شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

عن الطلب.

وأمّا الأوامر الإرشاديّة : فهي ما يكون مدلولها حكما عقليّا أو حكما شرعيّا وضعيّا.

وتوضيح ذلك : أنّ الأمر سواء المدلول عليه بالصيغة أو بالمادّة ظاهر ـ كما قلنا ـ في الوجوب أي ظاهر في الأمر المولوي إلاّ أنّه قد تقوم قرينة تصرف هذا الظهور إلى مدلول آخر تبعا للقرينة. فمن الموارد التي استعمل فيها في غير الأوامر المولويّة الوجوبيّة هو هذا المورد الذي نحن بصدد الحديث عنه ، وهو : ( الأوامر الإرشادية ) وهي التي لا يكون متعلقها مبعوثا نحوه ومطلوبا من المكلّف تحصيله ، وإذا كان فيه طلب فهو ليس من مقتضيات نفس الأمر الإرشادي ؛ إذ الأمر الإرشادي لا يبعث بنفسه نحو متعلّقه.

وبتعبير آخر : الأمر الإرشادي دوره دور الكاشف وليس له دور البعث نحو متعلّق الأمر كما في الأوامر المولويّة.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ الأوامر الإرشاديّة يمكن تقسيمها إلى قسمين :

القسم الأول : ما يكون فيه الأمر كاشفا عن مدرك من المدركات العقليّة ، أو قل عن حكم من الأحكام العقليّة والتي يكون لها تقرر وثبوت في مرحلة سابقة على صدور الأمر ويكون دور الأمر الإرشادي فيها دور المنبّه والمرشد إلى الحكم العقلي وبالتالي يكون المطلوب في مثل هذه الأوامر ليس مطلوبا مولويّا بل هو مطلوب يقتضيه العقل ، وذلك كقوله تعالى :

٢٢١

( وَأَطِيعُوا اللهَ ) (١) ، فإنّ صيغة الأمر هنا استعملت في الأمر الإرشادي ، والذي صرف ظهور هذه الصيغة عن الأمر المولوي الوجوبي هو وجود قرينة عقليّة تمنع من هذا الظهور بل وتكوّن ظهورا آخر وهو الظهور في الإرشاديّة ، وهذه القرينة هي حكم العقل باستحالة أن يكون هذا الأمر مولويّا إذ لو كانت طاعة الله عزّ وجلّ مستندة إلى أمر الله جلّ وعلا لكنّا قد احتجنا إلى أمر يبعثنا نحو طاعة أمر الله الذي يقتضي طاعة الله.

وهكذا الكلام في هذا الأمر الأخير ، فإما أن يدور أو يتسلسل وكلاهما مستحيل ، أما إذا استندت طاعة الله عزّ وجلّ إلى ما يقتضيه العقل من لزوم طاعة المولى جلّ وعلا انتفى كلا المحذورين ، وهذه القرينة هي التي صرفت صيغة الأمر عن ظهورها في الوجوب وكوّنت ظهورا جديدا للأمر وهو الإرشاديّة ، فالمراد من الإرشاديّة إذن في المقام هو التنبيه على ما يحكم به العقل من لزوم طاعة المولى جلّ وعلا ، إذن الأمر الإرشادي لا يبعث بنفسه نحو متعلّقه.

القسم الثاني : ـ من الأوامر الإرشاديّة ـ ما يكون مدلوله حكما وضعيّا ـ وقد قلنا ـ إن الأحكام الوضعيّة هي مجعولات شرعيّة لا تتّصل بفعل المكلّف مباشرة أي أنها ليست حكما تكليفيّا مجعولا على عهدة المكلّف بحيث يكون المكلف مبعوثا نحوها ومطلوبا منه إيجادها ، نعم قد تكون موضوعا لحكم تكليفي ـ كما بيّنّا ذلك في محلّه ـ ، والأحكام الوضعيّة هي مثل الطهارة والنجاسة والملكية والصحة والفساد لأن هذه المجعولات

__________________

(١) سورة التغابن : آية ١٢

٢٢٢

الشرعيّة لا يكون المكلّف مسؤولا عن تحصيلها ، ولهذا لو صدر أمر وكان متعلّقه أحد هذه المجعولات الشرعيّة فإنّ هذا الأمر يكون إرشاديّا ، والقرينة على إرشاديّته هي معرفة عدم مطلوبيّته بنفسه من المكلّف ، فلو قال المولى « طهّر ثوبك من الدم بالماء » فإنّ هذا الأمر ليس ظاهرا في الوجوب وذلك لوجود قرينة صارفة عن ظهور هذا الأمر في الوجوب ، وهذه القرينة هي أنّ متعلّق الأمر وهو الطهارة ليس مطلوبا من المكلّف تحصيله إذ أن للمكلّف أن لا يطهّر الثوب عن الدم ولا يكون بذلك قد خالف أمر المولى ، إذن يكون هذا الأمر مرشدا إلى حكم وضعي وهو أنّ الدم من النجاسات وأنّ الماء من المطهّرات.

دلالات أخرى للأمر :

والكلام عنها يقع في مباحث :

المبحث الأول : الأمر بعد الحظر أو بعد توهّم الحظر :

إذا ورد أمر بفعل من الأفعال وقد كان هذا الفعل ممنوعا عنه في مرحلة سابقة أو كان متوهّم المنع فقد وقع الكلام في احتفاظ هذا الأمر بدلالته على الوجوب أو أنّ وروده بعد الحظر أو بعد توهّم الحظر قرينة عامّة على انهدام الظهور في الوجوب.

وقبل بيان ما هو الصحيح في ذلك نمثّل لكلا الموردين حتى يكون البحث أكثر وضوحا.

أما المورد الأول : ـ وهو ورود الأمر بعد الحظر ـ فيمكن أن يمثّل له

٢٢٣

بقوله تعالى : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) (١) فان الأمر بالاصطياد ورد بعد المنع عنه بقوله تعالى : ( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) (٢) وهذا المثال وإن لم يكن دقيقا ـ إذ أن موضوع الحكمين مختلف ـ إلا أنه يصلح للتوضيح من حيث إن الأمر بالاصطياد وقع بعد المنع عنه.

المورد الثاني : ـ ورود الأمر بعد توهّم الحظر ـ ويمكن أن يمثّل له برواية يونس بن يعقوب ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يريد أن يتزوّج المرأة وأحبّ أن ينظر إليها ، قال عليه‌السلام : « تحتجز ثم لتقعد وليدخل فلينظر » (٣) فإن الأمر بالنظر إلى المرأة قبل الزواج ورد بعد توهّم السائل الحظر والمنع عن النظر.

وإذا اتّضح هذا فنقول : إنّ الأمر الوارد بعد الحظر أو بعد توهّم الحظر تارة يلحظ من حيث مدلوله التصوّري وأخرى من حيث المراد الجدّي والمدلول التصديقي.

أمّا من حيث المدلول التصوّري فالصحيح هو عدم تبدل دلالته على النسبة الطلبيّة وذلك لأن المدلول التصوّري يبقى منحفظا حتى في موارد العلم بعدم إرادة المستعمل للمعنى الموضوع له اللفظ ـ كما ذكرنا ذلك فيما سبق ـ فلو قال المتكلّ مثلا : « رأيت أسدا يرمي » فإنّ الأسد هنا لم يرد

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٢

(٢) سورة المائدة : آية ٩٥

(٣) وسائل الشيعة : الباب ٣٦ من أبواب مقدّمات النكاح الحديث ١٠ ، وقد رواها الشيخ في التهذيب بسنده عن علي بن الحسن بن فضال ، فيكون اعتبارها مبنيّا على تماميّة نظريّة التعويض

٢٢٤

المتكلّم منه المعنى الموضوع له لفظ الأسد ، ومع ذلك يبقى لفظ الأسد دالا على معناه الموضوع له ، ولذلك يخطر معناه في ذهن السامع رغم العلم بعدم إرادة المتكلّم للمدلول الوضعي التصوّري.

وأمّا من حيث المدلول الجدّي التصديقي فالصحيح هو انهدام ظهور صيغة الأمر في الوجوب وتبدّله من الظهور إلى الإجمال ، فلا يكون الأمر ظاهرا في الوجوب كما لا يكون ظاهرا في خصوص نفي الحرمة ؛ وذلك لأن ورود الأمر بعد الحظر يصلح أن يكون قرينة على صرف ظهور الأمر في الوجوب كما يصلح أن يكون قرينة على خصوص نفي الحرمة ، نعم لا نحرز قرينيّة الورود بعد الحظر أو بعد توهّمه على صرف الظهور عن الوجوب أو نفي الحرمة.

وفرق بين كون الأمر بعد الحظر قرينة على صرف الظهور عن الوجوب وانعقاد الظهور في نفي الحرمة وبين أن يكون الأمر بعد الحظر صالح للقرينيّة ، فإنّ إحراز القرينيّة يوجب سلب الظهور عن الوجوب وانعقاد الظهور في الاختصاص بنفي الحرمة أما صلوح الأمر بعد الحظر أو توهّمه للقرينيّة فإن غايته إجمال المراد من الأمر ، وهل أنّ هذا الأمر ظاهر في الوجوب أو ظاهر في خصوص نفي الحرمة ، وهذا التردد في المراد من الأمر هو ما يعبّر عنه بالإجمال.

المبحث الثاني : دلالة الأمر الموقّت على لزوم القضاء :

وموضوع البحث في المقام هو أنّ توقيت الواجب بوقت محدد هل هو قرينة عامّة على لزوم القضاء في خارج الوقت فيما لو فات المكلّف امتثال

٢٢٥

الواجب في وقته ، مثلا قوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (١) ، فإنّ هذه الآية الشريفة تدلّ على وجوب إيقاع الصوم في شهر رمضان المبارك ، وهذا لا كلام فيه إنما الكلام في أنّ توقيت الوجوب بشهر رمضان هل يدل على لزوم قضاء هذا الواجب فيما لو فات المكلّف امتثاله في الوقت المعيّن أو لا؟

ومن أجل أن يكون الجواب واضحا نقول : إنّ الأوامر الموقّتة على نحوين :

النحو الأوّل : ما يكون الواجب فيها حصّة خاصّة من الفعل وهو الفعل الكائن في الوقت المعيّن ، وبعبارة أخرى : ما يكون الأمر دالا على مطلوب واحد وهو الفعل المقيّد بالوقت وذلك مثل صلاة الجمعة في قوله تعالى : ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ) (٢) ، فإنّ الأمر بصلاة الجمعة المستفاد من قوله تعالى : ( فَاسْعَوْا ) أمر بحصّة خاصّة من الصلاة وهي الكائنة في يوم الجمعة ، وفي مثل هذا النحو من الأوامر الموقّتة لا يكون التوقيت دالا على لزوم القضاء لو فات المكلّف امتثال المأمور به في وقته ، فعليه يكون ثبوت القضاء على المكلّف يقتضي خطابا آخر من المولى ، إذ لا يكون الخطاب الأول كافيا في ثبوت القضاء في ظرف الفوت ، هذا هو معنى عدم تبعيّة القضاء للأداء.

النحو الثاني : ما يكون مدلولها منحلا إلى أمرين على نحو تعدّد

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٨٥

(٢) سورة الجمعة : آية ٩

٢٢٦

المطلوب ، وذلك بأن يكون الخطاب الدال على الوجوب الموقّت مشتملا على أمرين :

الأول : الأمر بالفعل على سعته ، والثاني هو : لزوم امتثاله في وقت معيّن ، ويمكن التمثيل لذلك بقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ) (١) ، فإنّ الخطاب في هذه الآية يمكن أن يقال إنّه منحلّ إلى أمرين : الأوّل الأمر بذات الصوم ، والثاني الأمر بلزوم امتثاله في الأيام المعدودات ـ شهر رمضان ـ ، وهذا النحو من الأوامر هو محل النزاع في المسألة إذ أنّه هو الذي يمكن أن يقال فيه بأن سقوط الأمر الثاني بفواته أو معصيته لا يقتضي سقوط الأول بل يبقى الخطاب بامتثاله على حاله إذ لا مقتضي لسقوطه وزوال فعليّته ولذلك لا يكون الأمر بالقضاء محتاجا إلى خطاب جديد ، إلاّ أنّ ذلك لا يتم إلا مع قيام القرينة على تعدّد المطلوب وأن خروج الوقت لا يوجب سقوط الأمر عن الفعليّة ، وأمّا مع فقدان القرينة فالظاهر في الأوامر الموقّتة هو وحدة المطلوب إذ أنّ الظاهر من التوقيت هو أخذ الوقت في متعلّق الأمر أي أن المأمور به هو الحصّة المقيّدة بالوقت لا أنّ الحصّة المقيّدة بالوقت هي أكمل الأفراد مثلا ؛ فلذلك تكون مطلوبة لمزية فيها ويكون مطلق الفعل الشامل لهذه الحصّة مطلوبا آخر حتى تكون ثمرة ذلك هو عدم سقوط الأمر بفوات الحصّة الخاصّة.

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٨٣ و ١٨٤

٢٢٧

المبحث الثالث : الأمر بالأمر :

يقع الكلام في هذا المبحث عن أنّ الأمر بالأمر بشيء هل يدلّ على أنّ متعلّق الأمر الثاني مطلوب من المأمور الثاني بحيث يكون مسؤولا عنه ، كما لو كان قد توجّه إليه الأمر مباشرة.

وبتعبير آخر : لو أنّ المولى أمر مكلّفا بأن يأمر مكلّفا آخر بفعل شيء ، فإنّه لا كلام في تنجّز الأمر الأول على المكلّف الأوّل ـ أي أنّ المكلّف الأوّل مسؤول عن امتثال الأمر بالأمر ـ وإنّما الكلام في تنجّز متعلّق الأمر الثاني على المكلّف الثاني.

وهنا ثلاثة احتمالات :

الاحتمال الأوّل : أن يكون المكلّف الثاني مسؤولا عن امتثال الأمر الثاني مطلقا.

الاحتمال الثاني : أن لا يكون المكلّف الثاني مسؤولا عن امتثال الأمر الثاني مطلقا.

الاحتمال الثالث : أن يكون المكلّف الثاني مسؤولا عن امتثال الأمر الثاني فيما لو امتثل المكلّف الأوّل الأمر الأوّل ولا يكون مسؤولا في حالة عدم الامتثال.

ومنشأ الاحتمال الأول : هو استظهار طريقيّة الأمر الأوّل للأمر الثاني ، وأنّ إرادة المولى قد تعلّقت بإيجاد المأمور به الثاني من المكلّف الثاني ، وبهذا لا يكون للأمر الأوّل والمكلّف الأوّل سوى دور الوساطة ، ولو تمّ هذا الاستظهار فإنّه ينتج مسؤولية المكلّف الثاني عن متعلّق الأمر الثاني حتى لو لم يمتثل المكلّف الأول بالأمر الأول.

٢٢٨

مثلا قوله تعالى : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ) (١) ، فإنّ الخطاب هنا موجّه للمكلّف الأوّل بأن يأمر أهله ( المكلّف الثاني ) بالصلاة ، فلو كنّا نبني على الاحتمال الأوّل ، فهذا معناه تنجّز الصلاة على الأهل مطلقا سواء امتثل المكلّف الأول ـ وأمر أهله بالصلاة ـ أو لم يمتثل ، فإنّ الأهل مسؤولون عن الصلاة لو اطّلعوا على أن المولى قد أمر المكلّف الأوّل بأن يأمرهم بالصلاة.

ومنشأ الاحتمال الثاني : هو استظهار اختصاص تعلّق غرض المولى بامتثال المكلّف الأوّل للأمر الأوّل دون أن يكون له أيّ غرض بمتعلّق الأمر الثاني ، بمعنى أن يكون مصبّ الغرض المولوي هو امتثال المكلّف الأوّل للأمر الأوّل.

وهذا ما يتّفق كثيرا عند الموالي العرفيّين كأن يأمر المولى ابنه بأن يأمر العبيد بأمر معيّن ولا يكون للمولى غرض سوى تعليم ابنه طريقة الأمر والنهي.

ولو كان هذا الاستظهار هو المتعيّن فإنّ المكلّف الثاني لا يكون مسؤولا عن متعلّق الأمر الثاني سواء امتثل المكلّف الأول الأمر بالأمر أو لم يمتثل.

ومنشأ الاحتمال الثالث : هو استظهار تعلّق غرض المولى بمتعلّق الأمر الثاني ، إلاّ أنّ تعلّق غرضه بذلك منوط بامتثال المكلّف الأول للأمر بالأمر ، فيكون لامتثال المكلّف الأول موضوعيّة بمعنى أنّ التكليف المتوجّه للمكلّف الثاني رتّب على موضوع مقدّر الوجود وهو امتثال المكلّف الأوّل

__________________

(١) سورة طه : آية ١٣٢

٢٢٩

للأمر بالأمر.

ولو تمّ هذا الاستظهار فمعناه أنّ المكلّف الثاني لا يكون مسؤولا عن امتثال الأمر الثاني إلاّ حين يمتثل المكلّف الأول الأمر الأول.

ويترتّب على نتيجة هذا البحث ثمرات مهمّة في الفقه ، ولعلّ من أهمّها مسألة مشروعيّة عبادات الصبي ، حيث وردت مجموعة من الروايات مفادها أمر الأب أو الولي بأن يأمر الصبي بالصلاة أو الصوم. منها معتبرة الحلبي : « ... فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين » (١) ، ومنها : معتبرة الحلبي : « ... فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم » (٢).

فلو كنّا نستظهر الاحتمال الأول وأنّ الأمر بالأمر يدلّ على مطلوبيّة متعلّق الأمر الثاني من المأمور الثاني فهذا يقتضي البناء على مشروعيّة عبادات الصبي إذ أنّ المأمور به الثاني وهو الصلاة أو الصوم يصبح حينئذ مطلوبا من الصبي ، وطلبه من الصبي يعني مشروعيّته كما هو واضح ، وكذلك لو كنّا نستظهر الاحتمال الثالث ، غايته أنّ فعلية الأمر الثاني تكون منوطة بامتثال الولي الأمر الأوّل.

أمّا لو كنّا نستظهر الاحتمال الثاني وأنّ الأمر بالأمر لا يدلّ على أنّ متعلّق الأمر الثاني مطلوب من المأمور الثاني ، فهذا يقتضي عدم صلاحيّة الأمر بالأمر للدلالة على مشروعيّة عبادات الصبي.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٤ / ١٩ الباب ٣ من أبواب أعداد الفرائض الحديث ٥

(٢) معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، الباب ٢٩ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ٣

٢٣٠

النهي

قلنا إنّ للأمر أسلوبين من الكلام ، الأوّل هو الأمر بواسطة مادّته ، والثاني هو الأمر بواسطة هيئته ، وهذا البيان يجري أيضا في النهي إذ أنّه يتم تارة عن طريق مادّة النهي وتارة بواسطة هيئة النهي.

أمّا النهي بواسطة المادّة فهو يتمّ عن طريق استعمال لفظ النهي في إطار أي هيئة من الهيئات ، وذلك مثل قوله تعالى : ( وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) (١).

وأمّا النهي بواسطة الهيئة فهو يتمّ عن طريق استعمال الفعل المضارع المدخول لـ « لا » الناهية ، وذلك مثل قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٢).

ثم إنّ الكلام في مدلول النهي بإسلوبيه :

وفي المقام ثلاثة اتجاهات في تفسير معنى النهي :

الاتجاه الأول : هو أنّ معنى النهي طلب الترك ، أي أنّ المطلوب في النواهي هو ترك متعلّقاتها ، فلو قال المولى : لا تشرب الخمر ، فإنّ هذا

__________________

(١) سورة النحل : آية ٩٠

(٢) سورة الأنعام : آية ١٥٢ ، سورة الإسراء : آية ٣٤

٢٣١

يعني طلب ترك شرب الخمر ، وبتعبير آخر : هذه الجملة تساوق أن نقول : ( اترك شرب الخمر ).

وباتّضاح هذا يتّضح أنّ متعلّق النهي من سنخ الأمور العدميّة إذ أنّ الامتثال بناء على هذا المعنى يتحقّق بمجرّد عدم ارتكاب الفعل المنهي عنه حتى لو كان عدم الارتكاب ناشئا عن مناشئ قهريّة كما لو قصد شرب الخمر وشرب سائلا باعتقاد أنّه خمر ثم اتّفق عدم خمريّة ذلك السائل فإنّه ـ بناء على هذا القول ـ لا يكون المكلّف عاصيا للنهي المولوي بل هو ممتثل للنهي إذ أنّه ليس أكثر من عدم إيقاع المكلّف المنهي عنه ، ومن الواضح أنه لم يتّفق وقوع الفعل المنهي عنه من المكلّف وإن كان عدم الوقوع نشأ عن أمر قهري.

الاتجاه الثاني : هو أنّ معنى النهي طلب الكفّ عن الفعل المنهي عنه ، والكفّ هو حالة من إعمال النفس وتوطينها وحملها على فعل شيء أو تركه ، وبهذا يكون النهي من سنخ الأمور الوجوديّة ؛ إذ أنّ امتثاله لا يتمّ إلاّ عبر هذه الحالة من التوطين النفساني على الترك ، فإنّ المكلّف إذا أراد أن يمتثل فإنّه لا يكتفي بعدم شرب الخمر ، بل لا بدّ أن يكون عدم الشرب ناشئا عن إعمال النفس.

ومع اتّضاح هذين الاتجاهين في معنى النهي يقع الكلام في الدليل على كل واحد منهما ، وقد استدلّ كلّ واحد من أصحاب هذين الاتجاهين بما يسقط الاتّجاه الآخر ، حيث استدل أصحاب الاتجاه الثاني على فساد الاتجاه الأول بما حاصله :

إنّ الترك لمّا كان من سنخ الأمور العدميّة فهو ثابت من الأزل

٢٣٢

فيستحيل أن يتعلّق به الطلب ؛ إذ أنّ تعلّق الطلب به يكون من تحصيل الحاصل ، أو قل إعدام المعدوم ، فمثلا « لا تشرب الخمر » لو كان المراد منه لزوم إعدام شرب الخمر فإنّ ذلك يعني إعدام ما هو عدم من الأزل وهو مستحيل لعدم القدرة على إعدام ما هو عدم.

ولمزيد من التوضيح نقول : لو أنّ إنسانا لم يشرب الخمر منذ أن ولد إلى أن بلغ وخوطب بالنهي عن شرب الخمر فإنّه لو كان النهي عن شرب الخمر يعني مخاطبة المكلّف بإعدام شرب الخمر فإنّ ذلك ثابت للمكلّف من الأزل إلى أن ولد إلى أن بلغ وخوطب بالنهي عن شرب الخمر ، فتكليفه بإعدام شرب الخمر تكليف بغير المقدور ؛ إذ أنّ التكليف بالمنع عن شرب الخمر ـ بناء على هذا الاتجاه ـ تكليف بإعدام المعدوم إذ كيف يعدم ما هو معدوم والحال أنّه فرع الوجود للشيء الذي يراد إعدامه.

لا يقال : إنّ هذا الإشكال إنّما يتم في فرض المثال وهو عدم شرب المكلّف للخمر من الأزل إلى البلوغ ، أمّا في ظرف شرب المكلّف للخمر قبل البلوغ أو حين البلوغ مثلا لا يكون إعدامه لشرب الخمر من قبيل إعدام المعدوم.

فإنّه يقال : إنّ هذا الكلام لا يتم وعلى فرض تماميّته فإنّه يكفي في التنبيه على فساد هذا المبنى تماميّة الإشكال ولو في مثل ما افترضناه ، إذ أنّه لا يتعقّل وجود معنيين للنهي ، معنى يناسب ما افترضناه في المثال ومعنى آخر هو طلب الترك.

هذا ما استدل به أصحاب الاتجاه الثاني لإثبات مدّعاهم ، وتلاحظون أنهم استدلوا لإثبات دعواهم عن طريق إسقاط الاتجاه الأول

٢٣٣

وكأنهم يرون أنّ معنى النهي لا يخلو عن أحد هذين المعنيين فإذا سقط أحدهما تعيّن الآخر.

وكيف كان فالدليل الذي استدلّوا به على إثبات مدّعاهم ليس تاما ؛ وذلك : لأنّ الترك وإن كان ثابتا من الأزل إلاّ أنّ انقطاعه مقدور للمكلّف ، وهذا هو المصحّح للتكليف بالترك ـ أي الاستمرار على الترك ـ إذ أنّه كل ما كان أحد النقيضين مقدورا كان نقيضه أيضا داخلا تحت القدرة ، فالقادر على الفعل قادر على نقيضه وهو الترك وإلاّ لما كان الفعل مقدورا له ، وفي المقام لمّا كان فعل المنهي عنه مقدورا فهذا يعني أنّ تركه أيضا مقدور لعدم إمكان تحقّق القدرة في أحد طرفي النقيضين دون الآخر ؛ وذلك لأن القدرة هي ما كان فيها كلا النقيضين داخلين تحت الاختيار.

وأمّا ما استدلّ به أصحاب الاتجاه الأول لإسقاط الاتجاه الثاني ـ القائل بأنّ النهي هو الكفّ وتوطين النفس على ترك الفعل المنهي عنه ـ فهو أنّه لا إشكال في أنّ الذي ترك الفعل لا عن توطين وإعمال من النفس على الترك ـ بل عن دافع آخر ـ لا يعدّ بنظر العرف مخالفا للمولى وعاصيا له.

الاتجاه الثالث : وهو مختار المصنّف رحمه‌الله ، وحاصله : أنّ النهي يعني الزجر عن الفعل الذي وقع متعلّقا للنهي أو قل إنّه الإمساك من قبل المولى عبده عن أن يقع في مخالفة المنهي عنه ، غايته أنّ النهي تارة يستفاد من المادة فيكون معناه الزجر والإمساك بالمعنى الاسمي وتارة يستفاد من الهيئة فيكون مفاده النسبة الزجريّة الواقعة بين المزجور ـ وهو المكلّف ـ والمزجور عنه ـ وهو الفعل المنهي عنه ـ أو النسبة الإمساكيّة الواقعة بين الممسوك والممسوك عنه ـ وهو متعلّق النهي ـ.

٢٣٤

وبناء على هذا يكون متعلّق النهي هو الفعل والذي هو الانزجار والامتناع والانمساك إذ أنّ متعلّق الزجر هو الانزجار ، والامساك متعلّقه الانمساك عن الفعل ومتعلّق المنع هو الامتناع ، وكل هذه المتعلّقات من سنخ الأفعال كما هو واضح.

ظهور النهي في الحرمة :

لم يقع إشكال في ظهور النهي بمادّته وهيئته في الحرمة ، وإن وقع الخلاف في كيفيّة نشوء هذا الظهور ، وكل المناشئ المذكورة يدّعى توليدها للظهور.

وكيف كان فإنّ الحرمة هي مقتضى المتفاهم العرفي من النهي المولوي وهي المنسبقة منه عند إطلاقه ، وهذا هو التبادر.

٢٣٥

الاحتراز في القيود

وقبل بيان ما هو الغرض من عقد هذا البحث نذكر مقدّمة نبيّن فيها أنحاء القيود المرتبطة بالحكم ونشرح فيها كيفيّة ارتباطها به.

فنقول : إنّ القيود التي أشار إليها المصنّف رحمه‌الله خمسة :

النحو الأول : هو متعلّق الحكم : والمراد من متعلّق الحكم هو ما يكون ناشئا عن الحكم ومترتّبا عليه ومتولّدا منه ، فمتعلّق الوجوب هو المطلوب تحصيله ومتعلّق الحرمة هو المطلوب تركه أو قل المزجور عنه ومتعلّق الإباحة هو الفعل الذي للمكلّف تركه أو ارتكابه.

ومن الواضح أنّ كلّ ذلك إنما ينشأ عن فعليّة الحكم ، فمتى ما تحققت الفعليّة صار متعلّقه ـ أي الفعل الذي وقع مصبا للحكم ـ مطلوبا أو مزجورا عنه أو موسعا على المكلّف فعله أو تركه.

ومثال ذلك لو قال المولى « صلّ » فإنّ متعلّق الأمر هو الصلاة إذ هي المطلوب بالأمر وهي التي لم تكن مطلوبة قبل الأمر ، وهكذا لو قال المولى « لا تشرب الخمر » فإنّ المزجور عنه هو شرب الخمر فهو إذن متعلّق النهي.

هذا فيما يتّصل بالأحكام التكليفيّة ، وأمّا ما يتّصل بالأحكام الوضعيّة فكذلك تجري عليه نفس الضابطة المذكورة وهي كلّ ما نشأ عن الحكم وكان مصبّا له فهو متعلّق الحكم.

٢٣٦

ومثال ذلك : الإيجاب والقبول في البيع العقدي فإنّ المكلّف إذا ما أراد تحقيق البيع العقدي فإنّه ملزم بالإتيان بالإيجاب والقبول.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ متعلّق الحكم يشمل قيود الواجب إذ أنّها تنشأ عن الحكم وتكون لازمة التحصيل.

النحو الثاني : موضوع الحكم : وهو ما يكون الحكم مترتّبا عليه ومتأخرا عنه من غير فرق بين كون الموضوع متقرّرا خارجا وقبل عروض الحكم عليه وبين كونه مفترض الوجود فإنّه في كلا الحالتين يكون الحكم مترتّبا عليه.

ومثاله ما لو قال المولى « لا تشرب الخمر » فإنّ موضوع الحكم في هذه القضية هو الخمر وكذلك المكلّف المخاطب بالمنع عن شرب الخمر ، ولو أردنا أن نطبق الضابطة عليهما لوجدناها منطبقة تماما حيث إنّ المولى حينما جعل الحرمة على شرب الخمر افترض وجود الخمر والمكلّف ثم جعل الحرمة على المكلّف والخمر ، غايته أنّ نسبة الحرمة إلى المكلّف هي نسبة الزجر إلى المزجور ونسبتها إلى الخمر نسبة الزجر إلى المزجور عنه.

وبتعبير أدق وأشمل لبيان الضابطة : إنّ كلّ شيء أنيطت فعليّة الحكم به فهو موضوع الحكم ، وهذا لا يكون إلاّ في حالة يؤخذ فيها الموضوع مقدّر الوجود أي متى ما اتفق وجوده ترتّبت الفعليّة للحكم.

وبهذا تكون قيود الوجوب مشمولة للموضوع ، فالاستطاعة للحج من قيود الوجوب فهي إذن موضوع الحكم بالوجوب وكذلك البلوغ من قيود الحكم فهو إذن موضوع للحكم.

النحو الثالث : الشرط : وهو روحا عين الموضوع في القضايا

٢٣٧

الحمليّة أو قل إنّ الموضوع في القضايا الحمليّة يؤول إلى الشرط فحينما تقول : أكرم العالم فكأنّك قلت : أكرم الإنسان إذا كان عالما ، وكيف كان فالموضوع والشرط يشتركان في كون الحكم مترتّبا عليهما ، والاختلاف بين الموضوع ـ في القضايا الحمليّة ـ والشرط ـ في القضايا الشرطيّة ـ إنّما هو في الصياغة.

النحو الرابع : الغاية : والمراد منها الأمد الذي تنتهي معه فعليّة الحكم ، وهي روحا جزء موضوع الحكم إذ أنّ القطعة الزمنيّة التي تبدأ مع بدايتها فعليّة الحكم وتنتهي مع نهايتها فعليّة الحكم هي الموضوع الذي افترض وجوده ثم رتّب عليه الحكم ، والغاية إنما هي الحد الأخير للموضوع الذي رتّب عليه الحكم.

النحو الخامس : الوصف : وهو القيد المضيّق لدائرة الموضوع فهو يشمل مثل النعت النحوي والحال والتمييز فإنها جميعا تشترك في كونها مضيّقة لموضوع الحكم ، مثلا : « أكرم الفقير العالم » ، و « أكرم الفقير عالما » ، و « أكرم الفقير الأكثر علما » ، كلّها تشترك في أنّها مضيّقة لموضوع الحكم وهو الفقير.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة نرجع إلى ما هو الغرض من عقد هذا البحث وهو أنّ القيود المأخوذة في الأحكام في مرحلة المدلول التصوّري هل تكون مرادة في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي بحيث تكون تلك القيود المفادة بالألفاظ دخيلة في الحكم جدّا وواقعا أو أنّ هذه القيود ذكرت لغرض التوضيح أو التمثيل مثلا ، بحيث لا يكون وجودها وعدمها مؤثرا في ترتّب الحكم.

٢٣٨

والصحيح أنّ ما يقتضيه الظهور العرفي والذي عليه أهل المحاورة هو التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول الجدّي ، فكلّ القيود المرتبطة بالحكم في مرحلة الدلالة الوضعية التصوّرية تكون مرادة في مرحلة الدلال التصديقية الثانية ، إذ أنّ ظاهر حال كل متكلّم أنّه مريد لكل ما يخطره من معان بواسطة الألفاظ الموضوعة لها ، فإذا أخطر المتكلم قيدا لحكم بواسطة اللفظ الموضوع له فإنّ ظاهر حاله أنّه مريد وقاصد لجعل ذلك الحكم مرتبطا بذلك القيد ، مثلا قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (١) ، فإنّ الحكم بالتيمّم ارتبط بحسب المدلول التصوّري بالصعيد الطيّب فلا يشمل بحسب هذا المدلول غير الصعيد كما لا يشمل الصعيد غير الطيّب ، وإذا كان كذلك بحسب المدلول التصوّري فهو أيضا كذلك بحسب المدلول الجدّي وذلك لأصالة التطابق بين المدلولين المستفادة من ظهور حال كل متكلّم في أنّ ما يقوله ويخطره من معان فهو يريده جدّا وواقعا. ومنشأ هذا الظهور هو أنّ كل عاقل يريد أن يؤدي مقاصده يؤديها عن طريق الوسائل المتعارفة إذ أنّه قد لا يحقق مقاصده فيما لو استعمل غير الوسائل المتعارفة ، ومن الواضح أنّ المتكلّم لو لم يكن مريدا لتقييد الحكم بقيد ومع ذلك استعمل القيد لغرض التمثيل أو التوضيح ، فهذا يعني أنّه أراد التوصل لأغراضه بغير الطريقة المتعارفة إذ أنّ الطريقة المتعارفة حين إرادة التوضيح أو التمثيل هو إبراز قرينة تدلّ على ذلك لا أن يأتي بلفظ ويريد غير معناه فإنّ ذلك خلاف ما تبانى عليه العقلاء من تأدية مقاصدهم بالوسائل

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٦

٢٣٩

المتعارفة.

وبما ذكرناه يتّضح المراد من قاعدة احترازيّة القيود ، وهي أنّ كل القيود المتحيّث بها الحكم في مرحلة المدلول التصوّري فهي مرادة للمتكلّم بحسب المدلول الجدّي.

وبعبارة أخرى : إنّ كلّ الألفاظ الموضوعة لإفادة تقييد الحكم بقيد فإنّ مفاداتها مرادة للمتكلّم ، فكما أنّها قيود بحسب مدلولاتها الوضعيّة فكذلك هي قيود واقعا وبحسب مراد المتكلّم.

ومنشأ هذه القاعدة كما ذكرنا هي ظهور حال كلّ متكلّم أنّ ما يقوله ويخطره من معان بواسطة الألفاظ فإنّه مريد لهذه المعاني في مقام الجدّ.

وإذا اتّضح ما ذكرناه يتّضح أنّ الحكم المرتبط بهذه القيود لا يشمل الفاقد لها وإلاّ لما كان القيد قيدا إذ أنّ طبيعة كل قيد نفي الحكم عن غير المتقيّد به فلو قال المولى مثلا « السائل الخمري نجس » فهذا يعني أنّ السائل غير المتقيّد بعنوان الخمريّة لا يكون مشمولا للحكم بالنجاسة ، نعم قد تثبت لسائل آخر النجاسبة ولكن بغير هذا الحكم المفاد بهذا الخطاب ، فشخص الحكم بالنجاسة الثابت للسائل الخمري لا يشمل غير المتقيّد بالخمريّة ، فشأن القيود وإن كان هو نفي الحكم الشخصي عن الموضوعات غير المتقيّدة بها إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ هذه القيود تنفي ثبوت مثل هذا الحكم لتلك الموضوعات بقيود أخرى أو ملاكات أخرى.

وبهذا يتّضح معنى الاحترازيّة في القيود وأنّها تعني المانعيّة من شمول الحكم لغير المتقيّد بتلك القيود إلاّ أنّ المانعيّة التي توجبها القيود هي المانعيّة عن شمول شخص الحكم لغير المتقيّد بتلك القيود.

٢٤٠