التقيّة في الفكر الإسلامي

السيد ثامر هاشم العميدي

التقيّة في الفكر الإسلامي

المؤلف:

السيد ثامر هاشم العميدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-82-X
الصفحات: ١٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ذلك وحلف بأنّه ما آواه ولا يعلم له مكاناً (١).

تقية واصل بن عطاء :

قال ابن الجوزي الحنبلي : خرج واصل بن عطاء يريد سفراً في رهط ، فاعترضهم جيش من الخوارج فقال واصل : « لا ينطقن أحد ودعوني معهم ، فقصدهم واصل ، فلمّا قربوا بدأ الخوارج ليُوقِعوا.

فقال : كيف تستحلّون هذا وما تدرون من نحن ، ولا لأي شيءٍ جئنا ؟ فقالوا : نعم ، من أنتم ؟ قال : قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله.

قال : فكفوا عنهم ، وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن ، فلما أمسك قال واصل : قد سمعت كلام الله ، فأبلغنا مأمننا حتى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين ! فقال : هذا واجب ، سيروا.

قال : فسرنا والخوارج والله معنا يحموننا فراسخ ، حتى قربنا إلى بلد لا سلطان لهم عليه ، فانصرفوا » (٢).

تقية عمرو بن عبيد المعتزلي :

بعد ثورة إبراهيم بن عبدالله وأخيه محمد ذي النفس الزكية على المنصور العباسي التي انتهت بقتلهما ، قال المنصور يوماً لعمرو بن عبيد : « بلغني أن محمداً بن عبدالله بن الحسن كتب اليك كتاباً » قال عمرو : قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه.

قال : فبم أجبته ؟ قال : أوليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت

____________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٠ : ١٢٤.

(٢) كتاب الأذكياء / ابن الجوزي : ١٣٦ ، ط ١ ، دار الكتب العلمية ، بيروت / ١٤٠٥ هـ.

١٤١

تختلف إلينا ، أنّي لا أراه ؟!

قال المنصور : أجل ، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي !! قال عمرو : لئن كذبتك تقية ، لأحلفنَّ لك تقية. قال المنصور : والله ، والله ، أنت الصادق البر » (١).

تقية أبي حنيفة من القاضي ابن أبي ليلى :

أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده عن سفيان بن وكيع قال : « جاء عمر بن حماد بن أبي حنيفة فجلس إلينا ، فقال : سمعتُ أبي حماد يقول : بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة فسأله عن القرآن ؟ فقال : مخلوق. فقال : تتوب وإلّا أقدمت عليك ؟ قال : فتابعه فقال : القرآن كلام الله.

قال : فدار به في الخلق يخبرهم أنّه قد تاب من قوله : القرآن مخلوق.

فقال أبي : فقلت لأبي حنيفة : كيف صرت إلى هذا وتابعته ؟

قال : يا بني خفت أن يقدم عليَّ فاعطيته التقيّة » (٢).

ولعدم جدوى الاكثار من صور التقيّة القولية سنكتفي في اختتام هذا المبحث بما قاله الشيخ مرتضى اليماني بهذا الصدد فيما نقله عنه جمال الدين القاسمي في تفسيره.

قال : « وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران :

أحدهما : خوف العارفين مع قلتهم من علماء السوء ، وسلاطين الجور

____________

(١) تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي ١٢ : ١٦٨ ـ ١٦٩ / ٦٦٥٢ في ترجمة عمرو بن عبيد المعتزلي.

(٢) تاريخ بغداد ١٣ : ٣٧٩ ـ ٣٨٠ / ٧٢٩٧ في ترجمة أبي حنيفة تحت عنوان (ذكر الروايات عمن حكى عن أبي حنيفة القول بخلق القرآن).

١٤٢

وشياطين الخلق ، مع جواز التقيّة عند ذلك بنص القرآن ، واجماع أهل الإسلام ، ومازال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، ولا برح المحقّ عدواً لأكثر الخلق .. » (١).

المبحث الثاني

الصور الفعلية في التقيّة

إنّ الأفعال الواردة تقية ، المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين وغيرهم من علماء المذاهب والفرق الإسلامية في كتب العامّة أكثر من أن تحصى ، وسوف نقتطف منها ما يأتي :

ما فعله ابن مسعود وابن عمر :

كان ابن مسعود يتقي من الوليد بن عقبة بن أبي معيط والي عثمان على المدينة ، فيصلي خلفه ، على الرغم من أنّ الوليد هذا كان مشهوراً بالفسق وشرب الخمر ، حتى أنّه جُلد على شرب الخمر في عهد عثمان (٢) ، وكان يأتي المسجد ثملاً ويؤم الصحابة في الصلاة.

وفي شرح العقيدة الطحاوية : « أنّه صلّى بهم الصبح مرّة أربعاً !! ثم قال : أزيدكم ؟ فقال له ابن مسعود : مازلنا معك منذ اليوم في زيادة » (٣).

وأما ابن عمر فقد كان يصلي خلف العتاة الفاسقين ويأتم بهم

____________

(١) محاسن التأويل / جمال الدين القاسمي ٤ : ٨٢ ، ط ٢ ، دار الفكر ، بيروت / ١٣٩٨ هـ.

(٢) صحيح مسلم ٣ : ١٣٣١ / ١٧٠٧ كتاب الحدود ، باب الخمر.

(٣) شرح العقيدة الطحاوية / القاضي الدمشقي ٢ : ٥٣٢ ، ط ١ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت / ١٤٠٨ ه.

١٤٣

كالحجاج بن يوسف الثقفي (١) وكان المعروف عنه أنّه « لا يأتي أمير إلّا صلّى خلفه وأدّى إليه زكاة ماله » (٢).

وفي حديث جابر بن عبدالله الانصاري ، قال : « سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منبره يقول : لا تؤمّنَ امرأة رجلاً ، ولا يؤم اعرابي مهاجراً ، ولا يؤم فاجرٌ مؤمناً إلّا أن يقهره بسلطانه أو يخاف سوطه أو سيفه ».

وبهذا الحديث احتج ابن قدامة الحنبلي قائلاً : « لا تجوز الصلاة خلف المبتدع والفاسق في غير جمعة وعيد ، يصليان بمكان واحد من البلد ، فان من خاف منه إن ترك الصلاة خلفه ، فانه يصلي خلفه تقية ثم يعيد الصلاة » (٣).

ومنه يعلم أنّه لا معنى لصلاة ابن مسعود وابن عمر خلف الفاسقين غير التقيّة.

ويؤيد خوف ابن مسعود من الظالمين ما مرّ في تقيته القولية من قوله : « ما من سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلّا كنت متكلماً به ».

وأما خوف ابن عمر فيدل عليه مبايعته ليزيد بن معاوية وانكاره على

____________

(١) المصنف / ابن أبي شيبة ٢ : ٣٧٨ ، الدار السلفية ، بومباي ، الهند. والسنن الكبرى / البيهقي ٣ : ١٢٢ ، دار المعرفة ، بيروت.

(٢) الطبقات الكبرى / ابن سعد ٤ : ١٤٩.

(٣) المغني / ابن قدامة ٢ : ١٨٦ ، ١٩٢. والحديث في سنن ابن ماجة ١ : ٣٤٣ (نقلنا ذلك من بحث « التقيّة في آراء علماء المسلمين / الشيخ عباس علي براتي : ٨٢ » منشور في مجلة رسالة الثقلين ، العدد الثامن ، السنة ١٤١٤ هـ ، اصدار المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام ، قم).

١٤٤

عبدالله بن مطيع خروجه على يزيد أبان ما كان من موقعة الحرّة الشهيرة (١) مع أن يزيد كان فاسقاً كافراً باجماع أهل الحق من هذه الاُمّة.

ويدل على خوفه أيضاً ما رواه الهيثمي بسنده عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : «سمعتُ الحجاج يخطب ، فذكر كلاماً انكرته ، فاردت ان أغيّر ، فذكرت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، قال : قلت : يا رسول الله ! كيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء لما لايطيق » (٢).

ويظهر من تاريخ ابن عمر أنّه وقرَ هذا الحديث في سمعه وطبقه في غير موضعه مراراً في حياته.

منها : مبايعته ليزيد حينما خاف سيفه ولم ينكر عليه كما أنكر الاحرار من هذه الاُمّة.

ومنها : أنّه حينما أمن من سوط أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، وسيفه ، لم يبايعه واعتزل الأمر ، ولو كان هناك أدنى خوف على حياته لبايع راغماً.

ومنها : سكوته على التعريض المباشر الذي وجهه إليه معاوية بعد أحداث قصة التحكيم المعروفة بقوله كما في صحيح البخاري : « من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه ، ولنحن أحقّ به منه ومن أبيه » (٣).

وقد صرّح العلماء بأن مراد معاوية بقوله : (منه ومن أبيه) هو التعريض

____________

(١) صحيح مسلم ٣ : ١٤٧٨ / ١٨٥١ ، كتاب الامارة ، باب رقم ١٣.

(٢) كشف الأستار عن زوائد مسند البزار على الكتب الستة / نور الدين الهيثمي ٤ : ١١٢ / ٣٣٢٣ ، ط ٢ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ١٤٠٤ هـ.

(٣) صحيح البخاري ٥ : ١٤٠ كتاب بدء الخلق ، باب غزوة الخندق.

١٤٥

بابن عمر ، أي : ولنحن أحق به من عبدالله بن عمر ومن أبيه عمر بن الخطاب (١).

وقد فهم ابن عمر هذا التعريض ولكنه سكت هلعاً من معاوية وزبانيته ، باعترافه هو كما في ذيل حديث البخاري ، قال ابن عمر : « فحللت حبوتي ، وهممت أن أقول : أحق بهذا الأمر من قاتلك وأباك على الإسلام ، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع ، وتسفك الدم ».

ما فعله عبدالله بن حذافة السهمي القرشي :

هذا الصحابي أرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتابه إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام ، في قصة مشهورة ، وقد أسرته الروم في بعض غزواته على قسارية في عهد عمر ، واكرهه ملك الروم على تقبيل رأسه فلم يفعل فقال له في قول ابن عباس : « قبّل رأسي وأطلقك وأطلق معك ثمانين من المسلمين. قال : أما هذه فنعم ، فقبّل رأسه وأطلقه ، وأطلق معه ثمانين من المسلمين ، فلمّا قدموا على عمر بن الخطاب قام إليه عمر فقبّل رأسه ، قال : فكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمازحون عبدالله ، فيقولون : قبلت رأس علجٍ. فيقول لهم : أطلق الله بتلك القبلة ثمانين من المسلمين » (٢).

ما فعله جابر بن عبدالله الأنصاري مع بسر بن أبي أرطأة :

أورد اليعقوبي في تاريخه : أن معاوية وجّه بسر بن أبي أرطأة في ثلاثة

____________

(١) اُنظر ما قاله العيني في عمدة القاري ١٧ : ١٨٥ ١٨٦. وابن حجر في فتح الباري ٧ : ٢٢٣. والقسطلاني في ارشاد الساري ٦ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥ ، كلّهم في شرح حديث البخاري المتقدم.

(٢) أُسد الغابة في معرفة الصحابة / ابن الاثير ٣ : ٢١٢ ـ ٢١٣ / ٢٨٨٩ في ترجمة عبدالله بن حذافة ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

١٤٦

آلاف رجل إلى المدينة ثم مكّة ثم صنعاء ليدخل الرعب في نفوس المسلمين ، فطبق وصيته حتى أنّه خطب بأهل المدينة وشتمهم قائلاً : يا معشر اليهود وأبناء العبيد.. أما والله لأوقعن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين.. ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه ،.. وتفقد جابر بن عبدالله..

فانطلق جابر بن عبدالله الانصاري إلى أُم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّي خشيت أن أقتل ، وهذه بيعة ضلال ؟

قالت : « إذن فبايع ، فإن التقيّة حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب ، ويحضرون الأعياد مع قومهم » (١).

ونظيرها في رواية ابن أبي الحديد أيضاً (٢).

ما فعله حذيفة بن اليمان :

هذا الرجل الصحابي كان معروفاً بالمداراة ، حتى قال السرخسي الحنفي في مبسوطه : « وقد كان حذيفة رضي‌الله‌عنه ممن يستعمل التقيّة على ما روي أنه يداري رجلاً ، فقيل له : إنّك منافق !! فقال : لا ، ولكني اشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه » (٣).

ما فعله الزهري في كتم فضائل أمير المؤمنين علي عليه‌السلام :

أخرج ابن الأثير في أُسد الغابة في ترجمة جندع الانصاري الأوسي بسنده عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري قال : « سمعت سعيد بن

____________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩٧ ـ ١٩٩ ، دار صادر ، بيروت.

(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٢ : ٩ ـ ١٠ ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ط ٢ ، دار احياء التراث العربي ، بيروت / ١٣٨٥ هـ.

(٣) المبسوط / السرخسي ٢٤ : ٤٦ ، من كتاب الإكراه.

١٤٧

جناب يحدث عن أبي عنفوانة المازني ، قال : سمعت أبا جنيدة جندع بن عمرو بن مازن ، قال : سمعتُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « من كذّب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار » وسمعته وإلّا صُمَّتا يقول : وقد انصرف من حجة الوداع ، فلمّا نزل غدير خم ، قام في الناس خطيباً وأخذ بيد علي ، وقال : « من كنت وليّه فهذا وليّه ، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه ».

قال عبيدالله : فقلت للزهري : لا تحدث بهذا بالشام ، وأنت تسمع ملء أذنيك سب عليٍّ.

فقال : والله إنّ عندي من فضائل علي ما لو تحدثت بها لقتلت » (١).

أقول : وقد كان زيد بن أرقم الصحابي المعروف يتقي من الامويين وأذنابهم في كتم حديث الغدير ، وقد أشار لهذا أحمد في مسنده من طريق ابن نمير ، عن عطية العوفي قال : « سألت زيد بن أرقم فقلت له : إنّ ختناً لي حدثني عنك بحديث في شأن علي يوم غدير خم ، فأنا أحب أن اسمعه منك ؟

فقال : إنكم معشر أهل العراق فيكم ما فيكم ! فقلت له : ليس عليك مني بأس... الخبر » (٢).

ما فعله أبو حنيفة مع المنصور العباسي :

كان أبو حنيفة يجاهر في أمر إبراهيم بن عبدالله بن الحسن ، ويفتي الناس بالخروج معه على المنصور العباسي ، ولكن لما انتهت ثورة إبراهيم

____________

(١) أُسد الغابة ١ : ٣٦٤ / ٨١٢.

(٢) مسند أحمد ٤ : ٣٦٨ واُنظر تعليق العلّامة الاميني عليه في الغدير ١ : ٣٨٠.

١٤٨

بقتله ، تولى أبو حنيفة نفسه مهمة الإشراف على ضرب اللِّبن وعدّه في بناء مدينة بغداد بأمر المنصور العباسي (١).

ولا شكّ أنّه كان كارهاً لذلك ، ولكنه اتقى من بطش المنصور في هذه الوظيفة التي كُلِّف بها من قبل المنصور نفسه الذي كان على علم بموقفه من ثورة إبراهيم بن عبدالله ، فحاول أن يجد مبرراً لقتله في هذه المهمة ، ولكن أبا حنيفة أدرك ذلك منه فاتقاه في قبول ذلك العمل.

ومن تقيته الفعلية مع المنصور أيضاً ما رواه الخطيب في تاريخه من أن أبا حنيفة قبل قضاء الرصافة في آخر أيامه بعد الضغط الشديد عليه بحيث لم يجد بداً من ذلك.

وقد أيّد هذا ابن خلكان أيضاً ، فذكر أن المنصور لمّا أتم بناء مدينة بغداد أرسل إلى أبي حنيفة ، وعرض عليه قضاء الرصافة فأبى ، فقال المنصور : إن لم تفعل ضربتك بالسياط ! قال أبو حنيفة : أو تفعل ؟

قال : نعم.

فقعد أبو حنيفة في القضاء يومين ، فلم يأته أحد ، فلما مضى يومان اشتكى أبو حنيفة ستة أيام ثم مات (٢).

ما فعله مالك بن أنس مع الأمويين والعباسيين :

ويدل على تقيته من الامويين ما قاله الذهبي في ميزان الاعتدال ، قال :

____________

(١) تاريخ الطبري ١ : ١٥٥ في حوادث سنة ١٤٥ هـ. وأحكام القرآن / الجصاص ١ : ٧٠ ـ ٧١ في تفسير الآية ١٢٤ من سورة البقرة.

(٢) تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي ١٣ : ٣٢٩. ووفيات الأعيان / ابن خلكان ٥ : ٤٧ ، دار صادر ، بيروت / ١٣٩٨ هـ.

١٤٩

« وقال مصعب ، عن الدراوردي ، قال : لم يرو مالك عن جعفر ، حتى ظهر أمر بني العباس » (١).

وقد صرّح أمين الخولي (ت / ١٣٨٥ هـ) ، بان امتناع مالك بن أنس من الرواية عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في عهد الامويين ، إنّما هو بسبب خشيته منهم (٢).

وأما عن تقيته من العباسيين فهي كنار على علم لا تخفى على معظم الباحثين المطلعين على حياته في ظل الدولة العباسية.

فقد كان مؤيداً لثورة محمد بن عبدالله وأخيه إبراهيم على المنصور العباسي ولكن سرعان ما تم توطيد العلاقة بينه وبين المنصور نفسه بفضل التقيّة حتى أصبح ذلك الرجل الناقم على المنصور جبروته وطغيانه والمفتي بالخروج عليه والمحث على خلع بيعته ، هو نفسه كما جاء في مقدمة تحقيق كتابه الموطأ الرجل الذي يأمر بحبس من يشاء ، أو يضرب من يريد وفي دولة المنصور نفسه (٣).

المبحث الثالث

صور التقيّة في فقه العامّة

الأحكام الشرعية الفرعية : إمّا عبادات كالصوم والصلاة ، أو معاملات.

والمعاملات : إمّا أن تكون عقوداً مثل البيع والشراء ، أو ايقاعات

____________

(١) ميزان الاعتدال ١ : ٤١٤ / ١٥١٩.

(٢) مالك بن أنس / أمين الخولي : ٩٤ ، ط ١ ، القاهرة / ١٩٥١ م.

(٣) راجع مقدمة تحقيق كتاب الموطأ ، ط ١ ، دار القلم ، بيروت / ١٣٨٢ هـ. مؤسسة آل البيت.

١٥٠

كالطلاق والعتق ، أو أحكاماً مثل الحدود والتعزيرات.

ومع كون التقيّة من الفروع الشرعية بلا خلاف ، إلّا أنّ فقهاء العامّة لم يفردوا لها عنواناً باسم التقيّة في كتبهم الفقهية ، وإنّما بحث معظمهم مسائلها في قسم العقود من المعاملات ، وتحديداً في كتاب الإكراه.

والسبب في ذلك هو علاقة التقيّة بالاكراه مع دخول كل منهما في أغلب الفروع الشرعية. وهذا السبب ليس كافياً في الواقع ، فالشهادات مثلاً مع صلتها الوثقى بالقضاء ، ودخولها في أغلب الفروع إلّا أنهم أفردوا لها عنواناً ، وكذلك الحال مع الإقرار والصلح وغيرهما من العناوين الفقهية ، وهذا مايسجل ثغرة في المنهج الفقهي الخاص بترتيب مسائل الفقه وتبويبها.

بل ، وثمّة إشكال آخر على بحث مسائل التقيّة تحت عنوان الاكراه ؛ لما مرّ سابقاً من انتفاء الاكراه في بعض أقسام التقيّة ، ولهذا ترك بعضهم مسائلها موزعة على مواردها في أغلب الأبواب الفقهية.

ومن هنا صار بحث التقيّة فقهياً بحثاً مضنياً يتطلب الرجوع إلى أبواب الفقه كافة ، بغية الوقوف على مسائلها ، وهو ما حاولنا القيام به ، مع مراعاة الاختصار باجتناب الإطالة ما أمكن ، والاكتفاء بالأهم دون المهم ، والبعد عن كلِّ ما فيه من غموض أو تعقيد.

وقد ارتأينا تقسيم مسائلها على غرار التقسيم الفقهي السائد لفروع الاحكام ، مسبوقاً بما اتصل منها بركن الرسالة الأعظم : الإيمان بالله تعالى ورسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو بالأخلاق والآداب العامّة كما في مداراة الناس ومعاشرتهم بالحسنى ، كما سنبينه قبل ذلك التقسيم ، وعلى النحو الآتي.

١٥١

أولاً ـ افتاء فقهاء العامّة بجواز التقيّة في لب العقيدة وجوهرها :

ويدل عليه أمور :

١ ـ إفتاؤهم بجواز تلفظ كلمة الكفر بالله تعالى والقلب مطمئن بالايمان ، عند الإكراه عليها :

وقد مرّ في دليل الاجماع أكثر من تصريح لهم بالاجماع على ذلك (١).

٢ ـ إفتاؤهم بجواز سب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال التقيّة :

وهو ما أفتى به الفرغاني الحنفي وغيره (٢).

٣ ـ إفتاؤهم بجواز ردّ أقوال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصحيحة في حال التقية :

نقل ابن حزم الأندلسي عن إسحاق بن راهويه أنّه قال : « من بلغه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبر يقرّ بصحّته ثمّ ردّه من غير تقية فهو كافر » ، ويُفهَم منه جواز الردّ في حال التقية.

ثمّ قال ابن حزم معقّبا على ما نقله عن إسحاق بن راهويه ما هذا لفظه :

« ولم نحتجّ في هذا بإسحاق ، وإنّما أوردناه لئلا يظنّ جاهل إنّنا متفرّدون بهذا القول ، وإنّما احتججنا في تكفيرنا من استحلّ خلاف ما صحّ عنده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقول الله تعالى مخاطبا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( فَلَا

____________

(١) انظر : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي المالكي ١٠ : ١٨٠. وأحكام القرآن / ابن العربي المالكي ٣ : ١١٧٧ / ١١٨٢. والمبسوط / السرخسي الحنفي ٢٤ : ٤٨. وبدائع الصنائع / الكاساني الحنفي ٧ : ١٧٥ ، ط ٢ ، دار الكتاب العربي ، بيروت / ١٤٠٢ هـ. وأحكام القرآن / محمد بن ادريس الشافعي ٢ : ١١٤ ـ ١١٥ ، دار الكتب العلمية ، بيروت / ١٤٠٠ هـ. والمغني / ابن قدامة الحنبلي ٨ : ٢٦٢ ، ط ١ ، دار الفكر ، بيروت / ١٤٠٤ هـ.

(٢) فتاوى قاضيخان / الفرغاني الحنفي ٥ : ٤٨٩ وما بعدها ، مطبوع بهامش الفتاوى الهندية ، ط ٤ ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت / ١٤٠٦ هـ.

١٥٢

وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (١) » (٢).

٤ ـ إفتاؤهم بجواز السجود إلى الصنم في مالو أُكره المسلم عليه.

وهذا هو ما صرّح به القرطبي المالكي وابن جزي الكلبي المالكي أيضاً (٣).

وإذا كان كل هذا جائزاً عندهم في حال التقيّة ، فمن باب أولى جوازها عندهم في سائر أصول العقيدة ، بل وفي سائر فروعها أيضاً. وكيف ينال المسك وتسلم فأرته ؟

ثانياً : افتاؤهم بجواز التقيّة في الآداب والاخلاق العامّة :

ويدل عليه قول الشيخ المراغي : « ويدخل في التقيّة مداراة الكفرة ، والظلمة ، والفسقة ، وإلانة الكلام لهم ، والتبسم في وجوههم ، وبذل المال لهم لكف أذاهم ، وصيانة العرض منهم ، ولا يُعد هذا من الموالاة المنهي

____________

(١) سورة النساء : ٤ / ٦٥.

(٢) الإحكام في أصول الأحكام / ابن حزم الأندلسي ١ : ٩٧.

أقول : وقد بيّنا في مدخل كتاب مطارحات في الفكر والعقيدة (إصدار مركز الرسالة) حجم المخالفات الحاصلة لأقوال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنّته الصريحة الصحيحة الثابتة بعد غيابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة من غير تقية ، ولا حاجة هنا لبيانها ، ومن أرادها فليطلبها من هناك. ولو لم يكن من بين جميع تلك المخالفات إلّا التمسّك بالصلاة المبتورة المنهيّ عنها في قبال التامّة المأمور بها كما في جميع كتب الصحاح والسنن والمسانيد والمجاميع والمستدركات لكفى ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

(٣) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٠ : ١٨٠. وتفسير ابن جزي الكلبي المالكي : ٣٦٦ دار الكتاب العربي ، بيروت / ١٤٠٣ هـ.

١٥٣

عنها ، بل هو مشروع » (١).

ولعلّ في مداراة الفرقة الوهابية لسائر المسلمين في عدم تهديم قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واظهارهم في ذلك بخلاف ما يعتقدون بشأن هدم القبور مطلقاً خير دليل على تقيتهم المداراتية.

ثالثاً : افتاؤهم بجواز التقيّة في العبادات :

ونكتفي بأهم العبادات التي جوزوا التقيّة فيها وقس عليها ما سواها.

١ ـ جواز التقيّة في الصلاة خلف الفاسق :

مرّ سابقاً عن ابن قدامة الحنبلي قوله : « لا تجوز الصلاة خلف المبتدع والفاسق في غير جمعة وعيد ، فيصليان بمكان واحد من البلد ، فان من خاف منه إن تَرَكَ الصلاة خلفه ، فإنّه يصلي خلفه تقية ثم يعيد الصلاة ».

٢ ـ جواز ترك الصلاة تقية :

اتفق المالكية والحنفية والشافعية على جواز ترك الصلاة المفروضة في مالو أُكره المسلم على تركها (٢).

٣ ـ جواز الإفطار في شهر رمضان تقية :

صرّح المالكية والحنفية والشافعية بعدم ترتب الاثم على من أفطر في

____________

(١) تفسير المراغي ٣ : ١٣٦ ـ ١٣٧ ، وقد صرّح بجواز المداراة المعتزلة كما في مسائل الهادي يحيى بن الحسين الرسي المعتزلي : ١٠٧ نقلناه من معتزلة اليمن / علي محمد زيد : ١٩٠ ، ط ٢ ، دار العودة ، بيروت / ١٤٠٥ هـ ، وكذلك الخوارج الأباضية كما في المعتبر لأبي سعيد الكديمي الأباضي ١ : ٢١٢ طبع وزارة التراث القومي في سلطنة عُمان / ١٤٠٥ هـ.

(٢) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي المالكي ١٠ : ١٨٠ وما بعدها. والمبسوط / السرخسي الحنفي ٢٤ : ٤٨. والأشباه والنظائر / السيوطي الشافعي : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

١٥٤

شهر رمضان تقية بسبب ضغط الاكراه عليه (١).

٤ ـ الإفتاء العجيب بشأن الإفطار المتعمد قبل الإكراه عليه :

ومن الفتاوى العجيبة الداخلة في دائرة التقيّة عند الاحناف ، ما رواه ابن زياد عن أبي حنيفة ، كما في قول الفرغاني الحنفي : إنّه لو أفطر الصائم في يوم من أيام شهر رمضان عن عمد واصرار ، ثم أكرهه السلطان بعد ساعة أو ساعتين على افطاره المتعمد على السفر في ذلك اليوم ، فانه سيكون حكمه حكم المكره ، وتسقط عنه الكفارة (٢).

٥ ـ سقوط الكفارة عمن جامع امرأته كرهاً في شهر رمضان :

قال الفرغاني : « لو أُكرِه الرجل على أن يجامع امرأته في شهر رمضان فلا كفارة عليه ويجب القضاء » (٣).

رابعاً : افتاؤهم بجواز التقيّة في المعاملات :

القسم الأول ـ العقود :

وتقتصر على بعض مسائله وهي :

١ ـ جواز التقيّة في البيع والشراء : تصح التقيّة فيهما بلا خلاف بين المالكية والحنفية (٤) ، كما صححها غيرهم كالظاهرية (٥).

____________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٠ : ١٨٠ ، والمبسوط / السرخسي الحنفي ٢٤ : ٤٨. وفتاوى قاضيخان / الفرغاني الحنفي ٥ : ٤٨٧ ، والأشباه والنظائر / السيوطي الشافعي : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٢) فتاوى قاضيخان / الفرغاني ٥ : ٤٨٧.

(٣) فتاوى قاضيخان / الفرغاني ٥ : ٤٨٧.

(٤) البحر المحيط / أبو حيان المالكي ٢ : ٢٢٤. وبدائع الصنائع / الكاساني الحنفي ٧ : ١٧٥. ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر / داماد أفندي الحنفي ٢ : ٤٣١ ـ ٤٣٣ ، دار احياء التراث العربي ، بيروت.

(٥) المحلّى / ابن حزم ٨ : ٣٣١ ـ ٣٣٥ مسألة : ١٤٠٦.

١٥٥

٢ ـ جوازها في الوكالة : صرّح القرطبي المالكي كما مرَّ في تقية أصحاب الكهف بالاتفاق على صحة توكيل الانسان حال التقيّة ، فراجع.

٣ ـ جوازها في الهبة : وهي أيضاً مما تصح فيه التقيّة عند المالكية والحنفية والظاهرية ، مشروطة بقيد الاكراه عليها (١).

القسم الثاني ـ الايقاعات :

ونكتفي منها بالصور الآتية :

١ ـ جواز التقيّة في الطلاق : لو طلق الإنسان زوجته تقية بسبب الاكراه ، فهل يصح الطلاق ، أو لا يصح ، بمعنى : هل يقع الطلاق تقية أو لا ؟

اختلفوا في ذلك على قولين ، أحدهما الوقوع ، والآخر عدمه.

فمن أجاز طلاق المكره ، هم : أبو قلابة ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، وأبو حنيفة ، وصاحباه ، قالوا : لأنّه طلاق من مكلّف في محل يملكه ، فينفد كطلاق غير المكره.

وأما من ذهب إلى عدم وقوع مثل هذا الطلاق ؛ لأنّه وقع تقية بلا رضا الزوج فهم : أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، وعمر بن الخطاب ، وعبدالله بن عباس ، وابن الزبير ، وجابر بن سمرة ، وعبدالله بن عبيد بن عمير ، وعكرمة ، والحسن البصري ، وجابر بن زيد ، وشريح القاضي ، وعطاء ، وطاوُس ، وعمر بن عبدالعزيز ، وابن عون ، وأيوب السختياني ، ومالك ، والاوزاعي ،

____________

(١) البحر المحيط / أبو حيان المالكي ٢ : ٤٢٤. وبدائع الصنائع / الفرغاني الحنفي ٧ : ١٧٥ ، والمحلى / ابن حزم ٨ : ٣٣١ ـ ٣٣٥ مسألة : ١٤٠٦.

١٥٦

والشافعي ، واسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، صرّح بكل هذا ابن قدامة الحنبلي واختار القول الثاني (١).

وهو الصحيح الذي عليه المالكية (٢) ، والشافعية (٣) ، والحنبلية (٤) ، كما اختاره بعض فقهاء الاحناف (٥).

٢ ـ جوازها في العتق : تجوز التقيّة فيه عند المالكية (٦) وغيرهم (٧) ، مع عدم ترتب آثارها بمعنى عدم وقوع العتق في حال التقيّة ، لحصوله من غير رضا المُعتِق.

٣ ـ جوازها في اليمين الكاذبة : لو حلف انسان بالله كاذباً ، فلا كفارة عليه إن كان مكرهاً على اليمين ، وله ذلك تقية على نفسه ، وتكون يمينه غير ملزمة عند مالك والشافعي وأبي ثور ، وأكثر العلماء على حد تعبير النووي الشافعي ، واستدل بحديث : « ليس على مقهور يمين » (٨).

____________

(١) المغني / ابن قدامة الحنبلي ٨ : ٢٦٠ مسألة ٥٨٤٦.

(٢) المدونة الكبرى / مالك بن أنس ٣ : ٢٩ كتاب الايمان بالطلاق وطلاق المريض أورده تحت عنوان (ما جاء في طلاق النصرانية والمكره والسكران) ، مطبعة السعادة ، مصر. والكافي في فقه أهل المدينة المالكي / ابن عبدالبر : ٥٠٣ ، ط ١ ، دار الكتب العلمية ، بيروت / ١٤٠٧ هـ. والجامع لأحكام القرآن / القرطبي المالكي ١ : ١٨٠.

(٣) أحكام القرآن / الكيا الهراسي الشافعي ٣ : ٢٤٦.

(٤) المغني / ابن قدامة ٨ : ٢٦٠ مسألة : ٥٨٤٦.

(٥) بدائع الصنائع ٧ : ١٧٥.

(٦) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي : ٥٠٣.

(٧) بدائع الصنائع ٧ : ١٧٥.

(٨) المجموع شرح المهذب / النووي الشافعي ١٨ : ٣ ، دار الفكر ، بيروت.

١٥٧

أقول : صرّح بهذا الشافعي ونسبه إلى عطاء بن أبي رياح (١) وقد افتى به غير واحد من فقهاء المالكية (٢) ونقل القرطبي عن ابن الماجشون : إنّه لا فرق في ذلك بين ان تكون اليمين طاعة لله تعالى ، أو معصية ، وإنه لاحنث عند الاكراه على اليمين الكاذبة (٣) وهذا هو محل اتفاق فقهاء الأحناف (٤).

____________

(١) أحكام القرآن / محمد بن ادريس الشافعي ٢ : ١١٤ ـ ١١٥.

(٢) أحكام القرآن / ابن العربي المالكي ٣ : ١١٧٧ / ١١٨٢. وتفسير ابن جزي المالكي : ٣٦٦.

(٣) الجامع لاحكام القرآن / القرطبي المالكي ١٠ : ١٩١.

(٤) بدائع الصنائع ٧ : ١٧٥ ، واُنظر تفصيل فتاوى الحنفية بشأن موارد التقيّة في اليمين الكاذبة وغيرها في مصادرهم التالية :

١ ـ البحر الرائق / ابن نجيم ٨ : ٧٠.

٢ ـ تحفة الفقهاء / السمرقندي ٣ : ٢٧٣ ، ط ١ ، دار الكتب العلمية ، بيروت / ١٤٠٥ هـ.

٣ ـ تقريرات الرافعي على حاشية ابن عابدين / محمد رشيد الرافعي ٢ : ٢٧٨ ، ط ٣ ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت / ١٤٠٧ هـ.

٤ ـ رد المحتار على الدر المختار / ابن عابدين ٥ : ٨٠ ، ط ٢ ، دار احياء التراث العربي ، بيروت / ١٤٠٧ هـ.

٥ ـ شرح فتح الغدير / ابن همام ٨ : ٦٥ ، دار احياء التراث العربي ، بيروت.

٦ ـ غمز عيون البصائر / شهاب الدين الحموي ٣ : ٢٠٣ و ٤ : ٣٣٩ ، ط ١ ، دارالكتب العلمية ، بيروت / ١٤٠٥ هـ.

٧ ـ الفتاوى الهندية / الشيخ نظام وجماعته ٥ : ٣٥ ، ط ٤ ، دار احياء التراث العربي ، بيروت / ١٤٠٦ ه.

٨ ـ الفروق / الكرابيسي ٢ : ٢٦٠ ، المطبعة العصرية ، الكويت / ١٤٠٢ هـ.

٩ ـ اللباب / الميداني ٤ : ١٠٧ ، ط ٤ ، دار الحديث ، بيروت / ١٣٩٩ هـ.

١٠ ـ المبسوط / السرخسي الحنفي في الجزء (٢٤) كله تقريباً (تقدم التعريف بطبعته).

١١ ـ مجمع الضمانات / ابن محمد البغدادي : ٢٠٤ ، ط ١ ، عالم الكتب ، بيروت / ١٤٠٧ هـ.

١٢ ـ النتف في الفتاوى / السغدي ٢ : ٢٩٦ ، مطبعة الارشاد ، بغداد / ١٩٧٥ م.

١٣ ـ الهداية / المرغيناني ٣ : ٢٧٥ ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.

١٥٨

وقد كان مالك بن أنس يقول لأهل المدينة في شأن بيعتهم للطاغية المنصور العباسي : إنكم بايعتم مكرهين ، وليس على مكره يمين (١) يحثهم بهذه الفتيا على الخروج مع إبراهيم بن عبدالله بن الحسن للثورة على المنصور.

القسم الثالث : الأحكام :

١ ـ جواز التقيّة في الأطعمة والأشربة المحرمة :

أفتى القرطبي المالكي بجواز التقيّة في شرب الخمر (٢) وقالت الحنفية : تجوز التقيّة إذا كان الاقدام على الفعل أولى من الترك ، وقد تجب إذا صار بالترك آثماً ، كما لو أُكرِه على أكل لحم الميتة أو أكل لحم الخنزير ، أو شرب الخمرة (٣) وهذه المحرمات المذكورة تجوز كلّها إن كان المتقي باتيانها مكرهاً عليها بغير القتل ، وأما لو كان الاكراه عليها بالقتل ، فقد صرّح الشافعية بوجوبها (٤).

وقال ابن حزم الظاهري : « فمن أكره على شرب الخمر أو أكل الخنزير أو الميتة أو الدم أو بعض المحرمات ، أو أكل مال مسلم أو ذمي ، فمباح له

____________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٤٢٧ في حوادث سنة / ١٤٥ ، ط ٢ ، دار الكتب العلمية ، بيروت سنة / ١٤٠٨ هـ.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٠ : ١٨٠ ، وبه قال الإمام الزيدي أحمد بن يحيى بن المرتضى في البحر الزخار ٦ : ١٠٠ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ١٣٩٣ هـ ، وقد ذكرناه هنا ؛ لادعاء بعض خصوم الشيعة من الجهلة الاغبياء بان الزيدية أنكروا التقيّة ، ولولا خشية الأطالة لزدت البحث فصلاً في تقيتهم.

(٣) فتاوى قاضيخان ٥ : ٤٨٩. واُنظر : أحكام القرآن / الجصاص الحنفي ١ : ١٢٧. والمبسوط / السرخسي ٢٤ : ٤٨ وما بعدها. وبدائع الصنائع ٧ : ١٧٥ وما بعدها.

(٤) التفسير الكبير / الفخر الرازي الشافعي ٢٠ : ١٢١.

١٥٩

أن يأكل ويشرب ولا شيء عليه لأحد ولا ضمان » (١). وقد عرفت أن التقيّة في شرب الخمر ممنوعة عند فقهاء الشيعة ما لم يصل الاكراه الى حد القتل.

٢ ـ جوازها في الزنا : إذا أكره الرجل على ارتكاب هذه الجريمة ، واتقى على نفسه بارتكابها فهل يسقط الحد عليه أو لا ؟

اختلفوا على قولين :

أحدهما : سقوط الحد عنه ، وهو قول القرطبي المالكي (٢) وابن العربي المالكي (٣) والفرغاني الحنفي (٤) وابن قدامة الحنبلي (٥) وابن حزم (٦) وقال أبو حنيفة : يسقط الحد إن كان الاكراه من السلطان ، وإلّا حُدّ استحساناً (٧).

والآخر : إقامة الحد على الزاني تقية ويغرّم مهرها ، وهو قول مالك بن أنس ، والشافعي ، وقال أبو حنيفة لا يجب المهر (٨).

وأما لو استكرهت المرأة على الزنا ، فلا حدّ عليها ، قولاً واحداً (٩).

____________

(١) المحلّى / ابن حزم ٨ : ٣٣٠ مسألة : ١٤٠٤.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٠ : ١٨٠.

(٣) أحكام القرآن / ابن العربي ٣ : ١١٧٧ / ١١٨٢.

(٤) بدائع الصنائع ٧ : ١٧٥ ـ ١٩١.

(٥) المغني / ابن قدامة ٥ : ٤١٢ مسألة : ٣٩٧١.

(٦) المحلّى ٨ : ٣٣١ مسألة ١٤٠٥.

(٧) بدائع الصنائع ٧ : ١٧٥ ـ ١٩١.

(٨) المغني / ابن قدامة ١٠ : ١٥٥ مسألة ٧١٦٧.

(٩) كما في سائر المصادر المذكورة في هذه الفقرة ، وفي الصفحات المؤشرة ازائها ، وهو قول الزيدية أيضاً كما في البحر الزخار ٦ : ١٠٠.

١٦٠