شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

استعمال اللفظ في المعنى المجازي يحتاج في إثباته إلى قرينة ، ولمّا كان فرض الكلام عدم وجود قرينة على المجاز فأصالة الحقيقة هي المحكّمة في مثل هذه الحالة ، وبهذا ينعقد ظهور لحال المتكلّم بأنّه مريد لإخطار المعنى الحقيقي من اللفظ.

وإذا تنقّح الظهور في الدلالة التصديقية الأولى يقع الكلام عن استظهار الدلالة التصديقية الثانية.

والمتلقي للّفظ المستعمل هنا أيضا له ثلاث حالات ، فتارة يحرز عدم جدّية المتكلّم في الحكاية عن ما أخطره من معان بواسطة ألفاظها ، وتارة يحرز جديّته في ذلك ، والحالة الثالثة يشك في إرادته الجدّية وعدم إرادته ، وفي مثل هذه الحالة يتمسّك بأصالة ظهور حال المتكلّم في أنّه جادّ في الحكاية عما أخطره من معان ؛ وذلك لأصالة التطابق بين الدلالتين التصديقة الأولى والثانية ، إذ أنّ الظاهر عرفا من حال كل متكلّم أنه جادّ في الحكاية عن مقاصده ، وهذا هو المعبّر عنه بأصالة الظهور.

وقد ذكر المصنّف رحمه‌الله تطبيقين لأصالة الظهور :

التطبيق الأول : أصالة الظهور في العموم : فإنّه بعد تنقّح ظهور حال المتكلّم ـ المستعمل لأحد ألفاظ العموم ـ في أنّه قاصد لإخطار معنى العموم يقع البحث عن ظهور آخر وهو أنّ المتكلّم جادّ في الحكاية عما أخطره من معنى العموم ، وهذا الظهور هو الذي يمكن ترتيب الأثر عليه ، والاحتجاج به على المتكلّم ، وكذلك احتجاج المتكلّم به على المخاطب.

وهذا الظهور ينعقد بواسطة أصالة التطابق بين الدلالة التصديقية الأولى وبين الدلالة التصديقية الثانية ، وأن كلّ متكلّم جاء بلفظ العموم

٣٢١

وقصد منه إخطار معناه في ذهن المخاطب ولم ينصب قرينة على عدم الإرادة الجديّة للعموم ، فإنّ أهل المحاورة يبنون على أن المتكلّم مريد جدّا لواقع العموم ، لذلك فهم يرتبون آثار العموم حتى في موارد عدم قيام القرينة الخاصة على إرادة العموم ، ومنشأ هذا التباني هو أنّه لمّا كان ظاهر حال المتكلّم قصد إخطار معنى العموم من لفظه سبّب ذلك انعقاد ظهور آخر لحال المتكلّم في أنّه مريد جدّا لمعنى العموم ولو لم يرد ذلك لكان عليه أن ينصب قرينة على عدم التطابق بين مراده الاستعمالي ومراده الجدّي ، أمّا مع عدم نصب القرينة فالمحكّم هو أصالة التطابق والتي هي أصل عقلائي تبانى عليه أهل المحاورة في كلّ لغة ، ولو لا ذلك لما انعقد ظهور لكلام أي متكلّم إلا في موارد محدودة ، إذ أن أكثر مرادات المتكلّمين تعرف بواسطة هذا الأصل.

فلو قال المولى : « تصدّق على كل الفقراء » واستظهرنا من حاله أنّه قاصد لإخطار معنى العموم من لفظه ولم تقم قرينة على عدم جدّيّة المولى فيما أخطره فإنّ ذلك يستوجب ظهورا آخر لحال المولى هو أنّه مريد جدّا لمعنى العموم.

وهذا الظهور هو المعبّر عنه بأصالة الظهور في العموم وهو حجّة أي أنه منجّز ومعذّر على ما سيأتي إثبات ذلك في بحث حجّية الظهور إن شاء الله تعالى.

التطبيق الثاني : أصالة الجهة : ويستفاد من هذا الأصل العقلائي في موارد الشك في الإرادة الجديّة للمتكلّم من حيث إنّ الكلام هل صدر تقيّة أو لبيان الواقع.

٣٢٢

وهذا الأصل لا يختلف عن أصالة الظهور في المراد الجدّي للمتكلّم بل هو عينه ، غاية ما في الأمر أننا تارة نستفيد منه نفي التخصيص فنعبّر عنه بأصالة الظهور في العموم وتارة نستفيد منه نفي التقييد فنعبّر عنه بأصالة الظهور في الإطلاق وتارة أخرى نستفيد منه نفي التقية فنعبّر عنه بأصالة الجهة وهكذا.

وبهذا يتّضح أنّ التقريب المذكور في أصالة الظهور في العموم جار هنا أيضا ، فلو قال المولى : ( أكرم العلماء ) وشككنا في المراد الجدّي للمولى من حيث إنّ هذا الخطاب هل صدر لبيان الحكم الواقعي أو أنّه صدر تقيّة ، فإنّ أصالة الجهة ـ والتي تعني أصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدّي ـ تنفي صدور هذا الخطاب تقيّة ، وبذلك يتنقّح ظهور لحال المولى بأنّه جادّ في ما أخطره من معنى في هذا الخطاب ، وهذا الظهور حجّة يجب ترتيب الأثر عليه.

دور القرينة في هدم الدلالات الثلاث :

عرفنا ـ ممّا سبق ـ أنّ الدلالة التصوّريّة الناشئة عن الوضع تظلّ ثابتة حتّى في موارد العلم بعدم إرادة المتكلّم للمعنى الموضوع له اللفظ المستعمل ، إذ أنّ الدلالة التصوريّة لمّا كانت ناشئة عن الاقتران الأكيد بين اللفظ والمعنى فإنّ هذا الاقتران يوجب انسباق المعنى للذهن بمجرّد إطلاق اللفظ دون أن يتوقّف تصوّره على شيء آخر غير إطلاق اللفظ ، ولذلك لو قامت القرينة المتّصلة فضلا عن المنفصلة على عدم إرادة المتكلّم للمعنى الحقيقي ، فإنّ ذلك لا يؤثّر على تحقّق الدلالة التصوّرية بل إنّ الذهن يتصوّر المعنى

٣٢٣

الحقيقي من لفظه وإن كان لا يترتّب على هذا التصوّر أيّ أثر من قبيل إدانة المتكلّم بما أفاده من معنى تصوّري.

وأمّا الدلالة التصديقية الأولى وكذلك الثانية فإنّه لا ينعقد لهما ظهور في حال قيام القرينة المتّصلة على عدم الإرادة الاستعمالية أو الإرادة الجديّة ، فلو قامت القرينة المتّصلة على عدم إرادة المعنى الحقيقي من اللفظ المستعمل فإنّه لا ينعقد ظهور في الإرادة الاستعمالية والتي هي الدلالة التصديقية الأولى بل إنّ الظهور ينعقد في المعنى الذي تقتضيه القرينة المتّصلة.

وكذلك الكلام لو قامت قرينة على عدم الإرادة الجدّية فإنّه لا ينعقد ظهور في الدلالة التصديقيّة الثانية ، بل إنّ الظهور يكون مع مدلول القرينة المتّصلة.

أمّا لو قامت القرينة المنفصلة على عدم الإرادة الاستعماليّة أو الإرادة الجديّة فإنّ الظهور في الدلالة التصديقية الأولى وكذلك الثانية يظلّ على حاله دون أن ينهدم بالقرينة المنفصلة.

وبهذا تكون القرينة المنفصلة منافية للظهور في الدلالتين ، فلا بدّ من الجمع بين ما هو مقتضى الظهور في الدلالتين وبين ما هو مقتضى ظهور القرينة المنفصلة ولا بدّ أن يكون الجمع متناسبا مع ما هو المتفاهم العرفي.

ولنذكر مثالا نطبّقه على ما ذكرناه من دور القرينة في هدم الدلالات الثلاث :

لو قال المتكلّم : ( رأيت أسدا يرمي ) فإنّ ( يرمي ) قرينة متّصلة على عدم إرادة المعنى الحقيقي للفظ الأسد ، إلاّ أنّ ذلك لا يؤثّر على الدلالة

٣٢٤

التصورية الوضعية ، بل إنّ استعمال لفظ الأسد موجب لتصوّر معناه وإن كنّا نعلم بعدم إرادته استعمالا وجدا.

وأمّا الظهور في الإرادة الاستعمالية وكذلك الإرادة الجديّة للمعنى الموضوع له لفظ الأسد ، فإنّه لا ينعقد ، وذلك لاقتران الكلام بما يصرفه عن المعنى الحقيقي إلى ما يتناسب مع مقتضى القرينة.

ولو كانت القرينة ( يرمي ) جاءت في كلام آخر بأن قال المتكلّم أولا : ( رأيت أسدا ) ثم قال بعد ذلك ( وكان الأسد الذي رأيته يرمي ) فإنّ الظهور في الإرادة الاستعماليّه وكذلك الجدية لا ينهدم بعد انعقاده ، بل يبقى على حاله ، ولذلك يحصل نوع تناف بين ما هو مقتضى الظهور في الدلالتين ( الاستعماليّة والجديّة ) وبين ما هو مقتضى ظهور القرينة المنفصلة ، وهنا لا بدّ أن يكون الجمع بين الظهورين متناسبا مع ما هو مقتضى الفهم العرفي.

٣٢٥
٣٢٦

مناسبات الحكم والموضوع

إنّ الأحكام المجعولة على موضوعاتها أو متعلّقاتها تكون عادة مجعولة على حالة من حالات ذلك الموضوع أو المتعلّق أو على حيثيّة من حيّثيّاتهما ، وهذه الحيثيّة الملحوظة تارة تستوجب تعميم الحكم وتارة تستوجب التضييق من دائرته ، غاية ما في الأمر أنّه قد يصرّح في الخطاب بالحيثيّة التي انصبّ الحكم على الموضوع أو المتعلّق بلحاظها وقد لا يصرّح بذلك اتكالا على ما هو مرتكز في ذهن أهل المحاورة من تناسب بين الموضوع وبين الحكم المجعول عليه ، فنلاحظ العرف ـ ونتيجة لملابسات خارجيّة أو مستفادة من أجواء الخطاب أو من مناشئ أخرى ـ يلغي في بعض الأحيان بعض خصوصيّات الموضوع ، وفي أحيان أخرى يجزم بالخصوصيّة ، وفي حالات يعدّي الحكم من موضوعه المذكور في الخطاب إلى موضوعات أخرى ، وهكذا.

كل ذلك ناشئ عن أنّ مناسبات بين الحكم والموضوع نشأت ـ كما قلنا ـ عن ملابسات خارجيّة من قبيل عدم إمكان ثبوت الحكم للموضوع من جهة معيّنة ، ويمكن التمثيل لذلك بما روي عن أبي الحسن عليه‌السلام أنّ كلثم بنت مسلم ذكرت الطين عند أبي الحسن عليه‌السلام فقال : « أترين أنّه ليس من

٣٢٧

مصائد الشيطان ، ألا إنّه لمن مصائده الكبار وأبوابه العظام » (١) ، فإنّ المستظهر من هذه الرواية هو حرمة الطين إلاّ أنّ الحيثيّة التي جعلت عليها الحرمة غير مصرّح بها في الرواية إلاّ أنّه من غير الممكن أن تكون الجهة الملحوظة في الموضوع هي وطأ الطين مثلا.

أو تكون مستفادة من أجواء الخطاب كما في قوله عليه‌السلام : « حرّمت الخمرة لإسكارها » (٢) ، فإنّ الموضوع وهو الخمرة لها حيثيّات كثيرة من قبيل المعاوضة عليها ومن قبيل الاحتفاظ بها وهكذا ، إلا أنّ التعليل المذكور في الخطاب يناسب أن يكون الحكم مجعول على الشرب إذ هو الذي يوجب الإسكار دون بقيّة حيثيّات الموضوع.

أو تكون مستفادة عن معرفة المناطات والملاكات التي يعوّل عليها المولى في جعل الأحكام لموضوعاتها ، كقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (٣) ، فإنّ موضوع الحرمة له حيثيّات كثيرة ، كالنظر واللمس والتكلّم وهكذا ، إلاّ أنّ العرف لمّا كان مطّلعا على محبوبيّة الشارع للنظر إلى الأم برحمة ، ومحبوبيّة خدمتها المستلزمة للمسها والتحدّث معها وهكذا سائر الحيثيّات ، فإنّ العرف إما أن يكون مطّلعا على مطلوبيّتها أو عدم مبغوضيّتها ، أو يكون مطّلعا على مبغوضيّتها إلا أنها ليست خاصة بعنوان الأم ، كلّ ذلك أوجب استظهار أنّ الحيثيّة التي انصبّ عليها الحكم بالحرمة هي حيثيّة النكاح.

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٥٨ من أبواب الأطعمة المحرّمة الحديث ٩

(٢) وسائل الشيعة : الباب ٥٨ من أبواب الأطعمة المحرّمة الحديث ٩

(٣) سورة النساء : آية ٢٣

٣٢٨

وبهذا يتّضح أن مناسبات الحكم والموضوع تنشأ عن قرائن خاصّة إلا أنها ليست من قبيل القرائن اللفظية بل هي من قبيل القرائن الحاليّة أو المقاميّة.

ولمزيد من التوضيح نذكر بعض التطبيقات :

التطبيق الأوّل : لو قال المولى « اغسل ثوبك من دم ذي النفس السائلة » ، فإنّ العرف يلغي خصوصيّة الثوب ويرى أنّ الحكم بالنجاسة ثابت لمطلق الملاقي للدم ، وإنما ذكرت الثوب لغرض التمثيل لمطلق الملاقي للدم.

وهذا التعميم المستظهر عرفا من المثال نشأ عن مناسبات الحكم والموضوع ، فإنّ المثال وإن لم يصرّح فيه بالحيثيّة الملحوظة في الموضوع حين جعل الحكم عليه إلاّ أنّ استبعاد العرف وجود خصوصيّة للموضوع المذكور في الخطاب أوجب استظهار كون الحيثيّة المذكورة في الموضوع المذكور هي التمثيل.

ومنشأ استظهار المثاليّة واستبعاد الخصوصيّة هو ظهور الخطاب في أنّ الأثر الشرعي للدم هو التنجيس وإذا كان كذلك فأيّ فرق بين الثوب وبين سائر ما يلاقيه الدم.

التطبيق الثاني : قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (١) فإنّ العرف يفهم من الحرمة الثابتة للميتة هي حرمة أكلها.

ومنشأ فهم العرف اختصاص الحرمة بالأكل هي مناسبات الحكم

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٣

٣٢٩

والموضوع وذلك لأن الأكل هو الفائدة الغالبة المتصوّرة من لحم الميتة.

التطبيق الثالث : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن أمّتي ... ما اضطرّوا إليه » (١) ، فكل فعل صدر عن المكلّف وكان منشؤه الاضطرار فإنّ ذلك الفعل قد رفعت آثاره الشرعيّة التي لو لم يكن المكلّف مضطرّا لترتّبت تلك الآثار على فعله ، فلو شرب المكلّف الخمر فإنّ الأثر الشرعي لهذا الفعل هو إقامة الحدّ عليه وعدم قبول شهادته ، لكنّ هذه الرواية الشريفة قد رفعت هذه الآثار في حالة صدور هذا الفعل من المكلّف اضطرارا ، إلاّ أنّه وبمناسبات الحكم والموضوع يستظهر العرف عدم ارتفاع الأثر الشرعي عن البيع الذي أجراه المكلّف اضطرارا ، فإنّ الأثر الشرعي للبيع وهو تملّك البائع للثمن يكون ملغيّا لو كنّا نحن والسعة اللفظية للرواية ، إلاّ أنّه وباعتبار أن إلغاء الأثر الشرعي للبيع يكون منافيا للامتنان على الأمّة فإنّ هذا يشكّل قرينة على عدم شمول الرفع لهذا المورد باعتبار أنّ مقتضى الظهور في الرواية هو أنها في مقام الامتنان على الأمة ، وإلغاء الأثر الشرعي لبيع المضطر لا يتناسب مع الامتنان ، فإنّ المضطر حينما يبيع ما عنده يقصد رفع الاضطرار عن نفسه ، فلو كانت آثار هذا البيع ملغية فإنّ هذا نقيض الغرض من الرفع الوارد في الرواية.

وببيان أوضح : لو أن المكلّف بلغ به الجوع حدّ الاضطرار ، فباع ما عنده واشترى بثمنه طعاما ، فلو كان البيع في هذه الحالة مشمولا لحديث الرفع ، فمعناه أنّ هذا البيع لاغ ولم يترتّب عليه تملّك المضطر للثمن ، فيكون

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس الحديث ١

٣٣٠

عاجزا شرعا عن تملّك الطعام ، وهذا مناف للامتنان الذي أرادته الشريعة وكشفت عنه بواسطة هذه الرواية الشريفة ، وإذا كان كذلك فالرفع غير شامل لمثل هذه الموارد.

والمتحصّل من كلّ ما ذكرناه أن العرف حينما يتلقى خطابا فإنّه يلاحظ نوعية الحكم المجعول في الخطاب ويلاحظ موضوع ذلك الحكم ثم يناسب بينهما اعتمادا على ما هو مركوز في ذهنه نتيجة ملابسات اقتضتها معرفته بملاكات الأحكام أو طبيعة الحكم المجعول أو اقتضتها أجواء الخطاب أو ما إلى ذلك.

٣٣١
٣٣٢

إثبات الملاك بالدليل

ذكرنا ـ فيما سبق ـ أن الاماميّة « أعزّهم الله » يذهبون إلى أنّ أحكام الله تعالى تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها ، أي أن الأحكام الشرعية ليست أحكاما جزافيّة ، وإنما هي ناشئة عن ملاكات في متعلّقاتها ، فالحكم بحرمة شرب الخمر ناشئ عن مفسدة شديدة في متعلّق الحرمة « وهو الشرب » هذه المفسدة بلغت حدّا أنشأت مبغوضيّة بحجم تلك المفسدة ، ومن هنا نشأت الحرمة والتي تقتضي مسؤولية المكلّف عن ترك متعلّقها.

وهكذا سائر الأحكام الشرعيّة فإنّها ناشئة عن ملاكات في متعلّقاتها.

ومن هنا فالدليل الكاشف عن الحكم الشرعي كاشف بالملازمة عن ملاكه ، وهذا لا كلام فيه ، إنما الكلام لو اتّفق سقوط المدلول المطابقي في الدليل الشرعي ، أي سقط الخطاب بالحكم الشرعي بسبب تعذّر امتثاله على المكلّف مثلا أو مزاحمته بحكم أهم ملاكا منه ، فإنّ التكليف بما هو خارج عن القدرة أو التكليف بما هو مزاحم بحكم أهم ملاكا منه غير ممكن.

ومن هنا يسقط الخطاب بالحكم عن المنجّزيّة ، والكلام أنّه في حالة من هذا القبيل هل يسقط المدلول الالتزامي الكاشف عن وجود الملاك في

٣٣٣

متعلّق الحكم أو أنه يظلّ ثابتا حتى في حالات سقوط الخطاب بالحكم والذي هو المدلول المطابقي للدليل.

وهذا البحث تظهر له ثمرة لو كان لوجود الملاك أثر شرعي كالقضاء مثلا.

مثلا لو قام الدليل على وجوب الصوم في نهار شهر رمضان فإنّ لهذا الدليل مدلولين ، الأول هو الحكم بالوجوب وهذا هو المدلول المطابقي للدليل ، والثاني هو اشتمال متعلّق الوجوب « الصوم » على الملاك ، فلو عجز المكلّف عن امتثال الحكم فإنّ المدلول المطابقي لهذا الدليل يكون ساقطا عن الحجيّة ، والمفروض أنه لا يتّسع لإفادة وجوب القضاء في حالة ارتفاع العجز ، إلا أنّه يقع الكلام في المدلول الالتزامي لهذا الدليل ـ وهو اشتمال الصوم على الملاك التام ـ من حيث إن سقوط المدلول المطابقي للدليل هل يوجب سقوط كاشفيّته على وجود الملاك أو أنّ سقوط المدلول المطابقي لا يستلزم سقوط المدلول الالتزامي بل يبقى الدليل الشرعي صالحا للكاشفيّة عن المدلول الالتزامي ، وبهذا لو كان لبقاء المدلول الالتزامي أثر ـ وهو وجوب القضاء مثلا في حالة ارتفاع العجز ـ لكان هذا الأثر مترتّبا ومقتضيا لثبوت القضاء على المكلّف.

والجواب في المقام يتحدّد بالنتيجة التي تبنّاها السيد الشهيد قدس‌سره في بحث تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجيّة ، حيث تبنّى السيد الشهيد هناك التبعيّة ، وأنّ سقوط المدلول المطابقي يستوجب سقوط المدلول الالتزامي ، وبهذا تكون كاشفيّة الدليل عن المدلول الالتزامي ساقطة عن الحجيّة ، وذلك للملازمة بين المدلولين في الثبوت والسقوط.

٣٣٤

وبهذا لا تترتّب الثمرة إذ أنّ موضوعها ـ وهو ثبوت الملاك ـ غير متحقّق بناء على هذا المبنى.

وهذا بخلاف ما لو كان المبنى هو عدم التبعيّة في السقوط ـ وإن كان المدلول الالتزامي تابعا للمطابقي في الثبوت ـ فإنّه يمكن الاستفادة من بقاء المدلول الالتزامي لإثبات ترتّب الآثار الشرعيّة إن كانت هناك آثار.

واختلاف المبنى من حيث التبعيّة وعدمها مؤثّر أيضا في حالات استكشاف حكم بواسطة المدلول الالتزامي للدليل.

فلو قام الدليل على وجوب شيء فإنّ لازمه جواز ذلك الشيء ، وحينئذ لو نسخ الحكم المفاد بواسطة مدلول الدليل المطابقي فإنّه بناء على التبعيّة يسقط الحكم المستكشف بواسطة مدلول الدليل الالتزامي ، ومن هنا لا يكون ذلك الدليل صالحا لإثبات الجواز.

أما بناء على عدم التبعيّة ، فإنّ نسخ الحكم لا يستوجب سقوط دلالة الدليل على المدلول الالتزامي ، وبهذا يظلّ الحكم المستكشف بواسطة المدلول الالتزامي باقيا دون أن يؤثّر سقوط المدلول المطابقي في سقوطه.

٣٣٥
٣٣٦

الدليل الشرعي غير اللفظي

ذكرنا ـ فيما سبق ـ أنّ الدليل الشرعي ينقسم إلى قسمين :

الأول : هو الدليل الشرعي اللفظي ، وهو الدليل الذي يستفاد منه الحكم الشرعي بواسطة الخطابات اللفظية ، كالقرآن الكريم ، والخطابات الصادرة عن المعصوم عليه‌السلام.

الثاني : هو الدليل الشرعي غير اللفظي ويمكن تصنيفه إلى قسمين :

الأول : وهو الدليل الذي يستفاد منه الحكم الشرعي بواسطة الموقف العملي الذي يمارسه المعصوم عليه‌السلام.

الثاني : وهو الدليل الذي يكشف عن الحكم الشرعي بواسطة تقرير المعصوم أو سكوته عن موقف عام أو خاص.

والبحث يقع عن الدليل الشرعي غير اللفظي بكلا قسميه.

القسم الأول : وهو دليليّة الموقف العملي الصادر عن المعصوم على الحكم الشرعي :

قبل بيان ما يستكشف من أحكام شرعيّة من فعل المعصوم لا بدّ من بيان مسألتين لهما دخل في دليليّة فعل المعصوم على الحكم الشرعي ، ومقدار تلك الدليليّة.

٣٣٧

المسألة الأولى :

وهي أنّه قد يقال إنّ فعل المعصوم عليه‌السلام لا يمكن الاستدلال به على الحكم الشرعي ؛ وذلك لأنّ جميع أفعال المعصوم عليه‌السلام تحتمل الخصوصيّة باعتبار نبوّته أو إمامته ، وذلك الاحتمال يمنع من استكشاف الحكم الشرعي من أفعاله عليه‌السلام ، نعم لو قام دليل خاص على عدم اختصاص فعل من أفعاله به عليه‌السلام ، فإنّه في مثل هذه الحالة يمكن الاستدلال بذلك الفعل على الحكم الشرعي إلا أنّ ذلك يقتضي أنّ الحالة العامّة لفعل المعصوم هي عدم الدليليّة على الحكم الشرعي.

وبهذا تسقط دلالة فعل المعصوم عليه‌السلام على الحكم الشرعي إلاّ في موارد نادرة.

والجواب عن الإشكال :

إلاّ أنّ هذا الإشكال غير تام ، وذلك لنفي الأدلّة لاحتمال الخصوصيّة في فعل المعصوم عليه‌السلام ، وأنّه يمارس أفعاله بما هو مكلّف من المكلّفين ، وتكون دليليّة فعله على الحكم الشرعي باعتبار كونه معصوما.

ومن الأدلّة التي استدلّ بها على نفي احتمال الخصوصيّة لفعل المعصوم عليه‌السلام قوله تعالى : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (١) ، فإنّ هذه الآية الشريفة تعني مطلوبيّة متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ ما يصدر عنه من أفعال ، وقد دلّت روايات كثيرة على مطلوبيّة الاستنان بسنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام ، وبهذه الأدلّة ينتفي احتمال

__________________

(١) سورة الأحزاب : آية ٢١

٣٣٨

الخصوصيّة لفعل المعصوم عليه‌السلام ، فيكون اختصاص المعصوم بفعل يحتاج إلى دليل خاص وليس العكس.

المسألة الثانية :

إنّ دليليّة فعل المعصوم عليه‌السلام على الحكم الشرعي تتوقّف على إحراز الظروف المكتنفة بالفعل الصادر عن المعصوم عليه‌السلام ، إذ لا يمكن استكشاف حكم شرعي من فعل المعصوم عليه‌السلام مطلقا ، وذلك لاحتمال مدخليّة الظروف المكتنفة بالفعل الصادر عنه في تقرّر الحكم الشرعي ، وهذا الاحتمال لا دافع له بعد أن لم يكن الفعل دليلا لفظيّا تعرف من خلاله سعة موضوع الحكم أو ضيقه.

وبعبارة أخرى : دليليّة الفعل على الحكم الشرعي من قبيل الأدلّة اللبيّة التي لا لسان لها ، فلا طريق لاستكشاف الإطلاق منه ، ومن هنا يكون كل قيد يحتمل دخالته في ثبوت الحكم للموضوع فإنّ ذلك القيد المحتمل لا دافع له ولا سبيل إلى نفيه ، وهذا هو معنى دلالة الأدلّة اللبيّة على القدر المتيقّن من مدلولها ، فالإجماع مثلا لمّا كان دليلا لبيّا فإنّ معقده هو مقدار دليليّته لأنّه هو القدر المتيقّن منه ، ومن هنا قلنا إنّ كل الظروف المحيطة بالفعل الصادر من المعصوم عليه‌السلام لمّا كنّا نحتمل دخالتها في ثبوت الحكم لموضوعه ، ولا طريق لنفي هذا الاحتمال فإنّ ذلك يقتضي إحراز وحدة الظروف المحيطة بالفعل الصادر عنه عليه‌السلام من أجل تقييد الحكم المستكشف بها ، ومع عدم إحراز تلك الظروف فإنّ تمام القيود المحتملة تكون معتبرة في الحكم المستكشف عن الفعل إذ أنّ ذلك هو القدر المتيقّن من دليليّة الفعل.

٣٣٩

ومع اتّضاح هاتين المسألتين نصل لبيان ما يكشف عنه الفعل من أحكام شرعيّة فنقول :

إنّ الفعل الصادر عن المعصوم عليه‌السلام تارة يكون مكتنفا بما يدلّ على أنّ المعصوم في مقام التعليم للمكلّفين ، كقول الإمام عليه‌السلام : « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (١) ، ثم أخذ في بيان الوضوء عملا ، أو كما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال قبل الشروع في مناسك الحج : « خذو منّي مناسككم » (٢) وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ، وكذلك لو قامت القرينة الحاليّة على أنّ المعصوم عليه‌السلام في مقام التعليم العملي للمكلّفين فإنّه في حالة من هذا القبيل تكون دلالة فعل المعصوم على الحكم الشرعي تابعة لمقدار دلالة تلك القرينة اللفظية أو الحاليّة ، وهذا خارج عن محل الكلام.

إنّما الكلام عمّا يكشف عنه الفعل المجرّد عن مثل هذه القرائن ، فنقول : إنّه تارة يراد استكشاف الحكم من فعل المعصوم وأخرى يراد استكشافه من ترك الفعل ، وكل من الفعل والترك تارة يصدر عن المعصوم في مورد أو موردين وتارة يكون بنحو المداومة والالتزام ، فيمكن تقسيم الفعل وتركه إلى أربعة أقسام :

القسم الأول : صدور الفعل عن المعصوم في موارد محدودة ، وهنا لا يدلّ ذلك الفعل على أكثر من عدم حرمة ذلك الفعل الصادر عنه عليه‌السلام ، فإنّ

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١٥ من أبواب الوضوء الحديث ٩

(٢) مستدرك الوسائل : ٩ / ٤٢٠ الباب ٥٤

٣٤٠