شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

لفظ عشرة ، وإنما هو من مقتضى واقع اسم العدد عشرة ، وهذا بخلاف لفظ ( كل ) و ( جميع ) فإنها موضوعة لإفادة الاستيعاب والشمول.

أدوات العموم ونحو دلالاتها :

الكلام حول دلالة بعض الألفاظ على العموم والاستيعاب ، لم يقع محلا للإشكال حيث إنّه وبدون شكّ قد وضعت مجموعة من الألفاظ لإفادة معنى العموم والاستيعاب مثل ( كل ) ( جميع ) و ( كافة ) وهكذا.

وإنما الإشكال في أنّ شمول الحكم لكل أفراد مدخول هذه الألفاظ هل هو مستفاد من قرينة الحكمة أو هو مستفاد من نفس هذه الألفاظ الموضوعة لإفادة العموم؟

فحينما يقال ( أكرم كلّ عالم ) فإن المتفاهم العرفي منه هو استيعاب الحكم لكل أفراد الطبيعة المجعول لها ذلك الحكم إلا أنّ الإشكال فيما هو المنشأ لهذا الاستظهار والمتفاهم العرفي ، هل هو قرينة الحكمة أو هو أداة العموم؟

وقد طرح في المقام اتّجاهان :

الاتّجاه الأول : هو أن المنشأ لاستظهار شمول الحكم لتمام أفراد مدخول الأداة ( الطبيعة ) هو قرينة الحكمة ؛ وذلك لأن أداة العموم إنما وضعت لإفادة استيعاب وشمول ما يراد من الطبيعة ، وهذا يستدعي أن نستظهر أولا حدود ما يراد من الطبيعة ، ومن الواضح أن المتكفّل لبيان حدود المراد من الطبيعة هو قرينة الحكمة والتي تستفاد من عدم ذكر المتكلّم للقيد رغم أنّه في مقام بيان تمام موضوع حكمه ، فإذا استظهر من

٢٨١

حال المتكلّم ـ بواسطة قرينة الحكمة ـ أنّه لا يريد القيود فهذا يعني أن الحكم المجعول على الطبيعة مجعول على تمام أفرادها.

ومن هنا يتّضح أن المنشأ لاستيعاب الحكم لكل أفراد مدخول الأداة إنما هو قرينة الحكمة.

الاتّجاه الثاني : هو أنّ المنشأ لاستظهار شمول الحكم لكلّ أفراد مدخول ألفاظ العموم هو ما وضعت له ألفاظ العموم ، إذ أنّ ألفاظ العموم وضعت لاستيعاب كل فرد تصدق عليه الطبيعة الواقعة مدخولا لأداة العموم ، ومن هنا لا نحتاج إلى قرينة الحكمة لإفادة الشمول والاستيعاب لكل أفراد الطبيعة المدخولة للأداة ؛ وذلك لأنّ نفس أداة العموم تتكفّل بتحقيق ذلك بعد أن كانت موضوعة لاستيعاب كل أفراد الطبيعة ، نعم لو كانت موضوعة لاستيعاب ما يريده المتكلّم من أفراد الطبيعة لكان ذلك يستدعي تنقيح ما هو المراد من أفراد الطبيعة التي يريد المتكلّم جعل الحكم عليها وهذا ما تتكفّل به قرينة الحكمة.

إذن المنشأ للاتجاهين هو تحديد ما وضعت له ألفاظ العموم فإن كانت قد وضعت لاستيعاب ما هو المراد من الطبيعة المدخولة للأداة فهذا يستوجب تبني الاتجاه الأول إذ أنّ تحديد المراد من حيث عدم إرادة القيد لا يتم إلاّ عن طريق قرينة الحكمة.

وأمّا إذا كانت ألفاظ العموم قد وضعت لاستيعاب كل ما تصدق عليه الطبيعة من أفراد ، فهذا يستوجب تبنّي الاتجاه الثاني إذ أنّ الأداة تتكفّل بالدلالة على الاستيعاب والشمول ويكون تحديد أنّ هذا مما تصدق عليه الطبيعة أو لا تصدق من شؤون المكلّف إذ أنّ القضايا لا تتكفّل بتنقيح

٢٨٢

موضوعاتها.

وقد تبنّى صاحب الكفاية رحمه‌الله الاتجاه الثاني (١) ـ بعد أن اعترف بمعقوليّة كلا الاتجاهين ـ وذلك لأنّه مقتضى الظهور العرفي.

ثم إنّ المصنّف رحمه‌الله بعد أن استوجه مبنى صاحب الكفاية رحمه‌الله قال : إنّه يمكن البرهنة على بطلان الاتجاه الأول فيتعيّن الاتجاه الثاني ، وحاصل ما أفاده من برهان على بطلان الاتجاه الثاني :

هو أنّ دعوى استفادة الاستيعاب من قرينة الحكمة يستوجب لغويّة ألفاظ العموم وذلك لأنّ قرينة الحكمة توجب ظهور استيعاب الحكم لأفراد الطبيعة دون الحاجة إلى أداة العموم ، بل إننا قد ذكرنا في بيان الاتجاه الأول أنّ تنقيح الظهور في الاستيعاب لأفراد الطبيعة بواسطة قرينة الحكمة لا بد أن يتم في مرحلة سابقة وقبل ملاحظة كون الطبيعة مدخولة للأداة ، إذ أنّ الأداة لا يكون لها دور الإفادة للاستيعاب إلاّ بعد أن نحدد ما هو المراد من الطبيعة والذي يتم عن طريق قرينة الحكمة ، وإذا كان كذلك فوجود الأداة لغو محض أي لا تصلح حتى للتأكيد إذ أننا بعد أن فرغنا عن تحقّق الظهور

__________________

(١) المستظهر من عبائر صاحب الكفاية رحمه‌الله هو تبني الاتجاه الأول ، وهذا ما فهمه الأعلام ( رضوان الله عليهم ) كالسيد الخوئي رحمه‌الله ، نعم قد يكون مراد المصنف رحمه‌الله هو الاستدراك الذي استدركه صاحب الكفاية بعد تبنّي الاتجاه الأول حيث قال : « نعم ، لا يبعد أن يكون ظاهرا عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها » فهذا الاستدراك يعبّر عن أنّ صاحب الكفاية لا يستبعد أن يكون ( لكل ) خصوصية تقتضي استظهار الاستيعاب لمدخولها حتى في موارد كون الطبيعة المدخولة ( لكل ) مهملة وغير صالحة لأن تجري قرينة الحكمة في موردها

٢٨٣

في الاستيعاب بواسطة قرينة الحكمة فما هو معنى مجيء أداة العموم ، وهل أنّ دورها إلاّ دور تحصيل الحاصل ، نعم لو كان استظهار الاستيعاب بواسطتهما معا وفي عرض واحد لأمكن أن يقال إنّ لها دور التأكيد ، إلاّ أنّ هذا خلف ما ذكرناه من أنّ دور قرينة الحكمة يأتي أوّلا.

دلالات الجمع المعرّف باللام :

ومن الموارد التي ذكر أنها مفيدة للعموم هي موارد الجمع المحلّى باللاّم مثل « العلماء » في قولنا « أكرم العلماء » حيث ادّعي دلالته على استيعاب الحكم ـ المجعول عليه ـ لتمام أفراد الطبيعة المستفادة من مادة الجمع.

والبحث عن دلالة الجمع المحلّى باللام يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في تصوير كيفيّة استفادة العموم منه ، وقد ذكر لذلك عدة تصويرات وقد اختار المصنّف رحمه‌الله هذا التصوير وحاصله : إنّ ما يمكن أن يكون منشأ لدلالة الجمع المعرّف باللام على العموم والاستيعاب هو اشتماله على ثلاث دلالات من ثلاثة دوال تساهم بمجموعها في إفادة العموم.

الأول : هو مادّة الجمع : ومدلولها الطبيعة التي نبحث عن شمول الحكم لأفرادها.

الثاني : هيئة الجمع : ومدلولها الجمع المتقوّم بثلاثة أفراد أو يزيدون.

الثالث : اللاّم الداخلة على الطبيعة المتهيّئة بهيئة الجمع : ويمكن أن يكون مدلولها استيعاب وشمول الحكم لتمام أفراد الطبيعة.

فهذه الدوال الثلاث ، أو قل الدالّين الثاني والثالث هي التي يمكن أن

٢٨٤

تكون مرتكز الدلالة على العموم ثبوتا.

المقام الثاني : وهو مقام الإثبات والدلالة بعد الفراغ عن صلاحيّة الجمع المعرّف باللاّم للدلالة على العموم.

وفي المقام اتجاهان لإثبات دلالة الجمع المعرّف باللاّم على العموم :

الاتجاه الأوّل : أنّ اللاّم الداخلة على الجمع قد وضعت لإفادة العموم مباشرة وابتداء ، أي دون الحاجة في استظهار العموم منها إلى قرينة الحكمة مثلا أو غيرها من القرائن ، وإذا كان كذلك ففي كلّ مورد تدخل اللاّم على الطبيعة المتهيّئة بهيئة الجمع تنشأ دلالة على العموم ، وإنّ الحكم المجعول على مادّة الجمع يستوعب كل أفراد المادّة.

ويمكن النقض على هذا الاتجاه بحالات استعمال اللاّم الداخلة على الجمع في العهد ، فإنّه في مثل هذه الحالة لا تكون اللاّم دالّة على استيعاب كل أفراد الطبيعة المدخولة لها ، إذ أنّ أقصى ما تدلّ عليه اللاّم في مثل هذه الحالة هو استيعاب الأفراد المعهودة فحسب ، فمثلا لو قال المتكلّم « أكرم العلماء » وقامت القرينة على أنّ اللاّم في هذا الاستعمال هي لام العهد الحضوري مثلا ، فإنّ اللام في مثل هذه الحالة لا تفيد أكثر من استيعاب الحكم للأفراد المعهودة من الطبيعة عند المخاطب.

ومن هنا لا بدّ ـ بناء على هذا الاتجاه ـ من الالتزام بأحد لازمين أو التنازل عن هذا الاتّجاه.

وهذان اللازمان هما : إما أن يلتزم بمجازيّة استعمال اللام في العهد ، وإما أن يلتزم بكون اللام مشتركا لفظيّا ، فتكون قد وضعت لإفادة الاستيعاب والشمول لتمام أفراد مدخولها ، ووضعت بوضع ثان ـ في

٢٨٥

حالات العهد ـ لإفادة الاستيعاب لخصوص الأفراد المعهودة من الطبيعة.

وكلا هذين اللازمين لا يمكن الالتزام بهما لمنافاتهما مع ما هو مقتضى المتفاهم العرفي ، فإنّهم لا يرون أيّ تجوّز في استعمال اللاّم في العهد كما أنهم لا يرون أنّ للام الجمع معنيين ووضعين.

إذن فالوجدان العرفي قاض بوجود معنى واحد للام الجمع في تمام حالات استعمالها.

وبهذا يتّضح فساد هذا الاتّجاه.

الاتجاه الثاني : أنّ اللاّم الداخلة على الجمع وضعت للإشارة لما هو المتعيّن من مدخولها ، فاللام هنا هي نفس لام التعريف الداخلة على اسم الجنس ، ولمّا كانت لام التعريف بأنحائها الأربعة موضوعة للإشارة إلى ما هو المتعيّن من مدخولها ، فكذلك اللاّم الداخلة على الجمع ، فدور اللاّم دور اسم الإشارة وحيث إنّ اسم الإشارة يشير ويوجّه المخاطب إلى ما هو المعهود والمعروف عنده في مرحلة سابقة على الاستعمال نتيجة ملابسات وعوامل أوجبت معروفيّة ذلك الشيء عنده ، فكذلك لام التعريف سواء الداخل منها على اسم الجنس أو الجمع ، فحينما نقول « هذا أسد » و « هؤلاء علماء » فإنّ اسم الإشارة في الحالتين يوجّهان المخاطب إلى ما هو المعهود والمتعيّن عنده من معنى الأسد ومعنى العلماء ، فكذلك لام التعريف الداخلة على اسم الجنس وهيئة الجمع ، غاية ما في الأمر أنّ لام التعريف الداخلة على اسم الجنس تشير إلى ما هو المتعيّن في الذهن نتيجة أحد المناشئ المذكورة في محلّها ، أما لام التعريف الداخلة على الجمع فتشير إلى ما هو المتعيّن في الخارج من مراتب الجمع ، إذ أنّ المتعيّن من مراتب الجمع

٢٨٦

وإن أمكن تصوّره في مقام الواقع إلاّ أنه غير مراد حتما في مقام الاستعمال ، إذ أنّ للجمع تعيّن في مقام الواقع والذهن عند المتكلّم ، ولكن لا سبيل إلى معرفته ما لم تقم قرينة خاصّة عليه ، وقيام القرينة الخاصّة عليه خارج عن محلّ البحث.

وبعبارة أخرى : إنّ المتعيّن من مراتب الجمع في مقام الواقع هو إمّا مرتبة الثلاثة أو الأربعة وهكذا ، ولكن هذا لا يعني تعيّنه في مقام الخارج وعند المخاطب ، إذ أنّه من أين له معرفة ما هو المراد في مقام الاستعمال من هذه المراتب ، وهذا بخلاف المرتبة الأخيرة للجمع والتي تقتضي الاستيعاب لتمام أفراد مدخول اللاّم فإنها هي المتعيّنة في مقام الاستعمال إذ أنها هي التي تنطبق على تمام المراتب ولا يكون أيّ تردد فيها إذ أنّها لو لم تكن هي المرادة لكان المخاطب متردّدا في استظهار ما هي المراتب المرادة من الجمع هل هي مرتبة الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة؟ وهكذا ، وهذا التردد ينافي كون اللام قد وضعت للإشارة والتوجيه إلى ما هو المتعيّن والمعهود عند المخاطب إذ أنّه كيف يكون تعين ومعهودية والحال أنّ المخاطب متردد في أيّ المراتب هي المرادة من الجمع المدخول للاّم.

ومن هنا يتّضح أن اللاّم لا تدلّ مباشرة على الاستيعاب لتمام أفراد مدخولها ، بل إنها تدل عليه بواسطة أنّ التعين الذي تشير إليه اللام لا يمكن أن يكون إلاّ المرتبة الأخيرة من الجمع القاضية بإرادة تمام أفراد الطبيعة.

وبما ذكرناه تعرف فساد ما أفاده صاحب الكفاية رحمه‌الله في مقام الردّ على هذا الاتجاه ، حيث ذكر رحمه‌الله أنّ الإشارة إلى المتعيّن الذي ادّعي دلالة اللام عليه لا تقتضي المرتبة الأخيرة إذ من الممكن أن تكون اللام مشيرة

٢٨٧

إلى ما هو المتعيّن من المراتب الأخرى للجمع إذ أنّ التعيّن والمعهوديّة موجودة في تمام المراتب للجمع.

وبعبارة أخرى : إنّ ذهن المخاطب يحتفظ برؤية متكاملة عن مرتبة الثلاثة مثلا من حيث عدد وحدات هذه المرتبة وموقعها بين المراتب وما هو حقيقة هذه المرتبة ، وهكذا سائر المراتب للجمع.

وأنت خبير أنّ هذا ليس هو مقصودنا من التعيّن الذي تشير إليه لام التعريف الداخلة على الجمع ، إذ أن مقصودنا هو التعيّن في مقام الاستعمال والذي هو تحديد ما هي الأفراد المشمولة للجمع وما هي الأفراد الخارجة ، ومن الواضح أنّ أيّ مرتبة من مراتب الجمع غير المرتبة الأخيرة لا تتمكّن من تحديد ذلك ؛ إذ أن التردد فيما هو المراد وما هي الأفراد المشمولة للجمع يبقى على حاله ، وهذا بخلاف المرتبة الأخيرة فإنّها إذا كانت هي المشار إليها بلام التعريف فإنّها كفيلة برفع التردد وموجبة لتحديد ما هو المراد.

وهذا هو المناسب للام التعريف بعد أن قلنا إنها موضوعة للإشارة إلى ما هو معهود ومتعيّن عند المخاطب.

٢٨٨

المفاهيم

تعريف المفهوم :

عرّف المفهوم بأنّه انتفاء وانعدام سنخ الحكم وطبيعيّه بانتفاء قيده المذكور في المنطوق.

وهذا التعريف يستوجب بيان أمور :

الأمر الأوّل : إنّ المراد من المنطوق هو المدلول المطابقي للكلام بحيث تكون دلالة الكلام مستفادة من نفس الملفوظ بمواده وهيئاته التركيبيّة ، فحينما يقال ( زيد عالم ) فإن لهذه الجملة مدلولا مطابقيّا وهو ثبوت العالمية لزيد ، وهذا المدلول استفيد من نفس مواد هذه الجملة وهيئاتها التركيبيّة وليس هناك دالّ على ثبوت العالميّة لزيد غير ما نطق به من ألفاظ بهذا الترتيب الخاص.

ومع اتضاح معنى المنطوق يتّضح أنّ كلّ دلالة تستفاد في عرض هذا المدلول أو في طولها فهي ليست من المنطوق ويطلق المناطقة على مثل هذه المدلولات المدلولات الالتزاميّة.

الأمر الثاني : إنّ المراد من طبيعي الحكم هو الحكم الكلّي الجامع لأفراده والذي يكون في موقع الحقيقة المشتركة بينها فهو بمثابة اسم الجنس الصادق على أفراده صدق الكلي على مصاديقه ، فكما أنّ انتفاء طبيعي

٢٨٩

الأسد يقتضي انتفاء وانعدام جميع أفراده ، فكذلك انتفاء طبيعي الحكم يقتضي انتفاء جميع أفراده.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ الأحكام حقائق متباينة ، كلّ حكم يمثّل نوعا له حدوده المانعة عن تداخله مع غيره ، فالوجوب حقيقة وطبيعة متباينة تمام التباين مع حقيقة الحرمة وهكذا سائر الأحكام ، وإذا كان كذلك فالحكم حقيقة كلّية يكون لها أفراد متسانخة ومتماثلة من حيث اشتراكها في حقيقة واحدة وإن كان كلّ فرد منها له مشخّصاته الخاصة به ، فوجوب الإكرام بملاك الفقر غير وجوب الإكرام بملاك العلم ، ووجوبه بملاك العلم غير وجوبه بملاك القرابة ، إلاّ أنّ هذه الوجوبات الشخصيّة تشترك في حقيقة واحدة هذه الحقيقة هي المعبّر عنها بطبيعي الوجوب ، فلذلك يكون الفرق بين شخصي الوجوب وبين طبيعيه هو أنّ انتفاء شخص الوجوب لا يقتضي انتفاء فرد آخر للوجوب ، فحينما ينتفي وجوب الإكرام بملاك القرابة لا يكون ذلك مقتضيا لانتفاء وجوب الإكرام بملاك الفقر ، وهذا بخلاف انتفاء طبيعي الوجوب فإنّ ذلك يقتضي انعدام الوجوب بتمام أفراده وأشخاصه ؛ لأن الطبيعي لا ينتفي إلا عند انتفاء تمام أفراده ، فإذا قام الدليل على انتفاء الطبيعي فهذا يكشف عن انتفاء تمام أفراده.

الأمر الثالث : المراد من المفهوم في المتفاهم العرفي هو مطلق المدلول المنطبع في الذهن بقطع النظر عن منشئه إذ قد يكون المنشأ هو الأوضاع اللغوية وقد يكون المنشأ هو الإشارة وقد يكون المنشأ هو الملازمات العقلية أو العادية أو الطبعية للفظ ، وقد تكون المشاهد الخارجية التي تقع تحت الحواس وقد يكون منشأ ذلك هو التصوّرات النفسانية وقد يكون

٢٩٠

غير ذلك ، فمثلا قوله تعالى : ( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ) (١) الظاهر أن الوسيلة التي فهّم بها سليمان عليه‌السلام هي الوحي.

إذن المفهوم بحسب استعمال أهل المحاورة هو مطلق المداليل والمعاني المستفادة من دوالّها ، ويبدو أنّ هذا المعنى بسعته للمفهوم هو المستعمل عند أهل المعقول ، ولذلك قال الحكيم السبزواري في مقام بيان ما هو المراد من الوجود :

مفهومه من أوضح الأشياء

وكنهه في غاية الخفاء

الأمر الرابع : المدلول الالتزامي اللفظي هو المعنى الخارج عن اللفظ اللازم له ، وهذه الملازمة بين المدلول اللفظي والمدلول الالتزامي تنشأ عن علاقة واقتران بينهما في الذهن نتيجة ملابسات خاصة من قبيل تلازمهما في الواقع الخارجي أو يكون التلازم الذهني ناشئ عن علاقة يختلقها المتكلّم عن طريق استعمال أدوات لغويّة وضعت لإفادة الربط بين المعاني ، ولمّا كانت طبيعة العلاقة ـ بين كل ملزوم ولازمه ـ هو ثبوت اللازم عند ثبوت الملزوم وانتفاء اللازم عند انتفاء الملزوم ، فهذا يعني أنّ العلاقة التلازميّة التي اختلقها المتكلّم بواسطة أدوات الربط أراد منها الربط بين المعنيين في حالات الوجود والعدم.

ويمكن التمثيل لذلك بالجمل الشرطيّة التي وضعت لإفادة التلازم بين المشروط وشرطه في الوجود والعدم ، فتكون أداة الشرط مفيدة لثبوت المشروط ( اللازم ) عند ثبوت شرطه ( الملزوم ) وانتفاء المشروط عند انتفاء

__________________

(١) سورة الأنبياء : آية ٧٩

٢٩١

شرطه.

ومع اتّضاح هذه الأمور الأربعة نصل لبيان تعريف المفهوم في مصطلح الأصوليّين ، فنقول : إنّ المفهوم عندهم لا يباين المفهوم في المتفاهم العرفي ولكنّه أخصّ منه إذ أنّ المفهوم في مصطلح الأصوليّين يعني المدلول المستفاد من دالّ خاصّ ، إذ أنّه يعني المدلول المستفاد عن الربط بين الحكم المذكور في المنطوق وبين حالة خاصة للموضوع المذكور أيضا في المنطوق ، فإنّ هذا الربط المختلق ـ بواسطة أدواته الموضوعة لذلك ـ ينشأ علاقة تلازميّة بين الحكم المذكور في المنطوق وبين موضوعه المتحيّث بحيثيّة خاصة ، ومع تحقق الملازمة بينهما فهذا يقتضي انتفاء الحكم الملزوم بانتفاء هذه الحيثيّة ، وهذا الانتفاء عند الانتفاء هو المدلول الالتزامي وهو المفهوم باصطلاح الأصوليّين.

وهنا خصوصيّة إضافيّة مأخوذة في تعريف المفهوم عندهم ، وهذه الخصوصيّة هي أنّ المفهوم لا يتحقّق إلاّ بانتفاء طبيعي الحكم بانتفاء ما أخذ في الموضوع ، أمّا إذا كان المنتفي هو شخص الحكم ، فهذا لا يسمّى مفهوما عندهم.

وبما بيّناه يتّضح أنّ المفهوم يتحدّد بمجموعة أمور :

الأوّل : أنّه مدلول التزامي لفظي ، وبهذا الحدّ يخرج المنطوق ويخرج المدلول الالتزامي غير اللفظي.

الثاني : إنّ هذا المدلول هو انتفاء الحكم المذكور في المنطوق بانتفاء قيده ، وبهذا يخرج المدلول الالتزامي الذي لا يتوقّف على انتفاء الحكم المذكور في المنطوق ، مثلا إذن المالك لشخص بالمكث في داره يلازم الإذن

٢٩٢

له بدخول بيت الخلاء ، فإنّ المدلول الالتزامي في المثال لا يعني انتفاء الإذن بالمكث في الدار ، وهذا بخلاف المفهوم المبحوث عنه في المقام فإنّه يعني انتفاء الحكم المذكور في المنطوق ، مثلا لو قال المتكلّم « إذا جاء زيد فأكرمه » فإنّ المدلول الالتزامي لهذه الجملة هو انتفاء وجوب الإكرام بانتفاء مجيء زيد ، فنلاحظ أن المدلول الالتزامي في المثال هو عبارة عن انتفاء الحكم في المنطوق ، وهذا هو المبحوث عنه في المقام.

الثالث : أن يكون المنفي عند انتفاء القيد المذكور هو طبيعي الحكم إذ قد يكون المنفي عند انتفاء الموضوع ( القيد ) هو شخص الحكم وذلك بواسطة قاعدة احترازيّة القيود.

فحينما يقال « أكرم زيدا الفقير » ، فإنّ انتفاء الفقر عن زيد وإن كان يوجب انتفاء الحكم وهو وجوب الإكرام إلاّ أنّ هذا المنفي إذا كان هو شخص الوجوب فإنّ هذا لا يقتضي انتفاء شخص آخر للوجوب بملاك القرابة أو العلم ، وهذا الانتفاء لشخص الحكم إنما نشأ عن قاعدة احترازيّة القيود والتي تعني تبعيّة الحكم لقيوده ، وهذا المقدار لا يحقق المفهوم إذ أنّ المنفي في المفهوم هو طبيعي الحكم ، وهذا يستدعي وجود خصوصيّة إضافيّة للربط بين الحكم في المنطوق وبين قيوده المأخوذة في المنطوق أيضا.

وهذا ما سنبحث عنه في ضابطة المفهوم.

قوله رحمه‌الله : « تطبيقا لقاعدة احترازيّة القيود » ، والتي تقتضي انتفاء المقيد عند انتفاء قيده ، ومنشؤها أنّ القيد بمثابة الموضوع ، والأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما ، فمتى ما انتفى الموضوع ( القيد ) انتفى بتبعه الحكم

٢٩٣

المجعول عليه ، فالمتكلّم حينما جعل الحكم منوطا بقيده فهذا يكشف عن أنّه أراد أن يكون القيد هو مدار وجود الحكم وانتفائه.

ضابطة المفهوم :

ولكي يكون المفهوم بحدوده متحقّقا لا بدّ أن يكون المنطوق متوفّرا على ركنين أساسيّين :

الركن الأوّل : أن يكون القيد المرتبط بالحكم في المنطوق علّة منحصرة للحكم بحيث لا يقوم شيء مقام القيد لتحقيق الحكم.

وبعبارة أخرى : لا بدّ أن تكون الجملة متهيّئة بهيئة يستظهر منها العرف كون الربط بين الحكم وقيده ربطا عليّا انحصاريّا بحيث ينفهم منها انتفاء الحكم المقيّد عند انتفاء قيده المأخوذ في المنطوق.

ومن الواضح أن انتفاء الحكم بانتفاء قيده يتقوّم بثلاث ركائز :

الأولى : وجود ملازمة بين الحكم وقيده.

الثانية : أن تكون هذه الملازمة بنحو العلّيّة.

الثالثة : أن تكون علّيّة القيد للحكم علّية انحصارية ، إذ لو لم تكن انحصاريّة لأمكن أن ينتفي القيد ولا ينتفي معه الحكم لجواز أن يكون للحكم علّة أخرى.

الركن الثاني : أن يكون الربط في المنطوق بين كلّيّ الحكم وطبيعيّه وبين القيد إذ لو كان الربط بين شخص الحكم والقيد لكان ذلك يقتضي انتفاء شخص الحكم بانتفاء قيده ، وهذا ليس من المفهوم المبحوث عنه.

وبعبارة أخرى : لا بدّ من أن تكون الجملة التي لها مفهوم ظاهرة في

٢٩٤

أنّ الربط فيها إنما هو بين طبيعي الحكم وبين القيد حتى يكون انتفاء القيد مقتضيا لانتفاء طبيعي الحكم ؛ لأن هذا هو مقتضى الربط الواقع في المنطوق.

ومع توفّر هذين الركنين في أيّ جملة من الجمل يثبت المفهوم لتلك الجملة.

الإشكال على الركن الأوّل : وقد أورد المصنّف رحمه‌الله على الركن الأوّل إيرادين :

الإيراد الأول : ذكرنا في الركن الأول أنّ القيد المرتبط بالحكم لا بدّ من أن يكون علّة للحكم ، وهذا غير لازم في تحقق المفهوم ، إذ المفهوم يمكن أن يتحقّق لو كان القيد جزء علّة للحكم إذا كان جزء علّة منحصرة ، مثلا لو قال المتكلّم « إذا جاء زيد راكبا فأكرمه » فإنّ ظاهر الجملة أنّ العلّة لوجوب الإكرام مركّبة من جزءين ، الأول المجيء ، والثاني كون المجيء بهيئة الركوب ، فلو انتفى أحد الجزءين فإن هذا ينتج انتفاء الحكم ؛ وذلك لأن المنتفي هو جزء العلّة المنحصرة ، وهذا يكشف عن أنّ المنشأ لتحقق المفهوم هو انحصار تحقق الحكم بقيده سواء كان القيد الذي هو العلّة متّحدا أو متعدّدا ، وكذلك يكفي أن يكون أحد جزءي العلّة منحصرا وإن كان الجزء الآخر من قبيل جزء العلّة ذات البديل ، ففي مثالنا السابق لو استظهرنا أن الركوب جزء علّة لوجوب الإكرام ولكن بنحو جزء العلّة ذات البديل بحيث يمكن استبدالها بجزء علّة أخرى ولكنّ الجزء الآخر للعلّة وهو المجيء جزء علّة منحصرة أي لا يقوم مقامها شيء آخر فإنّ ذلك يكفي في تحقق المفهوم لهذه الجملة ، أي إذا افترضنا انتفاء جزء العلّة

٢٩٥

المنحصر.

فهنا إذن معنيان للعلّة المنحصرة : الأولى : هي ما يقابل العلّة المركّبة من أجزاء متعدّدة كلّ جزء منها يمثّل جزء علّة ، الثانية : هي ما يقابل العلّة ذات البديل.

فالمعنى الأول هو عبارة عن العلّة البسيطة أي غير المركّبة من أجزاء.

المعنى الثاني : هي عبارة عن العلّة التي لا يقوم مقامها علّة أخرى في تحقيق المعلول فهي في مقابل العلّة ذات البديل وهي التي يمكن أن يقوم مقامها علّة أخرى لتحقيق نفس المعلول.

والذي يظهر من عبارة المصنّف رحمه‌الله أنّ الذي هو ليس أساسيّا في تحقق المفهوم هو المعنى الأول للعلّة المنحصرة إذ أنّه يمكن أن تكون العلّة مركّبة ولكنها إذا كانت منحصرة بالمعنى الثاني فهذا يكفي في تحقق المفهوم ، فالعبرة في تحقق المفهوم هو ألا تكون العلّة للحكم ذات بديل ، إلا أنه يمكن أن يكون المصنّف رحمه‌الله مريدا لصورة أخرى بالإضافة إلى ما ذكرنا وهو أنه لو كانت العلّة مركّبة وكان أحد أجزائها من قبيل العلّة ذات البديل فإنّ ذلك لا يضرّ في تحقق المفهوم إذا كان الجزء الآخر من قبيل العلّة المنحصرة بالمعنى الثاني ، إذ أنّ الانحصار المحقّق للمفهوم هو الانحصار بالمعنى الثاني ولو في جزء العلّة.

الإيراد الثاني : إن أصل العلّيّة غير معتبر في تحقق المفهوم ، إذ يكفي في تحقق المفهوم كون الحكم مرتبطا بالقيد ارتباطا وثيقا بحيث يكون ذلك الحكم متوقّفا على القيد توقّف اللازم على ملزومه إذ أن التوقف والتلازم بين الشيئين لا يقتضي أن العلاقة بينهما علاقة العلّية دائما ، فقد تكون العلاقة

٢٩٦

بين المتلازمين ناشئة عن كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، وقد تكون ناشئة عن تلازم علّتين في الوجود والعدم ينتجان معلولين يكون بينهما تلازم في الوجود والعدم أي كلّما أوجبت العلّة الأولى معلولها أوجبت العلة الأخرى معلولها ، وهذا ينتج التلازم بين المعلول الأول والمعلول الثاني.

ومثال الأول : التلازم بين الحرارة والإحراق رغم عدم وجود أي علّية بينهما بل إن كلاهما معلولان لعلّة واحدة هي النار.

ومثال الثاني : سقوط قرص الشمس وبروز القمر في الليالي المقمرة فإنّهما علّتان متلازمتان وجودا وعدما وينتجان معلولين متلازمين في الوجود والعدم وهما ذهاب النهار وضوء القمر.

ومن هنا قلنا إن الربط الذي تحدثه الجملة لا يستوجب أن يكون بنحو العلّية بل يكفي في هذا الربط أن يكون موجبا للتلازم بين الحكم وقيده.

بل إنّ التلازم بين الحكم وقيده غير ضروري في تحقق المفهوم إذ أنّه يكفي في تحقق المفهوم للجملة هو إفادتها توقف الحكم على قيده ولو اتفاقا ، أي ولو لم يكن بين الحكم وقيده تلازم واقعي ، إذ أن المناط في تحقق المفهوم هو استفادة التوقّف والتلازم من حاقّ المنطوق بقطع النظر عن واقع العلاقة بين الحكم وقيده ، فلو قلنا إن مجيء زيد متوقّف على مجيء عمرو دون أن يكون لذلك التوقّف أي سبب ، لكانت هذه الجملة مفيدة لانتفاء مجيء زيد عند انتفاء مجيء عمرو.

وبهذا يتّضح أن التلازم الواقعي بين الحكم وقيده وإن كان يوجب تحقق المفهوم إلا أن ذلك ليس هو المناط في تحقق المفهوم بل إن المفهوم

٢٩٧

يتحقق بأقلّ من ذلك ، إذ يكفي فى تحقق المفهوم أن يكون الربط بين الحكم وقيده بنحو يكون الحكم متوقّفا على قيده ولو اتفاقا.

قوله رحمه‌الله : « ملتصقا بالشرط ومتوقّفا عليه » الواو هنا عطف تفسير ، فالتوقّف والالتصاق يعبّران عن معنى واحد وهو حالة التلازم ولو كان ذلك التلازم مختلقا ومعتبرا بواسطة الجملة وليس وراءه واقع أو ليس في الجملة ما يدل على عليّة أحدهما للآخر بنحو العليّة الانحصاريّة.

« مفهوم الشرط »

وبعد أن اتضح ما هو المراد من المفهوم وما هي ضابطته يقع الكلام حول بعض الجمل التي ادعي دلالتها على المفهوم.

ولا بدّ أن يكون مسار البحث هو عن توفّر هذه الجمل على ضابطة المفهوم وعدم توفّرها عليها.

ونبدأ أولا بالجملة الشرطية والتي علّقت فيها قضية حمليّة على قضية حمليّة أخرى بطريقة خاصّة اقتضت انفهام التعليق عرفا ، ولذا لم يقع الإشكال في دلالة الجملة الشرطية على الربط والتعليق ، نعم وقع الكلام في ما هو الدال على الربط والتعليق فيها.

وقد ذكر المصنّف رحمه‌الله في ذلك اتجاهين :

الاتّجاه الأول : هو أن الدال على الربط بين الشرط والجزاء هو أداة الشرط ، مثلا « إذا جاء زيد فأكرمه » هذه الجملة الشرطية دلّت على ربط وجوب الإكرام بنحو التعليق على مجيء زيد ، وهذا التعليق والربط بين

٢٩٨

الشرط « وهو مجيء زيد » والجزاء « وهو وجوب الإكرام » استفيد من أداة الشرط وهي « إذا » في هذه الجملة إذ وضعت لإفادة هذا النحو من الربط.

وهذا هو الاتّجاه المعروف.

الاتجاه الثاني : وهو الذي تبناه المحقق الأصفهاني رحمه‌الله ، وحاصله :

إن الدال على الربط بنحو التعليق بين الشرط والجزاء هو هيئة الجملة الشرطية حيث إنها وبهذه الكيفية الخاصة التي رتّب فيها الجزاء على الشرط مفيدة للنسبة الربطيّة التعليقيّة بين ركني الجملة وهما الشرط والجزاء ، وليس لأداة الشرط دلالة على الربط والتعليق بل إنها وضعت للدلالة على أن الشرط الذي هو مدخولها قد لوحظ مقدر الوجود وليس لمنشأ الجملة أيّ تصد لإحرازه خارجا بل إنّه افترضه افتراضا وعلّق عليه الجزاء بنحو القضية الحقيقية فأداة الشرط ليس لها دور إلا دور الدلالة على أنّ الجمل الشرطية مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة.

وكيف كان فالاتّجاهان متّفقان على دلالة الجملة الشرطية على الربط والتعليق ، إلاّ أنّ هذا المقدار غير كاف لإثبات المفهوم للجملة الشرطية بل لا بدّ من إثبات أنّ الجملة الشرطية متوفّرة على ضابطة المفهوم.

ومن هنا يقع البحث في الجملة الشرطية عن جهتين :

الجهة الأولى : أن الحكم المعلّق على الشرط هل هو طبيعي الحكم أو شخص الحكم؟ ولا بدّ من إثبات أن المعلّق على الشرط هو الطبيعي وإلا لم تكن الجملة دالّة على المفهوم.

وقد قرّبت دعوى كون المعلّق على الشرط هو الطبيعي بهذا

٢٩٩

التقريب ، وهو : أنّ مقتضى الإطلاق في الجزاء المعلّق على الشرط هو أن المعلّق طبيعي الحكم إذ لو كان المعلّق هو فرد خاص من الحكم لكان على المتكلّم أن يأتي بالقيد الدال على الحكم الخاص ، فعدم ذكر القيد ـ رغم أنّه في مقام بيان ما هو المعلّق على الشرط ـ كاشف عن عدم إرادة أي قيد في الحكم ، وهذا يقتضي إرادة طبيعي الحكم ، مثلا قول الإمام عليه‌السلام : « إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين » (١) أي صلاة الظهر وصلاة العصر ، فالإمام عليه‌السلام قد علّق وجوب الصلاتين على زوال الشمس ، والسؤال هو أنّ الوجوب الثابت للصلاتين هل هو طبيعي الوجوب أو شخص الوجوب بحيث يمكن أن تجب صلاة الظهر ، وكذلك العصر بموجب آخر غير زوال الشمس ، والجواب أنّ مقتضى الإطلاق وقرينة الحكمة أنّ المعلّق على زوال الشمس هو طبيعي الوجوب بحيث إذا انتفى الزوال تنتفي تمام أفراد الوجوب للصلاتين ، فلا موجب آخر لأيّ فرد من أفراد الوجوب ؛ وذلك لأنه لو كان المعلّق على الزوال هو فرد خاص من وجوب الصلاتين لكان على الإمام عليه‌السلام أن يذكر القيد الدالّ على ذلك ، إذ أنّ الإمام في مقام بيان ما هو المعلّق على الزوال فلمّا لم يذكر ما يدل على إرادة الفرد الخاص للوجوب كشف ذلك عن عدم إرادة القيد ، وهذا يعني إرادة طبيعي الوجوب للصلاتين.

وبهذا البيان اتّضح توفّر الجملة الشرطية على الركن الأول للمفهوم.

__________________

(١) معتبرة عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وسائل الشيعة : الباب ٤ من أبواب المواقيت الحديث ٢١

٣٠٠