شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

يكون هذا اللفظ دالا عليها ـ وهذا الانسباق والتصوّر السريع الحاصل من اللفظ يكون علامة على أنّ هذا المعنى هو الموضوع له ذلك اللفظ ، ولو لا ذلك لاحتجنا في تصوّره من اللفظ إلى قرينة خارجة عن حاق اللفظ تدل على أنّ هذا اللفظ استعمل في ذي القرينة.

الإشكال على علاميّة التبادر :

وقد أورد على هذه العلامة بأنّ جعل التبادر علامة الحقيقة يلزم منه الدور ؛ وذلك لأنّ التبادر متوقّف على العلم بالوضع ، وهنا نريد أن نحصّل العلم بالوضع عن طريق التبادر فيكون التبادر متوقّف على عين المتوقّف عليه ـ وهو العلم بالوضع ـ.

وبتعبير آخر : تنشأ العلاقة الدلاليّة بين اللفظ والمعنى عن طريق العلم بالوضع لأنّه ما لم نعلم بالوضع لا يكون اللفظ عندنا دالا على المعنى ، نعم إذا علمنا بالوضع تبادر المعنى بمجرّد إطلاق اللفظ ، وهذا يعني أن التبادر معلول للعلم بالوضع ، ونحن في مفروض البحث نجهل بالوضع ونبحث عن ما يرفع عنّا الجهل بالوضع فإذا ادّعينا أن التبادر يرفع الجهل بالوضع فهذا خلف ما ذكرناه من أنّ التبادر معلول للعلم بالوضع إذ أنّ التبادر بناء على هذه الدعوى يكون علّة لتحصيل العلم بالوضع ، وهذا مستحيل بعد افتراض كونه معلولا للعلم بالوضع إذ يلزم منه أن يكون التبادر معلولا وعلّة لشيء واحد ، فهو علّة للعلم بالوضع ومعلول للعلم بالوضع. وهذا هو معنى أن التبادر متوقّف على المتوقّف عليه إذ أنّه متوقّف على العلم بالوضع الذي هو متوقّف على التبادر ، فالتبادر متوقّف ومتوقّف عليه ، أي : معلول وعلّة لشيء واحد وهو العلم بالوضع كما أنّ العلم بالوضع معلول وعلّة لشيء واحد وهو التبادر.

١٨١

الجواب الأوّل :

وقد أجيب عن هذا الإيراد بنفي الدور ، وذلك بأنّ المتوقّف غير المتوقّف عليه ، وبيان ذلك :

إنّ التبادر وإن كان متوقّفا على العلم بالوضع إلاّ أنّه العلم الارتكازي بالوضع والذي ينسجم مع الغفلة والذهول عن تفاصيل الوضع. والذي يحقّقه التبادر هو العلم التفصيلي بالوضع.

إذن التبادر علّة لشيء ومعلول لشيء آخر فهو علّة للعلم التفصيلي بالوضع ومعلول للعلم الارتكازي الإجمالي بالوضع. وكذلك العلم بالوضع العلّة غير العلم بالوضع المعلول إذ أنّ العلم بالوضع العلّة هو العلم الارتكازي بالوضع والعلم بالوضع المعلول هو العلم التفصيلي بالوضع.

وحتى يكون الجواب مأنوسا أكثر نقول : إنّ هناك فرقا بين العلم التفصيلي وبين العلم الارتكازي ، فالعلم التفصيلي هو ما يكون المعلوم فيه جليّا وواضحا من تمام حيثيّاته ، بحيث لا يكون على ذلك المعلوم أي غشاوة مهما رقّت.

ونمثّل على ذلك بقول الله تعالى حاكيا عن أحبار اليهود ورهبانهم في أنّهم يعرفون النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه النبي الموعود ، قال الله عزّ وجلّ : ( يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ ) (١) ، فالقرآن الكريم يشير إلى أنّ أحبار اليهود يعرفون النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معرفة تفصيليّة لا يشوبها أدنى شكّ كما أنّ معرفتهم لأبنائهم معرفة تفصيليّة.

__________________

(١) سورة الأنعام : آية ٤٠

١٨٢

أمّا العلم الارتكازي فهو ما يكون المعلوم فيه مبتليا بالإبهام والغموض من بعض حيثيّاته بحيث يكون أصل الشيء معلوما إلاّ أنّ فيه تشويشا وإبهاما أو تكون هذه الحيثيّات المبهمة مختزنة في دفائن النفس نحتاج في إبرازها إلى منطقة الوعي إلى بعض المنبّهات.

ومثال ذلك معرفة الله عزّ وجلّ ، فإن كلّ أحد من الناس مفطور على معرفة الله جلّ وعلا ، إلاّ أنّ هذه المعرفة مكتنفة بشيء من الغموض نتيجة الحجب المكتسبة عن الشبهات والأوهام المثارة من اللذين طبع الله على قلوبهم ، فلذلك يكون دور الأنبياء عليهم‌السلام دور التنبيه على الفطرة المختزنة في كلّ نفس ، قال الله تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) (١) ، وقال تعالى على لسان إبراهيم عليه‌السلام : ( فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) (٢) ، وما هذا القول من إبراهيم إلاّ تنبيه على ما هو مغروس في جبلّة الإنسان.

ومع اتّضاح الفرق بين العلم التفصيلي والعلم الارتكازي يتّضح الجواب على إشكال الدور ، إذ تكون مهمّة التبادر هي التنبيه على ما هو مرتكز في النفس من العلاقة بين اللفظ والمعنى ، فصحّ أن يكون التبادر علّة للعلم بالوضع ولكن التفصيلي منه وأنّه معلول للعلم بالوضع ولكنّه الارتكازي منه.

__________________

(١) سورة لقمان : آية ٢٥ ، سورة الزمر : آية ٣٨

(٢) سورة البقرة : آية ٢٥٨

١٨٣

الجواب الثاني على إشكال الدور :

إنّ إشكال الدور يكون له وجه لو كان الباحث عن المعنى الحقيقي هو عين الذي حصل له التبادر ، أما إذا كان الباحث عن المعنى الحقيقي للفظ هو غير الذي حصل له التبادر ، ففي مثل هذه الحالة لا يكون الدور متصوّرا إذ أن الذي حقّقه التبادر وإن كان هو الكشف عن المعنى الحقيقي ولكن لطرف ثان وهو الجاهل بأصل الوضع ، فيكون التبادر معلولا للعلم بالوضع لمن حصل له التبادر ويكون علة للعلم بالوضع بالنسبة للطرف الثاني وهو الباحث عن المعنى الحقيقي.

وهذا هو الذي يحصل للباحثين عن معاني بعض مفردات لغة من اللغات ولم يكونوا من أهل تلك اللغة ، فإنهم يرجعون إلى ما يتبادر في أذهان أهل تلك اللغة عند إطلاق هذه المفردات لغرض التعرّف على المعاني الحقيقيّة لتلك المفردات.

الجواب الثالث على إشكال الدور :

وهو يتناسب مع نظرية القرن الأكيد وحاصله : أننا ذكرنا ـ فيما سبق ـ أن الاقتران الخارجي بين اللفظ والمعنى يقتضي أن يحدث الذهن ـ وبحسب طبعه وتكوينه ـ ربطا وعلاقة بين اللفظ والمعنى هذه العلاقة توجب تصوّر المعنى بمجرّد سماع اللفظ.

إذن تصوّر المعنى من اللفظ بناء على هذه النظرية لا يتوقّف على العلم بالوضع بل هو متوقّف على نفس الوضع ، وهي تلك العلاقة التي أحدثها الذهن بحسب طبعه عندما رأى الاقتران الخارجي مستوثقا بين اللفظ والمعنى.

١٨٤

وبهذا يتّضح أن التبادر ناشئ عن نفس الوضع ـ وهي العلاقة الوثيقة بين اللفظ والمعنى في الذهن ـ فهو إذن ينشأ عن واقع العلاقة وإن لم يعلم أنها وضع كما هو الحال في الأطفال ، وكذلك الغافل عن الأوضاع اللغويّة.

والمتحصّل من الكلام : أن التبادر ينشأ عن واقع الوضع ـ وهي تلك العلاقة الوثيقة بين اللفظ والمعنى في الذهن ـ والذي يكون التبادر علّة في إيجاده هو العلم بالوضع إذ أنه قبل التبادر يكون غافلا عن كون هذا اللفظ موضوعا لهذا المعنى وإن كان يستفيد من اللفظ الدلالة على المعنى ولكنه غير متوجّه إلى أنّ هذه الاستفادة ناشئة عن الوضع والعلاقة الذهنيّة الوثيقة.

الثاني : صحّة الحمل :

والمراد من صحّة الحمل هو : أن المعنى الذي نبحث عن أنه حقيقة في هذا اللفظ أو مجاز إذا صحّ أن نجعله محمولا على اللفظ ويكون اللفظ موضوعا له فهذا يدلّ على أن اللفظ حقيقة في هذا المعنى الذي صح حمله على اللفظ ، مثلا لو كنّا نبحث عن أن لفظ الأسد هل هو حقيقة في الحيوان المفترس أو لا؟ ومن أجل معرفة الجواب لهذا السؤال نشكل قضية نجعل فيها اللفظ موضوعا والمعنى محمولا ، فإذا صحّ الحمل فهذا دليل على أن هذا اللفظ حقيقة في هذا المعنى وإلا فلا.

هكذا « الأسد حيوان مفترس ».

ثم بعد أن شكّلنا هذه القضية نرجع إلى وجداننا لنرى أن هذه القضية متناسبة أو لا؟ فإن كانت متناسبة فهذا يعني أن اللفظ الموضوع في القضية حقيقة في المعنى الذي صحّ حمله عليه وإلا فلا.

١٨٥

ثم إن الحمل تارة يكون حملا أوليّا ذاتيّا ـ وهو ما يكون الاتحاد فيه بين المحمول والموضوع في المفهوم ـ وتارة يكون الحمل حملا شايعا صناعيا ـ وهو ما يكون الاتحاد فيه بين المحمول والموضوع في الوجود.

فإن صحّ الحمل الأول فهذا يعني أن اللفظ حقيقة في المعنى المحمول عليه ، وإن صحّ الحمل الشايع الصناعي فهذا يعني أن معنى اللفظ مصداق للمعنى المحمول عليه.

ومثال الأول « الأسد حيوان مفترس » ، فإن الحمل فيه حمل أولي ؛ لأن الاتحاد بينهما في المفهوم ، إذ أنّ مفهوم الأسد متّحد مع مفهوم الحيوان المفترس ، ومع صحّة الحمل يكون الأسد حقيقة في الحيوان المفترس المحمول على الأسد.

ومثال الثاني « النرجسة وردة » ، فإنّ الحمل فيها حمل شايع صناعي ؛ لأن الاتحاد بينهما إنما هو في الوجود ، إذ أن مفهوم « النرجسة » غير مفهوم « الوردة » إلا أن « النرجسة » متّحدة وجودا وخارجا مع « الوردة ». ومع صحّة هذا الحمل تكون النرجسة مصداقا لعنوان الوردة المحمول على النرجسة.

إذا اتّضح هذا فنقول : إن صحّة الحمل ليس علامة على الحقيقة ، وغاية ما يكشف عنه صحّة الحمل هو صحّة استعمال اللفظ في المعنى الذي يصحّ حمله على اللفظ ، وصحة الاستعمال ناشئة عن وجود نحو دلالة للفظ على المعنى ، أمّا ما هو واقع هذه الدلالة؟ وهل هي ناشئة عن الوضع أو أنها ناشئة عن مشابهة المعنى الموضوع له اللفظ للمعنى المستعمل فيه اللفظ؟

١٨٦

وبهذا البيان تعرف أن صحّة الحمل لا تكشف عن أكثر من أنّ المحمول عليه هو عين المعنى المحمول أو أن المحمول عليه مصداق لعنوان المحمول ، أما أن اللفظ في المحمول عليه « الموضوع » حقيقة في المعنى المحمول فهذا ما لا يمكن استكشافه من صحّة الحمل ، إذ أن الاتحاد في المفهوم لا يعني أن اللفظ في المحمول عليه حقيقة في المحمول إذ أن الاتحاد في المفهوم من شئون واقع المفهومين المتّحدين وكون اللفظ حقيقة في المعنى المحمول من شئون الأوضاع اللغوية ، وكذلك الكلام في الاتحاد في الوجود فإن ذلك من شأن الواقع ولا صلة له بالوضع والواضع.

الثالث : الاطّراد :

إذا صحّ استعمال لفظ في معنى من المعاني وكانت صحة الاستعمال ثابتة في جميع حالات المعنى بحيث لا تشذ حالة من حالاته عن ذلك ، وكذلك لو كانت للمعنى أفراد ورأينا أنّ كل فرد من هذه الأفراد يصح حمله على ذلك اللفظ فإنّ ذلك هو الاطّراد ، وبه يستكشف أنّ اللفظ الذي تطّرد دلالته على معنى يكون استعماله في ذلك المعنى حقيقيّا.

ومثال ذلك : الأسد والحيوان المفترس ، فإنّ لفظ الأسد يصح استعماله في الحيوان المفترس مطلقا صغيرا كان الحيوان المفترس أو كبيرا ، مفترسا أو مفترسا ـ بصيغة المفعول ـ ، صحيحا أو مريضا ، وكذلك أفراد الحيوان المفترس يصح استعمال لفظ الأسد فيها مطلقا فتقول : ( الأسد لبؤة ) و ( الأسد شبل ) وهكذا. وهذا بخلاف استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع ، فإنّ الاستعمال لا يصحّ في تمام الحالات ، فلا يقال عن الرجل الشجاع إذا صار جبانا إنّه أسد.

١٨٧

ويمكن الإشكال على علاميّة الاطّراد بما حاصله :

ذكر علماء المعاني أنّ كلّ لفظ يصحّ استعماله في المعنى الغير الموضوع له إذا اشتمل ذلك المعنى على خصوصيّة من الخصوصيّات المذكورة عندهم والمصحّحة للاستعمال ، فما دام هو مشتملا على تلك الخصوصيّة فيصح استعماله في ذلك المعنى مطلقا ، مثلا استعمال الأسد في الرجل الشجاع يصح مطلقا ولكن في كل استعمال من هذه الاستعمالات لا بد من أن تكون هناك خصوصيّة مصحّحة لهذا الاستعمال ، فإطلاق الأسد على الرجل الشجاع في حال شجاعته صحيح باعتبار فعليّة المشابهة وفي حال انتفاء الشجاعة عنه يكون المصحّح باعتبار ما كان وفي حال عدم تلبّسه بعد يكون المصحّح بلحاظ ما يؤول وفي حالة النوم يكون المصحّح باعتبار الشأنيّة وهكذا.

إذن كما تطرد صحّة الاستعمال في المعنى الحقيقي كذلك هي في المعنى المجازي.

فالنتيجة من كل ما تقدّم أنّ الصحيح من علامات الحقيقة هو التبادر.

تحويل المجاز إلى حقيقة :

ذكر السكّاكي أنّ هناك مجازا يمكن تسميته بالمجاز العقلي ، وهذا المجاز غير المجاز في الكلمة ، إذ أنّ المجاز في الكلمة هو أنّ تستعملها في غير المعنى الموضوع لها كاستعمال لفظ الحجر في الحديد الصلب.

أمّا المجاز العقلي فهو أن نفترض أنّ المعنى المجازي مصداق حقيقي لمعنى ذلك اللفظ ، وهذا الافتراض ينشأ عن عناية نفسانيّة يعتبر فيها المفترض ـ بصيغة الفاعل ـ المعنى المجازي أحد أفراد المعنى الحقيقي للفظ ،

١٨٨

فكأنّما المعنى المجازي فرد من أفراد المعنى الحقيقي ، فالتصرّف هنا لم يقع على الكلمة وإنما هو في تطبيقها على المعنى المفترض ( المجازي ) فكأنّما يقول : « اعتبرت هذا المعنى المجازي فردا من أفراد المعنى الحقيقي » ، وهذا النوع من المجاز أبلغ في التشبيه ـ بين المعنى الحقيقي والمجازي ـ من المجاز في الكلمة.

وبتعبير آخر : إنّ المجاز العقلي هو عبارة عن تنزيل المعنى المجازي منزلة المعنى الحقيقي ، ومثال ذلك تنزيل الرجل الشجاع منزلة الفرد من الأسد.

وهذا هو معنى تحويل المجاز إلى حقيقة.

استعمال اللفظ وإرادة الخاص :

تارة نستعمل اللفظ في المعنى الذي وضع له ذلك اللفظ فهذا استعمال حقيقي ، وأخرى نستعمل اللفظ في معنى مغاير للمعنى الموضوع له اللفظ فهذا استعمال مجازي ، وثالثة نستعمل اللفظ الدال على المعنى الكلّي في معناه الكلي وهذا أيضا استعمال حقيقي ، وفي حالة أخرى نستعمل اللفظ الدال على المعنى الكلّي في فرد من أفراد ذلك الكلّي وهذا ما يحتاج إلى تفصيل بين استعمال اللفظ الدال على المعنى الكلّي في فرد من أفراده دون أن نردفه بلفظ يدل على الفرد فهذا استعمال مجازي إذ أنّ استعمال الكلّي في جزئه استعمال في غير ما وضع له اللفظ ، وبين استعمال اللفظ الدال على المعنى الكلّي في فرد من أفراده ولكن مع إضافة ما يدل على خصوص ذلك الفرد ، فهذا الاستعمال حقيقي ، غايته أنّ هنا استعمالين : الأول استعمال الكلّي في معناه

١٨٩

الموضوع له ، والثاني استعمال اللفظ الدال على الفرد في معناه الموضوع له على سبيل تعدد الدال والمدلول.

ومثال الأول : الإنسان فإنه دال على معنى كلي وهو الحيوان الناطق ، فإذا استعملت لفظ الإنسان في خصوص الذكر دون أن تأتي بلفظ الذكر بأن قلت « أكرم الإنسان » وأنت تقصد خصوص الذكر ، فهذا استعمال مجازي إذ أن الإنسان موضوع للأعم من الذكر والأنثى وأنت استعملته في خصوص الذكر ولم تأت بدالّ يدلّ عليه.

ومثال الثاني : أن تستعمل الإنسان في خصوص الذكر ولكن تأتي بما يدل على ذلك كأن تقول مثلا « أكرم الإنسان الذكر » ، فهذا الاستعمال حقيقي إذ أنك استعملت الإنسان في معناه الكلي وإنما استفدنا خصوص الذكر باعتبار وجود دالّ آخر يدل عليه وهو لفظ الذكر فنكون قد استفدنا معنيين ولكن بدالّين ، المعنى الأول هو كلي الحيوان الناطق والدال عليه هو لفظ الإنسان ، والمعنى الثاني هو حصّة خاصّة من الإنسان والدال عليه هو لفظ الذكر ، وهذا هو معنى تعدد الدال وتعدد المدلول ، فالدال المتعدد هو لفظ الإنسان ولفظ الذكر والمدلول المتعدد هو كلي الحيوان الناطق والحصة الخاصة منه.

الاشتراك والترادف :

المترادف هو : ما يكون فيه المعنى قد وضع له أكثر من لفظ لغرض الدلالة عليه ، ومثاله الحيوان المفترس فإنّ له مجموعة من الألفاظ وضعت للدلالة عليه مثل الأسد والليث والهزبر.

١٩٠

والمشترك اللفظي هو ما يكون فيه اللفظ قد وضع بوضعين أو أكثر كل وضع يكون فيه المعنى الموضوع له اللفظ مغايرا للمعنى الموضوع له نفس اللفظ في الوضع الآخر ، ومثاله : لفظ « القرء » ، فإنه موضوع بوضعين ، فهو موضوع بالوضع الأول لمعنى الطهر ، وموضوع في الوضع الثاني لمعنى الحيض.

وبه يكون المشترك اللفظي محتاجا في مقام تعيين المراد منه إلى قرينة ، وهذا يقتضي الإجمال في المعنى المراد مع فقدان القرينة ، وهذا المقدار لا محذور فيه ؛ وذلك لأنه قد يتعلّق غرض المتكلّم بالإجمال في مراده ثم إنه يمكن أن يتحقّق الغرض من الوضع ـ وهو تفهيم المراد ـ عن طريق وضع قرينة على المراد ، نعم صاحب مسلك التعهّد يحتاج إلى تفسير لوجود المشتركات اللفظية وكذلك المترادفات في اللغة العربية وسائر اللغات.

وذلك لأن التعهّد ـ كما قلنا ـ هو التباني النفساني على ألاّ يأتي باللفظ إلاّ إذا كان قاصدا لتفهيم هذا المعنى ، وفي المشترك اللفظي لا يكون هناك التزام بهذا التعهّد ؛ وذلك لأنه إذا كان قد تعهّد بأن لا يأتي بلفظ العين إلا إذا كان قاصدا لتفهيم معنى الجارحة الباصرة فإنه متى ما جاء بالعين وقصد تفهيم الماء النابع فهذا يعني عدم الالتزام بما تعهّد به إلا أن يكون قد تعهّد بان لا يأتي بلفظ « العين » إلا أن يكون قاصدا لتفهيم كلا المعنيين وهذا لا يكون لأنه يلزم أن يكون قد تعهّد باستعمال المشترك اللفظي في أكثر من معنى في آن واحد ، وهذا إن لم يكن مستحيلا فلا أقل أنه خلاف المتعارف عند أهل المحاورة ، كما أنه مناقض لما هو الغرض من التعهّد وهو تفهيم المراد ، إذ لا يمكن تفهيم المراد بالمشترك اللفظي مع قصد كلا المعنيين.

١٩١

وكذا الكلام في المترادف إذ أن المتعهّد إذا التزم بأن لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلا إذا جاء بهذا اللفظ ، فهذا يعني أن لا يكون ملتزما بتعهّده إذا جاء باللفظ الآخر المرادف وقصد تفهيم نفس المعنى ، إلا أن يكون قد التزم بالتزامين وهو أنه لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلا أن يأتي بهذا اللفظ ، ثم يلتزم التزاما آخر بأن لا يقصد تفهيم نفس المعنى إلاّ إذا جاء باللفظ الآخر ، ولا يخفي التهافت بين الالتزامين إذ أن أحد الالتزامين ينافي الآخر ، نعم يمكن أن يلتزم بأن لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلا إذا جاء بكلا اللفظين وهذا الالتزام غير ممكن لأنه خلاف المتعارف ، إذ لا نجد أن المتكلّم يأتي بكلّ المترادفات لغرض تفهيم معنى واحد ، فلا يأتي المتكلّم بلفظ الأسد الهزبر والليث لغرض تفهيم معنى الحيوان المفترس ، مما يكشف عن أن المتكلّم غير متعهّد بذلك.

ويمكن التفصّي عن كلّ ما ذكرناه بأحد هذه الحلول :

الأول : أن يكون لكلّ تعهّد ـ باستعمال لفظ في أحد المعاني أو باستعمال أحد الألفاظ في المعنى ـ متعهّد مستقل وذلك بأن يكون المتعهّد ـ بأن لا يأتي بلفظ العين إلا لغرض تفهيم الجارحة الباصرة أو أن لا يقصد تفهيم معنى الحيوان المفترس إلا إذا جاء بلفظ الأسد ـ غير المتعهّد بأن لا يأتي بلفظ العين إلا إذا كان قاصدا لتفهيم معنى الماء النابع أو أن لا يقصد تفهيم معنى الحيوان المفترس إلا أن يأتي بلفظ الليث.

وهذا الجواب ـ إذا تم ـ فإنه يصلح لتفسير وجود المشتركات اللفظية والمترادفات في اللغة العربية وسائر اللغات بناء على مسلك التعهّد.

الثاني : الالتزام باتّحاد المتعهّد ولكن يكون التعهّد في المشترك

١٩٢

والمترادف بهذه الكيفيّة :

أما في المشترك اللفظي ، فيتعهّد بأن لا يأتي بهذا اللفظ إلا أن يكون قاصدا لتفهيم أحد المعنيين دون الآخر هكذا : « أتعهّد بأن لا أستعمل لفظ العين إلاّ إذا قصدت تفهيم الجارحة الباصرة أو الماء النابع » ، وبهذا يكون المتعهّد ـ حين استعماله لفظ العين في الماء النابع ـ يكون ملتزما بتعهّده ؛ إذ أنه تعهّد بقصد أحدهما حين استعمال المشترك وقد فعل.

وأمّا في المترادف فيتعهّد بأن لا يقصد هذا المعنى إلا إذا جاء بأحد اللفظين هكذا : « أتعهّد بأن لا أقصد تفهيم معنى الحيوان المفترس إلا إذا جئت بلفظ الأسد أو الليث » فإذا جاء بلفظ الأسد حين قصد تفهيم معنى الحيوان المفترس فقد التزم بما تعهّد به إذ أنه تعهّد بالإتيان بأحد اللفظين حين قصد معنى الحيوان المفترس وقد فعل.

الثالث : الالتزام أيضا باتحاد المتعهّد ، ولكن التعهّد يكون مشروطا ، وذلك بأن نفترض أن المتعهّد يتعهّد بأن لا يأتي بالمشترك إلا إذا كان قاصدا أحد المعنيين بشرط ألاّ يقصد المعنى الآخر ، ثم يتعهّد تعهّدا آخر بأن لا يأتي بالمشترك إلا إذا كان قاصدا المعنى الثاني ، ولكن بشرط ألا يكون قاصدا المعنى الأول ، هكذا : « أتعهّد ألا آتي بلفظ العين إلا أن أكون قاصدا لتفهيم معنى الجارحة الباصرة ، ولكن بشرط ألا أقصد الماء النابع » ثم يعكس المعنى فيكون المقيّد شرطا والشرط مقيّدا مع الاحتفاظ باتّحاد اللفظ.

وكذلك الكلام في المترادف حيث نفترض أنّ المتعهّد يتعهّد بأن لا يقصد تفهيم المرادف إلا أن يأتي بهذا اللفظ ولكن بشرط ألا يأتي باللفظ

١٩٣

الآخر ، ثم يتعهّد تعهّدا آخر يعكس فيه اللفظ فيجعل المقيّد شرطا والشرط مقيّدا ، هكذا : « أتعهّد بأن لا أقصد معنى الحيوان المفترس إلا إذا جئت بلفظ الأسد بشرط ألا أجيء بلفظ الليث » ثم يعكس اللفظ فيجعل الشرط مقيّدا والمقيّد شرطا.

تصنيف اللغة :

إنّ أيّ لغة فهي تحتوي على كلمة بسيطة أو مركّبة أو هيئة تركيبيّة ، فهنا ثلاثة أنواع لمحتوى كلّ لغة :

النوع الأول : الكلمة البسيطة : وهي الكلمة الموضوعة بمادّتها وهيئتها لمعنى واحد ، وذلك مثل أسماء الأجناس والأعلام الشخصيّة والحروف.

أمّا أسماء الأجناس ، فمثل ( أسد ) فإنّ كلمة أسد بمادّتها ـ وهي : الألف والسين والدال ـ وهيئتها ـ وهي : وزن فعل ـ موضوعة لمعنى الحيوان المفترس بمعنى أنّ الواضع حينما أراد أن يضع لفظ أسد للحيوان المفترس فإنّه لاحظ مادّة لفظ أسد ـ وبهذا الترتيب ـ ولاحظ هيئة أسد ـ بوزنها المخصوص ـ وجعل مجموع الأمرين دالا على معنى الحيوان المفترس.

وأمّا الأعلام الشخصيّة فهي مثل « زيد » لفرد من الإنسان و « مكة » لبلد من البلدان و « ذي الفقار » لآلة من الآلات ، وهكذا وبنفس التقريب السابق لكيفية الوضع.

وأمّا الحروف فهي مثل ( من وعن والباء الجارة ولن الناصبة ولم

١٩٤

الجازمة ) وهكذا ، والواضع حينما وضع مثل كلمة ( من ) فإنّه لاحظ مادّتها ـ وبهذا الترتيب ـ وهيئتها ـ وبهذا الوزن أي بكسر الميم وتسكين النون ـ ثم جعل مجموع المادّة والهيئة دالا على معنى الابتداء مثلا أو التبعيض.

النوع الثاني : الكلمة المركّبة : وهي الكلمة الموضوعة بوضعين ، وضع لخصوص المادة ووضع آخر للهيئة ، وذلك مثل الأفعال وأسماء الفاعلين وصيغ المبالغة وهكذا ، فإنّ كلمة ( أكل ) مثلا موضوعة بوضعين الأول بلحاظ المادة ـ والتي هي موضوعة بوضع شخصي كما ذكرنا فيما سبق ـ والثاني بلحاظ الهيئة وهي هيئة الفعل الماضي والتي هي موضوعة بوضع نوعي كما ذكرنا.

وتلاحظون أنّ المادة تدلّ على معنى غير الذي تدل عليه الهيئة ، فالمادّة في المثال تدلّ على ازدراد الطعام ، والهيئة تدلّ على صدور الحدث في الزمن الماضي.

النوع الثالث : الهيئة التركيبيّة : والمراد منها الكيفيّة الخاصة الحاصلة عن ربط كلمة بكلمة ، سواء كان هذا الربط متقوّما باسمين ، أو بفعل واسم ، أو بحرف واسم ، أو بحرف وفعل ، والأفعال غير المنضمّة خارجا باسم أو بحرف فهي مركبة أيضا باعتبار تقدير الاسم فيها مثل : ( صلّ ) ، فإنّها هيئة تركيبيّة لأنّها واقعا منضمّة مع اسم ، فصلّ فعل أمر فاعله مقدّر وهو ( أنت ) فكأنّ الجملة كذا ( صلّ أنت ).

وتلاحظون أنّ الهيئة التركيبيّة ليست هي نفس الكلمات المتهيّئة بالهيئة وإنّما هي الارتباط الواقع بين الكلمات ، فلذلك فهي تفيد معنى إضافيّا غير المعاني التي تفيدها الكلمات. فمثلا جملة ( زيد نائم ) مفيدة لثلاثة

١٩٥

معان ، المعنى الأول والثاني مستفادان من كلمتي زيد ونائم ، والمعنى الثالث مستفاد من الربط الواقع بين زيد ونائم ، وهو انتساب النوم إلى زيد ، فالنسبة بين الكلمتين هي مدلول الهيئة التركيبيّة.

إذا اتّضح هذا فنقول : إنّ الهيئة التركيبيّة تنقسم إلى قسمين :

الأولى : الهيئة التركيبيّة التامّة والمعبّر عنها بالجملة التامة : وهي ما تكون فيها الهيئة التركيبيّة دالة على نسبة تامّة ومفيدة لفائدة تامّة ، مثل الجمل الخبريّة التامّة والجمل الإنشائيّة التامّة.

ومثال الجملة الخبريّة التامّة قوله تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ) (١) فإنّ النسبة المستفادة من التركيب الواقع بين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسول الله تامّة ومفيدة لفائدة تامّة.

ومثال الجملة الإنشائيّة قوله تعالى : ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (٢) بالتقريب السابق.

الثانية : الهيئة التركيبيّة الناقصة والمعبّر عنها بالجملة الناقصة ، وهي : ما تكون فيها الهيئة التركيبيّة دالّة على نسبة ناقصة ومفيدة لفائدة ناقصة ، وذلك مثل التركيب الحاصل بين المضاف والمضاف إليه والجار والمجرور والموصوف وصفته ، ومثال المضاف والمضاف إليه ( غلام زيد ) فإنّ النسبة المستفادة من هذا التركيب ناقصة إذ أنها لا تفيد إلا فائدة ناقصة ولذلك يظلّ السامع ينتظر الحكم على غلام زيد.

__________________

(١) سورة الفتح : آية ٢٩

(٢) سورة آل عمران : آية ١٠٢

١٩٦

إذا اتّضح كل ما ذكرنا يقع الكلام في تطبيق ذلك على المعاني الحرفيّة والمعاني الاسميّة.

والمراد من المعاني الاسميّة هي تلك المعاني المستفادة استقلالا من موادّها الموضوعة للدلالة عليها ، فهي تشمل الأسماء ـ باصطلاح النحاة ـ ومواد الهيئات كمادّة ضرب ومادّة نائم.

والمراد من المعاني الحرفيّة هي تلك المعاني غير المستقلّة المستفادة من الحروف بموادّها وهيئاتها ، والهيئات التركيبّة التامّة والناقصة وهيئات الكلمات المركّبة.

ومرادنا من عدم الاستقلال هو : أن الحروف والهيئات التركيبيّة لا يكون لها معنى محصّل إلاّ في إطار جمل تركيبيّة ، فالحرف مثلا إذا لوحظ مستقلا عن الجملة فإنّه لا يدلّ على أي معنى.

تطبيق ما ذكرناه على المعاني الحرفيّة والمعاني الاسميّة :

ولنمثل بهذه الجملة ( سرت من المدينة المنوّرة إلى مكّة المكرّمة ) ، لو حلّلنا هذه الجملة لوجدناها مشتملة على معان اسميّة وأخرى حرفيّة.

أمّا المعاني الاسميّة فمثل مادة الفعل سرت ومكّة والمكرّمة والمدينة والمنوّرة ؛ وذلك لأنّ هذه الكلمات تدلّ على معانيها حتى لو فصلت عن الجملة.

أمّا المعاني الحرفية فهي : مثل هيئة الفعل الماضي ( سرت ) وكلمة ( من ) وكذلك ( إلى ) والنسبة بين الفعل وتاء الفاعل في ( سرت ) والنسبة بين الموصوف والصفة في ( مكّة المكرّمة ).

إذا لاحظنا تمام هذه المعاني وجدنا أنها تشترك في إفادتها للنسبة

١٩٧

الربطيّة ، فهيئة الفعل أفادت النسبة الربطيّة بين الحدث [ السير ] والزمن ، وجملة ( سرت ) أفادت النسبة بين الحدث والفاعل ، وجملة ( سرت من المدينة ) مشتملة على نسبة ربطية بين السير والمدينة ، وأن السير بدأ من المدينة ، وهذه النسبة استفيدت بواسطة كلمة ( من ) ، وجملة ( المدينة المنوّرة ) و ( مكّة المكرّمة ) مشتملة على نسبة بين الموصوف والصفة ، وأن المدينة متّصفة بالمنوّرة ، وهذه النسبة استفيدت من الهيئة التركيبية الواقعة بين الموصوف والصفة ، وجملة ( سرت إلى مكّة ) مشتملة على نسبة ربطيّة بين السير ومكّة ، وأن السير غايته ومنتهاه ( مكّة ) ، وهذه النسبة استفيدت بواسطة كلمة ( إلى ) ، وإذا لاحظنا هذه الجملة وجدنا أنها مشتملة على نسب ربطية تامّة وأخرى ناقصة ، فالتامة مثل ( سرت إلى المدينة ) والناقصة مثل ( المدينة المنوّرة ).

وباتّضاح هذه النسبة الربطيّة ـ سواء المستفادة من الحروف أو من الهيئات التركيبيّة ـ تعرف أنه ليس لهذه النسب وجود لو لا وقوعها في إطار جملة تامّة أو ناقصة.

ثم إن الكلام يقع حول ما هو الفرق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي؟ فقد ذكر المصنّف لذلك فرقين :

الأول : اتّضح مما سبق ومجمله : أن المعاني الاسميّة هي ما تلحظ لحاظا مستقلا حين الوضع وتستفاد من الألفاظ الموضوعة لها دون الحاجة إلى وقوع هذه الألفاظ في إطار جمل تامّة أو ناقصة.

وأما المعاني الحرفيّة فهي التي لا يكون لها معنى محصّل دون وقوعها في إطار جملة تامّة أو ناقصة ؛ لأن المعاني الحرفيّة ليست أكثر من نسب

١٩٨

ربطيّة ، وطبع النسب الربطيّة أن تقع بين طرفين.

الثاني : وهو ما نسب إلى المحقق النائيني قدس‌سره من أن المعاني الاسميّة إخطاريّة ، والمعاني الحرفيّة إيجاديّة.

والمراد من إخطاريّة المعاني الاسميّة هو أن لهذه المعاني تقررا وثبوتا في الذهن في مرحلة سابقة عن الإبراز والذي يتمّ عن طريق الألفاظ فتكون مهمّة الألفاظ الاسميّة إبراز ما تقرّر في الذهن ، فالألفاظ الاسميّة لا توجد المعاني وإنما تبرز الخواطر الذهنيّة في إطار جمل لفظيّة.

وأما المراد من إيجاديّة المعاني الحرفيّة فهو أن المعاني الحرفيّة ليس لها تقرّر قبل نشوء الجمل اللفظية ، فهي توجد بوجود الحروف والهيئات التركيبيّة في الجمل اللفظية ؛ وذلك لأن الحرف ـ وكذلك الهيئات التركيبيّة ـ هي وسيلة الربط في الجمل اللفظية وهي الموجدة للنسب الربطيّة بين الأسماء ، وبهذا تكون الحروف والهيئات موجدة للمعنى الحرفي في الذهن وقبل ذلك لم يكن له وجود.

والجواب : إنه لا فرق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي من هذه الجهة ، فكما أن المعاني الاسميّة إخطاريّة ، فكذلك المعاني الحرفيّة ، إذ أن الجمل اللفظية بأسمائها وحروفها وهيئاتها التركيبيّة انعكاس عما ينخطر في الذهن من صور هذه الجمل ، نعم الحروف والهيئات التركيبيّة توجد الربط بين الأسماء في الجمل اللفظية إلا أن إيجادها هذه النسب الربطيّة نشأ عن تقرّر هذه المعاني وواقع النسب في مرحلة سابقة على الإبراز.

ولما كان ما ذكرناه أوضح من أن يخفى على المحقق النائيني قدس‌سره لذلك يقع التشكيك في هذه النسبة.

١٩٩

المقارنة بين الحروف والأسماء الموازية لها :

قلنا فيما سبق إن ألفاظ الحروف وألفاظ الأسماء كلّها من قبيل الكلمات البسيطة التي وضعت بموادّها وهيئاتها بوضع واحد ، ولو لاحظنا كلّ الحروف لوجدنا أنّ لكلّ واحد منها ما يماثله ـ من حيث المعنى ـ في الأسماء ، فمثلا حرف ( ل ) يماثله في الأسماء كلمة ( الغرض ) ، فحينما أقول : ( جئت لزيارتك ) ، فهذا مثل ( غرضي زيارتك ) ، وحرف ( لا ) يمثاله من الأسماء كلمة ( النهي ) ، فقول : ( لا تضرب ) مثل ( أنهاك عن الضرب ) ، وحرف ( في ) يماثله من الأسماء ( الظرفية ) ، فحينما نقول : ( الماء في الكأس ) فهو مثل ( ظرف الماء الكأس ) وهكذا سائر الحروف.

وكذلك الكلام في الهيئات التركيبيّة والتي هي النسب الربطيّة في الجمل فإنّ لكلّ هيئة ما يماثلها من الألفاظ الاسميّة ، فمثلا ( زيد يشرب الماء ) فإن الهيئة التركيبيّة في هذه الجملة أفادت نسبة الشرب لزيد ولهذه النسبة المستفادة من الهيئة التركيبيّة من الجملة ما يماثلها في الألفاظ الاسمية وهي ( شرب زيد للماء واقع فعلا ).

إذن اتّضح مما تقدم أنّ ألفاظ الحروف وكذلك الهيئات لها ما يماثلها من الألفاظ الاسمية إلا أنه لا بدّ من الالتفات إلى أن هذا التماثل ليس من قبيل الترادف وإلا لصحّ وقوع كلّ منهما محل الآخر إذ أن هذا هو مقتضى الترادف ، فإنه في الترادف يصح أن نستبدل مثلا لفظ أسد في مثل رأيت أسدا بلفظ ليث ، إلا أن ذلك لا يصحّ في مثل الحروف والأسماء المتماثلة معنى ، إذ أنه لا يمكن استبدال الحرف الواقع في جملة بالاسم المماثل له في

٢٠٠