التقيّة في الفكر الإسلامي

السيد ثامر هاشم العميدي

التقيّة في الفكر الإسلامي

المؤلف:

السيد ثامر هاشم العميدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-82-X
الصفحات: ١٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

من ديني ودين آبائي ، ولا إيمان لمن لا تقية له » (١).

الحديث الثالث ـ لا دين لمن لا تقية له :

عن أبان بن عثمان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « لا دين لمن لا تقية له ، ولا إيمان لمن لا ورع له » (٢).

الحديث الرابع ـ لا إيمان لمن لا تقية له :

عن عبدالله بن أبي يعفور ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « اتقوا على دينكم فاحجبوه بالتقيّة ، فإنّه لا إيمان لمن لا تقية له » (٣).

وقد مرّ في شرح الحديث الأوّل ما له صلة بالحديثين الثالث والرابع في دلالتهما على عدم اكتمال تفقّه من لم يتّق في مواضع التقية ، لا نفي الدين والإيمان عنه.

ثالثاً ـ الأحاديث الواردة في بيان أهمية التقيّة :

وصِفت التقيّة في جملة من الأحاديث بأنها ترس المؤمن ، وحرزه ، وجنته ، وإنّها حصنه الحصين ونحو هذه العبارات الكاشفة عن أهمية التقيّة.

وربما قد يستفاد من ذلك الوصف والتشبيه وجوبها في موارد الخوف أحياناً ، فكما أن استتار المؤمن في سوح الوغى بالترس من ضرب السيوف وطعن الرماح قد يكون واجباً أحياناً ، فكذلك استتاره بالتقيّة في موارد الخوف لحفظ النفس من التلف ، ومن هذه الأحاديث :

____________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٢١٩ / ١٢ ، باب التقيّة.

(٢) صفات الشيعة / الشيخ الصدوق : ٣ / ٣.

(٣) اُصول الكافي ٢ : ٢١٨ / ٥ ، باب التقيّة.

٨١

الحديث الأوّل ـ التقية ترس المؤمن وحرزه :

عن عبدالله بن أبي يعفور ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « التقيّة ترس المؤمن ، والتقيّة حرز المؤمن » (١).

الحديث الثاني ـ التقية جنّة المؤمن :

عن محمد بن مروان ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « كان أبي عليه‌السلام يقول : وأي شيء أقر لعيني من التقيّة ؟ إن التقيّة جُنّة المؤمن » (٢).

الحديث الثالث ـ التقية حصن المؤمن :

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال للمفضل : « إذا عملت بالتقيّة لم يقدروا في ذلك على حيلة ، وهو الحصن الحصين وصار بينك وبين أعداء الله سداً لا يستطيعون له نقباً » (٣).

رابعاً ـ الأحاديث الدالة على عدم جواز ترك التقيّة عند وجوبها :

الحديث الأوّل ـ تارك التقية كتارك الصلاة :

من مسائل داود الصرمي للامام الجواد عليه‌السلام قال : قال لي : « يا داود ، لو قلت إن تارك التقيّة كتارك الصلاة لكنت صادقاً » (٤).

____________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٢٢١ / ٢٣ ، باب التقيّة.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ٢٢٠ / ١٤ ، باب التقيّة.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٣٥١ / ٨٦. واُنظر : الوسائل ١٦ : ٢١٣ / ٢١٣٨٩ باب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٤) وسائل الشيعة ١٦ : ٢١١ / ٢١٣٨٢ باب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، نقله عن مستطرفات السرائر ، وأورده الصدوق في الفقيه عن الإمام الصادق عليه‌السلام. واُنظر : الفقيه ٢ : ٨٠ / ٦ باب صوم يوم الشك.

٨٢

الحديث الثاني ـ ليس منّا من لم يعمل بالتقية :

أورد الشيخ الطوسي في أماليه بسنده عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : « ليس منا من لم يلزم التقيّة ويصوننا عن سفلة الرعية » (١).

الحديث الثالث ـ التقية من أفضل أعمال المؤمن :

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « التقيّة من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه واخوانه عن الفاجرين » (٢).

خامساً ـ الأحاديث الدالة على أن التقيّة في كلِّ ضرورة ، وأنها تقدّر بقدرها وتحرم مع عدمها ، مع بعض مستثنياتها :

الحديث الأوّل ـ التقية في كلّ ضرورة وصاحبها أعلم بها :

ما رواه زرارة عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « التقيّة في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به » (٣).

الحديث الثاني ـ التقية في كلّ شيء يُضطرّ إليه :

وعن إسماعيل الجعفي ، ومعمر بن يحيى بن سام ، ومحمد بن مسلم ، وزرارة كلهم قالوا : (سمعنا أبا جعفر عليه‌السلام يقول : « التقيّة في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له») (٤).

الحديث الثالث ـ المنع من التقية في النبيذ والمسح على الخفين :

وعن أبي عمر الأعجمي ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « ... والتقيّة في كل

____________

(١) أمالي الشيخ الطوسي ١ : ٢٨٧.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٣٢٠ / ١٦٣.

(٣) اُصول الكافي ٢ : ٢١٩ / ١٣ ، باب التقيّة.

(٤) اُصول الكافي ٢ : ٢٢٠ / ١٨ ، باب التقيّة. ومثله في المحاسن للبرقي : ٢٥٩ / ٣٠٨.

٨٣

شيء إلّا في النبيذ والمسح على الخفّين » (١).

الحديث الرابع ـ المنع من التقية في شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج :

وفي مضمر زرارة ، قال : (قلتُ له : في مسح الخفين تقية ؟ فقال : « ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً : شرب المسكر ، ومسح الخفين ، ومتعة الحج ») (٢).

وأورده الصدوق بلفظ : (وقال العالم عليه‌السلام) (٣) ولا أثر لهذا الاضمار والوصف في تحديد اسم القائل على حجية الخبر؛ لأنّ قرينة (عليه‌السلام) كافية في تعيين كونه من الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام ، وهو في المورد المذكور مردد بين الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام.

حمل زرارة بن أعين المنع المذكور على شخص الإمام عليه‌السلام :

لقد حمل زرارة المنع عن استخدام التقيّة في المسكر ، ومسح الخفين ، ومتعة الحج الواردة في مضمره المتقدّم على شخص الإمام عليه‌السلام ، كما يُعلم هذا من قوله في ذيل الحديث برواية الكافي : (ولم يقل الواجب عليكم أن لا تتقوا فيهن أحداً).

وسيأتي في الأحاديث المبيّنة لحكم التقية في بعض الموارد عدم صحّة الحمل المذكور.

____________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٢١٧ / ٢ ، باب التقيّة. ومثله في المحاسن : ٢٥٩ / ٣٠٩. والخصال / الصدوق : ٢٢ / ٧٩.

(٢) فروع الكافي ٣ : ٣٢ / ٢ باب مسح الخفين من كتاب الطهارة.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٠ / ٩٥ باب حد الوضوء وترتيب ثوابه.

٨٤

وقد يكون السبب أن هذه الاُمور الثلاثة مما هي معلومة جداً من مذهبه عليه‌السلام ، وإن التقيّة فيها لا تجدي نفعاً لأن كل من عاصر الإمام الصادق عليه‌السلام يعلم رأيه في هذه الثلاثة ، فلا حاجة لان يتقي فيهن أحداً.

الحديث الخامس ـ التقية في كلّ شيء لا يؤدي إلى الفساد في الدين :

وفي حديث آخر بالغ الأهمية مع علو اسناده وصحته ، عن مسعدة ابن صدقة قال : (سمعتُ أبا عبدالله عليه‌السلام يقول وسئل عن إيمان من يلزمنا حقه واخوَّته كيف هو وبما يثبت وبما يبطل ؟ فقال عليه‌السلام : « إنّ الإيمان قد يتخّذ على وجهين : أما أحدهما : فهو الذي يظهر لك من صاحبك فإذا ظهر لك منه مثل الذي تقول به أنت ، حقت ولايته وأخوّته إلّا ان يجيء منه نقض للذي وصف من نفسه وأظهره لك فإنّ جاء منه ما تستدل به على نقض الذي أظهر لك خرج عندك مما وصف لك وأظهر ، وكان لما أظهر لك ناقضاً إلّا أن يدّعي أنّه إنما عمل ذلك تقية ، ومع ذلك ينظر فيه :

فإن كان ليس مما يمكن أن تكون التقيّة في مثله ، لم يقبل منه ذلك ؛ لأن للتقية مواضع ، من أزالها عن مواضعها لم تستقم له. وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله ، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز » (١).

سادساً ـ الأحاديث الدالة على حرمة استخدام التقيّة في الدماء :

____________

(١) اُصول الكافي ٢ : ١٦٨ / ١ باب فيما يوجب الحق لمن انتحل الايمان وينقضه ، من كتاب الايمان والكفر.

٨٥

الحديث الأوّل ـ التقية لحفظ الدماء لا لإراقتها :

عن محمد بن مسلم ، عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فليس تقية » (١).

الحديث الثاني ـ كسابقه في حرمة التقية في الدماء

وعن أبي حمزة الثمالي ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « ... إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم ، فإذا بلغت التقيّة الدم فلا تقية » (٢).

وجدير بالذكر ، إنّ بعض فقهاء العامّة جوّز التقيّة في الدماء وهتك الأعراض كما سيوافيك مفصلاً في محلّه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

سابعاً ـ الأحاديث المبيّنة لحكم التقيّة في بعض الموارد :

ونذكر من هذه الموارد ما يأتي :

١ ـ ما دلَّ على مخالطة أهل الباطل ومداراتهم بالتقيّة :

أ ـ عن إسماعيل بن جابر ، واسماعيل بن مخلد السراج ، كلاهما عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، في رسالته إلى أصحابه : « وعليكم بمجاملة أهل الباطل ، تحملوا الضيم منهم ، وإياكم ومماظتهم ، دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام ، فإنّه لا بدَّ لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم الكلام بالتقيّة التي أمركم الله أن تأخذوا

____________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٢٢٠ / ١٦. والمحاسن : ٢٥٩ / ٣١٠.

(٢) تهذيب الأحكام / الشيخ الطوسي ٦ : ١٧٢ / ٣٣٥ باب النوادر ، من كتاب الجهاد وسيرة الإمام عليه‌السلام.

٨٦

بها فيما بينكم وبينهم .. » (١).

ب ـ وعن هشام الكندي ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : « إياكم ان تعملوا عملاً يعيّرونا به ، فإن ولد السوء يُعيّر والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً ، صلوا في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فانتم أولى به منهم ، والله ما عُبد الله بشيء أحب إليه من الخبء.

قلتُ : وما الخبء ؟ قال : التقيّة » (٢).

جـ ـ وعن أبي بصير قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « خالطوهم بالبرانية ، وخالفوهم بالجوانية إذا كانت الإمرة صبيانية » (٣).

وقد مرّ هذا المعنى أيضاً في رواية الشيخ المفيد في أماليه بسنده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : « خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم ، وزايلوهم بقلوبكم وأعمالكم ».

كما مرّ أيضاً ما رُوي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتب العامّة ، أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا حثالة ؟ وشبك بين أصابعه ، قالوا : كيف نصنع ؟ قال : اصبروا وخالطوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم في أعمالهم » (٤).

وقد مرّ في حديث مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عليه السلام ما

____________

(١) روضة الكافي ٨ : ٢ / ١.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ٢١٩ / ١١ باب التقيّة.

(٣) اُصول الكافي ٢ : ٢٢٠ / ٢٠ باب التقيّة.

(٤) اُنظر ما ذكرناه حول الحديث الثاني في هذا الفصل.

٨٧

يدل عليه.

وبالجملة ، فان مخالطة أهل الباطل عند غلبتهم ضرورة لا بدّ منها وقد نهجها من قبل مؤمن آل فرعون وأصحاب الكهف كما مرّ في الأدلة القرآنية ، فراجع.

٢ ـ ما دلَّ على عدم الحنث والكفارة على من حلف تقية :

ويدل عليه ما رواه الأعمش ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « ... واستعمال التقيّة في دار التقيّة واجب ، ولا حنث ولا كفارة على من

حلف تقية يدفع بذلك ظلماً عن نفسه » (١).

أقول : سيأتي إن شاء الله تعالى جواز الحلف تقية عند العامّة ولا أثر يترتب عليه عندهم.

٣ ـ ما دلَّ على حكم التقيّة في شرب الخمر :

عن درست بن منصور ، قال : (كنت عند أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، وعنده الكميت بن زيد ، فقال للكميت : أنت الذي تقول :

فالآن صرت إلى أُميّة

والاُمور لها مصائر ؟

قال : قلت ذاك ، والله ما رجعت عن إيماني ، وإني لكم لموالٍ ، ولعدوكم لقالٍ ، ولكني قلته على التقيّة.

قال : « أما لئن قلت ذلك إن التقيّة تجوز في شرب الخمر » (٢).

____________

(١) الخصال / الصدوق : ٦٠٧ / ٩.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٤٦٥ / ٣٦٤.

٨٨

الاستدلال بحديث درست بن منصور على حرمة شرب الخمر تقية !

استدلّ بعضهم بهذا الحديث على عدم جواز التقيّة في شرب الخمر ، بتقريب : إنّ الإمام عليه‌السلام لم يقتنع بعذر الكميت ، وأجابه : بأن باب التقيّة لو كان واسعاً بهذه السعة لجازت التقيّة حتى في شرب الخمر ! ومعنى هذا أنه لا تجوز التقيّة فيه (١).

نقد الاستدلال (وفيه إضاءة حول حمل زرارة المتقدّم) :

إنّ في الاستدلال المذكور تأمل ؛ لأنّ اللام في قوله عليه‌السلام (لئن قلت هذا ...) هي اللام الموطئة للقسم و (إن) شرطية ، وجواب الشرط محذوف يمكن تقديره بالإباحة أي : والله لئن قلت ذلك فهو مباح لك أن تقول مثل هذا القول الباطل المحرّم كما أُبيح شرب الخمر تقية على عظمة حرمته.

وبهذا تكون جملة : (إن التقيّة تجوز في شرب الخمر) جملة ابتدائية لا صلة لها بجواب الشرط ، ويدل عليه عدم اقترانها بالرابط.

وأما لو وجد الرابط ، لكان جواب القسم الذي سدَّ مسد جواب الشرط هو (فأن التقيّة تجوز في شرب الخمر) وعندها سيكون المعنى على طبق التفسير المتقدم.

والحق : إنّ مسألة تحريم التقيّة في شرب الخمر وإن لم تثبت بهذه الرواية ، لإمكان الخدش في دلالتها ، إلّا أنّه يمكن الاستدلال بروايات أُخر على التحريم.

كرواية الصدوق في (الخصال) في حديث الأربعمائة ، بسنده عن أمير

____________

(١) القواعد الفقهية / ناصر مكارم الشيرازي ٣ : ٤١٧.

٨٩

المؤمنين عليه‌السلام ، قال : « ليس في شرب المسكر والمسح على الخفين تقية ».

ورواية (دعائم الإسلام) عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « التقيّة ديني ودين آبائي إلّا في ثلاث : في شرب المسكر ، والمسح على الخفين ، وترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ».

وفي (فقه الإمام الرضا عليه‌السلام) ، عن العالم عليه‌السلام : « ولا تقية في شرب الخمر ، ولا المسح على الخفين ، ولا تمسح على جوربك إلّا من عدوّ أو ثلج تخاف على رجليك ».

وفي (الهداية) للصدوق : « ولا تقية في ثلاث أشياء : شرب المسكر ، والمسح على الخفين ، ومتعة الحج » (١) ، والمعروف أن فتاوى الصدوق في سائر كتبه منتزعة من نصوص الأخبار.

ومن كل ما تقدم يُعلَم عدم صحة تأويل زرارة المتقدم ؛ لعدم تقييد النهي في هذه الأخبار بشخص المعصوم عليه‌السلام. هذا فيما إذا كان الاكراه على شرب الخمر بما دون القتل ، وأما مع القتل فلا شك في جوازه عندهم.

٤ ـ ما دلَّ على جواز اظهار كلمة الكفر تقيةً :

وقد مرّ ما يدل عليها في الدليل القرآني ، وأما من الحديث فيدل عليه ما رواه مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث طويل ذكر فيه قصة عمار بن ياسر وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمار : « ياعمار ، إن عادوا فعد » (٢).

____________

(١) اُنظر هذه الموارد في جامع أحاديث الشيعة ٢ : ٣٩١ ـ ٣٩٢ / ٢٢ ـ ٢٥ باب ٢٦ من أبواب الوضوء.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ٢١٩ / ١٠ باب التقيّة ، وقد تضمن هذا المعنى الحديث رقم ١٥ و ٢١ من الباب المذكور.

٩٠

٥ ـ ما دلَّ على جواز التقيّة في الوضوء البدعي :

ويدل عليه ما أخرجه العياشي بسنده عن صفوان ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في غسل اليدين ، قال : (قلتُ له : يُردُّ الشعر ؟ فقال عليه‌السلام : « إن كان عنده آخر فعل وإلاّ فلا ») (١).

والمراد بـ (الآخر) هو من يتقى شرّه ، وأما ردّ الشعر ، فهو كناية لطيفة عن الوضوء البدعي المنكوس ؛ لأنّ ردّ الشعر من لوازمه.

أقول : لا يخفى على الفطن ما في هذا الحديث من دلالة واضحة على انشائه تقية فضلاً عن كونه في التقيّة ، إذ كان السائل فيه لبقاً وحذراً فجاء بالكناية المعبرة عن مراده ، كما كان الإمام عليه‌السلام حذراً في جوابه إذ جاء تجويز الوضوء المنكوس تقية بلفظ متسق مع طبيعة السؤال من غير تصريح ، وهذا يكشف عن كون السؤال والجواب كانا في محضر من يتقى شرّه.

____________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣٠٠ / ٥٤.

٩١

المبحث الثالث

الإجماع ودليل العقل

أولاً : الإجماع :

يعتبر الإجماع في أصح أقوال المسلمين أداة كاشفة عن وجود دليل متين وقويم كآية من كتاب الله عزَّ وجل أو حديث شريف ينطق بالحكم المجمع عليه ، وان اعتبره فريق منهم دليلاً قائماً بنفسه تماماً كالكتاب والسُنّة ، وهو بهذا المعنى يستحيل في حقّه الخطأ ويكون معصوماً كعصمة الكتاب والسُنّة المطهّرة ، وان من ردَّ عليه هو كمن ردّ قول الله عزَّوجل وسُنّة رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومع هذا فلم يختلف اثنان من المسلمين في أن أهم مصادر التشريع في الإسلام هما : القرآن الكريم ، والسُنّة المطهّرة القطعية ، وانه لا يوجد مصدر تشريعي آخر يبلغ شأوهما في الحجية.

والحق ، ان ما تقدم من أدلة التقيّة يغني عمّا سواه ، خصوصاً مع اتفاق المفسرين والمحدثين على عدم وجود الناسخ لتلك الأدلة ، مع انعدام الشك في ما دلت عليه من جواز التقيّة عند الخوف الشخصي أو النوعي ، ولهذا لم يناقش أحد منهم في ذلك وعليه سيكون الحديث عن الاجماع على مشروعية التقيّة حديثاً زائداً عند من لا يراه دليلاً مستقلاً وقائماً بنفسه.

ولهذا سنكتفي بقول من يراه دليلاً مستقلاً كالكتاب والسُنّة ، إذ سيكون ذلك أبلغ في دحض حجة كون التقيّة نفاقاً كما يزعم بعض أتباع القول باستقلالية الإجماع الذي ادعاه غير واحد من علماء العامّة كما يفهم من

٩٢

أقوالهم وإليك نموذجاً منها :

١ ـ قال أبو بكر الجصاص الحنفي (ت / ٣٧٠ هـ) : (ومن امتنع من المباح كان قاتلاً نفسه متلفاً لها عند جميع أهل العلم) (١).

٢ ـ ابن العربي المالكي (ت / ٥٤٣ هـ) ذكر في كلامه عن حديث الرفع كما مرّ اتفاق العلماء على صحة معناه ، وانهم حملوا فروع الشريعة عليه وهذا يكشف عن اجماعهم على أن ما استُكرِه عليه الإنسان فهو له ، وهذا هو معنى التقيّة (٢).

٣ ـ عبدالرحمن المقدسي الحنبلي (ت / ٦٢٤ هـ) قال : (أجمع العلماء على إباحة الأكل من الميتة للمضطر وكذلك سائر المحرمات التي لا تزيل العقل) (٣).

والاكراه داخل في المفهوم العام للضرورة كماسبق التأكيد عليه ، كما أن الاضطرار إلى أكل الميتة كما قد يكون بسبب المخمصة ، فقد يكون بسبب الاكراه من ظالم أيضاً.

٤ ـ القرطبي المالكي (ت / ٦٧١ هـ) قال : (أجمع أهل العلم على أن من أُكرِه على الكفر حتى خشي على نفسه القتل انه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان) (٤).

٥ ـ ابن كثير الشافعي (ت / ٧٧٤ هـ) قال : (اتفق العلماء على أن المكره

____________

(١) أحكام القرآن / الجصاص ١ : ١٢٧.

(٢) أحكام القرآن / ابن العربي ٣ : ١١٧٩.

(٣) العدة في شرح العمدة / عبدالرحمن المقدسي : ٤٦٤ ، نشر مكتبة الرياض الحديثة.

(٤) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٠ : ١٨٠.

٩٣

على الكفر يجوز له ان يوالي أيضاً لمهجته ، ويجوز له أن يأبى) (١).

٦ ـ ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / ٨٥٢ هـ) قال : (قال ابن بطال تبعاً لابن المنذر : أجمعوا على أن من أُكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالايمان ، أنه لا يحكم عليه بالكفر) (٢).

٧ ـ الشوكاني (ت / ١٢٥٠ هـ) قال : (أجمع أهل العلم على أن من أُكرِه على الكفر حتى خشي على نفسه القتل ، إنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر) (٣).

٨ ـ جمال الدين القاسمي الشامي (ت / ١٣٣٢ هـ) قال : (ومن هذه الآية : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) استنبط الأئمة مشروعية التقيّة عند الخوف ، وقد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني) (٤).

ثانياً : الدليل العقلي :

وأما عن الدليل العقلي ، فالواقع إنّه لم يكن للعقل البشري صلاحية الاستقلال بالحكم عند جميع المسلمين بما في ذلك المعتزلة ؛ إذ لم يثبت عنهم اعتبار العقل حاكماً في المقام وتقديمه على حكم الشرع (٥) ،

____________

(١) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير ٢ : ٦٠٩.

(٢) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني ١٢ : ٢٦٤.

(٣) فتح القدير / الشوكاني ٣ : ١٩٧.

(٤) محاسن التأويل / القاسمي ٤ : ١٩٧. واُنظر هذه الأقوال وغيرها من الأقوال الاُخر المصرحة باجماع علماء العامّة على مشروعية التقيّة في كتاب واقع التقيّة / السيد ثامر هاشم العميدي : ٩٣ ٩٦ ، ط ١ ، نشر مركز الغدير للدراسات الإسلامية ، ١٤١٦ هـ.

(٥) راجع مباحث الحكم عند الاصوليين / محمد سلام مدكور ١ : ١٦٢. فقد نقل عن كتاب مسلّم الثبوت قوله : (في كتب بعض المشايخ : إنّ المعتزلة يرون ان الحاكم هو العقل) ثم نقل

٩٤

والصحيح من الأقوال : إنّه الطريق الموصل إلى العلم القطعي ، والسبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الأخبار (١).

فالعقول وإن كان لها قابلية الادراك ، إلّا أن ادراكها يتناول الكليات ولايتعدى إلى الجزيئات والفروع التي تحتاج إلى نص خاص بها ، وهذا لا يمنع من أن يدرك العقل السليم خصائص كثيرة في تفسير النصوص بشرط أن لا يكون خاضعاً لتأثيرات اُخرى تصده عن الوصول إلى الواقع ، كما لو ناقش في الأوليّات والبديهيات ولم يفرق بين قبح الظلم وحسن العدل مثلاً.

كما لا يمنع أيضاً من أن يستقل ببعض الأحكام ، إذ لو عُزل العقل عن الحكم لهدم أساس الشريعة ، غير أنّه لا يتعرض للتفاصيل والاشياء الخارجية ولا يتخذ منها موضوعات لاحكامه ، وإنما يحكم بأمور كلية عامّة كما مرّ.

فهو مثلاً لا يحكم بوجوب الصوم والصلاة ، وإنّما يحكم باطاعة الشارع المقدس وامتثال أوامره التي منها الأمر بالصوم والصلاة.

وهو لا يتعرض للبيع والإجارة والزواج والطلاق ، بل يقرّ كل ما يصلح الجميع ويحفظ النظام العام.

وهو لا يحلل هذا أو يحرم ذاك ، وإنّما يحكم بقبح العقاب بلا بيان ،

____________

في ردّه عن محيط الزركشي قوله : (إنّ المعتزلة لا ينكرون ان الله هو الشارع للاَحكام والموجب لها ، والعقل عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي).

(١) التذكرة باُصول الفقه / الشيخ المفيد : ٢٨ ، مطبوع ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد في المجلد التاسع ، ط ٢ ، دار المفيد ، بيروت / ١٤١٤ هـ. وقد نقله عنه الكراجكي في كنز الفوائد ٢ : ١٥ ، دار الأضواء ، بيروت / ١٤٠٥ هـ ، إذ أورد فيه مختصر التذكرة باُصول الفقه للشيخ المفيد

٩٥

وبوجوب دفع الضرر عن النفس ، وبحرمة ادخاله على الغير.

فالعقل له القدرة في أن يحكم بهذه الكليات العامة وما إليها حكماً مستقلاً ، حتى وإن لم يرد فيها نص شرعي ، ونحن نكتشفها ونطبقها على مواردها دون أيّة واسطة. وأما ما جاء في لسان الشارع من الأحكام في الموارد التي استقل العقل بها فمحمول على الارشاد والتأكيد لحكم العقل ، لا على التأسيس والتجديد ، ومن هذه الموارد :

١ ـ حكم العقل بالاحتياط : كما لو كان لديك اناءان : أحدهما طاهر ، والآخر نجس ، ولم تستطع التمييز بينهما ، أو تيقنت أنه قد فاتك فرض العشاء أو المغرب ولم تميز أحدهما.

ففي مثل هذا الحال يحكم العقل بوجوب الاحتياط باجتناب الانائين في المثال الأول ، وباداء الصلاتين في المثال الثاني. ولهذا اشتهر عن الفقهاء قولهم : (العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بفراغها).

٢ ـ حكم العقل بالبراءة : كما لو كانت هناك قضية لدى الفقيه لا يعرف حكمها هل هو الفعل أو الترك ؟ بعد أن استفرغ ما في وسعه للبحث عنها في جميع أدلة الاحكام ، ومع هذا لم يجد شيئاً في خصوص تلك القضية.

فهنا يلجأ الفقيه إلى العقل الذي يحكم في مثل هذه الحالة التي لم يصل بها بيان من الشارع بقبح العقاب بلا بيان ، وبناء على هذه القاعدة العقلية يحكم الفقيه بجواز الأمرين : الفعل والترك.

ومن هنا يتضح أن الفرق بين الاحتياط والبراءة العقليين ، هو أن مورد الاحتياط هو الشك في المكلف به بعد العلم بوجود التكليف ، ومورد البراءة هو الشك في أصل وجود التكليف.

٣ ـ حكم العقل بدفع الضرر : قسّم الفقهاء الضرر على قسمين ،

٩٦

وهما : الضرر الدنيوي كالمتعلق بالنفس والعرض والمال ، والضرر الاخروي كالعقاب على مخالفة الشارع.

والواقع ، إنّ وجوب دفع الضرر لا ينكره إلّا الجاهل الغبي ، لأنّه من أحكام الفطرة التي فُطرت عليها النفوس ، ومن ينكر ذلك فهو أقل رتبة من الحيوانات التي تعرف ذلك بفطرتها ، ألا ترى أنها تنفر من الضرر وتسعى الى النفع بفطرتها دون توسط حكم العقل بالحسن والقبح ؟

إنّ هذه القاعدة قاعدة التحسين والتقبيح العقليين اعتنى بها المتكلمون كثيراً ، وأما علماء الاصول فهم وان لم يخصصوا لها باباً مستقلاً ، إلّا أنهم تكلموا عنها استطراداً في مباحث الظن والاحتياط والبراءة ، وتتلخص أقوالهم بأن الضرر إما أن يكون دنيوياً ، أو أخروياً ، وكل منهما إمّا أن يكون معلوم الوقوع أو مظنوناً أو محتملاً.

أما الضرر المعلوم ، فان العقل يحكم بوجوب دفعه مهما كان نوعه.

وأما المظنون والمحتمل ، فإنّ كان اخروياً ، وكان ناشئاً عن العلم بوجود التكليف والشك في المكلَّف به ، فهو واجب الدفع ؛ لأنّه يعود إلى وجوب الإطاعة فيدخل في باب الاحتياط.

وان كان الخوف من الضرر الاخروي ناشئاً من الشك في أصل وجود التكليف ، فالعقل لا يحكم بوجوب الدفع ؛ لوجود المؤمِّن العقلي وهو قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) أي : إنّ عدم البيان أمان من العقاب ، كما في قوله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ) (١) زيادة على حديث الرفع المشهور كما تقدم ، وحديث السّعة في الكافي عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام ،

____________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ١٥.

٩٧

أنّه قال : « .. هم في سعة حتى يعلموا » (١) وقول الإمام الصادق عليه‌السلام :

« كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (٢) وقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نص » (٣) وهذا يعني دخوله في باب البراءة.

أما الضرر الدنيوي المظنون والمحتمل ، فإنّ العقل يحكم بوجوب دفعه ولا فرق بينه وبين الضرر المعلوم من هذه الجهة ؛ لأنّ الإقدام على مالا يؤمَّن معه الضرر قبيح عقلاً.

فأي منا مثلاً إذا تردد عنده سائل موجود في اناء بين كونه سماً أو ماءً ولا يحكم عقله بوجوب اجتناب ذلك السائل ؟ والخلاصة : إنّ الضرر الدنيوي يحكم العقل بوجوب الابتعاد عنه معلوماً كان أو مظنوناً أو محتملاً (٤).

وواضح أنّ الاستدلال بالعقل على مشروعية التقيّة ، إنّما هو من جهة حرص العاقل على حفظ نفسه من التلف ، بل ومن كل ما يهدد كيانه بالخطر ، أو يعرّض شرفه إلى الانتهاك ، أو أمواله إلى الضياع.

والتقيّة ما هي إلّا وسيلةٌ وقائيةٌ لحفظ هذه الامور وصيانتها عندما يستوجب الأمر ذلك على أن لا يؤدي استخدامها إلى فسادٍ في الدين أو المجتمع كما لو أبيحت في الدماء مثلاً.

____________

(١) فروع الكافي ٦ : ٢٩٧ / ٢ باب ٤٨ من كتاب الأطعمة.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٧ باب ٤٥.

(٣) عوالي اللآلي ٢ : ٤٤ / ١١١.

(٤) راجع في ذلك مقالات الشيخ محمد جواد مغنية : ٢٥٠ ـ ٢٥٣ ، ط ٢ ، دار ومكتبة الهلال ، بيروت / ١٩٩٣ م.

٩٨

الفصل الثالث

أقسام التقيّة وأهميتها والفرق بينها وبين النفاق

المبحث الأول

أقسام التقيّة

للتقية أقسام متعددة باعتبارات وحيثيات مختلفة ؛ ولهذا سوف نتناول تلك الأقسام بثلاثة اعتبارات ، وهي :

أولاً : باعتبار الحكم.

ثانياً : باعتبار الأركان.

ثالثاً : باعتبار الأهداف والغايات.

وجدير بالذكر هو ما اعتاده الفقهاء في بحث التقيّة بلحاظ حكمها من تناولهم لها تارة : باعتبار حكمها التكليفي ، واخرى باعتبار حكمها الوضعي ، ونظراً لتعلق الأول منهما بأقسام التقيّة دون الثاني المختص ببيان ما يترتب عليه من الصحة والبطلان ، لذا سيكون الحديث عن تلك الأقسام باعتبار الحكم تحت عنوان :

٩٩

أولاً : أقسام التقيّة باعتبار حكمها التكليفي :

تقسم التقيّة بهذا الاعتبار على خمسة أقسام ، وهي :

القسم الأول : التقيّة الواجبة :

وهي ما كانت لدفع ضرر واجب فعلاً ، متوجه إلى نفس المتقي ، أو عرضه ، أو ماله ، أو إخوانه المؤمنين ، بحيث يكون الضرر جسيماً ، ودفعه بالتقيّة ـ التي لا تؤدي إلى فساد في الدين أو المجتمع ـ ممكناً ، وإنّه لا يمكن دفع ذلك الضرر إلّا بالتقيّة.

ومن أمثلة ذلك إفطار الصائم في اليوم الأخير من شهر رمضان إذا ما أُعلِن أنه عيدٌ من قبل قضاة الحاكم الجائر استناداً إلى شهادة من لا تقبل شهادته مع عدم ثبوت رؤية هلال شوال ، وبشرط أن يكون الصائم تحت نظر الظالم أو رعيته ، وأنّه يعلم أو يظن بأنه إذا ما استمر بصيامه لحقه ضرر لا يطاق عادة. فهنا يجب عليه الافطار تقية على أن يقضي ذلك اليوم مستقبلاً ، ومثل ذلك افطاره تقية في يوم شكٍ وهو عالم بأنّه من شهر رمضان. وقد حصل هذا فعلاً للاِمام الصادق عليه‌السلام مع أبي العباس السفاح أول ملوك بني العباس (١).

ومنه أيضاً التظاهر أمام الظالم عند سؤاله إياه عن شخص مؤمن يريد قتله ، بمظهر من لا يعرفه وإن كان صديقه ، حتى وان تطلب الأمر أن يحلف بالله على عدم معرفته شخص ذلك المؤمن ، وجب عليه الحلف تقية لأجل انقاذ أخيه المؤمن من القتل. وقد مرَّ ما يدل عليه في أحاديث

____________

(١) فروع الكافي ٤ : ٨٢ ـ ٨٣ / ٧ و ٩ باب ٩ من كتاب الصيام. وتهذيب الأحكام ٤ : ٣١٧ / ٩٦٥ باب الزيادات من كتاب الصيام.

١٠٠