرضه بل يسعى للمحافظة على أغراضه ، وهذا التقريب ـ إذا تم ـ فإنّه منوط بإحراز ناقضيّة الفعل ـ على افتراض منافاته للشارع ـ لغرض الشارع إذ أنّ الفعل قد يكون منافيا لما عليه الشارع إلاّ أنّ ارتكابه لا يؤدي إلى تفويت أغراض الشارع.

ولمزيد من التوضيح نذكر لكل من الحالتين مثالا :

ونذكر أولا مثالا على كون السكوت لا يوجب نقض الغرض في بعض الحالات ، وهذا المثال هو : أنّ المعصوم عليه‌السلام قد يشاهد مكلّفا يمتنع عن ارتكاب فعل بتوهّم أنه حرّم شرعا وهو في واقعه مكروه ، فإنّ هذا الامتناع من المكلّف ينافي ما عليه الشارع إلا أنّ السكوت عنه لا يعدّ نقضا للغرض ، فلا يكون السكوت في حالة من هذا القبيل كاشفا عن الإمضاء.

٣٤٥

وأمّا مثال ما يكون السكوت نقضا للغرض فهو مشاهدة المعصوم عليه‌السلام اعتماد المكلّفين على خبر الثقة في الوصول إلى الأحكام الشرعية ، فإنّ سكوته يكشف عن الإمضاء ، إذ أنّ ذلك لو كان منافيا لما عليه الشارع لكان السكوت نقضا للغرض ، فلو كان نظر الشارع هو عدم جواز الاعتماد على أخبار الثقات ومع ذلك سكت ولم ينبّه على عدم الجواز مع أنه يشاهد المكلّفين يعوّلون على خبر الثقة في مقام التعرّف على الأحكام الشرعيّة ، فهذا من أجلى مصاديق تفويت الغرض والذي هو مستحيل على العاقل الملتفت.

وكذلك لو كان العقلاء يرتّبون الأثر على خبر الثقة في شؤونهم اليوميّة ، وكانت هذه الممارسة تنذر بالسريان إلى الشرعيّات ، فإنّ عدم تنبيه الشارع على عدم صحّة الاتّكال على خبر الثقة في معرفة الأحكام الشرعيّة يعدّ نقضا للغرض المنفي عن العاقل الملتفت.

وأمّا الدليل الاستظهاري :

على دليليّة السكوت على الإمضاء ، فهو أنّ المعصوم عليه‌السلام لمّا كان منصوبا من قبل الله عزّ وجلّ لغرض تبليغ الأحكام الشرعية وإرشاد الناس إلى الصواب في جميع سلوكيّاتهم وتقويم ما انحرف منها عن جادّة الحق اقتضى ذلك استظهار الإمضاء من سكوت المعصوم عليه‌السلام عن الردع عن ممارسة المكلّف لسلوك بمرأى منه عليه‌السلام.

ويمكن تنظير ذلك بالمشرف على عمل من الأعمال ، فإنّ العامل حينما يمارس وظيفته بمرأى من المشرف ومع ذلك يظلّ المشرف ساكتا رغم أنّه في

٣٤٦

مقام تقويم الأخطاء التي يرتكبها العامل ، فإنّ العرف حينئذ يستظهر من حال المشرف الإمضاء لعمل العامل ، وإلاّ كان عليه بحكم كونه في مقام التقويم ـ أن ينبّه العامل على خطئه.

وإذا تم هذا الدليل الاستظهاري فهو لا يفتقر إلى إحراز شرائط النهي عن المنكر كما هو مقتضى التقريب الأول من الدليل العقلي ، كما لا يفتقر إلى إحراز ناقضيّة السكوت للغرض كما هو مقتضى التقريب الثاني من الدليل العقلي.

السيرة :

والبحث عن السيرة العقلائيّة بحث عن تنقيح أحد موضوعات دليليّة السكوت على الحكم الشرعي ، إذ أنّ المعصوم عليه‌السلام قد يشاهد أمامه موقفا عمليّا خاصّا فيسكت عنه ، وقد يشاهد حالة اجتماعيّة وتبانيا عقلائيا عاما ، وهذا ما يعبّر عنه بالسيرة العقلائيّة ، ودليليّتها على الحكم الشرعي ترجع إلى دليليّة السكوت ، إذ أنّ المعصوم لو ردع عن هذه السيرة لسقطعت دليليّتها على الحكم الشرعي ، فمناط دليليّة السيرة هو سكوت المعصوم عليه‌السلام وعدم التنبيه على منافاتها للشريعة ، وهذا هو معنى ما يقال من أن مناط حجيّة السيرة العقلائيّة هو الإمضاء إذ أنّ الإمضاء غالبا ما يكون بواسطة السكوت ، وبهذا يتّضح أنّ ما استدلّ به على دليليّة السكوت على الحكم الشرعي جار في المقام ، غاية ما في الأمر أنّ المعصوم عليه‌السلام قد يمضي موقفا عمليا خاصا بواسطة السكوت ، وقد يمضي سلوكا عمليّا عاما.

٣٤٧

فكلا الدليلين العقلي بتقريبيه والاستظهاري ، هما دليل إمضاء السيرة العقلائيّة ، فلا يكون البحث عن السيرة العقلائيّة بحثا مستقلا عن بحث دليليّة السكوت على الحكم الشرعي ، وإفراد السيرة العقلائيّة بالبحث ناشئ عن أن تنقيح موضوعيّتها لدليليّة السكوت يحتاج إلى شيء من البيان.

ومن هنا وقع البحث عن مقدار ما يقع منها موضوعا لدليليّة السكوت ، فهل أنّ الإمضاء المستفاد من السكوت واقع على خصوص التباني العملي العقلائي ، أو هو يتّسع ليشمل النكتة التي نشأ عنها ذلك التباني.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ السيرة العقلائيّة لا تنشأ جزافا بل إنّ لها مناشئ ومبرّرات تكون هذه المناشئ هي نكتة التباني على عمل معيّن ، ولذلك يكون كل مورد متوفّر على تلك المبرّرات مؤهلا للجرى عليه من قبلهم ، ويكون عدم الجري عليه في وقت من الأوقات مسبّب عن عدم الحاجة إليه في ذلك الوقت.

ويمكن التمثيل لذلك بالسيرة العقلائيّة الجارية على تقديم قول الأعلم في موارد الاختلاف ، فإنّ هذه السيرة لم تنشأ جزافا وإنما نشأت عن مبرّر وهو أقربيّة رأي الأعلم للواقع ، ولذلك يكون كل مورد متوفّر على هذه النكتة يصلح لأن يجري العقلاء على وفقه ، فلو كان رأي المشهور متوفّرا على هذه النكتة فهذا يعني صلاحيّة رأي المشهور للجري عليه من قبل العقلاء في موارد الاختلاف فيما هو الواقع.

وهنا أمر آخر لا بدّ من التنبيه عليه ، وهو أن الإمضاء المستفاد عن

٣٤٨

السكوت إذا كان واقعا على السيرة بنكتتها ، فهذا يقتضي ملاحظة النكتة ، وما تقتضيه من حكم تكليفي أو وضعي ، فلو كانت نكتة السيرة الجارية على الرجوع إلى قول الأعلم تقتضي لزوم الرجوع إلى الأعلم ، فهذا يعني أنّ الإمضاء كاشف عن حكم تكليفي إلزامي ، وهو وجوب الرجوع إلى الأعلم.

وكذلك لو كان إمضاء الشارع السيرة الجارية على الالتزام بالعقود المعاطاتيّة ، فإنّ ذلك يستوجب ملاحظة ما تقتضيه نكتة هذه السيرة ، فلو كانت النكتة هي تقبيح العقلاء مخالفة مقتضى العقود ، فإنّ ذلك يستلزم كون الإمضاء مفيدا لحكم وضعي وهو اللزوم في العقود المعاطاتيّة.

ومما ذكرناه يتّضح أنّ هناك ثمرتين تظهر من الفرق بين المبنيين :

الثمرة الأولى : أنّه إذا كان الإمضاء المستفاد عن السكوت واقعا على خصوص السيرة العمليّة بقطع النظر عن مبرّرها ، فهذا يقتضي الجمود على ما وقع التباني عليه ، ولا تكون لنكتة التباني أيّ حجيّة ، وهذا بخلاف ما لو كان الإمضاء واقعا على السيرة بمالها من مبرّرات ومناشئ ، فإنّ ذلك يعني أنّ الشارع قد أمضى كل مورد توفّر على تلك المبرّرات حتى ولو لم يكن هناك تبان فعلي جار في ذلك المورد ، مثلا : لو كان المبرّر لاعتماد العقلاء على خبر الثقة هو الوثوق ، فإنّه لمّا كان إمضاء الشارع لتلك السيرة يعني إمضاءه لكبرى هذه السيرة ـ وهي الوثوق ـ فإنّ ذلك يقتضي إمضاء كل مورد توفّر على كبرى تلك السيرة ، فخبر الضعيف لو احتفّ بقرائن موجبة للوثوق فإنّ هذا الخبر يكون ممضى لتوفره على الكبرى الكلّية وهي الوثوق ، والتي استفيد إمضاؤها من إمضاء الشارع للسيرة الجارية على

٣٤٩

العمل بخبر الثقة ؛ وذلك لأنّ الإمضاء إنّما يقع على مبرّر السيرة وليست السيرة إلاّ أحد صغريات ذلك المبرّر.

الثمرة الثانية : إنّ الإمضاء لو كان واقعا على خصوص السيرة العقلائيّة بقطع النظر عن منشئها ، فإنّ ذلك لا يدلّ على أكثر من جواز العمل بمقتضى السيرة ، إذ أن الإمضاء على هذا المبنى إمضاء لموقف عملي لا لسان له فيتمسّك بالقدر المتيقّن منه وهو عدم حرمة الجري على ما تقتضيه تلك السيرة ، فمثلا لو كانت سيرة العقلاء قاضية بمسؤوليّة الزوج عن النفقة على الزوجة ، فإنّ إمضاء هذه السيرة ـ على هذا المبنى ـ لا تدلّ على أكثر من جواز العمل بمقتضى هذه السيرة ، إذ أنّ ذلك هو القدر المتيقّن من الإمضاء ، إذ أنّ سكوت الشارع عن هذه السيرة لا يكشف عن وجوب العمل بمؤدّاها أو استحبابه كما اتّضح ذلك ممّا تقدّم.

أما لو كنّا نبني على أنّ إمضاء السيرة إمضاء لمنشأ وقوعها ـ وهي الكبرى الكلية التي تولّدت عنها السيرة ـ فإنّ ذلك يقتضي ملاحظة ما تقتضيه تلك الكبرى الممضاة فقد تقتضي حكما تكليفيّا وقد تقتضي حكما وضعيّا ، كما مثّلنا لذلك فيما سبق.

ومع اتّضاح ما ذكرناه فالمبنى الذي يصحّحه المصنّف رحمه‌الله هو المبنى الثاني ، وهو أنّ الإمضاء يقع على الكبرى الكلّية للسيرة والتي هي منشأ وقوع السيرة خارجا ؛ وذلك لأنّ السيرة العقلائيّة ليست موقفا عفويّا ساذجا ، وإنّما هي حصيلة مبرّرات أوجبت نشوء ارتكاز متأصّل في أذهان العقلاء ، هذا الارتكاز المتأصّل يمكن سريانه لموارد كثيرة ، فلو كان هذا الارتكاز منافيا لما عليه الشارع المقدّس لردع عنه ، إذ أن امتداده لغير

٣٥٠

مورد السيرة يهدّد أغراض الشارع ، فيكون سكوته عنه تفويتا لها ، بل إنّ السكوت في مثل هذه الحالات من أجلى مصاديق نقض الغرض.

وكذلك هو مقتضى ظهور حال المعصوم عليه‌السلام عند عدم المواجهة لهذا الارتكاز المتأصّل ، فإنّه لمّا كان هو المتصدّي لتبليغ أحكام الشريعة ، والمصحّح لما عليه المجتمع من أخطاء والمقوّم لما اعوجّ من طائقهم وسيرهم ، فإنّ هذه المرتكزات لو كانت منافية للشريعة لكان قد تصدّى لبيان فسادها ، إذ أنّ هذا هو مقتضى مسؤوليّته الملقاة عليه من قبل الشارع ، فيكون ظاهر حال المعصوم عليه‌السلام هو قبول هذه المرتكزات العقلائيّة في حال عدم الردع عنها.

وبهذا يتّضح أنّ دليل حجيّة السيرة العقلائيّة هو عين ما استدل به على دليليّة السكوت على الحكم الشرعي.

ومن هنا يتّضح فساد ما وقع من بعض الأصوليّين ، من أنّ مناط حجيّة السيرة العقلائيّة هو أنّ الشارع سيّد العقلاء ، وإذا كان كذلك فكلّ ما يتبانى عليه العقلاء فهذا يعني مشموليّة الشارع لذلك التباني ، إذ أنّه من العقلاء بل هو أولاهم به لكونه سيّدهم وملهمهم ، ولو تمّ هذا البيان لكانت السيرة العقلائيّة حجّة برأسها لا تحتاج إلى إمضاء فلا تكون من صغريات دليليّة السكوت.

إلاّ أنّ هذا البيان فاسد وذلك لأنّ افتراض الشارع سيّد العقلاء بنفسه يوجب نشوء احتمال اختصاصه بمدركات لاتصل إليها مدركات سائر العقلاء ، وبذلك تكون كلّ سيرة عقلائيّة تحتمل عدم مقبوليّتها من قبل الشارع ، لاحتمال اشتمال منشئها على بعض الثغرات المدركة من قبل الشارع

٣٥١

لافتراض تفوّقه عليهم في الإدراك ، وبهذا لا يكون الشارع راضيا عن تلك السيرة ، نعم في السيرة التي يكون منشؤها المدركات الأوليّة التي لا يشوبها أيّ غموض وهي القضايا التي تكون قياساتها معها ، هذا النوع من السيرة يمكن التمسّك بها لإثبات حكم شرعي.

وبهذا يتّضح أنّ السيرة التي يكون لها كاشفيّة عن الحكم الشرعي هي السيرة العقلائيّة المعاصرة لزمن المعصوم عليه‌السلام ، إذ هي التي يكون السكوت عنها كاشفا عن الإمضاء ، وهي التي يجري فيها كلا الدليلين العقلي بتقريبيه ، والاستظهاري.

والمراد من السيرة المعاصرة هي السيرة التي تكون بمرأى من المعصوم عليه‌السلام في زمن حضوره ، أمّا السيرة العقلائية الواقعة في زمن الغيبة فلا يكشف سكوت الإمام الغائب عليه‌السلام عنها عن إمضائها ، لعدم جريان كلا الدليلين في موردها ، إذ أنّ الإمام عليه‌السلام في ظرف منافاة السيرة للشارع ليس مكلّفا بالردع عنها بحكم غيبته.

وبهذا يسقط التقريب الأول من الدليل العقلي ، إذ أنّه يفترض المعصوم مكلّفا بالنهي عن المنكر وبوجوب تعليم الجاهل ، وكذلك التقريب الثاني ساقط إذ أنّ نقض الغرض إنّما يتحقّق في حالة يكون هناك وسيلة طبيعيّة يتمكّن فيها العاقل من المحافظة على غرضه ، أمّا إذا تعذّرت الوسائل الطبيعيّة فلا يكون السكوت نقضا للغرض ، إذ أنّه لا يكشف عن الإمضاء ، وليس الغرض بمرتبة من الأهميّة تستوجب استعمال الوسائل الإعجازيّة للمحافظة عليه.

على أنّ نفس تسبيب الناس لغيبة الإمام عليه‌السلام وحرمانهم من بركات

٣٥٢

حضوره عليه‌السلام مانعا عن التمسّك بالسكوت لاستكشاف الإمضاء ، إذ أنّ العقلاء يدركون أنّ الإمام عليه‌السلام لمّا كان عاجزا عن المحافظة على أغراضه بالوسائل الطبيعيّة فلا يمكن الاستدلال بنقض الغرض على إمضاء سيرتهم.

كما أنّه لا يمكن الاستدلال بالدليل الاستظهاري على إمضاء السيرة في ظرف الغيبة ، وذلك لعدم تصدّيه مباشرة في ظرف الغيبة لتصحيح أخطاء المجتمع ، فلا يكون سكوته عن السيرة موجبا لانعقاد ظهور حالي للإمام عليه‌السلام في إمضاء تلك السيرة.

وبهذا يتّضح أنّ السيرة العقلائيّة التي يمكن أن تكون ممضاة من قبل الشارع هي السيرة المعاصرة لزمن الحضور.

قوله رحمه‌الله في بحث دلالة الفعل : « وهل يدلّ الفعل على عدم كونه مرجوحا إمّا مطلقا » أي سواء تكرّر صدور الفعل عنه أو صدر عنه في مورد أو موردين.

فالمراد من هذه الفقرة هو أنّه هل يكون لصدور الفعل عن المعصوم عليه‌السلام دلالة على أنه ليس مكروها ، ولو كان ذلك الفعل الصادر لم يتكرّر منه ، كما لو أكل مرّة طعاما معيّنا ولم يتكرّر منه ذلك.

قوله : « ترك الأولى » أي ترك الراجح شرعا ، وقد يطلق ترك الأولى على فعل المرجوح شرعا ؛ وذلك لأنّ ترك فعل المرجوح يكون راجحا ، فحينما يفعل المكلّف المرجوح فهذا يعني أنّه ترك الأولى ، أي لم يلتزم بالترك الراجح.

قوله : « لمّا كان دالا صامتا » يطلق الدليل الصامت على كلّ الأدلّة اللبيّة والتي هي ليست من قبيل الأدلة اللفظية التي يمكن استفادة التعميم منها بواسطة الإطلاق اللفظي أو العموم.

٣٥٣
٣٥٤

إثبات

صغرى الدليل الشرعي

١ ـ وسائل الإثبات الوجداني.

٢ ـ وسائل الإثبات التعبّدي.

٣٥٥
٣٥٦

تمهيد

قلنا إنّ الدليل الشرعي هو ما يصدر عن الشارع وتكون له دلالة على الحكم الشرعي.

وقد تقدّم أنّ البحث عن الدليل الشرعي يقع في ثلاثة مباحث ، والبحث الأول منها حول دلالات الدليل الشرعي ، وقد ذكرنا فيه مجموعة من الضوابط الدلاليّة والتي تساهم في فهم ما يصدر عن الشارع المقدّس.

وهنا نتحدّث عن المبحث الثاني للدليل الشرعي ، وهو البحث عن إثبات صغرى الدليل الشرعي ، وقد بيّنّا ما هو المراد من صغرى الدليل الشرعي.

والبحث فيه يقع عن الوسائل التي يثبت بها صدور الدليل الشرعي ، وهي على نحوين :

النحو الأول : وهي الوسائل التي يحرز بها الدليل الشرعي بنحو اليقين ، وهذه الوسائل لا حصر لها ؛ إذ أنّ موجبات اليقين تتعدّد بتعدّد موادّه ومقدّماته ، ومع ذلك فهناك وسائل نوعيّة أساسية يمكن استفادة غير المعاصرين للمعصوم منها.

وقد بحث المصنّف رحمه‌الله ثلاث وسائل منها :

الأولى : الإخبارات الحسيّة التي بلغت حدا يحصل اليقين لنوع المطلعين عليها ، وهذه هي المعبّر عنها بالأخبار المتواترة.

٣٥٧

الثانية : الإخبارات الحدسيّة التي هي من قبيل توافق جمع من أهل فن على رأي يتّصل بذلك الفن ، هذا التوافق قد يبلغ حدا يوجب حصول اليقين ، وهذا هو المعبّر عنه بالإجماع.

الثالثة : الاستفادة من الآثار التي تكشف بطريق الإن عن الدليل الشرعي ، كالسيرة المتشرعيّة التي توجب الانتقال منها إلى الدليل الشرعي على ما سيأتي إيضاح ذلك.

وسيقع البحث عن كل واحد من هذه الوسائل العلميّة بالترتيب المذكور.

٣٥٨

الخبر المتواتر

وقد تعارف تعريفه بأنّه إخبار جماعة يبلغون من الكثرة حدا يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب.

وقد سلك المصنّف رحمه‌الله مسلكا آخر في بيان المراد من الخبر المتواتر ، إذ أنّه جعل مناط تحقق التواتر في الخبر هو حساب الاحتمالات ، وبهذا لا تكون كثرة المخبرين هي المناط في تحقق التواتر للخبر ، ولكي يتّضح مناط التواتر للخبر نقول :

إنّ محلّ البحث في المقام هو الخبر الحسّي وهو الذي يكون متعلّقه مستفادا بواسطة المدارك الحسيّة ، واذا كان كذلك فكلّ خبر فهو محتمل للمطابقة مع الواقع ومحتمل لعدم المطابقة ، واحتمال عدم المطابقة ناشئ عن احتمال تعمّد كذب المخبر أو اشتباهه ، وهذا يعني أنّ كل خبر فيه نسبة مئويّة من احتمال عدم مطابقة الخبر للواقع المحكي ، وهذا النسبة المئويّة تتفاوت بتفاوت المخبرين من حيث الضبط والوثاقة ، وتتفاوت بتفاوت مضمون الخبر ، فقد يكون مضمون الخبر غريبا ، وقد يكون اعتياديّا ، وقد يكون المخبر به منافيا لمصلحة المخبر وقد يكون متلائما مع مصلحته ، كلّ ذلك يساهم في ارتفاع وانخفاض نسبة احتمال عدم المطابقة.

وكيف كان فتعدّد المخبرين لخبر ذي مضمون واحد يقلّل من احتمال عدم المطابقة ، وذلك ناشئ عن ضرب مستوى احتمال الكذب والاشتباه في

٣٥٩

الخبر الأول مع مستوى احتمال الكذب والاشتباه في الخبر الثاني ، فإنه ينتج تضاؤل مستوى احتمال عدم المطابقة ، فلو كان احتمال الكذب والاشتباه في الخبر الأول هو ٥٠% ، واحتمال الكذب والاشتباه في الخبر الثاني هو ٥٠ % أيضا ، فقيمة احتمال عدم المطابقة في الخبر الأول تساوي الكسر ، وكذلك الخبر الثاني فإنّ قيمة احتماله تساوي الكسر ، فلو ضربنا قيمة كلّ من الاحتمالين في الآخر لوجدنا أنّ مستوى الاحتمال لعدم المطابقة يتضاءل هكذا = فإنّ نسبة الكسر إلى الواحد أقل كما هو واضح من نسبة الكسر إلى الواحد ، وهكذا ينخفض مستوى احتمال عدم المطابقة ويرتفع معه مستوى احتمال مطابقة الخبر للواقع ، إذ أنّ العلاقة بين الاحتمالين طرديّة.

وهكذا لو تعدّد الخبر ذو المضمون الواحد إلى أكثر من الاثنين فإنّ قيم الاحتمالات تضرب في بعضها وسنجد أنّ مستوى الاحتمال يتضاءل أكثر كلّما كان العدد أكبر ، فإذا بلغ العدد حدّا يكون احتمال عدم المطابقة فيها ضئيلا جدا بحيث لا يعتدّ العقلاء بهذا المستوى من الاحتمال لعدم المطابقة ، فهذا هو الخبر المتواتر.

إذن الخبر المتواتر هو ما يكون نسبة الاحتمال فيه لعدم المطابقة ضئيلا جدّا بحيث يحصل الاطمئنان أو القطع بمطابقة مضمون الخبر للواقع على أن تكون ضالة الاحتمال ناشئة عن حساب الاحتمالات.

وبهذا اتّضح أنه ليس هناك حدّ للعدد في الخبر المتواتر ، فقد يتحقّق التواتر للخبر بثلاثة مخبرين فيما لو كانت نسبة الاحتمال لعدم المطابقة في كلّ واحد ضئيلة.

٣٦٠