شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

الجهة الثانية : أنّ الشرط المعلّق عليه الجزاء هل يظهر منه أنه علة انحصاريّة للجزاء وأنه لا توجد علة أخرى للجزاء أو لا؟

فإن تم إثبات ظهور الشرط في العليّة الانحصارية ثبت أنّ للجملة الشرطية مفهوم.

وقد طرحت لإثبات ذلك محاولتان.

المحاولة الأولى : إنّ الدال على أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء هو أداة الشرط ، ومنشأ دلالتها على ذلك هو الوضع ، وإذا كان كذلك فاستعمال أداة الشرط في حالة كون الشرط علة غير منحصرة يعني أنه استعمال لها في غير ما وضعت له « الأداة » وهو يقتضي مجازيّة الاستعمال.

ومن هنا نشأ الإشكال على هذه الدعوى إذ أنّ الوجدان قاض بفسادها ، فالعرف لا يرى أيّ تسامح وتجوّز في استعمال أداة الشرط في مورد لا يكون فيه الشرط علّة منحصرة للجزاء مما يكشف عن عدم مجازية استعمال الأداة في حالات عدم كون الشرط علّة منحصرة.

المحاولة الثانية : ـ لإثبات أنّ الشرط علة منحصرة للجزاء ـ وهي أنّ إثبات العليّة الانحصاريّة للشرط تتم بثلاث دوال يشكلون بمجموعهم ظهورا في انحصار الجزاء بالشرط :

الدالّ الأول : هي أداة الشرط ومدلولها الوضعي هو التلازم بين الشرط والجزاء دون تحديد هويّة هذا التلازم ، فلو كنّا وهذا المقدار لما كان للجملة الشرطيّة أيّ دلالة على أكثر من كون الجزاء لازما للشرط ، أمّا أنّ هذا اللزوم هو لزوم علّي أو غير علّي وعلى فرض ثبوت العلّية فهل هي علّية انحصاريّة أو لا؟ فهذا خارج عن مفاد الأداة.

٣٠١

الدالّ الثاني : هي فاء التفريع ـ والتي يقع الجزاء مدخولا لها ـ ومدلولها الوضعي هو علّية الشرط للجزاء ، إذ أنّ هذا هو مقتضى تفرّع الجزاء عن الشرط ، وتفرع شيء عن شيء يعني أن المتفرّع عنه علّة للمتفرّع ، « فالفاء » تدل على التفريع والتفريع يقتضي العلّية كما ذكرنا.

وما ذكرناه من دلالة « الفاء » وضعا على التفريع لا فرق فيه بين كون الفاء مذكورة أو مقدّرة.

الدالّ الثالث : وهو الإطلاق في الشرط فإنّه دالّ على الانحصار وعدم وجود بديل يحقّق الجزاء ؛ وذلك لأن الشرط المذكور إمّا أن يكون علّة منحصرة للجزاء وإما أن يكون العلّة للجزاء هو أو غيره ، ولمّا كان المتكلّم في مقام بيان ما يوجب الجزاء ويحقّقه فهذا يستوجب ذكر كل ما يحقق الجزاء ، فإذا لم يذكر إلاّ هذا الشرط فهذا يقتضي عدم وجود شرط آخر يمكن أن يحقق الجزاء إذ لو كان موجودا ومع ذلك لم يذكره ـ وهو في مقام بيان ما يوجب ويحقق الجزاء ـ لكان ناقضا لغرضه.

وبهذا البيان يثبت أنّه لا يوجد شرط آخر يكون بديلا عن الشرط المذكور ، وهذا هو الانحصار المطلوب إثباته.

وبهذه الدوالّ الثلاثة يثبت أن الشرط في الجملة الشرطيّة علّة منحصرة للجزاء.

ومن أجل أن يتّضح المطلب أكثر نطبّق هذه الدوال الثلاثة على هذا المثال « إذا جاء زيد فأكرمه » ، فأداة الشرط « إذا » دلّت على التلازم بين الشرط وهو « المجيء » والجزاء « وهو وجوب الإكرام ».

و « الفاء » التي دخلت على الجزاء دلّت على تفرّع الجزاء وهو

٣٠٢

وجوب الإكرام على الشرط وهو المجيء ، وتفرّع الوجوب على المجيء دالّ على أنّ المجيء علّة للوجوب.

ثم إن مقتضى الإطلاق في الشرط ـ وهو مجيء زيد ـ يثبت الانحصار ؛ وذلك لأنه لو كان للشرط بديل يوجب الجزاء لذكره المتكلّم إذ أنه في مقام بيان ما يحقق وجوب الإكرام ، فعدم ذكر بديل للشرط كاشف عن عدم وجوده ، وهذا هو الانحصار في الشرط الذي نروم إثباته.

وبهذا تكون الجملة الشرطيّة دالّة على المفهوم لتوفّرها على كلا الركنين المعتبرين في تحقّق المفهوم في الجمل.

الشرط المسوق لتحقق الموضوع :

يمكن تصنيف الشرط في الجملة الشرطيّة إلى قسمين :

القسم الأوّل : وهو ما يثبت لموضوع الحكم مع إمكان زواله عن الموضوع ، ومع ذلك يبقى الموضوع منحفظا.

وبتعبير آخر : يكون الشرط واسطة في ثبوت الحكم للموضوع المتقرّر في مرحلة سابقة عن عروض الشرط عليه ؛ فلذلك لا يكون للشرط دخالة في وجود الموضوع ، بل إنّه إذا اتفق عروضه على الموضوع يثبت الحكم للموضوع ، مثلا : ( إذا كان زيد فقيرا فتصدّق عليه ) فوجوب التصدّق ثبت لموضوعه وهو زيد بواسطة عروض الشرط عليه ، وهذا الموضوع متقرّر وثابت بقطع النظر عن الشرط ، فهو لا يساوي الشرط وجودا وعدما ، فقد يوجد زيد ولا يكون فقيرا ، وقد يثبت له الفقر ثم يزول عنه.

٣٠٣

فإذا كانت علاقة الشرط بموضوع الحكم من هذا القبيل فالجملة الشرطية لها مفهوم.

القسم الثاني : أن يكون الشرط مساويا لموضوع الحكم وجودا وعدما ، فحيثما وجد الشرط وجد معه الموضوع ، وحيثما انعدم الشرط انعدم معه الموضوع ، فليس للموضوع تقرر وثبوت في صورتي وجود الشرط وعدمه ، وهذا النحو من الشروط في الجمل الشرطية قد يكون غير الموضوع إلاّ أنّه مساو للموضوع في الوجود والعدم وقد يكون هو عين الموضوع ، وفي كلا الحالتين لا يكون للجملة الشرطية مفهوم ؛ وذلك لأنّ المفهوم ـ كما قلنا ـ هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الشرط ، فإذا كان الموضوع منتفيا بانتفاء الشرط أو كان الشرط هو الموضوع فأيّ موضوع نبحث عن انتفاء الحكم عنه ، وهل هو إلاّ من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع؟!

وبعبارة أخرى : إنّ الثمرة التي نستفيدها من المفهوم هي أنّ الحكم في ظرف انتفاء الشرط منتف عن الموضوع فإذا لم يكن هناك موضوع في ظرف انتفاء الشرط فلا حاجة للمفهوم في إثبات انتفاء الحكم لأنّ الحكم في مثل هذه الحالة منتف حتما لتبعيّة الأحكام لموضوعاتها ثبوتا وانتفاء ، نعم لو كان للموضوع تقرر وثبوت حتى في ظرف انتفاء الشرط يكون للمفهوم فائدة إذ قد ينتفي الشرط ولا ينتفي الحكم عن الموضوع فيكون دور المفهوم هو إثبات انتفاء الحكم عن موضوعه في ظرف انتفاء الشرط.

ويمكن التمثيل للشرط المساوي للموضوع بهذا المثال : ( إن رزقت ولدا فاختنه ) فإنّ الموضوع مساو للشرط المعلّق عليه الأمر بالختن وهو أن

٣٠٤

يرزق المكلّف ولدا.

فإنّ عدم رزق الله المكلّف للولد معناه عدم الولد أي عدم الموضوع ، وبهذا ينتفي الحكم وهو الأمر بالختن بانتفاء موضوعه وهو الولد ، وذلك لتبعيّة الأحكام لموضوعاتها وليس انتفاء الحكم بسبب المفهوم إذ أنّ المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموضوع الموجود عند انتفاء الشرط.

« مفهوم الوصف »

ومن الجمل التي ادعي دلالتها على المفهوم هي الجمل الوصفيّة.

والمراد منها مطلق الجمل التي قيّد موضوعها أو متعلّق الحكم فيها بقيد من القيود ، وليس للمفهوم الذي ادعي دلالة الجمل الوصفيّة عليه اختصاص بالجمل النعتية في مصطلح النحاة ، بل يشمل كل قيد موجب لتضييق دائرة الموضوع أو متعلّق الحكم ، فلذلك فهو يشمل الحال والتمييز والإضافة وغيرهما مما يوجب التضييق في موضوع الحكم أو متعلّقه.

ومثال ما فيه تضييق لموضوع الحكم قوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ) (١) فإنّ الصيد هو موضوع الحكم في الآية الكريمة وقد ضيّقت دائرة هذا الموضوع بقيد وهو البحر ، وبه أصبح موضوع الحكم ( الحلّية ) غير شامل لصيد البر.

ومثال ما فيه تضييق لمتعلّق الحكم قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٩٦

٣٠٥

فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (١) فإنّ الاعتداء هو متعلق الحكم وقد ضيّقت دائرته بقوله تعالى : ( بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) وبه أصبح متعلّق الحكم غير شامل للاعتداء بأكثر أو بغير سنخ الاعتداء الواقع على المخاطب.

وبعد اتّضاح موضوع البحث يقع الكلام في دلالة الجمل الوصفيّة على المفهوم ، وقد ذكر لإثبات ذلك وجهان :

الوجه الأوّل : أنّ القيود المأخوذة في موضوع الحكم أو متعلّقه إما أن تكون دخيلة في ترتّب الحكم على الموضوع أو المتعلّق وإمّا ألا تكون دخيلة في ذلك ، وعدم دخالتها مناف لما هو مقتضى الظهور العرفي ، إذ أن المتفاهم من أخذ قيد في موضوع أنّ ذلك القيد دخيل في ترتّب الحكم على موضوعه ، بمعنى أن الحكم لا يثبت لو اتفق انتفاء قيد الموضوع كما هو الحال لو قدّر انتفاء أصل الموضوع ، مثلا قول الإمام الصادق عليه‌السلام « لا تأكل اللحوم الجلاّلة » (٢) فإنّ الظاهر من أخذ القيد في موضوع الحكم « اللحوم » أنّ ذلك القيد « الجلاّلة » دخيل في ترتّب الحرمة على الموضوع.

والإشكال على هذا الوجه : هو أن هذا المقدار لا يفي بإثبات المفهوم للجمل الوصفيّة ؛ وذلك لأنّ غاية ما يثبته هذا الوجه هو انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد المأخوذ في الموضوع أو المتعلّق ، ولذلك يمكن أن يثبت

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٩٤

(٢) معتبرة هشام بن سالم ، وسائل الشيعة : الباب ١٥ من أبواب النجاسات الحديث ١

٣٠٦

مثل الحكم للموضوع المجرّد عن القيد.

وبعبارة أخرى : إنّ انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد إنما نشأ عن قاعدة احترازيّة القيود القاضية بتطابق المدلول التصوري مع المدلول التصديقي الجدّي أي أنّ كل مدلول وضعي تصوّري مستفاد مما ذكره المتكلّم فهو مراد جدّي له ، فإذا ذكر المتكلّم قيدا لموضوع حكمه ، فهذا القيد مراد جدّا أي أنّ قصد المتكلّم جعل القيد دخيلا في ترتّب الحكم ، وهذا يقتضي انتفاء الحكم بانتفاء ذلك القيد إلاّ أنّ الحكم المنتفي بانتفاء القيد هو شخص الحكم المذكور في الخطاب ؛ ولذلك يمكن أن يثبت مثل ذلك الحكم لنفس الموضوع المجرّد عن ذلك القيد سواء كان ثبوت مثل الحكم بقيد آخر أو بدون قيد أصلا ، والمفهوم الذي نبحث عن دلالة الجملة الوصفيّة عليه هو انتفاء طبيعي الحكم بانتفاء القيد ، والذي يقتضي انتفاء تمام أفراد الحكم عن الموضوع حين انتفاء القيد ، ففي المثال الذي ذكرناه وهو قول الإمام عليه‌السلام « لا تأكل اللحوم الجلالة » لو انتفى الجلل عن اللحم ، فهذا يقتضي انتفاء شخص الحرمة المذكورة في هذا الخطاب إلا أنّ ذلك لا يعني انتفاء الحرمة على اللحوم غير الجلالة مطلقا ، فقد تثبت الحرمة للّحم بملاك آخر وهو كون اللحم من موطوء الإنسان أو ممن تغذّى على لبن خنزيرة ، وهذا بخلاف المفهوم فإنّه يقتضي انتفاء طبيعي الحرمة عن اللحم إذا انتفى عنه قيد الجلل.

الوجه الثاني : أن ذكر القيد لو لم يكن دالا على انتفاء طبيعي الحكم بانتفائه ، لكان أخذه في الموضوع أو المتعلّق لاغيا ، وهو مناقض لما هو المفترض من حكمة المتكلّم.

٣٠٧

وحتى لا يحمل فعل المتكلّم على ما هو مناف لمقتضى الحكمة لا بد من حمل كلامه على إرادة المفهوم وأنّ المنتفي عند انتفاء القيد هو طبيعي الحكم.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّه لو كان المنتفي عند انتفاء القيد هو شخص الحكم فقط لكان ذلك يقتضي إمكان ثبوت مثل الحكم للموضوع المجرّد عن ذلك القيد ، فلو كان الموضوع المجرّد محكوما بمثل ذلك الحكم فما معنى أن يأتي المتكلّم بخطابين يثبت للموضوع المقيّد فردا من الحكم ويثبت للموضوع المجرد فردا آخر مثله ، وهل هذا إلا من قبيل الأكل من القفا! إذ كان بإمكان المتكلّم أن يأتي بخطاب واحد يدل بإطلاقه على ثبوت الحكم للموضوع الشامل للفرد المقيّد.

فلو أن وجوب الإكرام ثابت للعالم المجرّد عن العدالة فلا معنى لأن يأتي المتكلّم بخطابين يجعل في الأوّل وجوب الإكرام للعالم العادل ويجعل في الآخر وجوب الإكرام للعالم المجرّد عن العدالة ، إذ يكفيه أن يأتي بخطاب واحد يدل بنحو الإطلاق على وجوب الإكرام للعالم الشامل للعادل وغير العادل.

والجواب عن هذا الوجه :

إن هذا الوجه غير قادر أيضا على إثبات المفهوم ـ بالمعنى المبحوث ـ للجملة الوصفية إذ أنّ المفهوم الذي نبحث عن ثبوته للجملة الوصفيّة هو انتفاء طبيعي الحكم بانتفاء قيده بحيث لا يثبت مثل الحكم ـ ولو بنحو الموجبة الجزئيّة ـ للموضوع حين انتفاء قيده ، وغاية ما ينتجه هذا الوجه هو أن مثل الحكم للجمل الوصفيّة لا يثبت للموضوع مطلقا في حالات انتفاء القيد ، وهذا يعني إمكان ثبوت مثل الحكم للموضوع في بعض

٣٠٨

حالات انتفاء القيد وذلك لأن عمدة ما يرتكز عليه هذا الوجه هو أنّ مثل الحكم لو كان يثبت للموضوع في حال انتفاء القيد لما كان لذكر القيد أيّ فائدة ، فإذا ما ثبت أنّ لذكر القيد فائدة ـ حتى مع افتراض ثبوت مثل الحكم للموضوع المجرّد عن القيد ـ وهي عدم ثبوت مثل الحكم في بعض حالات انتفاء القيد فإنّ هذا الوجه يكون حينئذ عاجزا عن إثبات المفهوم للجملة الوصفيّة بالمعنى المبحوث.

وبتعبير آخر : إنّ المسلّم به أن يكون لذكر القيد فائدة وإلاّ لم يؤخذ في موضوع الحكم ، إلا أنّه لا يتعيّن أن تكون فائدة القيد هو انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء القيد المذكور ، فإنّه يمكن أن تكون فائدة من ذكر القيد هي انتفاء مثل الحكم في بعض حالات انتفاء القيد عن الموضوع فلا يكون ذكر القيد وعدم ذكره سواء ، ومن الواضح أنّ هذا المقدار لا يثبت المفهوم الذي هو انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء القيد ، نعم بناء على هذا الوجه يكون ذكر القيد معبّرا عن أنّ مثل الحكم لا يثبت للموضوع مطلقا في حالات انتفاء القيد بل لا بدّ أن تكون هناك حالات للموضوع ـ عند انتفاء القيد ـ لا يكون مثل الحكم ثابتا لها ، وبهذا يكون ذكر القيد صالحا للدلالة على انتفاء مثل الحكم عند انتفائه لكن بنحو الانتفاء الجزئي ، ففي الرواية التي ذكرناها وهي قول الإمام عليه‌السلام « لا تأكل اللحوم الجلالة » تكون فائدة ذكر القيد « الجلالة » هو أنه لا يمكن أن يثبت مثل الحكم لمطلق الموضوع « اللحوم » عند انتفاء القيد ، إذ يصبح ذكر القيد عندئذ بلا فائدة ، إلا أنّ هذا الوجه عاجز عن إثبات انتفاء طبيعي الحرمة عن اللحوم عند انتفاء قيد الجلل.

٣٠٩

وبما بيّناه يتّضح أن للجملة الوصفيّة مفهوما ولكن بنحو جزئي أي أن الجملة الوصفيّة تنفي ثبوت مثل الحكم للموضوع المجرّد عن القيد في بعض حالاته ، إلا أنّ هذه الحالات لا تكون مشخصة عندنا فلذلك يكون كل مورد ثبت فيه مثل الحكم للموضوع لا يكون منافيا للمفهوم في الجملة الوصفية ، نعم في حالة واحدة يحصل التنافي بين الجملة الوصفية وبين الجملة التي ثبت فيها مثل الحكم للموضوع ، وهذه الحالة هي ما لو كان مثل الحكم ثابتا للموضوع بنحو مطلق ، أي أنه لو كانت الحرمة في المثال ثابتة لمطلق اللحوم وبدون استثناء فإنّ هذا ينافي ذكر القيد في الجملة الوصفية ، أما لو ثبت مثل الحكم للحوم التي تكون من موطوء الإنسان أو مما تتغذّى على لبن خنزيرة فإنّ ذكر القيد للجملة الوصفيّة لا يكون منافيا لذلك.

أقسام الجملة الوصفية : ثم إنّ الجملة الوصفيّة تارة يصرّح فيها بذكر الموصوف ، وهذا ما تمّ الحديث عنه ، وتارة لا يصرّح فيها بذكر الموصوف بل يقتصر على ذكر الوصف كما في قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (١) فإنّ الآية الكريمة لم تصرّح بذكر الموصوف وهو النساء بل اقتصرت على ذكر الوصف وهو المطلّقات.

والوجه الأول الذي ذكرناه في مقام الاستدلال على ثبوت المفهوم للجمل يمكن تعديته لهذا القسم من الجمل الوصفيّة ، والجواب هو الجواب.

وأما الوجه الثاني فلا يمكن الاستدلال به على هذا القسم ؛ وذلك لأن

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٢٢٨

٣١٠

الوصف حينئذ يكون هو موضوع الحكم في الجملة ، فيكون لذكره فائدة وهي ترتّب الحكم عليه ، فيكون الموضوع الفاقد لهذا الوصف مسكوتا عنه فعلا.

ومن هنا لا يكون انتفاؤه دالا ـ ولو في الجملة ـ على انتفاء مثل الحكم للموضوع المجرّد عن الوصف ، فقوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ ) (١) لا يقتضي انتفاء وجوب التربّص عن النساء اللاتي لم يكنّ مطلّقات فيمكن أن يتوجّه لهن خطاب بوجوب التربّص مطلقا أو حينما يوطأن وطأ شبهة مثلا.

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٢٢٨

٣١١
٣١٢

جمل الغاية والاستثناء

ومن الجمل التي ادّعي دلالتها على المفهوم الجمل الغائية والجمل الاستثنائية والبحث فيهما يقع عن انتفاء طبيعي الحكم بانتهاء الغاية التي حدّد بها الحكم ، وكذلك انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع المستثنى عنه الحكم.

ويمكن التمثيل للحكم المغيّى بغاية بقوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (١) فإنّ وجوب الصوم المستفاد من صيغة الأمر قد حدّد بغاية وهي الليل ، والبحث يقع عن أنه بعد بلوغ الغاية هل ينتفي طبيعي الوجوب للصوم عن المكلّف بحيث يكون بلوغ الغاية مقتضيا لانعدام تمام أفراد الوجوب للصوم.

ويمكن التمثيل للحكم المستثنى عن موضوع بما لو قال المولى « إن الصلاة واجبة على كل ذكر وأنثى إلاّ الصبيان » فإنّ الحكم بوجوب الصلاة مستثنى عن الصبيان ، أي أنّ أداة الاستثناء أفادت عدم شمول الحكم لمدخولها « الصبيان ».

ولمزيد من التوضيح نقول : إن المراد من الاستثناء هو إخراج بعض

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٨٧

٣١٣

أفراد موضوع عن أن تكون مشمولة للحكم المجعول على ذلك الموضوع ، فالأفراد المستثناة مشمولة للموضوع أساسا إلا أنها خارجة عنه حكما.

فالجملة الاستثنائية مشتملة على ثلاثة أركان :

الركن الأول : المستثنى منه : وهو الموضوع الكلّي والذي يمثّل الحقيقة المشتركة لأفراده ، وهو الذي يقع موضوعا للحكم ، وهو في مثالنا الذكر والأنثى.

الركن الثاني : المستثنى : وهي بعض أفراد الموضوع المجعول له الحكم إلاّ أنّها خرجت بواسطة الاستثناء وهو في مثالنا ( الصبيان ) فهم وإن كانوا

مشمولين لموضوع الحكم إلاّ أنهم خرجوا عن الموضوع حكما.

الركن الثالث : أداة الاستثناء : وهي الأدوات الموضوعة لإفادة إخراج بعض أفراد الموضوع عن الحكم الواقع على الموضوع المستثنى منه وذلك مثل : ( إلاّ ) و ( سوى ) و ( عدا ).

ومع اتضاح هذا نقول : إنّ المنفي عن المستثنى هل هو طبيعي الحكم الثابت للمستثنى منه أو أنّ المنفي هو شخص الحكم بحيث يكون وجوب الصلاة المنفي عن الصبيان هو شخص الوجوب الثابت في هذا الخطاب ، ويمكن أن يثبت فرد آخر للوجوب يشمل الصبيان أو يخصّهم.

ومن الواضح أننا إذا أردنا أن نثبت للجمل الاستثنائيّة وكذلك الغائية مفهوما لا بدّ أن نثبت أنّ الحكم المنفي عن المستثنى وكذلك الحكم المنفي عن موضوعه بعد بلوغ الغاية هو طبيعي الحكم لا شخصه إذ أنّ انتفاء شخص الحكم عن المستثنى وعن الموضوع بعد بلوغ الغاية متحقّق حتما ، وذلك لقاعدة احترازيّة القيود والتي تعني أنّ كل ما يذكره المتكلّم يريده جدّا ،

٣١٤

وهذا يقتضي دخالة تلك القيود المذكورة في ترتّب ذلك الحكم وإذا كان كذلك فالحكم لا يترتّب إذا انتفت تلك القيود ، إلاّ أنّ الحكم الذي لا يترتّب مع عدم تلك القيود هو شخص الحكم المذكور في ذلك الخطاب إذ أنّه قد يثبت مثل ذلك الحكم بخطاب آخر ولداع آخر.

ولذلك لا يعوّل المثبتون للمفهوم في الجمل الغائية والاستثنائية على قاعدة احترازيّة القيود ، بل إنهم يستدلّون بدليل آخر وهو الوجه الثاني الذي ذكرناه في مفهوم الجمل الوصفيّة ، وحاصله : أنّه لو كان الحكم المنفي عن المستثنى وعن الموضوع بعد بلوغ الغاية هو شخص الحكم بحيث يكون مثل الحكم ثابتا للمستثنى والموضوع بعد تحقّق الغاية ولكن بخطاب آخر لكان ذلك أشبه بالعمل العبثي الذي ليس له أيّ مبرّر عقلائي ، إذ ما معنى أن تخرج بعض الأفراد عن الحكم وأن يغيّى الحكم بغاية ثم يثبت مثل ذلك الحكم للمستثنى وللموضوع بعد تحقق الغاية ، إذ كان بإمكان المتكلّم أن يجعل الحكم من البداية على الموضوع بنحو مطلق بحيث يشمل المستثنى منه والمستثنى ، وأن يجعل الحكم على الموضوع دون أن يجعل للحكم غاية ثم يجعل مثله بعد بلوغ الغاية.

وهذا الوجه وإن كان وجيها إلاّ أنّه لا يثبت المفهوم بالمعنى الذي ذكرناه إذ أنّ أقصى ما يثبته هذا الوجه هو انتفاء طبيعي الحكم عن المستثنى وعن الموضوع بعد بلوغ الغاية بنحو السالبة الجزئيّة ، أيّ أنّ طبيعي الحكم لا بدّ أن يكون منتفيا عن بعض حالات المستثنى والموضوع بعد بلوغ الغاية بحيث لا يثبت الحكم لبعض حالاتهما ولو بخطاب آخر وملاك آخر ، ولهذا يكون للاستثناء والغاية مبرّر ، ففي مثالنا الأول يكون المبرّر للغاية هو أنّ

٣١٥

طبيعي وجوب الصوم منتف عن الموضوع وهو المكلّف بعد بلوغ الغاية في بعض حالات الموضوع ، ولتكن تلك الحالة التي ينتفي فيها طبيعي الوجوب هي حالة عدم وجود ملاك خاص لوجوب الصوم بعد الغاية ، ومن الواضح أنّه لا يكون ذكر الغاية حينئذ عملا عبثيا ولغويّا بل يكون الغرض منه الاحتراز عن مثل هذه الحالة.

وكذلك الكلام في المثال الثاني فإنّ مبرّر الاستثناء هو أنّ طبيعي الوجوب للصلاة منتف عن بعض حالات المستثنى ولتكن تلك الحالة هي عدم وجود ملاك خاص يوجب الصلاة على الصبيان ، وهذا لا يقتضي أكثر من انتفاء الطبيعي عن تلك الحالة ولا يمنع من ثبوت مثل الوجوب للصلاة على الصبيان في حالات خاصّة مثل التمرين.

قوله رحمه‌الله : « لحكم مغيّى » أي رجوع الغاية إلى الحكم ، فالغاية هي الأمد أو المكان المحدّد ، والمغيّى هو المحدود بذلك الزمن أو المكان ، فحينما يقال : ( نام زيد إلى الليل ) فالليل هو الغاية والنوم هو المغيّى ، أي أنّ لنوم زيد حدّا هو الليل والنوم محدود بالليل ، وظاهر عبارة المصنّف رحمه‌الله أنّ المغيّى والمحدود بالغاية هو الحكم إلاّ أنّه جاء بمثال يتناسب مع كون المغيّى هو متعلّق الحكم حيث مثل بقوله : ( صم إلى الليل ) فالليل غاية وحد للصوم لا لوجوب الصوم إلاّ أن يقال أنّ الغاية راجعة إلى الحكم المستفاد من هيئة فعل الأمر ( صم ) فتكون الغاية راجعة إلى الحكم المستفاد من المعنى الحرفي ، وهذا مبني على إمكان تقييد المعاني الحرفيّة.

وبيان ذلك : أنّ الغاية قد ترجع إلى الموضوع وقد ترجع إلى المتعلّق وقد ترجع إلى الحكم.

٣١٦

أمّا مثال رجوع الغاية للموضوع فقوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (١) ، فالغاية في الآية الكريمة وهي مدخول « إلى » راجعة إلى الأيدي وهي موضوع وجوب الغسل فيكون مفاد الآية الكريمة إنّ الذي يجب غسله هو ما بين المرفق والأصابع.

وأمّا مثال رجوع الغاية إلى المتعلّق ، فقوله تعالى : ( فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (٢) ، فإنّ المغيّى في هذه الآية الكريمة هو متعلّق الأمر وهو القرب ، والغاية هي الطهر.

وأوضح منه قوله تعالى : ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) (٣) ، فإنّ الغاية في هذه الآية الكريمة راجعة إلى المتعلّق في الأمر الأول والثاني وهما العفو والصفح.

وأمّا مثال رجوع الغاية إلى الحكم ، فقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (٤) ، فإنّ الغاية في هذه الرواية الشريفة راجعة إلى الحكم وهو الجواز.

ثم إنّ الذي يظهر من عبائر المصنّف رحمه‌الله في تقريرات بحثه هو أنّ رجوع الغاية إلى الحكم تارة يكون مستفادا من مفهوم اسمي كما في المثال الذي ذكرناه وتارة يكون مستفادا من الهيئة والنسبة التامّة ، وعلى هذا يمكن

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٦

(٢) سورة البقرة : آية ٢٢٢

(٣) سورة البقرة : آية ١٠٩

(٤) مرسلة الصدوق ، وسائل الشيعة : الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٦٧

٣١٧

أن تكون الغاية في قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (١) ، وكذلك قوله تعالى : ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) (٢) ، راجعة إلى الحكم المفاد بواسطة هيئة الفعل المضارع المدخول للا الناهية وهيئة فعل الأمر.

وكيف كان فالمسألة غير محسومة عند الأعلام « رضوان الله عليهم » وقد جرينا في الشرح على طبق ما استظهرناه من عبارة المصنّف رحمه‌الله وأنّ الغاية راجعة إلى الحكم والذي يهوّن الخطب أنّ المصنّف رحمه‌الله أراد أن يجعل الطالب في الصورة فحسب.

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٢٢٢

(٢) سورة البقرة : آية ١٠٩

٣١٨

التطابق بين الدلالات

ذكرنا فيما سبق أنّ هناك ثلاث دلالات للكلام ، والدلالة الأولى منها دلالة وضعيّة مستفادة من الوضع ، وهذه الدلالة تتحقّق بسماع اللفظ حتى من غير ذي الشعور وحتى مع العلم بعدم إرادة اللافظ للمعنى الموضوع له ذلك اللفظ ، وهذه الدلالة هي المعبّر عنها بالدلالة التصوّرية والتي توجب انقداح المعنى في الذهن بمجرّد إطلاق اللفظ.

وأمّا الدلالتان الثانية والثالثة فمستفادتان من الظهور الحالي السياقي للمتكلّم ؛ فلذلك لا تتعقّل هاتان الدلالتان إلاّ من المتكلّم العاقل الملتفت لما يقول ، وهاتان الدلالتان يعبّر عن الأولى منهما بالدلالة التصديقية الأولى ، وهي الموجبة لإحراز كون المتكلّم قاصدا لإخطار المعنى الموضوع له ذلك اللفظ المستعمل.

ويعبّر عن الثانية بالدلالة التصديقية الثانية ، وهي التي توجب إحراز كون المتكلّم جادّا في الحكاية عمّا أخطر من معان بواسطة ألفاظها الموضوعة لإفادتها ، وبهذا تختلف عن الدلالة التصديقية الأولى ، إذ أنّ غاية ما تثبته هذه الدلالة هو أنّ المتكلّم قاصد لإخطار المعنى من اللفظ حتّى ولو كان هازلا إذ أنّ الهازل قاصد أيضا لإخطار المعاني إلاّ أنّه ليس جادّا في الحكاية عمّا أخطره من معان.

٣١٩

ومع اتضاح الفرق بين الدلالات الثلاث نصل إلى ما هو الغرض من عقد هذا البحث ، وهو البحث عن ما هو المرجع في حالات الشك في إرادة المتكلّم وأنّه هل أراد المعنى الموضوع له اللفظ وهل قصد الحكاية عنه أو أنه أراد معنى آخر غير المعنى الحقيقي وقصد الحكاية عن معنى آخر غير المعنى الموضوع له اللفظ « الحقيقي »؟

فأولا : نبحث عمّا هو المرجع في حالات الشك في الإرادة الاستعمالية ، وهل أن المتكلّم استعمل اللفظ في معناه الحقيقي وقصد إخطار المعنى الحقيقي أو لا؟

فنقول : إن المخاطب حينما يتلقّى كلاما من متكلّم عاقل ملتفت فإنّ له ثلاث حالات ، فتارة يحرز إرادة المتكلّم لإخطار المعنى الموضوع له اللفظ ، فالاستعمال هنا حقيقي ، وتارة يحرز أنّ المتكلّم أراد معنى آخر غير المعنى الموضوع اللفظ وحينئذ يكون الاستعمال مجازيّا ، والحالة الثالثة يقع الشك في إرادة المتكلّم ، وأنّه هل أراد من اللفظ معناه الموضوع له أو أراد معنى آخر غير المعنى الموضوع له اللفظ.

وهذه الحالة لا تتصوّر إلا مع فقدان القرينة على ما هو المراد ، وعندئذ يقع البحث عمّا هو المرجع في هذه الحالة ، فهل المرجع هو أصالة الحقيقة أو أنّ الإرادة الاستعمالية تكون في مثل هذه الحالة مجملة؟

والجواب : أنّ المصنّف رحمه‌الله ـ وكما هو المذهب المعروف ـ ذهب إلى أنّ المرجع في هذه الحالة هو أصالة الحقيقة والتي تعني أصالة التطابق بين الدلالة الوضعية التصورية والدلالة التصديقية الأولى ، وأن المتكلّم حين يستعمل اللفظ ، فإنه قاصد لإخطار معناه الموضوع له ذلك اللفظ ، فإنّ

٣٢٠