شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

تنبيه :

لم يتّضح لنا منشأ ذكر السيد رحمه‌الله للمورد الرابع إذ أننا نتحدّث عن الموارد التي يسقط فيها الاحتياط العقلي في حين أنّه حكم في المورد الرابع بعدم سقوطه وأنه يتأكد بالدليل المثبت للتكليف في حالات الظن والاحتمال ، نعم لو حكم السيد رحمه‌الله بتقدّم الدليل الشرعي وأنه هو المستند في إثبات الحرمة لا قاعدة الاحتياط العقلي كما صنع ذلك في المورد الثاني لكان لذكر المورد الرابع مبرّر.

المنهج على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان :

وأمّا الكلام حول المنهج بناء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ والمعبّر عنها بأصالة البراءة العقلية ـ فيختلف كلّ الاختلاف عن المنهجية والنتائج بناء على مسلك حق الطاعة إذ أننا قلنا هناك إنّ أعم الأصول هو أصالة الاحتياط العقلي « وقد شرحنا معنى الأعمية ».

وأمّا هنا وبناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فأعمّ الأصول هو أصالة البراءة العقلية التي تنفي التكليف في مورد الشك ، ففي كلّ مورد من موارد الظن والاحتمال بالتكليف الإلزامي تجري قاعدة البراءة العقلية ولا مسوّغ لرفع اليد عن هذا الأصل إلاّ في موارد خاصة.

ولمعرفة الموارد التي نرفع اليد معها عن البراءة العقلية نذكر الموارد الأربعة ـ الآنفة الذكر ـ لنرى أيّها يوجب سقوط البراءة العقلية :

أمّا المورد الأول : ـ والذي قلنا إنّه عبارة عن القطع بعدم التكليف ـ

١٠١

فأصالة البراءة العقلية لا تسقط معه بل إنها تتأكّد به وذلك لاتحادهما في النتيجة وهي نفي التكليف.

وأمّا المورد الثاني : ـ والذي هو عبارة عن القطع بالتكليف ـ فالبراءة العقلية تسقط في مورده ويكون التكليف منجّزا بالقطع ؛ وذلك لأن موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان ، والقطع بيان ، وعليه فيكون هذا القطع نافيا لموضوع البراءة العقلية حقيقة إذ أننا بالوجدان لا نشك في التكليف بل نقطع به.

وأمّا المورد الثالث : ـ والذي هو عبارة عن قيام دليل على الترخيص الظاهري ـ وقلنا إن هذا الدليل إما أن يكون من قبيل الدليل الظني المحرز « الأمارة » وإما أن يكون من قبيل الأصل العملي « البراءة الشرعية ».

والبراءة العقلية في هذا المورد لا تسقط بل تتأكّد بالدليل الذي هو الأمارة أو الأصل العملي النافيين للتكليف وذلك لاتحادهما موضوعا وحكما ، أما موضوعا فلأنّ الموضوع فيهما « الأمارة ، البراءة الشرعية والبراءة العقلية » عدم البيان ؛ وذلك لأننا بالوجدان نحتمل التكليف الواقعي في مورد الأمارة والأصل الشرعي ، وهذا هو عدم البيان الذي هو موضوع البراءة العقلية إذ المراد من عدم البيان هو عدم القطع بالتكليف الإلزامي وهو حاصل في الأمارة والأصل الشرعي كما هو في البراءة العقلية.

وأما حكما فلأن كلا من البراءة العقلية والدليل غير القطعي « الأمارة والأصل » يشتركان في نفي التكليف الإلزامي.

فالنتيجة : أن البراءة لا تسقط في موارد الدليل غير القطعي النافي

١٠٢

للتكليف بل تتأكّد به.

وأمّا المورد الرابع : والذي هو عبارة عن قيام الدليل غير القطعي على ثبوت التكليف وهو أيضا ينقسم إلى قسمين : الأوّل : الأمارة ، والثاني : هو الأصل الشرعي المثبت للتكليف مثل أصالة الاحتياط الشرعي في الشبهات التحريمية ، والبراءة العقلية في مثل هذا المورد تسقط عن المعذّريّة إذ السقوط هو الذي يبني عليه المشهور في مثل هذه الموارد حيث يقدّمون الأمارة المثبتة للتكليف ، وكذلك الاحتياط الشرعي ـ لو تمّ ـ على البراءة العقلية.

ومن الواضح أن ذلك لا يتم بناء على مسلكهم ، مسلك « قبح العقاب بلا بيان » حيث إنه لا بيان في مثل المقام فلا الأمارة توجب البيان والقطع بالتكليف ، ولا الأصل العملي.

ولذلك فهم يواجهون هذه المشكلة وحدهم إذ بناء على مسلك حق الطاعة لا ترد مثل هذه المشكلة وذلك لأن المجرى بناء على هذا المسلك هو قاعدة الاحتياط العقلي وهي متّحدة مع الأمارة والأصل العملي الشرعي المثبتين للتكليف موضوعا وحكما كما بيّنا ذلك.

ومن هنا فقد تصدّى المشهور لبيان المنشأ في تقديمهم الأمارة والأصل المثبتين للتكليف على البراءة العقلية بمجموعة من البيانات تبحث عادة تحت عنوان « قيام الأمارة والأصل مقام القطع الطريقي ».

ولمزيد من التوضيح نقول :

إن أصالة البراءة العقلية لا تسقط عن المعذريّة إلا في مورد واحد من الموارد الأربعة ، وهو المورد الثاني والذي هو القطع بالتكليف حيث إننا قلنا

١٠٣

إنّ القطع بالتكليف ينفي موضوع البراءة العقلية ، وأما المورد الأول والثالث فلا تسقط فيه البراءة العقلية بل تتأكّد ، وإنما الكلام في المورد الرابع حيث أنّ مقتضى الصناعة العلمية عدم سقوط البراءة العقلية عن المعذّريّة وذلك لأن موضوعها عدم البيان أي عدم القطع ، والأمارة والأصل العملي المنجّز « الاحتياط الشرعي » ليس فيهما بيان بل إن الشك يبقى منحفظا في موردهما ، فيا ترى ما هو المبرّر لالتزام المشهور بسقوط البراءة العقلية في مثل هذا المورد رغم بقاء الموضوع منحفظا معهما؟

والجواب : إن المبرّر لذلك هو أنّ الأمارة والأصل المثبتين للتكليف بمنزلة القطع بالتكليف وهذا هو معنى قيام الأمارة والأصل مقام القطع الطريقي.

١٠٤

الأدلّة المحرزة

١ ـ الدليل الشرعي

٢ ـ الدليل العقلي

١٠٥
١٠٦

الأدلّة المحرزة

والكلام فيها يقع في نوعين من الأدلّة التي تكشف عن الحكم الشرعي الأعم من الكشف التام أو الكشف الناقص.

والأوّل منها هو : الدليل الشرعي.

والثاني هو : الدليل العقلي.

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة :

قلنا في ما سبق إنّ ضابطة المسألة الأصولية : هي كل قضية يمكن أن تقع في طريق استنباط كثير من الأحكام الشرعية في مختلف الأبواب الفقهيّة.

وإذا لا حظنا الأدلة الإثباتيّة المحرزة نجد أنّ ضابطة المسألة الأصولية تنطبق عليها تمام الانطباق وذلك لأنّ الأدلة الإثباتية المحرزة الأعم من القطعية وغير القطعية يمكن أن يستفاد منها في استنباط كثير من الأحكام الشرعية من مختلف الأبواب الفقهيّة ، فخبر الواحد مثلا وكذلك ظواهر الكتاب العزيز لهما الصلاحية ـ لو تمّت حجّيتهما ـ لإثبات كثير من الأحكام الشرعية المتفرقة في أبواب الفقه.

ولهذا يبحث الأصولي عن دلالة هذه الأدلة وعن حجّيتها لعظم الفائدة المترتّبة على ذلك في البحث الفقهي.

١٠٧

ومع اتضاح هذه المقدمة نشرع في بيان أقسام الأدلة المحرزة والتي ـ كما قلنا ـ تكشف عن الأحكام الشرعية ، فنقول :

إنّ الأدلة المحرزة تنقسم باعتبار مقدار كشفها إلى قسمين :

القسم الأوّل : الدليل القطعي ، والذي فرغنا عن حجيته ومثبتيّته للحكم الشرعي بنفسه وبقطع النظر عن الشارع ، نعم قد يساهم الشارع في إيجاد القطع عن طريق إيجاد مقدّمات شرعية توجب القطع للمطّلع عليها ولكنّ هذا غير الحجية كما هو واضح ، إذ الحجية مترتّبة على تنقّح القطع في مرحلة سابقة والشارع لم يساهم في إيجادها وإنما ساهم في إيجاد القطع الذي هو موضوع الحجية.

القسم الثاني : هو الدليل الظني المعبّر عنه بالأمارة ، وهذا النوع من الأدلة لم نفرغ عن حجيّته ومثبتيّته للأحكام الشرعية ، والبحث الأصولي هو المتكفّل بإثبات حجيّته ، ولا بدّ في إثبات حجيّته من قيام دليل قطعي على ذلك وإلاّ للزم التسلسل ؛ إذ أنّه إذا لم يقم الدليل القطعي على حجّيته فهذا يعني قيام دليل ظني على حجّيته ، فينسحب الكلام إلى ذلك الدليل الظني الآخر ، وأنه ما هو الدليل على اعتباره؟ فإن كان الدليل الذي دلّ عليه ظنيّا أيضا تسلسل وإن كان قطعيا ثبت المطلوب ، وهو أن الدليل الظني قد قام الدليل القطعي على دليليّته وحجّيته ، وهذا هو معنى قولهم : إنّ كلّما بالعرض يرجع إلى ما بالذات ، حيث إنّ الحجّية لو ثبتت للدليل الظني فهي حجية عرضية ليست ناشئة عن مقام الذات للدليل الظني ، فلذلك يمكن أن تعرض وتثبت له الحجية ، ويمكن أن لا تثبت ، فخبر الواحد والقياس كلاهما دليل ظني ولكن الأوّل ثبتت له الحجية والآخر لم تثبت له.

١٠٨

وهذا بخلاف الدليل القطعي فإنّ الحجية له ناشئة عن مقام الذات للقطع فلذلك لا يمكن التفصيل في حجيّته بأن يقال إن القطع بالتكليف المولوي تارة يكون حجة وتارة يكون غير حجة ، إذن لا بدّ في مقام إثبات الحجية للدليل الظني من قيام دليل قطعي على ذلك.

والمتحصّل مما ذكرناه أنّ الدليل المحرز باعتبار مرتبة كشفه ينقسم إلى قسمين : الأول : الدليل القطعي ، الثاني : الدليل الظني.

تقسيم آخر للأدلة المحرزة :

ويمكن تقسيم الدليل المحرز بكلا قسميه « القطعي والظني » إلى تقسيم آخر ، ولكن بلحاظ منشئه وسبب كشفه.

فالدليل المحرز بهذا اللحاظ ينقسم إلى قسمين :

القسم الأوّل : الدليل الشرعي : وهو كل دليل دلّ على حكم شرعي بواسطة الشارع المقدّس ، وذلك مثل النص القرآني ، ومثل ظواهر الكتاب ، فإنّ النص القرآني وكذلك ظواهر الكتاب يكشفان عن الحكم الشرعي ، ومنشأ تسمية هذا الدليل بالشرعي هو أنّ هذا النوع من الأدلة جاء بها الشارع المقدّس ، فالقرآن الكريم بنصوصه وظواهره وكذلك السنّة الشريفة سواء ما وصل منها عبر التواتر أو عن طريق أخبار الثقات كلّها أدلة شرعية باعتبار انتسابها إلى الشارع المقدّس.

القسم الثاني : الدليل العقلي : وهو عبارة عن المدركات أو قل القواعد العقلية التي يمكن لها أن تساهم في إثبات حكم شرعي ، مثل قاعدة « أنّ وجوب الشيء يقتضي وجوب مقدّمته » وقاعدة « أنّ وجوب الشيء

١٠٩

يقتضي حرمة ضدّه » وكذلك قاعدة « الحسن والقبح العقليّين » ، فهذه كلّها مدركات عقلية يمكن لها « لو تمّت » أن تساهم في استنباط حكم شرعي.

وتفصيل الكلام يأتي في بحث الدليل العقلي إلاّ أننا سوف نبيّن ـ وبشكل إجمالي ـ كيفيّة مساهمة مثل هذه القضايا العقلية في إثبات حكم شرعي ، فنقول :

لو أخذنا مثلا القاعدة العقلية وهي : « أنّ وجوب الشيء يقتضي وجوب مقدّمته » ، فعندنا في المقام حكمان شرعيّان أحدهما معلوم والآخر مجهول.

أمّا الحكم المعلوم فهو وجوب شيء مثل الحج ، وأمّا الحكم المجهول فهو جوب مقدّمة الحج مثل السفر إذ أنّ المقدمة بحسب الفرض لم يقم دليل شرعي على وجوبها وإنما الذي قام عليه الدليل الشرعي هو وجوب ذي المقدّمة وهو الحج في المثال. وهنا يأتي دور القاعدة العقلية « إن وجوب شيء يقتضي وجوب مقدّمته » لغرض إثبات الحكم الشرعي وهو وجوب المقدّمة ، وذلك عن طريق إدراك العقل للملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمة ذلك الشيء ، فالمدرك العقلي صار سببا وواسطة في إثبات وجوب المقدّمة ، وهذا هو معنى مساهمة العقل في إثبات حكم شرعي. وقلنا إنه يساهم في إثبات الحكم الشرعي لأنه ليس هو وحده الذي أثبت الوجوب بل مع شيء آخر ، وهذا ما سيأتي توضيحه في محلّه.

والمتحصّل من كل ما ذكرناه : أنّ الدليل العقلي هو المدرك العقلي الذي يقع واسطة في طريق إثبات حكم شرعي.

١١٠

تقسيم الدليل الشرعي :

عودة إلى الدليل الشرعي لغرض تقسيمه وبيان المباحث التي تؤهّله لإثبات الأحكام الشرعيّة.

وقد عرفت مما سبق أنّ الدليل الشرعي هو الدليل المنتسبة دليليّته إلى الشارع المقدّس وذلك في مقابل الدليل العقلي الذي يرجع في دليليّته إلى المدركات العقلية.

ومن هنا لا بدّ من معرفة ما ينقسم عليه الدليل الشرعي سواء كان قطعيّا أو ظنيّا ، فنقول : إنّ الدليل الشرعي على قسمين :

القسم الأوّل : وهو ما يكون من قبيل الخطابات الصادرة عن الشارع المقدّس كالقرآن الكريم والأحاديث الواصلة إلينا عن طريق المعصومين عليهم‌السلام ، وهذا ما يسمّى بالدليل الشرعي اللفظي.

القسم الثاني : وهو ما يكون من قبيل السّير العقلائيّة الممضاة من الشارع ومن قبيل الروايات الحاكية عن فعل المعصوم عليه‌السلام وتقريره ، وهذا ما يسمّى بالدليل الشرعي غير اللفظي.

ومع اتّضاح معنى الدليل الشرعي ، وما ينقسم عليه من أدلّة لفظيّة وأخرى غير لفظية ، نصل إلى ما هو العمدة في البحث الأصولي عن الدليل الشرعي ، وهو : البحث عنه من حيث مفاده ، ومتى يتحقّق خارجا ، وما هو الدليل على حجّيّته.

وبعبارة أخرى : يمكن تصنيف المباحث التي تبحث في الدليل الشرعي إلى ثلاثة مباحث :

١١١

المبحث الأول : يتصدّى لشرح مدلولات الدليل الشرعي وكيفيّة الاستفادة منها ، ولتوضيح ذلك نقول :

إنّه لا يمكن الاستفادة من الدليل الشرعي ما لم نحدّد الضوابط العامّة لمدلولاته ، فالدليل الشرعي قد يثبت لنا أنّه صادر عن

الشارع المقدّس وتثبت لنا حجّيته أيضا ولكن ذلك وحده لا ينفع لإثبات الأحكام الشرعية كالوجوب والحرمة ؛ وذلك لأنّه أيّ جدوى لكلام نحرز أنه صادر عن الشارع وأنه حجة ولكننا لا نعرف معناه والمراد منه؟ ولذلك يتصدى المبحث الأول لهذه المهمّة ، فيبحث عن الضوابط العامّة التي توجب فهم الدليل الشرعي ، وقلنا الضوابط العامة للاحتراز عن مدلولات الدليل الشرعي التي لا يستفاد منها إلا في مورد أو موردين فإنّ بحث مثل هذه المدلولات من وظائف الفقه ، أمّا الأصول فهو يبحث عن الضوابط العامّة والتي هي مطّردة ونافعة في استنباط كثير من الأحكام الشرعيّة ، ومثال هذه الضوابط التي يبحث عنها في علم الأصول بحث الأوامر والإطلاق والمفاهيم.

المبحث الثاني : وهو ما يبحث فيه عن صغرى الدليل الشرعي.

وتوضيح ذلك : إنّ واقع الدليل الشرعي هو النتيجة الحاصلة من قياس منطقي صغراه أنّ هذا الخطاب أو هذا الإمضاء ثابت عن الشارع وكبراه أنّ كلّ ما ثبت عن الشارع فهو حجة ، فتكون النتيجة أنّ هذا الخطاب أو هذا الإمضاء حجّة. وهذه النتيجة هي الدليل الشرعي.

إذن صغرى الدليل الشرعي هي صغرى القياس الذي تكون نتيجته الدليل الشرعي.

١١٢

مثلا :

* القرآن الكريم صادر عن الشارع * وكلما صدر عن الشارع فهو حجّة * إذن القرآن الكريم حجّة

فنتيجة هذا القياس ـ وهي أنّ القرآن الكريم حجّة ـ هي : الدليل الشرعي. وصغرى هذه النتيجة ـ وهي أنّ القرآن صادر عن الشارع ـ صغرى الدليل الشرعي ، والبحث هنا يقع عن هذه الصغرى وأنّه متى تثبت هذه الصغرى. فقولنا : إنّ القرآن الكريم صادر عن الشارع دعوى تحتاج إلى دليل ، والذي يتصدّى لإثبات هذه الدعوى والاستدلال عليها هو هذا البحث ، وكذلك الكلام في خبر الثقة مثلا ، فقولنا : إنّ خبر الثقة صادر عن المعصوم هو صغرى لقياس نتيجته الدليل الشرعي ، وهذه الصغرى محتاجة إلى دليل والذي يتصدّى لإثبات ذلك هو هذا البحث.

وإذا أردنا أن نعمّق هذا البحث أكثر نقول : إنّ هذه الصغرى هي نتيجة لقياس آخر غير الذي شكلّناه ، صغراه تبحث في غير هذا العلم وكبراه هي التي تبحث في هذا المبحث ـ الذي هو المبحث الثاني من مباحث الدليل الشرعي ـ ونتيجته هي التي تقع صغرى في القياس الأول ، مثلا :

* إنّ هذا الخبر خبر ثقة * وكل خبر ثقة فهو صادر عن المعصوم * إذن هذا الخبر صادر عن المعصوم

تلاحظون أن صغرى هذا القياس تبحث في غير علم الأصول فإنّ إثبات أنّ هذا خبر ثقة من شؤون علم الرجال ولا صلة له بعلم الأصول.

وتلاحظون أنّ النتيجة هي الصغرى في القياس الأول ، أمّا الكبرى ـ وهي أنّ كل خبر ثقة فهو صادر عن المعصوم عليهم‌السلام ـ فهي التي نبحث عنها

١١٣

هنا إذ أننا نبحث في المقام عن الدليل الذي يدلّ على أنّ كل خبر ثقة فهو صادر عن المعصوم.

إذن فنحن هنا نبحث عن الكبرى ـ في القياس الثاني ـ التي تنقّح الصغرى في القياس الأول ، فالبحث في المقام ليس عن معنى وحقيقة الصغرى في الدليل الشرعي بل البحث عن الدليل الذي يدل على ثبوت الصغرى. فلذلك قال المصنّف رحمه‌الله : « إنّ المبحث الثاني عن ثبوت صغرى الدليل الشرعي » ولم يقل عن نفس صغرى الدليل الشرعي.

والمتحصّل مما تقدّم أنّ صغرى الدليل الشرعي هي الصغرى التي تقع في قياس نتيجته الدليل الشرعي. والبحث هنا عن إثباتها وما هو الدليل عليها ، فنحن هنا نبحث عن الدليل الذي يدلّ على أنّ القرآن صادر عن الله عزّ وجلّ ، وعن الدليل الذي يدلّ على أنّ خبر الثقة صادر عن المعصوم وهكذا.

ولعلّك تسأل عن موقع المبحث الأول في القياس الأول الذي شكّلناه وما هو الفرق بين موقعه وموقع المبحث الثاني أليس المبحث الأول يبحث فيه أيضا عن صغرى الدليل الشرعي؟

والجواب :

هو أنّ الذي يبحث عنه في المبحث الأول هو الحدّ الأصغر لصغرى ذلك القياس.

وبتعبير آخر : أنّ الذي يبحث عنه في المبحث الأول هو الحد الأصغر الذي يقع موضوعا في نتيجة هي الدليل الشرعي.

ولتوضيح ذلك نقول : إن المبحث الأول كما قلنا هو ما يبحث فيه عن

١١٤

مدلولات الدليل الشرعي ، وهذا يعني أن المبحث الأول يتكفل ببيان المراد من الخطاب والإمضاء الشرعيّين.

وعليه فلنرجع إلى القياس الأوّل الذي شكّلناه لنرى ما هو موقع المبحث الأول من هذا القياس :

* القرآن الكريم صادر عن الشارع * وكلما صدر عن الشارع فهو حجّة * إذن القرآن الكريم حجّة

وإذا تأمّلنا في هذا القياس نعرف أنّ ما يبحث عنه في المبحث الأول ليس هو صغرى في هذا القياس ولا هو كبرى بل هو الحد الأصغر في صغرى هذا القياس « وهو القرآن الكريم » فنحن في المبحث الأوّل نبحث عن مدلولات القرآن الكريم والذي هو أحد الخطابات الشرعية.

وبتعبير آخر : إنما ما يبحث عنه في المبحث الأول هو الحدّ الأصغر الواقع موضوعا في نتيجة هي الدليل الشرعي ، فالنتيجة في هذا القياس هي « القرآن الكريم حجّة » وهي معنى آخر للدليل الشرعي كما هو واضح ، وموضوع هذه النتيجة « هو القرآن الكريم » والمبحث الأول يبحث عن القرآن الكريم من حيث مداليله.

والمتحصّل من الفرق بين هذين المبحثين أن المبحث الثاني يبحث عن تمام القضية الواقعة في صغرى هذا القياس ، فهو يبحث عن الدليل على أن القرآن صادر من المولى عزّ وجلّ ، وأما المبحث الأول فهو يبحث عن موضوع هذه الصغرى وهو القرآن الكريم مثلا من حيث ما يدلّ عليه من مدلولات.

المبحث الثالث : ـ من مباحث الدليل الشرعي ـ هو ما يبحث فيه

١١٥

عن حجية الدليل الشرعي وأن الخطابات والإمضاءات الصادرة عن الشارع حجة أو غير حجة؟

فنبحث مثلا عن حجية القرآن الكريم بعد الفراغ عن صدوره ، ونبحث عن حجية خبر الثقة بعد الفراغ عن صدوره ، وهكذا.

فالبحث إذن عن كبرى القياس الذي نتيجته الدليل الشرعي ، ولمزيد من التوضيح نرجع إلى القياس الأول الذي شكّلناه وهو أن :

* القرآن الكريم صادر عن الشارع * وكلما صدر عن الشارع فهو حجّة * إذن القرآن الكريم حجّة

وإذا تأمّلنا في القياس وجدنا أن كبراه هي ما يبحث عنها في المبحث الثالث « وهي كلّما صدر عن الشارع فهو حجّة » ، فنبحث عن هذه القضية من حيث ما هو الدليل عليها أي ما هو الدليل على أن القرآن ـ الذي ثبت صدوره عن الشارع ـ حجة.

ومعنى أننا نبحث عن الدليل على هذه الكبرى هو أننا نشكّل قياسا منطقيّا آخر تكون هذه الكبرى هي نتيجته ، فنقول مثلا في مقام الاستدلال على هذه الكبرى :

* إن هذا القرآن الكريم صادر عن الشارع * ومولويّة الشارع تقتضي حجية ما يصدر عنه * إذن الصادر عن الشارع حجة

وتلاحظون أن هذه النتيجة هي عين الكبرى الواقعة في القياس الأوّل والدليل ، على هذه النتيجة هي الكبرى الواقعية في هذا القياس « الثاني ».

إذن فنحن لا نبحث في المبحث الثالث عن نفس كبرى القياس الأول ، بل نبحث عن ما هو الدليل على هذه الكبرى ، فنقول مثلا : إن

١١٦

الدليل على حجية الصادر عن الشارع هو حكم العقل بوجوب طاعة المولى ، نعم قد نستدلّ على حجية الصادر عن الشارع بأدلة إثباتية أخرى إلا أنها ترجع روحا إلى ما يحكم به العقل من وجوب طاعة المولى جلّ وعلا.

والمتحصّل من كلّ ما ذكرناه في المباحث الثلاثة هو : أن المبحث الثاني يبحث عن صغرى القياس الأول من حيث ما هو الدليل عليها ، والمبحث الثالث يبحث عن كبرى هذا القياس من حيث ما هو الدليل عليها.

وأما المبحث الأول فهو يبحث عن الحدّ الأصغر في الصغرى من نفس هذا القياس من حيث دلالته ، وما هو المراد منه ، أو قل إن المبحث الأول يبحث عن موضوع نتيجة هذا القياس أي عن موضوع الدليل الشرعي.

هذا هو روح المباحث الثلاثة وقد أطلنا في بيانها لأن فهم كثير من المطالب الآتية يتوقّف على فهمها.

إذا اتّضح كل ما ذكرناه ، فلنشرع في بيان هذه المباحث الثلاثة إلاّ أنه وقبل بيان هذه المباحث لا بدّ من طرح مجموعة من المطالب لها تأثير على سير البحث في المباحث الثلاثة.

١١٧

المطلب الأول

الأصل عند الشك في الحجّة

والكلام في هذا المطلب يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في بيان المراد من الأصل عند الشك في الحجية.

الجهة الثانية : في بيان ما هو الأصل عند الشك في الحجية ، هل هي الحجية أو عدم الحجية؟

الجهة الأولى : ـ والتي هي في بيان المراد من الأصل عند الشك في الحجية ـ تحتاج إلى بيان أمرين :

الأول : هو بيان المراد من الأصل.

الثاني : هو بيان المراد من الشك في الحجية.

ونبدأ بالأمر الثاني ـ والذي هو : بيان المراد من الشك في الحجية لتوقف فهم الأول عليه ـ فنقول : إن المراد من الشك في الحجية هو عدم إحراز ثبوت المنجزية والمعذرية لدليل ظني من الأدلة ، مثلا الشهرة الفتوائية لو بحثنا عن دليلها فلم نجد لها دليلا يثبت لها الحجية ـ المنجزية والمعذرية ـ.

١١٨

وبعبارة أخرى : لو بحثنا عن الدليل على الشهرة الفتوائية فلم نعثر على دليل لها يثبت على أنها صالحة للكشف عن حكم شرعي أو نفي حكم شرعي ، ففي مثل هذه الحالة نشك في حجية الشهرة الفتوائية إذ ليس عندنا ما يثبت الحجية كما أنه لا نجزم بعدم حجيتها وصلاحيتها للكشف عن الحكم الشرعي ، فنحن إذن نشك في ثبوت الحجية للشهرة وعدم ثبوتها ، وهذا هو معنى الشك في الحجية.

وأمّا الأمر الأول : ـ الذي هو بيان المراد من الأصل ـ فتوضيحه أن المقصود من الأصل في المقام هو المرجع الذي نستند إليه في موارد الشك في الحجية ، ففي المثال السابق حينما شككنا في حجية الشهرة الفتوائية ولم نعثر على دليل يثبت لها الحجية أو عدم الحجية ، نحتاج للبحث عمّا هو المرجع في مثل هذه الحالة ، وهل المرجع هو تنجّز الشهرة الفتوائية ولزوم العمل بمقتضاها ، أو أن المرجع هو عدم تنجّز الشهرة وعدم لزوم العمل بمفادها ، وبالتالي لا بدّ من الرجوع إلى الأصول العملية الجارية في المقام ، وهذا يعني عدم الالتفات إلى الشهرة الفتوائية وتنزيلها منزلة العدم.

إذن لو كان الأصل عند الشك في الحجية يقتضي الحجية ، فهذا يعني أن الشهرة الفتوائية ـ المشكوك في حجّيتها ـ حجة أي مرجع ومستند لإثبات مفادها ، فلو كان مفادها الحرمة فيجب الالتزام بالحرمة وعدم الرجوع إلى أصالة البراءة العقلية ـ بناء على جريانها في موارد الشك ـ ولو كان مفادها الإباحة فيمكننا الالتزام بالإباحة وتجاوز الاحتياط العقلي ـ بناء على جريانه في موارد الشك ـ.

أما لو كان الأصل عند الشك في الحجة يقتضي عدم الحجية ، فهذا

١١٩

يعني أن الشهرة الفتوائية المشكوك في حجيتها ليست حجة وليست مرجعا لإثبات مفادها ، بل إن المرجع حينئذ هي الأصول العملية الجارية في موارد الشك.

وباتّضاح هذين الأمرين تتّضح الجهة الأولى من هذا المطلب وهي أنه ما المراد من الأصل عند الشك في الحجية.

الجهة الثانية : في بيان ما هو الأصل عند الشك في الحجية ، هل هو الحجية أو عدم الحجية؟

وقبل بيان ذلك لا بدّ من تحرير محل النزاع ، فنقول : إن الأدلّة ـ الأعم من الشرعية والعقلية ـ تتصوّر على أربعة أنحاء :

النحو الأول : ما نقطع بحجيته ، أي ما نحرز بأنه طريق لإثبات الأحكام الشرعية ، وذلك مثل القرآن الكريم والسنة المتواترة والأحكام العقلية القطعية كالحسن والقبح العقليّين.

وهذا النحو من الأدلة خارج من محلّ النزاع ؛ لأن محلّ النزاع هو الشك في الحجية وهنا نقطع بالحجية.

الثاني : ما نقطع بعدم حجيّته وعدم طريقيته لإثبات الأحكام الشرعية ، وذلك مثل خبر الكذّاب والنصوص الشرعية المجملة والقياس الحنيفي والاستحسان والمصالح المرسلة وسدّ الذرايع.

وهذا النحو من الأدلة خارج أيضا عن محلّ النزاع ، وذلك للقطع بعدم الحجية ومورد الكلام هو الشك في الحجية.

الثالث : ما نشك في حجّيته وصلاحيّته للكشف عن الأحكام الشرعية ، إلا أننا وجدنا في مقام البحث ما يدل على حجيّته ، وذلك مثل

١٢٠