شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

العلاقة الواقعيّة بين اللفظ والمعنى ، إذ أنّ الاعتبار أقصى ما يمكن أن يفسّره هو أن الوضع نشأ عن الاعتبار ، أمّا كيف تحققّت بعد ذلك العلاقة الواقعيّة والتي لا تنتهي بانتهاء وبإلغاء الاعتبار.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّه يمكن تنظير العلاقة الواقعيّة بين اللفظ والمعنى بالماء والحرارة والذي نشأت حرارته عن النار ثم رفعناه عن النار ، فإنّ علاقة النار بالحرارة علاقة واقعيّة كما أنّه لا يمكن تفسير بقاء هذه العلاقة بالنار ، بأن نقول : إن النار هي السبب في بقاء الحرارة للماء إذ أنّ الفرض هو رفع الماء عن النار ومع ذلك بقيت الحرارة للماء على حالها ، ترى ما هو تفسير بقاء الحرارة للماء؟

هذا التفسير هو الذي نبحث عنه في علاقة اللفظ بالمعنى إذ أننا لو سلّمنا أن المنشأ في حصول العلاقة بين اللفظ والمعنى هو اعتبار الواضع إلاّ أنّ ذلك لا يفسّر لنا سرّ بقاء العلاقة على حالها حتى مع رفع اليد عن هذا الاعتبار.

إذن لا بدّ من البحث عن نظرية أخرى تفسّر لنا حقيقة هذه العلاقة الواقعيّة.

النظريّة الثالثة : التعهّد

وهذه النظريّة تحتفظ بدعوى أنّ العلاقة بين اللفظ والمعنى نشأت عن الوضع إلاّ أنها تفسّر هذه العلاقة بما يتناسب مع واقعيّتها.

وبتعبير آخر : هذه النظرية تطرح تفسيرا للعلاقة بين اللفظ والمعنى ينسجم مع واقعية هذه العلاقة.

والمراد من التعهّد ـ والذي جعلته هذه النظرية مبررا للعلاقة بين

١٦١

اللفظ والمعنى ـ المراد منه الالتزام والتباني النفساني من الواضع بأن لا يتلفظ بهذا اللفظ إلاّ إذا كان مريدا لتفهيم هذا المعنى ، فيكون قصد تفهيم المعنى هو المبرّر للوضع ولولاه لما نشأ الوضع ولما كان للواضع أيّ غرض في اعتبار لفظ بإزاء معنى.

وبتعبير آخر : لو لا تعلّق الغرض عند الواضع بإبراز مقاصده وحاجاته لما كان ينشأ الوضع ويعتبر ألفاظا دالّة على معان ، فكما أنّ الأخرس يحدث إشارات لتفهيم مقاصده ولو لم يكن له قصد لما أحدث هذه الإشارات فكذلك الواضع لو لا أنّه يحتاج إلى إيصال مقاصده لما أنشأ الوضع ، فهذا إذن هو السرّ في العلاقة الواقعيّة بين اللفظ والمعنى ، إذ أن هذه العلاقة مرتبطة بواقع نفس الواضع وحاجته في إيصال أغراضه ومراداته ، فإذن العلاقة بين اللفظ والمعنى بناء على هذه النظرية ليست جزافية بل لها منشأ يرتبط بواقع النفس ، وهذا الواقع لا يمكن تجاوزه كما هو الحال بناء على مسلك الاعتبار إذ أن تجاوز الاعتبار يكون عن أحد أمرين إما أن يتنازل الواضع عن غرضه في تفهيم مقاصده وهذا إن حصل فهو يعنى انتهاء العلاقة بين اللفظ والمعنى ـ وهذا ما يؤكد أن منشأ العلاقة هو تعلّق غرض الواضع بتفهيم مقاصده ـ في حين أنّنا على مسلك الاعتبار نرى بالوجدان عدم انعدام العلاقة برفع اليد عن الاعتبار مما يؤكّد أن الاعتبار ليس هو المبرّر للعلاقة.

الثاني من الأمرين اللذين يتصوّر بهما تجاوز الاعتبار هو أن يكون المتجاوز للاعتبار غير الواضع ، وهذا لا يكون على مسلك التعهّد إذ أنّ كلّ متكلّم واضع كما سيأتي ، نعم هو متصوّر بناء على مسلك الاعتبار ، إذ أنّ

١٦٢

المعتبر قد يكون غير المستعمل.

ومع اتّضاح مسلك التعهّد تتّضح الثمرة المترتّبة بينه وبين مسلك الاعتبار ، فبناء على مسلك التعهّد يكون كلّ متكلّم واضعا ؛ وذلك لأن التعهد ـ كما قلنا ـ عبارة عن التباني النفساني بأن لا يتلفّظ بهذا اللفظ إلا إذا كان قاصدا لتفهيم هذا المعنى ، وهذا التباني لا يتصوّر إلا في حالة يكون فيها كل متكلّم واضعا إذ أن المتكلّم إذا لم يكن واضعا فهذا يعني أنه غير ملتزم ومتعهّد وإنما المتعهد غيره وهو خلف الفرض.

أما بناء على مسلك الاعتبار ، فيمكن أن يكون الواضع غير المتكلّم إذ أن الواضع يعتبر اللفظ علامة على المعنى فتنشأ عن ذلك علاقة بين اللفظ والمعنى يستفيد منها كلّ متكلّم.

وهناك ثمرة أخرى مهمّة تترتّب على الفرق بين المسلكين ، وهي : أن الوضع بناء على التعهّد هو الذي ينشأ الدلالة التصديقية الأولى « الاستعمالية » إذ أن الدلالة التصديقية الأولى « كما قلنا » هي ما يكون فيها المتكلّم قاصدا لتفهيم المعنى من اللفظ ، وهذا هو معنى التعهّد المحقّق للوضع ؛ ولذلك لا تتعقّل بناء على مسلك التعهّد الدلالة التصوّرية التي هي مستفادة من حاق اللفظ إذ أن اللفظ بناء على هذا المسلك لا يكشف عن المعنى ما لم يكن المتكلّم متعهّدا باستخدام هذا اللفظ لغرض تفهيم المعنى فاللفظ وحده بناء على التعهّد غير كاف في تحقيق الدلالة ؛ فلذلك ليس عندنا بناء على هذا المسلك إلاّ دلالتان ، الأولى : هي الدلالة التصديقيّة الأولى ، والثانية : هي الدلالة التصديقيّة الثانية.

وأما بناء على مسلك الاعتبار ، فالدلالة التصديقية الأولى ليست

١٦٣

ناشئة عن الوضع بل هي ناشئة عن معرفة حال المتكلّم وأنه ملتفت وقاصد لإخطار المعنى في الذهن ، فالدلالة التصديقية الأولى بناء على هذا المسلك دلالة حالية سياقية ، والذي هو ناشئ عن الوضع بناء على هذا المسلك هو الدلالة التصوّرية حيث إن الدلالة بناء على الاعتبار نشأت عن اعتبار اللفظ مفيدا لتصور المعنى.

الإشكال على مسلك التعهّد :

أورد المصنّف رحمه‌الله على مسلك التعهّد بإيرادين :

الأول : إن مسلك التعهّد لا يستطيع تفسير الاستعمالات المجازيّة والتي يستعمها كل متكلّم إذ أن المتكلّم إذا كان بانيا على عدم الإتيان بهذا اللفظ إلا إذا كان مريدا لتفهيم هذا المعنى فهذا يعني أن استعمالاته المجازية تكون على خلاف ما تعهّد به إذ أنّه في الاستعمال المجازي يأتي باللفظ ولا يكون قاصدا لتفهيم ذلك المعنى ـ الذي تعهّد بأن لا يأتي بهذا اللفظ إلاّ لتفهيمه ـ بل يكون قاصدا لتفهيم معنى آخر.

وقد تقول إن المتكلّم وإن كان متعهّدا بألاّ يأتي بهذا اللفظ إلا إذا كان قاصدا لتفهيم هذا المعنى إلا أنه ملتزم ضمنا بأن ذلك التعهّد في غير حالات الاستعمال المجازي بأن يقول هكذا : « أنا متعهّد بأن لا آتي بهذا اللفظ إلاّ إذا كنت مريدا لتفهيم هذا المعنى ما عدا حالات الاستعمال المجازي ».

الثاني : إن مسلك التعهّد يفترض أن المتكلم وقبل أن يتكلم يتصوّر معنى ثم يضع بإزاء هذا المعنى لفظا ثم يتعهّد بينه وبين نفسه بأن لا يأتي بهذا اللفظ إلا أن يكون قاصدا لتفهيم هذا المعنى ، ويفترض أيضا أن المتكلّم حينما يريد استعمال هذا اللفظ لتفهيم هذا المعنى يرجع إلى نفسه ليرى بأيّ

١٦٤

شيء هي التزمت ، ثم يطابق بين ما التزم به وبين هذا اللفظ وهذا المعنى الذي يريد تفهيمه الآن ، فإذا رأى ذلك مطابقا لما التزم به استعمله وإلاّ لا يستعمله ، فكأنه يشكّل قياسا استثنائيا هكذا.

هذا اللفظ قد تعهّدت أن لا استعمله إلا في تفهيم هذا المعنى ، وهذا المعنى الذي أريد تفهيمه الآن مطابق للمعنى الذي تعهّدت به إذن يصح أن أستعمل هذا اللفظ لتفهيم هذا المعنى.

وفي حالات أخرى تنعكس النتيجة هكذا.

إن هذا اللفظ قد تعهّدت أن لا أستعمله إلا لتفهيم هذا المعنى ، والمعنى الذي أريد تفهيمه الآن يغاير المعنى الذي تعهدت بأن لا آتي بهذا اللفظ إلا لتفهيمه ، إذن هذا اللفظ لا أستعمله لتفهيم هذا المعنى الثاني.

إذن المتكلّم بناء على هذا المسلك حينما يضع لفظا بإزاء معنى وحينما يريد استعمال اللفظ في المعنى يحتاج إلى تشكيل أقيسة منطقيّة ويحتاج أيضا إلى إدراك معنى الملازمة ؛ لأنه في تعهّده يجعل اللفظ ملزوما والمعنى لازما كما يفترض أن يكون المتكلّم قادرا حين الاستعمال على الانتقال من الملزوم إلى اللازم.

كل ذلك يحتاجه المتكلّم بناء على مسلك التعهّد في حين أن ذلك لا يتناسب مع المتكلّم في مرحلة طفولته فإمّا أن نتنازل عن مسلك التعهّد في مرحلة الطفولة لعدم تعقّله في هذه المرحلة ، ولا نحتمل أن صاحب هذه النظرية يقبل ذلك لأنه يعنى عدم الإجابة عن منشأ العلاقة بين اللفظ والمعنى إذ أن منشأ العلاقة بين اللفظ والمعنى لا تتفاوت بتفاوت عمر الإنسان.

١٦٥

النظرية الرابعة : نظرية القرن الأكيد :

وهي التي تبنّاها المصنّف رحمه‌الله ، وهذه النظرية تقف على جذور العلاقة الواقعية بين اللفظ والمعنى ، فهي وإن كانت تقبل بأن الوضع قد ينشأ عن اختراع الواضع لفظا واعتباره دالا على معنى من المعاني ، إلاّ أنها تعتبر ذلك وسيلة من وسائل نشوء العلاقة وليس هو السبب في واقعيّة هذه العلاقة ، وإنّما السبب في واقعيّة هذه العلاقة هو الاقتران الأكيد في ذهن الإنسان بين اللفظ والمعنى إذ أنّ فكر الإنسان ركّب تكوينا على أنّه إذا ارتبط شيء في ذهنه بشيء واستوثق ذلك الارتباط فإنّ ذلك يؤدي إلى انخطار الثاني بتصوّر الأول ، مثلا حينما يصاب الإنسان بمشكلة مستعصية ويكون سبب هذه المشكلة هو زيد من الناس فهنا يحدث ذهن الإنسان ـ بحسب ـ طبعه ـ ربطا بين هذه المشكلة المستعصية وبين زيد من الناس ، ثم إنّ هذا الارتباط يظلّ مختزنا في ذهن هذا الإنسان بحيث لو مضى على هذه المشكلة عقود من الزمن فإنّه كلّما تذكّر المشكلة انقدحت في ذهنه صورة زيد وكذلك العكس ، وما ذلك إلاّ للإرتباط الذهني الوثيق بين المشكلة وبين زيد.

والارتباط بين الألفاظ والمعاني من هذا القبيل إذ أنّ هذا الارتباط يحدث في ذهن الإنسان نتيجة عوامل معيّنة توجب توثيق الربط بين اللفظ والمعنى ، وهذه العوامل وإن كانت تختلف في طبيعتها إلاّ أنها تشترك في إحداثها للربط الوثيق بين اللفظ والمعنى ، فقد تكون هذه العوامل اتفاقية ، وقد تكون عنائية مقصودة.

ويمكن تنظير ذلك بتعليم الطفل اللغة ، فتارة يتم تعليمه عن طريق تكرار لفظ معيّن عند مشاهدة شيء معيّن فيحصل في ذهن الطفل اقتران

١٦٦

بين هذا اللفظ وبين ذلك الشيء ، وهذا الاقتران إنما هو من مقتضيات طبع الإنسان وتكوينه ، وتارة أخرى يكون التعليم عن طريق تلقين الطفل وتفهيمه بأنّ هذا الشيء يسمّى كذا وذاك يسمّى كذا ، وبهذا التلقين ينحدث ربط واقتران في ذهنه بين اللفظ وذاك المعنى ، وهذا الربط والاقتران أيضا من مقتضيات تكوين الإنسان وطبعه الذي طبعه الله عزّ وجلّ عليه.

إذن يمكن إجمال هذه النظرية بأن يقال : إنّ السرّ في واقعيّة العلاقة بين اللفظ والمعنى هو ما طبع عليه ذهن الإنسان من القدرة على تشكيل علائق وروابط بين الأشياء ، وتكون طبيعة هذه العلائق بعد ذلك أنّه كلما خطر في ذهنه أحد الشيئين المقترنين ينقدح الآخر حتى ولو لم يكن مريدا لذلك.

ومع اتضاح معنى هذه النظرية يتّضح أنها تتّفق مع نظرية الاعتبار في أنّ الوضع سبب للدلالة التصورية فحسب ؛ وذلك لأنّ الاقتران لا يوجب أكثر من تصوّر المعنى عند صدور اللفظ ، أمّا أنّ الآتي باللفظ قاصد لتفهيم المعنى فهذا خارج عمّا تقتضيه نظرية القرن وعليه تكون الدلالة التصديقيّة مستفادة ـ بناء على هذه النظرية ـ من حال المتكلّم.

الوضع التعييني والتعيّني :

ذكروا أنّ الوضع بلحاظ ما يسبّبه ويحقّقه ينقسم إلى قسمين :

الأوّل : الوضع التعييني : وهو ما يتصدّى فيه الواضع لجعل لفظ دالا على معنى بحيث يبذل عناية خاصة ومقصودة لهذه العملية كأن يقول : وضعت لفظ الأسد للحيوان المفترس.

١٦٧

الثاني : الوضع التعيّني : وهو ما يكون تحقّقه إتفاقيّا بحيث يكون ناشئا عن كثرة استعمال لفظ في معنى فينتج عن هذه الكثرة في الاستعمال أنس ذهني يوجب الانتقال من اللفظ إلى المعنى.

وهنا تظهر ثمرة ـ بين نظرية القرن الأكيد وبين نظريّتي الاعتبار والتعهّد ـ وهي أنّه بناء على نظرية القرن الأكيد يمكن تبرير القسم الثاني من قسمي الوضع ؛ وذلك لأننا قلنا إنّ القرن الأكيد هو عبارة عن ربط يحدثه ذهن الإنسان ـ بمقتضى طبعه وتكوينه ـ بين اللفظ والمعنى ، وهذا الربط الذهني يكون ناشئا عن اقتران خارجي أيّا كانت طبيعة هذا الاقتران ، فإذا كان كذلك فمن الواضح أنّ كثرة استعمال لفظ في معنى نوع اقتران خارجي بين اللفظ والمعنى ، هذا الاقتران الخارجي يوجب نشوء ارتباط في الذهن بين اللفظ والمعنى وبه تكون كثرة الاستعمال موجبة للوضع التعيّني بناء على نظريّة القرن الأكيد.

وأمّا بناء على نظريّتي الاعتبار والتعهّد فلا يتعقّل فيهما الوضع التعيّني إذ الاعتبار متقوّم ببذل العناية المخصوصة والمقصودة لغرض جعل اللفظ دالا على المعنى في حين أنّ كثرة الاستعمال عملية عفويّة لم يتصدّ أحد لإيجادها ، فلا اعتبار ولا معتبر.

وكذلك الكلام في التعهّد إذ هو متقوّم بالتباني النفساني على أن لا يأتي باللفظ إلاّ أن يقصد تفهيم المعنى ، فإذن هو متقوّم بوجود تعهّد ومتعهّد ، وكثرة الاستعمال ليست إلاّ عملية اتفاقية ، بل إنّه بناء على التعهّد لا يوجد استعمال إلاّ بتعهّد مسبق ولا يشذ عن ذلك أحد كما اتضح مما تقدّم.

١٦٨

نعم ، يمكن أن تكون كثرة الاستعمال كاشفة عن وجود اعتبار وتعهّد ، فيكون الفرق بين نظرية القرن الأكيد وبين النظريّتين أنّه بناء على القرن الأكيد تكون كثرة الاستعمال موجده للوضع ، فلذلك يكون الوضع متأخّرا عنها ، وأمّا بناء على النظريّتين ـ الاعتبار والتعهّد ـ فدور كثرة الاستعمال هو دور الكاشف عن وجود تعهّد واعتبار.

وبهذا يتّضح أنّ الوضع التعييني والتعيّني ليسا موجدين للوضع وإنما لهما دور الكشف عنه ، غاية ما في الأمر أنّ كيفيّة الكشف مختلفة ، فهي في التعيّني تكون كثرة الاستعمال كاشفة ، وأمّا في التعييني فالكاشف عن الوضع هو تصريح الواضع بأنه قد وضع اللفظ بإزاء هذا المعنى.

توقّف الوضع على تصوّر المعنى :

قلنا : إن الوضع عبارة عن جعل اللفظ دالا على معنى من المعاني ، فالوضع بهذا حكم على المعنى كما هو حكم على اللفظ ، فيكون المعنى واللفظ محكوما عليهما ، أي أن المعنى واللفظ كلا منهما يمثّل جزء موضوع لقضيّة يكون المحمول فيها الوضع ، فكأنّما الواضع يشكّل قضية هذه صورتها « اللفظ والمعنى يدلّ الأوّل منهما على الثاني » ، فاللفظ والمعنى يمثّلان موضوع القضية « ويدل الأول على الثاني » هو محمول القضية وهو عين الوضع كما هو واضح ، فإذا كان الوضع هو الحكم على اللفظ والمعنى فهذا يقتضي أن يتصوّر الحاكم اللفظ والمعنى في رتبة سابقة على جعل الحكم ـ أي جعل الوضع ـ ؛ وذلك لاستحالة جعل الأحكام قبل تقرر موضوعاتها كما ذكرنا ذلك في بحث القطع الموضوعي.

وباتّضاح هذه المقدّمة نقول : إن الوضع ينقسم إلى عدّة تقسيمات ،

١٦٩

منشأ هذه التقسيمات هو ملاحظة الوضع في كل تقسيم بلحاظ يختلف عنه في التقسيم الآخر ، فحينما نلحظ الوضع من جهة ما يسببه ويحققه ، فالوضع ينقسم إلى وضع تعييني ووضع تعيّني ، وحينما نلاحظه من جهة اللفظ الذي يراد جعله دالا على المعنى ، فالوضع ينقسم إلى وضع شخصي ووضع نوعي ، وهكذا تختلف تقسيمات الوضع باختلاف الحيثية الملحوظة فيه عند التقسيم.

وهنا نتعرّض لبيان أحد تقسيمات الوضع ، والذي هو تقسيم بلحاظ المعنى الذي يراد جعل اللفظ دالا عليه ، فهو إذن تقسيم الوضع بلحاظ موضوعه وهو المعنى ، فنقول : إن المعنى الذي يمكن تصوّره حين الوضع على نحوين :

النحو الأول : أن نتصوّر المعنى ـ الذي نريد جعل اللفظ دالا عليه ـ بنفسه بحيث نستحضره في ذهننا كاملا ومن تمام حيثيّاته وبما له من سعة أو ضيق وذلك مثل أن نستحضر ونتصوّر معنى زيد بما له من مشخّصات ، ثم نضع اللفظ بإزاء هذا المعنى المتشخّص والمحدّد ، وكذلك مثل أن نتصوّر معنى الإنسان بما له من حيثيّات تميّزه عن سائر المعاني وبما له من سعة بحيث يشمل أفراده ، ثم نضع اللفظ بإزاء هذا المعنى المحدّد.

النحو الثاني : أن نستحضر ونتصوّر المعنى ولكن ليس بنفسه وإنما بعنوانه المنطبق عليه ، فيكون هذا العنوان العام مشيرا ومنوّها بالمعنى الذي يراد جعل اللفظ دالا عليه ، وذلك مثل أن نتصوّر معنى زيد ولكن ليس بنفسه وبمشخّصاته الخاصة به وإنما بعنوان هذا العنوان صالح لأن ينطبق عليه ، وهو مثلا عنوان الإنسان أو عنوان الرجل ، فهنا نكون قد تصوّرنا

١٧٠

معنى زيد بعنوان كلّي صالح للانطباق عليه.

ومع اتّضاح هذين النحوين من تصوّر المعنى ، نكون قد توفّرنا على الشرط الذي يصحّح لنا الوضع ، إذ قلنا إن الوضع لا يمكن إلا بعد تقرّر الموضوع. والمعنى أحد جزئي الموضوع ، وإذا ما تقرّر الموضوع عندنا وتصوّرناه أمكن جعل لفظ دالا عليه.

ومن هنا يكون الوضع بلحاظ المعنى المتصوّر منقسما إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول : الوضع العام والموضوع له العام :

وهو أن يتصوّر الواضع معنى من المعاني الكلّيّة ويحدّده في ذهنه بما له من جنس وفصل ثم يجعل لفظا بإزاء هذا المعنى الكلي المحدّد ، مثل أن يتصوّر معنى الحيوان الناطق ويميّز هذا المعنى عن المعاني الكليّة الأخرى ، ثم بعد ذلك يجعل لفظا من الألفاظ دالا عليه كلفظ الإنسان فيكون لفظ الإنسان دالا على المعنى الكلّي والذي هو الحيوان الناطق.

فالموضوع له في هذا القسم هو المعنى الكلي المتصوّر في الذهن قبل الوضع ، والمراد من الموضوع له أي الذي وضع له اللفظ ، فالضمير في « له » راجع إلى اللفظ.

والمراد من الوضع العام هو هذه العملية التي يتصدّى لها الواضع والتي هي جعل اللفظ بإزاء المعنى ؛ وسمّي وضعا عاما لأن اللفظ الذي جعله الواضع بإزاء المعنى لفظ جعل دالا على معنى كلّي عام ، فاتّصاف الوضع بالعموم إنما هو بلحاظ المعنى الموضوع له اللفظ والذي هو في المثال الحيوان الناطق.

١٧١

القسم الثاني : الوضع الخاص والموضوع له الخاص :

وهو أن يتصوّر الواضع معنى من المعاني الجزئيّة ويشخّصه ويحدّده في ذهنه ، ثم يجعل لفظا بإزاء هذا المعنى الجزئي المشخّص ، مثل أن يتصوّر الواضع فردا من أفراد الإنسان ويحدّده في ذهنه بتمام مشخّصاته الخاصّة به ، ثم يجعل لفظ زيد دالا على هذا المعنى الخاص المتصوّر في الذهن.

فالموضوع له في هذا القسم هو المعنى الجزئي المتشخّص في الذهن والذي عبّر عنه بالخاص.

وسمّي هذا الوضع خاصّا لأن اللفظ الذي جعله الواضع بإزاء المعنى لفظ جعل دالا على معنى جزئي متشخّص.

الوضع العام والموضوع له الخاص :

وهو أن يتصوّر الواضع معنى من المعاني الجزئيّة ولكن عن طريق تصوّر عنوان كلي صالح للانطباق على المعنى الجزئي ، ويكون دور العنوان الكلّي دور المشير والملفت للمعنى الجزئي المشمول لهذا العنوان الكلي.

كأن يتصوّر الواضع فردا من أفراد الإنسان إلا أن هذا التصوّر يتم عن طريق تصوّر عنوان هذا الفرد الذي يكون هذا الفرد داخلا تحته ، ثم يضع لهذا الفرد من أفراد الإنسان لفظا يدل على هذا الفرد ، ولكن بعنوانه الكلي لا بحدوده الخاصّة به ، فيقول هذا هذا الفرد ـ المتصوّر عن طريق تصوّر عنوانه ـ إنسان فلفظ الإنسان جعل دالا على الفرد المتصوّر ولكن بما هو مشمول لعنوانه العام.

فالموضوع له في هذا القسم هو المعنى الجزئي غير المتشخّص بمشخّصاته الخاصّة به ، وإنما بعنوانه الكلي الصادق عليه ، ولذلك صار

١٧٢

الموضوع له في هذا القسم خاصّا ، أي الذي وضع له اللفظ هو معنى خاص.

وسمّي الوضع هنا عامّا لأن اللفظ الذي جعله الواضع دالا جعله دالا على معنى خاص متعنون بعنوان عام.

ومع اتّضاح هذه الأقسام الثلاثة نعرف أن المناسب للقسم الأول هو وضع أسماء الأجناس ، مثل وضع لفظ الأسد دالا على معنى الحيوان المفترس ، والمناسب للقسم الثاني هو وضع الأعلام الشخصيّة ، كوضع لفظ « مكّة » بإزاء تلك البقعة المباركة.

وأما القسم الثالث فقد وقع الخلاف فيما يناسبه وهل أن وضع الحروف مما يناسب هذا القسم أو لا؟ وهذا ما سنبحثه في المعاني الحرفية إن شاء الله تعالى.

هذا تمام الكلام في الأقسام الممكنة في الوضع ، ويقع الكلام في قسم رابع من الوضع وهو :

الوضع الخاص والموضوع له العام :

ويفترض في هذا القسم من الوضع أن الواضع يتصوّر معنى جزئي غير صالح للانطباق إلاّ على نفسه ، ثم بعد ذلك يضع اللفظ بإزاء معنى كلي عام ، فالموضوع له اللفظ هو المعنى الكلي العام وإن كان المتصوّر حين الوضع هو المعنى الجزئي.

وتلاحظون أن هذا مستحيل إذ أنّ الوضع كما قلنا هو حكم على المعنى وهذا يقتضي أن يكون المعنى متصوّرا قبل الوضع ، وفي هذا القسم يكون المعنى المتصوّر غير المعنى المحكوم عليه ، أي غير المعنى الموضوع له

١٧٣

اللفظ ، فالمعنى الموضوع له اللفظ هو العنوان الكلي أو قل هو المفهوم الكلي ، والمعنى المتصوّر للواضع حين الوضع هو المعنى الجزئي ، ومن الواضح أن المعنى الجزئي لا يوجب تصوّر المعنى الكلّي ، فهو غير مساو للكلّي إذ أنّ هذا خلف جزئيته ، كما لا يصلح للإشارة إلى العنوان الكلّي إذ أنّ العنوان الكلّي ليس داخلا تحت الجزئي وصلوح المعنى لأن يشير إنما هو في حالة يكون المعنى المشار إليه مشمولا وداخلا تحت العنوان المشير.

ويمكن أن نمثّل لذلك بما لو تصوّر الواضع مفهوم الحيوان الناطق بما له من سعة ثم وضع لفظ زيد بإزاء ذات من أفراد هذا المفهوم العام ، فهنا يكون المعنى المتصوّر غير المعنى الموضوع له لفظ زيد إذ أن المعنى المتصوّر حين الوضع هو مفهوم الحيوان الناطق بما له من السعة والمعنى الذي وضع اللفظ بإزائه وللدلالة عليه هو ذات من أفراد هذا المفهوم الكلّي ، وهذا يعني أن الذي وضع بإزائه اللفظ هو معنى جزئي ، والمعنى الجزئي لا يصلح للإشارة إلى المعنى الكلّي لعدم مساوته له وعدم دخوله تحت عنوان جزئي كما هو واضح.

وبهذا اتّضح استحالة هذا القسم ، وهو الوضع الخاص والموضوع له العام.

توقّف الوضع على تصوّر اللفظ :

قلنا فيما سبق إنّ الوضع حكم على اللفظ والمعنى ، وهذا يقتضي تصوّر اللفظ والمعنى قبل الوضع.

وقد ذكرنا فيما سبق أقسام الوضع بلحاظ تصوّر المعنى الذي يراد

١٧٤

وضع اللفظ دالا عليه ، ويقع الكلام في المقام عن تقسيم الوضع بلحاظ تصوّر اللفظ الذي يراد جعله دالا على المعنى.

فنقول : إنّ الوضع بهذا اللحاظ ينقسم إلى قسمين :

الأول : الوضع الشخصي : وهو ما يكون اللفظ فيه متصوّرا بنفسه ، وذلك بأن يتصوّر الواضع لفظا بمادّته وهيئته ثم يضعه بإزاء معنى من المعاني ، ويمكن التمثيل لهذا القسم من الوضع بأسماء الأجناس وبأسماء الأعلام الشخصيّة ، وذلك مثلا بأن يتصوّر الواضع لفظ أسد بمادته والتي هي ( أ ، س ، د ) وبهيئته والتي هي ( فعل ) بفتح الفاء والعين ، ثم يضع هذا اللفظ بإزاء معنى كلّي وهو الحيوان المفترس ، وهذا هو وضع أسماء الأجناس ، وأما وضع أسماء الأعلام الشخصية فمثاله أن يتصوّر الواضع لفظ زيد بمادّته وهيئته ثم يضعه بإزاء معنى جزئي وهو في المثال ذات من أفراد الإنسان.

الثاني : الوضع النوعي : وهو ما يكون اللفظ فيه متصوّرا بعنوان عام ومشير ، وذلك بأن يتصوّر الواضع مادّة في هيئة من الهيئات ، تكون هذه المادة عنوانا مشيرا إلى الهيئة ، ثم يضع المادّة المتهيّئة بهيئة خاصّة بإزاء معنى كلّي وليس غرضه من الوضع سوى تحديد هيئة للمعنى الكلّي ، وإنّما جعل الهيئة في ضمن مادة لأجل الإشارة إلى الهيئة لعدم قدرة الواضع على إحصاء كل المواد المتهيّئة بهذه الهيئة ، ومثال ذلك أن يتصوّر الواضع هيئة الفعل الماضي في ضمن عنوان مشير إليها ـ وهو ( فعل ) « الفاء والعين واللام فتح الثلاثة » وهو إنّما احتاج في تصوّر هيئة الفعل الماضي إلى المادّة لأنّ الهيئة لا تكون إلاّ في ضمن مادة من المواد ـ ثم يضع هذه المادّة المتهيّئة بهذه

١٧٥

الهيئة المخصوصة بإزاء معنى كلّي عام وهو في المثال ( الحدث الذي مضى زمانه ).

فهذا هو الوضع النوعي وسمّي هذا الوضع نوعيّا لأنّ اللفظ المتصوّر حال الوضع لفظ غير مقصود بنفسه وإنّما بهيئته التي لها سريان في سائر المواد المتهيّئة بمثل هذه الهيئة.

المجاز :

يعرّف المجاز عادة : بأنّه استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، أي : في معنى ليس ذلك اللفظ موضوعا للدلالة عليه بل إنّ اللفظ الموضوع للدلالة عليه غيره ، كاستعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع ، فإنّ الرجل الشجاع ليس موضوعا له لفظ الأسد.

والمصحّح للمجاز عادة المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، فالمعنى الذي وضع الواضع اللفظ للدلالة عليه إذا شابهه معنى آخر تكون هذه المشابهة مبرّرة لاستعمال ذلك اللفظ الذي وضع للمعنى المشابه ـ بفتح الباء ـ في المعنى المشابه ـ بكسر الباء ـ وذلك مثل استعمال لفظ السواد للتعبير عن الكراهة وعبوس الوجه ، فإن لفظ السواد لم يوضع لذلك وإنما وضع للون من الألوان ، ولكن المشابهة بين معنى لفظ السواد ـ وهو اللون الخاص ـ وبين الكراهة وعبوس الوجه سوّغ استعماله في المعنى المشابه للمعنى الموضوع له لفظ السواد ، قال الله تعالى : ( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى

١٧٦

ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) (١).

ومع اتّضاح هذه المقدّمة نقول : إنّ الوضع ـ وبسبب القرن الأكيد ـ يحدث علاقة بين المعنى وبين اللفظ الذي وضع لغرض الدلالة على ذلك المعنى ، وهذه العلاقة توجب تصوّر المعنى بمجرّد إطلاق اللفظ. ولمّا كان لهذا المعنى ما يشابهه من معان أخرى ـ بحيث تكون هذه المشابهة نحو علاقة موجبة للتقارن في الذهن ـ هذه المشابهة تكون مبرّرا لاستعمال اللفظ في المعنى الآخر المشابه للمعنى الموضوع له اللفظ ، فيكون الاقتران الذهني بين المعنى الموضوع له اللفظ والمعنى المشابه له محققا للاقتران بين اللفظ المقترن بمعناه الحقيقي وبين المعنى المشابه والذي هو المعنى المجازي.

وبعبارة أخرى : المشابهة بين معنى ومعنى آخر تولّد اقترانا بين اللفظ ـ الذي هو للمعنى الأوّل ـ وبين المعنى الثاني فتكون المشابهة سببا في نشوء علاقة بين اللفظ والمعنى الثاني إلاّ أن هذه العلاقة ليست في استيثاقها واستحكامها كالعلاقة الواقعة بين اللفظ والمعنى الأول الموضوع له ذلك اللفظ ؛ فلذلك عندما يطلق اللفظ يكون المنسبق منه إلى الذهن هو المعنى الأول ، بل استحكام العلاقة بين المعنى واللفظ الموضوع لذلك المعنى توجب انسباق المعنى الأول من اللفظ حتى في موارد العلم بعدم إرادته وقد بيّنّا ذلك فيما سبق.

إذن العلاقة بين اللفظ والمعنى المجازي في طول العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي ، نعم عند ما نستعمل اللفظ في المعنى الثاني المجازي مع القرينة تكون

__________________

(١) سورة النحل : آية ٥٨

١٧٧

دلالة اللفظ بإضافة القرينة على المعنى المجازي دلالة فعلية يمكن الاعتماد عليها.

ثم إن الكلام في احتياج دلالة اللفظ على المعنى المجازي إلى وضع جديد ، فنقول : إن من الواضح عدم الحاجة إلى ذلك لكفاية المعنى الحقيقي في الربط بين المعنى المجازي واللفظ ، فيكون المعنى الحقيقي واسطة في ثبوت العلاقة بين اللفظ والمعنى المجازي ، وبالتالي يكون اللفظ صالحا للدلالة على المعنى المجازي ، وهذا المقدار لا إشكال فيه.

إنما الإشكال في استعمال اللفظ في المعنى المجازي بدون وضع جديد ، بأن يقال : إن صحة استعمال اللفظ في المعنى المجازي متوقّفة على إنشاء وضع جديد بين اللفظ وبين المعنى الثاني المجازي ؛ وذلك لأنّ دلالة اللفظ على المعنى المجازي غير كافية وحدها لتصحيح الاستعمال ما لم يكن هناك وضع ؛ إذ المصحح للاستعمال هو الأوضاع اللغوية ، وبهذا يكون استعمال اللفظ في المعنى المجازي ـ بناء على هذا القول ـ مفتقرا إلى الوضع.

وفي مقابل هذا القول قول بكفاية دلالة اللفظ على المعنى المجازي في تصحيح الاستعمال.

وبتعبير آخر : إن العلاقة بين المعنى الأول والذي وضع اللفظ له والمعنى الثاني كافية في تصحيح استعمال اللفظ في المعنى الثاني المجازي.

ثم إن القائلين بلا بدّيّة الوضع في الاستعمال المجازي مسؤولون عن تصوير كيفيّة هذا الوضع الجديد ، إذ أنه لا بدّ من أن يكون الوضع الجديد مشتملا على حيثيّة تحتفظ بمجازيّة الوضع الجديد ، وبأنه في طول الوضع الأول وإلا لصار استعمال اللفظ في المعنى الثاني استعمالا حقيقيّا ويكون

١٧٨

بذلك اللفظ موضوعا بوضعين كل وضع على حدة ، وهذا ما يحوّل المجاز إلى مشترك لفظي وهو خلف الفرض إذ أن الدعوى هي الاحتفاظ بمجازية المعنى المجازي بعد الوضع الجديد.

ولذلك قال بعضهم ـ في مقام تصوير وضع جديد يحتفظ بهذه الحيثية المذكورة ـ إن الواضع يضع اللفظ بإزاء المعنى المجازي ، ولكن بشرط اشتماله على القرينة ، وبهذا يحتفظ المعنى المجازي بمجازيّته وطوليّته للوضع الأول.

ومع ذلك لم يقبل المصنّف رحمه‌الله بدعوى احتياج الاستعمال المجازي إلى وضع جديد وأن دلالة اللفظ على المعنى المجازي الناشئة عن العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي كافية لتصحيح الاستعمال في المعنى المجازي ؛ وذلك لأنّه ما المراد من صحّة الاستعمال التي تمسك بها القائلون بلزوم الوضع الجديد في المعنى المجازي؟

نقول : إنّ مرادهم من صحّة الاستعمال لا يخلو عن أحد معنيين :

المعنى الأوّل : أنّ صحة الاستعمال حسنه ، فقولهم لا يصح الاستعمال بغير وضع أي لا يحسن الاستعمال بغير وضع.

المعنى الثاني : أن المراد من صحة الاستعمال أنه لا يكون هذا الاستعمال منسوبا إلى لغة إلا إذا كان واضع هذه اللغة قد وضع هذا اللفظ دالا على هذا المعنى وبه تصحّ نسبة استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى إلى هذه اللغة. وكلا هذين المعنيين لا يقتضيان لزوم وضع جديد.

أما المعنى الأوّل : ـ وهو أن المراد من صحة الاستعمال حسنه وأنّه لا يحسن الاستعمال بغير وضع ـ فلا نسلم أنّ حسن الاستعمال متوقّف على خصوص الوضع ، إذ أن الغرض من الوضع هو إيجاد الدلالة على المعنى من

١٧٩

اللفظ الموضوع فإذا كانت الدلالة موجودة فأيّ حاجة إلى الوضع ، وهل هو إلا من تحصيل الحاصل إذ قلنا بكفاية العلاقة بين المعنى الأول الحقيقي والمعنى المجازي لتحقق الدلالة على المعنى المجازي باللفظ الموضوع للمعنى الأول الحقيقي.

وأما المعنى الثاني : ـ وهو أن المراد من صحة الاستعمال هو صحة انتسابه إلى لغة ـ فهذا غير مسلّم أيضا إذ أنّ صحة الانتساب إلى اللغة التي يتكلّم بها المتكلّم غير متوقّف على الوضع الجديد ؛ إذ أن استعمال اللفظ في المعنى المشابه ـ بصيغة الفاعل ـ للمعنى الموضوع له اللفظ مصحّح لانتساب هذا الاستعمال إلى تلك اللغة.

علامات الحقيقة والمجاز :

لمّا لم نكن مطّلعين على كل الأوضاع اللغوية حيث تستوقفنا كثير من الألفاظ المستعملة في معان معيّنة ولا ندري أنّه استعمال فيما وضعت له هذه الألفاظ حتى يكون الاستعمال حقيقيّا أو أنّه استعمال في غير ما وضعت له هذه الألفاظ فيكون الاستعمال مجازيّا ، لمّا لم نكن مطّلعين على ذلك نشأت الحاجة إلى البحث عمّا يميّز الاستعمال الحقيقي عن الاستعمال المجازي.

وهذا البحث يتصدّى لبيان هذه العلائم التي تميّز الحقيقة عن المجاز وهي كما يلي :

الأوّل : التبادر :

والمراد منه تصوّر معنى من المعاني بمجرّد إطلاق اللفظ بحيث يكون هذا اللفظ هو المتصوّر الأول في الذهن دون بقيّة المعاني ـ التي يمكن أن

١٨٠