التقيّة في الفكر الإسلامي

السيد ثامر هاشم العميدي

التقيّة في الفكر الإسلامي

المؤلف:

السيد ثامر هاشم العميدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-82-X
الصفحات: ١٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الحديث الثاني : تقية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فاحش :

أخرج البخاري من طريق قتيبة بن سعيد ، عن عروة بن الزبير ، أن عائشة أخبرته أن رجلاً استأذن في الدخول إلى منزل النبي فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إئذنوا له فبئس ابن العشيرة ، أو بئس أخو العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت له : يا رسول الله ! قلت ما قلت ثم ألِنتَ له في القول ؟ فقال : أي عائشة ، إنّ شرَّ الناس منزلة عند الله من تركه أو وَدَعَهُ الناس اتقاء فحشه » (١).

ونظير هذا الحديث ما أخرجه الطبراني من حديث ابن بريدة ، عن أبيه ، قال : (كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل رجل من قريش ، فأدناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقرّبه ، فلمّا قام ، قال : « يا بريدة أتعرف هذا » ؟

قلتُ : نعم ، هذا أوسط قريش حسباً ، وأكثرهم مالاً ؛ ثلاثاً ، فقلت : يا رسول الله أنبأتك بعلمي فيه ، فأنت أعلم.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هذا ممن لايقيم الله له يوم القيامة وزناً » (٢).

وهذان الحديثان يكشفان عن صحة ما سيأتي في تقسيم التقيّة ، وأنها غير منحصرة بكتمان الحق وإظهار خلافه خوفاً على النفس من اللائمة

____________

سورة آل عمران.

(١) صحيح البخاري ٨ : ٣٨ كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس. وسنن أبي داود ٤ : ٢٥١ / ٤٧٩١ و ٤٧٩٢ و ٤٧٩٣. وسنن الترمذي ٤ : ٣٥٩ / ١٩٩٦ باب ٥٩ وقال (هذا حديث حسن صحيح). ومسند أحمد ٧ : ٥٩ / ٢٣٨٥٦ ، والطبعة الاُولى ٦ : ٣٨. واُنظر : اُصول الكافي ٢ : ٢٤٥ / ١ كتاب الايمان والكفر ، باب من يتقى شرّه.

(٢) المعجم الأوسط / الطبراني ٢ : ١٦٥ / ١٣٠٤. ومجمع الزوائد / الهيثمي ٨ : ١٧.

٦١

والعقوبة بسبب الإكراه ، وإنّما تتسع التقيّة إلى أبعد من هذا ، فيدخل فيها ما ذكره المحدثون في باب المداراة ، سيّما إذا كان في خُلُقِ الشخص المدارى نوع من الفحش كما في هذا الحديث ، أو فيه نوع من الشكاسة كما كان في خُلُق مخرمة.

فقد أخرج البخاري نفسه من طريق عبدالوهاب ، عن أبي مليكة ، قال : (إنّ النبي صلّى الله عليه (وآله) وسلم أُهدِيَت له أقبية من ديباج مزررة بالذهب ، فقسمها في ناس من أصحابه ، وعزل منها واحداً لمخرمة ، فلما جاء ، قال : « خبأت هذا لك » (١).

قال الكرماني في شرح الحديث المذكور : (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبأت هذا لك. وكان ملتصقاً بالثوب وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يري مخرمة أزاره ليطيب قلبه به ، لأنّه كان في خلق مخرمة نوع من الشكاسة) (٢).

وقد استخدم هذا الاسلوب من التقيّة بعض الصحابة أيضاً.

قال السرخسي الحنفي في المبسوط : (وقد كان حذيفة ممن يستعمل التقيّة على ما روي أنه يداري رجلاً ، فقيل له : إنّك منافق !!

فقال : لا ، ولكني اشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه) (٣).

وواضح من كلام هذا الصحابي الجليل ، أنّ ترك التقيّة ليس مطلقاً في كل حال وان عدم مداراة الناس تؤدي إلى نفرتهم ، وعزلته عنهم ، وربما ينتج عنها من الاضرار ما يذهب بالدين كلّه.

____________

(١) صحيح البخاري ٨ : ٣٨ ، كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس.

(٢) صحيح البخاري بشرح الكرماني ٢٢ : ٧ / ٥٧٥٦ ، كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس.

(٣) المبسوط / السرخسي ٢٤ : ٤٦ ، من كتاب الاكراه.

٦٢

ومن هنا روي عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « المؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم » (١).

ولا يخفى على عاقل ما في مخالطة الناس من أمور توجب مداراتهم سيما إذا كانت المخالطة مع قوم مرجت عهودهم واماناتهم وصاروا حثالة.

فقد أخرج الهيثمي ، من طريق إبراهيم بن سعيد ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم واماناتهم وصاروا حثالة ؟ وشبّك بين أصابعه ، قالوا : كيف نصنع ؟ قال : اصبروا وخالقوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم بأعمالهم » (٢).

وهذا الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط بسنده عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا أبا ذر كيف أنت إذا كنت في حثالة من الناس ـ وشبّك بين أصابعه ـ قلتُ : يا رسول الله ، ما تأمرني ؟ قال : صبراً ، صبراً ، خالقوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم في أعمالهم » (٣).

وأخرجه الهيثمي عن أبي ذر أيضاً (٤).

أقول : إنّ أبا ذر سُيّر إلى الشام ، وبعد أن أفسد الشام على معاوية بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أُعيد إلى المدينة ، ثم نُفي بعد ذلك إلى الربذة

____________

(١) سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٣٨ / ٤٠٣٢. وسنن البيهقي ١٠ : ٨٩. وحلية الاولياء / أبو نعيم ٥ : ٦٢ و ٧ : ٣٦٥. والجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٠ : ٣٥٩.

(٢) كشف الأستار / الهيثمي ٤ : ١١٣ / ٢٣٢٤.

(٣) المعجم الأوسط / الطبراني ١ : ٢٩٣ / ٤٧٣.

(٤) مجمع الزوائد / الهيثمي ٧ : ٢٨٢ ـ ٢٨٣ ، كتاب الفتن ، باب في أيام الصبر..

٦٣

ومات فيها غريباً وحيداً بلا خلاف بين سائر المؤرخين ، ومنه يعلم من هم الناس الذين وصفوا بالحثالة !

هذا ، وقد روى الشيخ المفيد في أماليه بسنده عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام أنه قال : « خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم ، وزايلوهم بقلوبكم وأعمالكم » (١).

ولست أدري كيف تكون مخالقة حثالة الناس بأخلاقهم ومخالطتهم باللسان والمخالفة في الأعمال والمزايلة بالقلوب من غير تقية ؟!

الحديث الثالث : أمرُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّار بن ياسر بالتقيّة :

وهو ما أشرنا إليه في قصة عمار وأصحابه الذين أظهروا كلمة الكفر بلسانهم وقلوبهم مطمئنة بالايمان.

فقد روى الطبري بسنده عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، أنه قال : (أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا ، فشكا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئناً بالايمان ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فان عادوا فعد » (٢).

وفي تفسير الرازي أنه قيل بشأن عمار : (يا رسول الله ! إنّ عماراً كفر ! فقال : «كلّا ، إنّ عماراً مليء إيماناً من فرقه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينيه ويقول : ما لكَ ؟ إن عادوا لك فعد لهم بما قلت » (٣).

____________

(١) أمالي الشيخ المفيد : ١٣١ / ٧ المجلس الخامس عشر.

(٢) تفسير الطبري ١٤ : ١٢٢.

(٣) التفسير الكبير / الرازي ٢٠ : ١٢١.

٦٤

الحديث الرابع : النهي عن التعرّض لما لا يطاق :

ويدل عليه ما أخرجه الترمذي وحسّنه بسنده عن حذيفة قال : (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، قالوا : وكيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء لما لا يطيق ») (١).

وفي مسند أحمد بلفظ : « لا ينبغي لمسلم... » (٢).

وأخرجه في كشف الاستار عن ابن عمر (٣).

وجه الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية التقية :

ووجه الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية التقيّة أوضح من أن يحتاج إلى بيان ؛ لأنّ ما يخافه المؤمن من تهديد ووعيد الكافر أو المسلم الظالم ؛ لا شكّ أنه يخلق شعوراً لديه بامتهان كرامته لو امتنع عن تنفيذ ما أُريد منه ، لأنّه معرّض في هذه الحال إلى بلاء ، فان عزم على اقتحامه وهو لا يطيقه فقد أذلّ نفسه ، هذا مع أن بامكانه أن يخرج من هذا البلاء بالتقيّة شريطة أن لا تبلغ الدم ، لأنّها شُرِّعت لحقنه.

قال الإمام الباقر عليه‌السلام : « إنّما جُعِلَت التقيّة لِيُحقَن بها الدمُ ، فإذا بلغ الدم فليس تقية » (٤).

____________

(١) سنن الترمذي ٤ : ٥٢٢ / ٢٢٥٤ باب رقم ٦٧ بدون عنوان.

(٢) مسند أحمد ٦ : ٥٦٢ / ٢٢٩٣٤ والطبعة الاُولى ٥ : ٤٠٥.

(٣) كشف الأستار / الهيثمي ٤ : ١١٣ / ٢٣٢٤ ، ط ٢ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت / ١٤٠٤ هـ.

(٤) اُصول الكافي ٢ : ١٧٤ / ١٦ كتاب الايمان والكفر ، باب التقيّة. والمحاسن / البرقي : ٢٥٩ / ٣١٠ كتاب مصابيح الظلم ، باب التقيّة. والظاهر : (إذا بلغت) وقد يكون في الكلام حذف ، والتقدير : (فإذا بلغ أمرها الدم) ، فلاحظ.

٦٥

الحديث الخامس : في تقية المؤمن الذي كان يخفي إيمانه وقتله المقداد :

وهو ما رواه الطبراني ، بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : (بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سرية فيها المقداد بن الأسود ، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا ، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح ، فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله ، فأهوى إليه المقداد فقتله ، فقال له رجل من أصحابه : قتلت رجلاً قال : لا إله إلّا الله ، والله ليذكرن ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلما قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالوا : يا رسول الله ! إنَّ رجلاً شهد أن لا إله إلّا الله فقتله المقداد ؟ فقال : « ادعوا لي المقداد ، فقال : يا مقداد قتلت رجلاً قال : لا إله إلّا الله ، فكيف لك بـ (لا إله إلّا الله ) ؟ قال : فأنزل الله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) (١).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كان رجلاً مؤمناً يخفي إيمانه مع قوم من الكفار فقتلته ، وكذلك كنت أنت تخفي ايمانك بمكة » (٢).

وقصة نزول هذه الآية أوردها البخاري مختصرة في صحيحه بسنده عن عطاء ، عن ابن عباس أيضاً ، ولم يذكر فيها المقداد بل جعل القاتل هو جماعة المسلمين (٣).

وأخرجها بلفظ الطبراني الحارث بن أبي اُسامة في مسنده كما في

____________

(١) سورة النساء : ٤ / ٩٤.

(٢) المعجم الكبير / الطبراني ١٢ : ٢٤ ٢٥ / ١٢٣٧٩.

(٣) صحيح البخاري ٦ : ٥٩ ، كتاب التفسير ، باب سورة النساء.

٦٦

المطالب العالية (١) ، كما أخرجها الطبري في تفسيره من طريق وكيع (٢).

وقد عرفت أن في هذا الحديث تصريحين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحدهما : ان المقتول كان مؤمناً يكتم ايمانه خوفاً من الكفار ، وهذا هو عين التقيّة.

والآخر : إنّ القاتل وهو المقداد كان حاله بمكة كحال المقتول.

الحديث السادس : إذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمحمد بن مسلمة وابن علاط السلمي بالتقيّة :

وهو حديث البخاري الذي أخرجه بسنده عن جابر بن عبدالله الأنصاري رحمه‌الله قال : (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مَنْ لكعب بن الأشرف فإنّه قد آذى اللهَ ورسولَهُ ؟ فقام محمد بن مَسْلَمَةَ ، فقال : يا رسول الله ! أتُحبُّ أنْ أقتُلَهُ ؟ قال : نعم. قال فأذنْ لي أنْ أقول شيئاً. قال : قل.

فأتاه محمد بن مسلمة ، فقال : إنّ هذا الرجلَ قد سألنا صدقةً وإنّه قد عنانا ، وإني قد أتيتك استسلفك.. الخبر) (٣).

ثم ذكر البخاري تمام القصة التي انتهت بقتل ابن الأشرف على يد محمد بن مسلمة وجماعته من الصحابة الذين أرسلوا معه.

وفي أحكام القرآن لابن العربي ، أن الصحابة الذين كلّفوا بقتل ذلك الخبيث ، وكان محمد بن مسلمة من جملتهم ، أنهم قالوا : (يا رسول الله أتأذن لنا أن ننال منك ؟) فأذن لهم (٤).

____________

(١) المطالب العالية / ابن حجر ٣ : ٣١٧ / ٣٥٧٧ في باب تفسير سورة النساء الآية : ٩٤.

(٢) تفسير الطبري ٥ : ١٤٢ ، في تفسير الآية ٩٤ من سورة النساء.

(٣) صحيح البخاري ٥ : ١١٥ ، باب قتل كعب بن الأشرف.

(٤) أحكام القرآن / ابن العربي المالكي ٢ : ١٢٥٧.

٦٧

ولا يخفى أن ما طُلب من الإذن ، إنما هو لأجل الحصول على ترخيص نبوي بالقول المخالف للحق بغية الوصول إلى مصلحة إسلامية لا تتحقق إلّا من هذا الطريق ، فجاء الإذن الشريف بأن يقولوا ما يشاؤون بهدف الوصول إلى تلك المصلحة.

ومنه يعلم صحة ما مرّ سابقاً بأن التقيّة كما قد تكون بدافع الإكراه ، قد تكون أيضاً بغيره ، كما لو كان الدافع اليها غاية نبيلة ومصلحة عالية.

ونظير هذا الحديث بالضبط ما رواه أحمد في مسنده ، والطبري ، وعبدالرزاق ، وأبو يعلى ، والطبراني وغيرهم من حديث الصحابي الحجاج ابن علاط السلمي وقصته بعد فتح خيبر ، إذ استأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أن يذهب إلى مكة لجمع أمواله من مشركي قريش على أن يسمح له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يقول شيئاً يسرّ المشركين ، فأذن له النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفعلاً قد ذهب إلى مكة ولما قَرُبَ منها رأى رجالاً من المشركين يتسمعون الأخبار ليعرفوا ما انتهى إليه مصير المسلمين في غزوتهم الجديدة (خيبر). فسألوا ابن علاط عن ذلك ولم يعلموا باسلامه فقال لهم : (وعندي من الخبر ما يسركم) !

قال : (فالتاطوا بِجَنْبَيْ ناقتي يقولون : إيه يا حجاج !

قال : قلت : هُزموا هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط ) !!

ثم أخذ يعدد لهم كيف أنّ اليهود تمكنوا من قتل المسلمين ، وتتبع فلولهم ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقع أسيراً بأيديهم ، وأنهم أجمعوا على أن يبعثوه مقيداً بالحديد إلى قريش ليقتلوه بأيديهم وبين أظهرهم !!!

هذا مع علمه علم اليقين كيف قلع أمير المؤمنين عليه‌السلام باب خيبر ، وكيف دُكّت حصون اليهود وولّوا الدُبر ، لكنه أراد بهذا أن يجمع أمواله من

٦٨

المشركين على أحسن ما يرام ، وقد تمّ له ذلك بفضل التقيّة التي شهد فصولها حينذاك العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي اغتمّ أولاً ثم استرّ بعد أن سرّه ابن علاط بحقيقة الخبر (١).

الحديث السابع : حديث الرفع المشهور :

صلة الحديث بالتقيّة :

يتصل حديث الرفع بالتقيّة من جهتين ، وقد تضمنهما الحديث نفسه ، الجهة الأولى : اشتماله على عبارة (وما أكرهوا عليه) ، والتقيّة غالباً ما تكون باكراه ، وقد بيّنا سابقاً صلة الإكراه بالتقيّة ، ونتيجة لتلك الصلة فقد علم جميع المفسرين بلا استثناء دلالة قوله تعالى : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) على جواز التقيّة في الإسلام ولم يناقش أحد منهم في ذلك. الجهة الثانية : اشتمال الحديث في بعض مصادره على عبارة (وما اضطروا إليه) ، وقد تبين سابقاً ان من الاضطرار ما يكون بغير سوء الاختيار ، وان من أسبابه هو فعل الغير كما في الاكراه. كما تبين في أركان الاكراه ما يدلُّ على ان الاكراه الذي لا يضطر معه المكرَه إلى ارتكاب المحظور لا تجوز معه التقيّة إذ لم يعد الاكراه اكراهاً في الواقع لفقدانه أحد أركانه ، فيكون اكراهاً

____________

(١) اُنظر : تقية الحجاج بن علاط في مسند أحمد ٣ : ٥٩٩ ٦٠٠ / ١٢٠٠١ والطبعة الاُولى ٣ : ١٣٨ ١٣٩. ومصنف عبدالرزاق ٥ : ٤٦٦ / ٩٧٧١. والمعجم الكبير / الطبراني ٣ : ٢٢٠ / ٣١٩٦. ومسند أبي يعلى الموصلي ٣ : ٣٩٩ ٤٠٣ / ٣٤٦٦. وتاريخ الطبري ٢ : ١٣٩ في حوادث سنة ٧ هجرية. ومثله في الكامل / ابن الاثير ٢ : ٢٢٣. والبداية والنهاية / ابن كثير ٤ : ٢١٥. والاصابة / ابن حجر ١ : ٣٢٧. وقال في مجمع الزوائد ٦ : ١٥٥ : ورجال أحمد رجال الصحيح.

٦٩

ناقصاً بخلاف التام الذي يولد اضطراراً أكيداً للمكره ، وإذا اتضح هذا اتضحت صلة العبارة بالتقيّة. ومما يقطع النزاع بتلك الصلة حديث الإمام الصادق عليه‌السلام : « إذا حلف الرجل تقية لم يضره إذا هو أُكرِه واضطرَّ إليه » (١) على أن لهاتين العبارتين آثارهما الواضحة في ادخال التقيّة في موارد كثيرة في فروع الفقه مع عدم ترتب آثارها الواقعية بفضل هاتين العبارتين من قبيل صحة التقيّة في طلاق المكره مع الحكم بعدم وقوع الطلاق ، وصحتها في بيع المكره ولكن مع فساد البيع وهكذا الحال في العتق والمباراة والخلع وغيرها كثير.

وزيادة على ذلك نورد ماقاله الشيخ الأنصاري في بحث التقيّة ، قال : (ثم الواجب منها يبيح كل محظور من فعل الواجب وترك المحرم.

والأصل في ذلك أدلة نفي الضرر ، وحديث : « رفع عن أمتي تسعة أشياء » ، ومنها : وما اضطروا إليه..) (٢) وواضح من هذا الكلام صلة القواعد الفقهية الخاصة بازالة الضرر بالتقيّة كما أشرنا إليه سابقاً ، كقاعدة لاضرر وغيرها.

أصل الحديث ومصادره :

وأما عن أصل الحديث ومصادره فهو معروف لدى الفريقين ، فقد أخرجه العامّة بلفظ : « رفع الله من أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما اسْتُكِرهوا

____________

(١) وسائل الشيعة ٢٣ : ٢٢٨ / ٢٩٤٤٢ باب ١٢ من أبواب كتاب الأيمان.

(٢) التقيّة / الشيخ الأنصاري : ٤٠.

٧٠

عليه » (١) وعدّه السيوطي من الأحاديث المشهورة (٢). وصرح ابن العربي المالكي باتفاق العلماء على صحة معناه فقال عند قوله تعالى : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) : (لما سمح الله تعالى في الكفر به..

عند الاكراه ولم يؤاخِذ به ، حمل العلماء عليه فروع الشريعة ، فإذا وقع الاكراه عليها لم يؤاخذ به ، ولا يترتب حكم عليه ، وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء : « رفع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه » ، ـ إلى ان قال عن حديث الرفع ـ : (فإنّ معناه صحيح باتفاق من العلماء) (٣).

والحديث المذكور رواه الصدوق في كتاب التوحيد بسنده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلفظ : «رفع عن أُمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخَلْق ما لم ينطق بشفة » (٤).

وأورده مسنداً في (الخصال) ، مع تقديم كلمة (وما لا يعلمون) على (وما لا يطيقون) (٥).

وأرسله في (الفقيه) بهذه الصورة : «وضع عن أُمتي تسعة أشياء : السهو ، والخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ،

____________

(١) مسند الربيع بن حبيب ٣ : ٩ ، نشر مكتبة الثقافة. وفتح الباري بشرح صحيح البخاري ٥ : ١٦٠ ـ ١٦١ ، دار احياء التراث العربي ، بيروت / ١٤٠٦ هـ. وكشف الخفاء / العجلوني ١ : ٥٢٢ ، ط ٥ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت / ١٤٠٥ هـ. وكنز العمال / المتقي الهندي ٤ : ٢٣٣ / ١٠٣٠٧ ، ط ٥ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت / ١٤٠٥ هـ.

(٢) الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة / السيوطي : ٨٧ ، ط ١ ، مطبعة الحلبي ، مصر.

(٣) أحكام القرآن / ابن العربي ٣ : ١١٧٧ ـ ١١٨٢ وفيه تفصيل مطول عن الأحكام المتصلة بحديث الرفع ، فراجع.

(٤) التوحيد / الصدوق : ٣٥٣ / ٢٤ باب الاستطاعة.

(٥) الخصال / الصدوق ٢ : ٤١٧ / ٩ باب التسعة.

٧١

والطيرة ، والحسد ، والتفكر في الوسوسة في الخَلْق ما لم ينطق الانسان بشفة » (١).

كما أورده الشيخ الحر في (الوسائل) ، تارة عن الصدوق (٢) ، وأُخرى عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى (٣).

وهذا الحديث الذي تحدث عنه علماء الاصول من الشيعة الإمامية في صفحات عديدة في باب البراءة من الاُصول العملية ، صريح برفع المؤاخذة عن المكره.

وقد نصّ القرآن الكريم في أكثر من آية على ذلك وهذا يدل على صحة ما تضمنه الحديث حتى مع فرض عدم صحته في نفسه ، ومن بين تلك الآيات زيادة على ما مرّ ، قوله تعالى : ( وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (٤).

ومن هنا درأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحدَّ عن امرأة زنت كرهاً في عهده الشريف ، وأمر بإقامة الحد على من استكرهها (٥).

____________

(١) من لا يحضره الفقيه / الصدوق ١ : ٣٦ / ١٣٢ باب ١٤.

(٢) وسائل الشيعة / الحر العاملي ١٥ : ٣٦٩ / ٢٠٧٦٩ باب ٦٥ من أبواب جهاد النفس ، تحقيق مؤسسة آل البيت : لإحياء التراث.

(٣) وسائل الشيعة ٢٣ : ٢٣٧ / ٢٩٤٦٦ باب ١٦ من أبواب كتاب الإيمان. وانظر : نوادر أحمد ابن محمد بن عيسىٰ : ٧٤ / ١٥٧.

(٤) سورة النور : ٢٤ / ٣٤. واُنظر : سبب نزولها في صحيح مسلم ٨ : ٢٤٤ كتاب التفسير باب قوله تعالى : ( وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ).

(٥) صحيح الترمذي ٤ : ١٥٥ كتاب الحدود ، باب ما جاء في المرأة إذا استكرهت على الزنا.

٧٢

وقد مرّ فيما سبق وحدة الملاك بين الاكراه والتقيّة في بعض صورها ، مما يعني أن دلالة حديث الرفع على مشروعية التقيّة لالبس فيه ولا خفاء.

ونكتفي بهذا القدر من الأحاديث المروية عن النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في أصح كتب الحديث عند العامّة ؛ لننتقل بعد ذلك إلى تراث النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي حفظه أهل بيته عليهم‌السلام وأهل البيت أدرى بالذي فيه لنقتطف منه جزءاً يسيراً من أحاديث التقيّة المروية في كتب الحديث عند شيعتهم ، سيّما وقد علم الكل كيف أينعت مفاهيم الشريعة على أيديهم عليهم‌السلام ، وكيف أغدقت علومهم بفاكهة القرآن؛ لأنّهم صنوه الذي لن يفارقه حتى يردا على النبي الحوض (١) وكيف فاح عطر الإيمان وأريج الحق من بيوتهم التي أذن الله لها أن ترفع ويذكر فيها اسمه. فنقول :

القسم الثاني : أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام في التقيّة :

إنّ الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام في التقيّة كثيرة وقد بلغ رواتها الثقات عدداً يزيد على الحد المطلوب في التواتر ، وفي تلك الأحاديث تفصيلات كثيرة تضمنت فوائد التقيّة ، وأهميتها ، وكيفياتها ، وموارد حرمتها ، مع الكثير من أحكامها فيما يزيد على أكثر من ثلاثمائة حديث تجدها مجموعة في كتب الحديث المتأخرة كوسائل الشيعة ومستدركه ، وجامع أحاديث الشيعة وذلك في أبواب كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

____________

(١) كما في حديث الثقلين المتواتر عند جميع المسلمين وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ».

٧٣

ومن هنا أصبحت دراستها في بحث مختصر كهذا متعذرة ، بل حتى الاكتفاء بعرض نصوصها كذلك أيضاً ، ولما لم نجد بداً من التعرض السريع إليها ارتأينا جمع ما اشترك منها في معنىً واحدٍ تحت عنوان واحد ، ومن ثم الاستدلال على ذلك العنوان ببعض أحاديثه لا كلّها سيما وان القدر المشترك في أحاديث كل عنوان يبلغ حد التواتر المعنوي ، وقد اكتفينا ببعض العناوين المهمة وتركنا الكثير منها ، إذ لم يكن الهدف سوى وضع صورة مصغرة عن التقيّة في الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وبالنحو الآتي :

أولاً ـ الأحاديث المستنبطة جواز التقيّة من القرآن الكريم :

هناك جملة وافرة من الأحاديث التي فسّرت بعض الآيات القرآنية بالتقيّة ، نذكر منها :

١ ـ عن هشام بن سالم ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، في قول الله تعالى : ( أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ) قال : « بما صبروا على التقيّة ( وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) (١) قال : الحسنة : التقيّة ، والسيئة : الإذاعة » (٢).

٢ ـ وعنه عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ) قال : « الحسنة : التقيّة ، والسيئة : الإذاعة ». وقوله عزَّ وجل : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٣)... قال : « التي هي أحسن : التقيّة ثم قرأ عليه‌السلام : ( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ

____________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٥٤.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ٢١٨ / ٦ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب التقيّة.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ٢١٧ / ١ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب التقيّة.

٧٤

عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) » (١).

ولا يخفى : أن تفسير الحسنة بالتقيّة ، والسيئة بالإذاعة ، هو من باب تفسير الشيء ببعض مصاديقه ، وهذا مما لا ينكر ، فلو توقف مثلاً صون دم مسلم على التقيّة فلا شك في كونها حسنة ، بل من أعظم القربات ، وأما لو ترتب على الإذاعة سفك دم حرام ، فلا ريب بِعدِّ الإذاعة سيئة بل من أعظم الموبقات.

قول الإمام الصادق عليه‌السلام بتقية يوسف وإبراهيم عليهما‌السلام :

قد تجد في جملة من الروايات ما يدل على عمق تاريخ التقيّة في الحياة البشرية ، باعتبارها المنفذ الوحيد المؤدي إلى سلامة الإنسان أزاء ما يعرضه للفناء ، أو يقف حجراً في طريق المصالح المشروعة ، كما حصل ذلك لبعض الأنبياء عليهم‌السلام ، ومن تلك الروايات :

عن أبي بصير ، قال : (قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « التقيّة من دين الله ، قلت : من دين الله ؟ قال : إي والله من دين الله ، ولقد قال يوسف : ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) (٢). والله ما كانوا سرقوا شيئاً. ولقد قال إبراهيم عليه‌السلام : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (٣) والله ما كان سقيماً » (٤).

____________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٢١٨ / ٦ باب التقيّة. ومثله في المحاسن / البرقي : ٢٥٧ / ٢٩٧. والآية من سورة فصلت : ٤١ / ٣٤.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٧٠.

(٣) سورة الصافات : ٣٧ / ٨٩.

(٤) اُصول الكافي ٢ : ٢١٧ / ٣ باب التقيّة. ومثله في المحاسن للبرقي ٢٥٨ / ٢٠٣. وعلل الشرائع / الصدوق : ٥١ / ١ ، ٢.

٧٥

توضيح حول تقية يوسف الصدّيق عليه‌السلام :

ومما يجب التنبيه عليه هنا ، هو أن تقية يوسف عليه‌السلام إنّما هي من جهة قول المؤذن الآتي ، الذي صحت نسبته إلى يوسف عليه‌السلام باعتبار علمه به مع تهيئة مقدماته.

فانظر إلى قوله تعالى : ( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) (١).

ستعلم ان قول المؤذن كان بتدبير يوسف عليه‌السلام وعلمه ، وهو لم يكذب عليه‌السلام ، لان أصحاب العير كانوا قد سرقوه من أبيه وألقوه في غيابات الجب حسداً منهم وبغياً.

ومما يدل على صدق يوسف عليه‌السلام أن اخوته لما قالوا له بعد ذلك ( يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ) (٢).

لم يقل عليه‌السلام لهم بأنا لا نأخذ إلّا من سرق متاعنا ، بل قال لهم : ( مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ) (٣).

وبالجملة فان تقية النبي يوسف عليه‌السلام إنّما هي من جهة ظهوره بمظهر من لا يعرف حال اخوته مع اخفاء الحقيقة عنهم مستخدماً التورية في حبس أخيه. وعليه تكون تقيته هنا ليست من باب الاحكام وتبليغ الرسالة حتى يُزعم عدم جوازها عليه ، بل كانت لأجل تحقيق بعض المصالح العاجلة

____________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٦٩ ـ ٧٠.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٧٨.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ٧٩.

٧٦

كاحتفاظه بأخيه بنيامين ، والآجلة كما يكشف عنها قوله لهم بعد إن جاءوا من البدو : ( ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) (١).

ما زعمه أبو هريرة في صحيح البخاري من أنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كان مكان يوسف لارتكب الفاحشة !! :

أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريقين أنه قال : « .. ولو لبثت في السجن ما لبث يُوسُفَ لأجِبتَ الدَّاعي » (٢) !!

ولا أعلم فريّة تجوّز على أشرف الأنبياء والرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التقيّة في ارتكاب ما أبى عنه يوسف عليه‌السلام واستعصم فيما لو جُعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكانه عليه‌السلام من هذه الفرية التي ليس بها مرية.

توضيح حول تقية الخليل إبراهيم عليه‌السلام :

هذا ، وأما عن تقية إبراهيم عليه‌السلام ، فهي نظير تقية يوسف عليه‌السلام ، وذلك باعتبار أنه أخفى حاله واظهر غيره بهدف تحقيق بعض المصالح العالية التي تصب في خدمة دعوة أبي الأنبياء عليه‌السلام إلى التوحيد ونبذ الشرك ، مثل تكسير الأصنام وتحطيمها ، وليس في قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) أدنى كذبٍ ، لأنّه ورّى عما سيؤول إليه حاله مستقبلاً ، بمعنى أنه سيسقم بالموت ، فتكون تقيته عليه‌السلام في موضوع لا في حكم حتى يُتأمَّل فيها.

ومن هنا كانت كلمة أهل البيت عليهم‌السلام قاطعة في صدق إبراهيم عليه‌السلام في تقيته.

____________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٩٩.

(٢) صحيح البخاري ٦ : ٩٧ باب سورة يوسف ، من كتاب التفسير.

٧٧

أبو هريرة يكذِّب إبراهيم الخليل عليه‌السلام في صحيح البخاري :

أبى البخاري في صحيحه إلّا أن يروي مفتريات أبي هريرة في تكذيب إبراهيم عليه‌السلام ، فقد أخرج في صحيحه من طريقين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال بزعم أبي هريرة : « لم يكذب إبراهيم إلّا ثلاثاً » وفي لفظ آخر : « لم يكذب إبراهيم عليه‌السلام إلّا ثلاث كذبات » (١).

ولم يكتف البخاري بهذا ، بل أخرج بسنده عن أبي هريرة نفسه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (.. إنّ الله يجمع يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد... فيأتون إبراهيم فيقولون : أنتَ نبيُ الله وخليله من الأرض اشفع لنا إلى ربّك فيقول فذكر كذباته : نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى موسى).

ثم قال البخاري : (تابعه أنسٌ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) (٢) !!

أقول : معاذ الله أن نصدّق بهذه الأكاذيب وان قالوا بوثاقة رواتها ! ، وكيف لا نكذّبهم وقد رموا من قد رفع الله محلّه ، وارسله من خلقه رحمة للعالمين وحجة للمجتهدين ؟

تكذيب الرازي لأبي هريرة والبخاري ؛ لتكذيبهما إبراهيم عليه‌السلام :

قال الفخر الرازي في تفسيره عن خبر أبي هريرة في صحيح البخاري : (ماكذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات) قال : (قلت لبعضهم : هذا الحديث لاينبغي أن يقبل ؛ لأنّ نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه‌السلام لا تجوز ، وقال ذلك الرجل : فكيف يحكم بكذب الرواة العدول ؟ فقلت : لما وقع التعارض بين

____________

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٧١ باب قول الله تعالى : ( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ) من كتاب بدء الخَلق.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ١٧٢ باب يَزِفُّونَ النَّسَلانُ في المشي من كتاب أحاديث الأنبياء.

٧٨

نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل عليه‌السلام ، كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى) (١).

ثانياً ـ الأحاديث الدالة على أن التقيّة من الدين :

دلّت جملة من الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام بأن التقيّة من دين الله عزَّ وجل ومن الإيمان وان من يتركها في موارد وجوبها فهو غير مكتمل التفقه في الدين ، من ذلك :

الحديث الأوّل ـ تسعة أعشار الدين في التقية :

عن أبي عمر الاعجمي ، عن أبي عبداللّه عليه‌السلام قال : « يا أبا عمر ، ان تسعة أعشار الدين في التقيّة ، ولا دين لمن لا تقية له » (٢).

وهذا الحديث لا شكَّ فيه ، فهو ناظر من جهة إلى كثرة ما يبتلى به المؤمن في دينه ولا يخرج من ذلك إلّا بالتقيّة خصوصاً إذا كان في مجتمع يسود أهله الباطل.

ومن جهة اُخرى إلى قلة أنصار الحق وكثرة أدعياء الباطل حتى لكأن الحق عشر ، والباطل تسعة أعشار ، وعليه فلا بدَّ لأهل الحق من مماشاة أهل الباطل في حال ظهور دولتهم ليسلموا من بطشهم.

على أن وصف الحق بالقلة والباطل بالكثرة وكذلك أهلهما صرّح به القرآن الكريم في أكثر من آية ، كقوله تعالى : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (٣) وقوله تعالى : ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا

____________

(١) التفسير الكبير / الفخر الرازي ١٦ : ١٤٨.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ١٧٢ / ٢. والمحاسن / البرقي : ٣٥٩ / ٣٠٩. والخصال / الصدوق : ٢٢ / ٧٩.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٣.

٧٩

هُمْ ) (١).

كما أن الحديث لا يدل على نفي الدين عمّن لا يتقي بل يدل بقرينة أحاديث أُخر أنه غير مكتمل التفقه ، بل ليس فقيهاً في دينه ، وهكذا في فهم نظائره الاُخر.

ومما يدل عليه ما رواه عبداللّه بن عطاء قال : قلتُ لابي جعفر الباقر عليه‌السلام : رجلان من أهل الكوفة أُخذا ، فقيل لأحدهما : ابرأ من أمير المؤمنين ، فبرئ واحد منهما وأبى الآخر ، فَخُلِّيَ سبيل الذي برئ وقُتل الآخر ؟

فقال عليه‌السلام : « أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه ، وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجَّل إلى الجنة » (٢).

هذا ، ولا يمنع أن يكون الحديث دالاً أيضاً على سلب الإيمان والدين حقيقة ممن لا يتقي في موارد وجوب التقيّة عليه ، كما لو أُكره مثلاً على أن يعطي مبلغاً زهيداً ، وإلّا عرّض نفسه إلى القتل ، فامتنع حتى قتل ، فهذا لا شكّ أنه من إلقاء النفس بالتهلكة ، وقد مرّ تصريح علماء العامّة بأن مصير مثل هذا يكون في جهنم ، ومن غير المعقول ان تكون جهنم مأوى المؤمن المتدين ، بل هي مأوى الكافرين والمنافقين وأمثالهم. ونظير هذا الحديث :

الحديث الثاني ـ التقية من دين أهل البيت عليهم‌السلام :

عن معمر بن خلاد ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « التقيّة

____________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٢٤.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ١٧٥ / ٢١ ، باب التقيّة.

٨٠