التقيّة في الفكر الإسلامي

السيد ثامر هاشم العميدي

التقيّة في الفكر الإسلامي

المؤلف:

السيد ثامر هاشم العميدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-82-X
الصفحات: ١٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الصادق عليه‌السلام ما يؤيد هذا ، فقال عليه‌السلام : « اتقوا الله ، وصونوا دينكم بالورع ، وقووه بالتقيّة » (١).

٣ ـ التقيّة شجاعة وحكمة وفقاهة ، وتوضيح ذلك إنّ التقيّة وسط بين طرفين : إمّا الافراط في استخدامها في كل شيء بلا قيد أو شرط ، بمعنى الهروب عن مواجهة الباطل في كلِّ ظرف حتى فيما يستوجب المواجهة ، وهذا هو الجبن بعينه. وإما التفريط في تركها في كل حين حتى في موارد وجوبها لحفظ النفس من التهلكة ، وهذا هو التهوّر بعينه. ولا وسط بين هاتين الرذيلتين في علم الأخلاق إلّا فضيلة الشجاعة. وبهذا يكون استخدامها في موردها الصحيح من الحكمة ؛ لأنّها وضع الشيء في موضعه ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) (٢).

وأما كونها من الفقاهة ، فهو مما لا شكّ فيه ، لأنّ للتقية جملة من الأحكام كما مرّ ، واستخدامها الأمثل لا يتم من غير علم بتلك الأحكام ، وهذا هو عين التفقه ، ويدل عليه حديث الإمام الباقر عليه‌السلام في التقيّة : « ... فأما الذي برئ فرجل فقيه في دينه » (٣) وفي الحديث الشريف : « من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين » (٤).

٤ ـ التقيّة تؤدي إلى وحدة المسلمين بحسن المعاشرة فيما بينهم ،

____________

(١) أمالي الشيخ المفيد : ٩٩ ـ ١٠٠ ، المجلس الثاني عشر.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٩.

(٣) اُصول الكافي ٢ : ٢٢١ / ٢١ ، باب التقيّة.

(٤) سنن ابن ماجة ١ : ١٤٣ / ٢٢٠ باب فضل العلماء والحث على طلب العلم.

ومسند أبي يعلى الموصلي ٥ : ٣٢٦ / ٥٨٢٩. ومجمع الزوائد / الهيثمي ١ : ١٢١ قال : (ورجاله رجال الصحيح).

١٢١

ومخالطة بعضهم بعضاً ، فالمصافحة والبشاشة ، والحضور المشترك في أماكن العبادة ، وتشييع الجنائز ، وعيادة المرضى ، لاشك أنها تزيل الضغائن ، وترفع الاحقاد الموروثة ، وتحوّل العداوة إلى مودة ومؤآخاة.

ويؤيد هذا ، قوله تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (١).

وقد تقدم بأن المقصود (بالتي هي أحسن) هو : التقيّة ، فيكون من لوازم الدفع بها أن يصير العدو المعاند كأنه وليٌّ حميم.

٥ ـ التقيّة دعوة محكمة إلى اتباع سبل الهدى ، كما يفهم من قوله تعالى : ( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٢) ولا شكّ في دخول التقيّة في مصاديق هذا القول الكريم ، ومعنى هذا أنّ التقيّة في مداراة أهل الباطل تؤدي إلى اجتذابهم إلى الحق ، وتبصرتهم بعد العمى ، ويؤيّد ذلك ما جاء عن الإمام العسكري عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : ( وَقُولُوا لِلناسِ حُسناً ) (٣). قال عليه‌السلام : « قولوا للناس كلّهم حُسناً ، مؤمنهم ومخالفهم. أما المؤمن فيبسط لهم وجهه ، وأما المخالفون فيكلمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان » (٤).

ويفهم مما تقدم أنّ التقيّة من الإحسان ، وبما أن الإنسان عبد الإحسان ، تُرى ، فأي عاقل لا يحب من يُحسن إليه ، وإن كان ذلك الإحسان

____________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٣٤.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ١٢٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٨٣.

(٤) مستدرك الوسائل ١٢ : ٢٦١ / ١ باب ٢٧ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

١٢٢

في واقعه عن تقية ؟

٦ ـ التقيّة نوع من أنواع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويدل عليه أمران :

أحدهما : إنّ اللجاجة والمقاطعة والمخاصمة مع المخالف في دولته تعد من المنكر إذا ما أدت إلى اضعاف المؤمنين أو تضررهم ، على عكس معاشرتهم ومخالطتهم المؤدية إلى سلامة المؤمنين وحفظهم فضلاً عن اجتذاب المخالفين إلى الإيمان ، فهذا من فعل المعروف بلا شكّ.

الآخر : تصنيف أحاديث التقيّة من قبل المحدثين في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هذا زيادة على ما تضمنته أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام في هذا المعنى ، وقد مرّ بعضها وسيأتي أيضاً.

٧ ـ التقيّة جهاد في سبيل الله عزَّ وجل ، إذ يجاهد فيها المؤمن أعداء الله تعالى في دولتهم بكتمان ايمانه ، كما فعل مؤمن آل فرعون بكتم إيمانه ، وكما فعل المخلصون من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام بكتم أسرار أهل البيت خشية عليهم من الظالمين ، وقد ورد الحث على التقيّة بهذا الوصف أيضاً ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « .. والمؤمن مجاهد؛ لأنّه يجاهد أعداء الله عزَّ وجل في دولة الباطل بالتقيّة ، وفي دولة الحق بالسيف » (١).

وقال عليه‌السلام : « نفس المهموم لنا المغتم لمظلمتنا تسبيح ، وهمه لأمرنا عبادة ، وكتمانه لسرنا جهاد في سبيل الله » (٢).

____________

(١) علل الشرائع / الصدوق : ٤٦٧ / ٢٢.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ٢٢٦ / ١٦ ، باب الكتمان ، وفيه (المغتم لظلمنا). والتصويب من الوسائل ١٦ : ٢٤٩ / ١٠ باب ٣٤ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

١٢٣

٨ ـ استخدام التقيّة في مواردها طاعة لله عزَّ وجل ، كما يفهم من قوله تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) فعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « التي هي أحسن : التقيّة » (١) وطاعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأسٍ بسيرته الشريفة وقد مرّ ما يدل عليه بأوضح صورة ، وتمسك بحبل أهل البيت عليهم‌السلام ، فعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « .. من استعمل التقيّة في دين الله فقد تسنّم الذروة العليا من القرآن » (٢).

٩ ـ من لوازم ما تقدم ، فالتقيّة إذن توجب الثواب لفاعلها ؛ لأنّها امتثال لما أمر به الشارع المقدس ، وقد جاء في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام ما يؤكد هذا ، ففي حديث سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها‌السلام : « بشر في وجه المؤمن يوجب لصاحبه الجنة ، وبشر في وجه المعاند يقي صاحبه عذاب النار » (٣).

وقد عرف بعض الصحابة بهذا ، فقد أخرج البخاري بسنده عن أبي الدرداء أنّه قال : « إنّا لنكشر في وجوه أقوامٍ ، وإنّ قلوبنا لتلعنهم » (٤).

ونسب القرافي المالكي (ت / ٦٤٨ هـ) هذا القول إلى أبي موسى الأشعري أيضاً ، معلقاً عليه بقوله : « يريد : الظلمة والفسقة الذين يتقي شرهم ، ويتبسم في وجوههم » (٥).

كما نُسب هذا القول أيضاً إلى أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في روايات

____________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٢١٨ / ٦ ، باب التقيّة.

(٢) معاني الأخبار / الصدوق : ٣٨٥ / ٢٠.

(٣) مستدرك الوسائل ١٢ : ٢٦١ / ٢ باب ٢٧ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٤) صحيح البخاري ٨ : ٣٧ ، كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس.

(٥) الفروق / القرافي المالكي ٤ : ٢٣٦ ، الفرق الرابع والستون والمائتان.

١٢٤

شيعته ، وبلفظ : « إنّا لنبشر في وجوه قوم وان قلوبنا لتقليهم ، أولئك أعداء الله نتقيهم على اخواننا وعلى أنفسنا » (١).

١٠ ـ في التقيّة الكتمانية ، تصان الأسرار ، ويحفظ الحق من الاندثار ، ويكون قادته واتباعه في أمان من الاخطار.

١١ ـ التقيّة ورع يحجز الإنسان عن معاصي الله عزَّ وجلَّ ، إذ لا معصية أكبر بعد الشرك من قتل المؤمن بسبب افشاء سره بضغط الاكراه وعدم التكتم عليه بالتقيّة ، ولهذا وصِف مذيع السر بقاتل العمد لا قاتل الخطأ ، ففي حديث الإمام الصادق عليه‌السلام : « من أذاع علينا شيئاً من أمرنا فهو كمن قتلنا عمداً ولم يقتلنا خطأ » (٢).

وواضح أن المراد بأمرهم عليهم‌السلام هو كل ما صدر عنهم عليهم‌السلام وكان مخالفاً لهوى السلطة واتباعها.

١٢ ـ التقيّة خلق رفيع في مداراة الناس وحلم عجيب مع الجهلاء ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « فو الله ، لربما سمعت من شتم عليّاً عليه‌السلام ، وما بيني وبينه إلّا اسطوانة ، فاستتر بها ، فإذا فرغت من صلاتي أمرّ به فاسلم عليه وأصافحه » (٣).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ثلاث من لم تكن فيه فليس مني ولا من الله عزَّ وجلَّ : حلم يرد به جهل الجاهل ، وحسن خُلق يعيش به في الناس ، وورع

____________

(١) مستدرك الوسائل ١٢ : ٢٦١ / ٢ باب ٢٧ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ٣٧١ / ٩ باب الاذاعة ، وفيه أحاديث أخر بهذا المعنى ، فراجع.

(٣) جامع الأخبار / السبزواري : ٢٥٣ ـ ٢٥٤ / ٦٦٣ الفصل ٥٣.

١٢٥

يحجزه عن معاصي الله عزَّ وجلَّ » (١).

ولتضمن التقيّة لهذه الخصال الثلاث زيادة على ما فيها من طاعة وامتثال وفوائد وعوائد ، فقد حثّ عليها أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ووصفها بشيمة الأفاضل ، فقال عليه‌السلام : « عليك بالتقيّة ، فإنّها شيمة الأفاضل » (٢) ، ونظراً لموقع التقيّة وآثارها في المنظومة الأخلاقية فقد عدّها الإمام الرضا عليه‌السلام من شعار الصالحين ودثارهم (٣).

وفي المروي عن الإمام العسكري عليه‌السلام : « أشرف أخلاق الأئمة والفاضلين من شيعتنا : التقيّة ، وأخذ النفس بحقوق الاخوان » (٤).

ومن كل ما تقدم يُعلم أن منكر التقيّة بقلبه ولسانه رجلٌ رذيلٌ ؛ لأنّها ليست من شيمته ، وكافرٌ لأنّه منكر للتشريع الثابت بنصّ القرآن والسُنّة المطهّرة ، ومتعصب جاهل ؛ لأنّه ينكر ضرورة عقلية متفق عليها من لدن العقلاء ، بل هو أقل رتبة من الحيوان ؛ لأنّ الحيوان يعرف كيف يسعى لنفسه ويهرب من الخطر بفطرته ، وهذا ينكر فطرة الله التي فطر الناس عليها جميعاً ، ويكفي على اثبات حماقته أنّه مسلوب من فوائد التقيّة ، والتي منها ما مرّ وبعضها ما يأتي :

١٣ ـ في التقيّة تقرُّ عين المؤمن لأنّها جُنّته ، وقد كان الإمام الباقر عليه‌السلام

____________

(١) الخصال / الصدوق ١ : ١٤٥ ـ ١٤٦ / ١٧٢ باب الثلاثة.

(٢) غرر الحكم / الآمدي ٢ : ٤٨٢ / ٥٧.

(٣) وسائل الشيعة ١٦ : ٢٢٣ / ١٠ باب ٢٨ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٤) وسائل الشيعة ١٦ : ٢٢٣ / ٧ من الباب السابق.

١٢٦

يقول : « وأي شيء أقرُّ لعيني من التقيّة ، إنّ التقيّة جُنّة المؤمن » (١).

١٤ ـ التقيّة الكتمانية تجلب للمؤمن عزّاً في دنياه ونوراً في آخرته ، فعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « من كتم أمرنا ولا يذيعه أعزّه الله في الدنيا وجعل له نوراً بين عينيه يقوده إلى الجنّة » (٢).

١٥ ـ التقيّة المداراتية وسام للمتقي بعدم التعصب ، بخلاف من يزعم الموضوعية ويجعل المداراة في حقل النفاق ، فهذا هو عين النفاق والتعصب والخروج عن الموضوعية ، بل هو الكفر بعينه بعد ثبوت مداراة أشرف الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقومه كما مرّ في صحاح القوم ومسانيدهم.

١٦ ـ في التقيّة يُميّز أولياء الله من أعدائه لعنهم الله ، ولولاها ما عرف هذا من ذاك ، قال سيد الشهداء الإمام الحسين السبط عليه‌السلام : « لولا التقيّة ما عرف ولينا من عدونا » (٣).

١٧ ـ ومن فوائد التقيّة أنّها توجب تعظيم الناس للمتقي ، نظراً لاحسانه لهم بالمداراة ، والمعاشرة الطيبة معهم وإن خالفوه في فكره وعقيدته ، وقد كان سيد الساجدين الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام ، مشهوراً بمداراة أعدائه حتى عظم في عيونهم وانتزع منهم على رغم

____________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٢٢٠ / ١٤ باب التقيّة.

(٢) مشكاة الأنوار / سبط الطبرسي : ٤٠ ، وقد ورد في هذا المعنى أحاديث أُخر أنظرها في : كتاب الغيبة / النعماني : ٣٨ / ١٢. وبصائر الدرجات / الصفار : ٤٢٣ / ٢. ومختصر بصائر الدرجات لسعد بن عبدالله / حسن بن سليمان الحلي : ١٠١. ودعائم الإسلام / القاضي النعمان ١ : ٥٩. واُنظر باب ٢٤ في الوسائل وباب ٣٢ في مستدركه ، من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام : ٣٢١ / ١٦٥.

١٢٧

طغيانهم وعتوهم توقيره وتبجيله وفي ذلك يقول الزهري : « ما عرفت له صديقاً في السر ولا عدواً في العلانيّة ؛ لأنّه لا أحد يعرفه بفضائله الباهرة إلّا ولا يجد بداً من تعظيمه ، من شدّة مداراة علي بن الحسين عليهما السلام ، وحسن معاشرته إيّاه ، وأخذه من التقيّة بأحسنها وأجملها » (١).

١٨ ـ التقيّة المداراتية تغلق منافذ التشكيك التي يتسلل منها أعداء الحق لترويج الباطل بنحو أن الشيعة لا يصلون المغرب حتى تشتبك النجوم وغير هذا من المزاعم التي ما أنزل الله بها من سلطان.

فبمعاشرتهم للمخالف ومخالطتهم إيّاه سيعرف الحق ، ولن يكون هناك مجال لاغرائه بالباطل من جديد.

ونكتفي بهذا القدر من فوائد التقيّة التي تكشف عن أهميتها ودورها الايجابي في حياة الفرد والمجتمع ، لننتقل إلى بيان الفرق بينها وبين النفاق.

المبحث الثالث

الفَرقُ بين التقيّة والنفاق

حينما نقول : إنّ في التقيّة عز المؤمن ، فلا شك أن في النفاق ذل المنافق ، وحينما نقول : إنّ في التقيّة المداراتية يلمُّ شمل المسلمين وتأتلف قلوبهم ، فلا شكّ أن في النفاق فرقتهم وشرذمتهم وزرع العداوة والبغضاء في ما بينهم.

____________

(١) مستدرك الوسائل ١٢ : ٢٦٢ / ٤ باب ٢٧ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

١٢٨

وهكذا حينما نرجع إلى فوائد التقيّة ، نعلم جيداً ، أن كل فائدة من فوائدها يشكّل نقيضها صفة للنفاق ، وحينئذ تُعلم الفروق الشاسعة بينهما ، لوضوح أن النفاق مع خلّوّه عن كل فائدة يُعد من أخس الصفات وأسوءها ، ويكفي أن أعلن الشارع المقدس عن مصير المنافقين وشدد النكير عليهم بقوله الكريم : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ) (١). بينما جاء وصف من استخدم التقيّة في موردها كما مرّ في أدلتها بأنه من المؤمنين.

ومع وضوح هذا الأمر ؛ إلّا أنّا سنبين باختصار بعض الفروق بين التقيّة والنفاق ، إذ ربما لا يستهدي البعض إليها من خلال مراجعة فوائد التقيّة وتصور نقائضها في النفاق ، لا سيّما مع وجود من لم يفرّق بينهما كما يظهر من بعض البحوث والكتابات المعاصرة ، ومن بين هذه الفروق ما يأتي :

الفرق الأول : التقيّة ثبات القلب على الإيمان وإظهار خلافه باللسان فقط ، لضرورة مقبولة شرعاً وعقلاً. والنفاق عكس ذلك تماماً فهو ثبات القلب على الباطل واظهار الحق على اللسان فقط ، بحيث لا يتعدى فعل المنافق إلى فعل المؤمن ، واين هذا من ذاك ؟

الفرق الثاني : التقيّة لا تكون من غير ضرورة أو مصلحة معتد بها شرعاً ، وأما النفاق فهو خالٍ من كلِّ ذلك تماماً ، فهو مرض في قلوب المنافقين الذين يحسبون كل صيحة عليهم ، فكيف يستويان ؟ ومن هذا النفاق الدخول على سلاطين الجور والامراء الفسقة واطرائهم بما ليس فيهم

____________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٤٥.

١٢٩

وتزكيتهم من دون أدنى ضرورة وبلا اكراه وإنّما لأجل التزلف إليهم ثم ذمهم عند الخروج منهم كما كان يفعله عريف الهمداني ، وعروة بن الزبير ، وناس من التابعين ؛ مما حمل بعض الصحابة على تنبيههم على هذا النفاق (١).

الفرق الثالث : اعتنى القرآن الكريم ببيان رفع الحرج والعسر والشدة والضرر ، وكذلك السُنّة النبوية ، زيادة على طرح الفقهاء لجملة من القواعد الفقهية المبيّنة لذلك وكل هذا يدخل في دائرة التقيّة وبيان حكمها الشرعي ، وفي المقابل جاء التحذير الشديد بشأن النفاق وبيان مساوئه ، ولم يعد القرآن الكريم مَن اتّقى إلّا بكلِّ خير ، بينما وعد المنافقين بكل عذاب مهين.

الفرق الرابع : جواز التقيّة ثابت بنص القرآن الكريم ، وحرمة النفاق ثابتة بعشرات النصوص القرآنية ، ولو جاز القول بأن التقيّة نفاق ، فلم يبق إلّا القول بأنّ الشريعة الإسلامية أحلّت للمسلمين النفاق ثم نُسخ هذا الحكم بالحرمة ، وهو كما ترى قول مضحك لا يقوله إلّا السفيه الأحمق.

الفرق الخامس : التقيّة فضيلة كما مرّ والنفاق رذيلة بلا شكٍّ ، فكيف يجوز حمل أحدهما على الآخر.

الفرق السادس : قولهم بنظرية عدالة الصحابة يثبّت الفرق بين التقيّة والنفاق بأوضح وجه ؛ لثبوت عمل الصحابة بالتقيّة كما سنبرهن عليه في

____________

(١) اُنظر : صحيح البخاري ٩ : ٨٩ ، باب ما يُكرَه من ثناء السلطان ، وإذا خرج قال غير ذلك من كتاب الأحكام. والسنن الكبرى / البيهقي ٨ : ١٦٤ و ١٦٥. والسنن الواردة في الفتن / أبو عمرو الداني١ ـ ٢ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩ / ١٤٩. وفتح الباري ٣ : ١٧٠.

١٣٠

الفصل الرابع ، ومعنى قولهم أنّ التقيّة نفاق يعني أن عدول الصحابة منافقون.

وهذا مالا يرتضيه المنافقون أنفسهم.

ونكتفي بهذه الفروق لنبيّن باختصار الأسباب المؤدية إلى هذا القول الساذج البعيد كل البعد عن العلمية والموضوعية.

أسباب القول بأنّ التقيّة من النفاق :

هناك جملة من الأسباب الداعية إلى هذا القول (المعاصر) على الرغم مما يترتب عليه من آثار سلبية خطيرة تحدد مقدار ما يمتلكه أصحابه من الثقافة الإسلامية ، مع مدى موضوعيتهم ، وقيمة مزاعمهم ، فضلاً عن درجة صلتهم برسالة الإسلام ؛ لما مرّ من أن التقيّة من المفاهيم الإسلامية الثابتة ثبوت أي مفهوم اسلامي آخر متفق عليه ، وأنّها ضرورة شرعية لايختلف ثبوتها عن ثبوت أيّة ضرورة شرعية أُخرى ، زيادة على كونها ضرورة عقلية أيضاً ، وأبعد من ذلك أنّها من الغرائز الفطرية التي يشترك بها الإنسان والحيوان معاً ، ومن هنا كان السعي إلى النفع واتقاء الخطر مُشاهداً حتى عند الحيوانات التي ليس من شأنها أن تفقه دليلاً شرعياً كان أو عقلياً.

وهذا يدل على أنّ انكار التقيّة ووصفها بالنفاق ، إنّما هو انكار للفطرة ، فضلاً عن كونه انكاراً لضرورة شرعية وعقلية.

وعليه لابدّ من التوفر على أسباب هذا القول الساذج المتطرف ، فنعرضها كالآتي :

السبب الأول : الجهل بمعنى التقيّة ، وعدم القدرة الكافية على التفريق بينها وبين النفاق لشبهة اشتراكهما بصفة إظهار الإنسان لشيءٍ هو على

١٣١

خلاف ما يُبطن.

السبب الثاني : حسن ظن الخلف بما قاله المتعصب (١) أو الشاذ من السلف (٢). مع تقليدهم تقليداً أعمى من غير روية ولا تحقيق أو تدقيق (٣) !

____________

(١) كالفخر الرازي في كتابه : محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين : ٣٦٥ ، ط ١ ، دار الكتاب العربي ، بيروت / ١٤٠٤ هـ. والشهرستاني في الملل والنحل ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠ ، ط ٣ ، مطبعة أمير ، قم / ١٤٠٩ هـ ، فقد ذكرا أنّ التقيّة من وضع الرافضة ! وهو كما ترى لا يليق بشأنهما بأي وجه من الوجوه.

(٢) كمؤسس الفرقة الوهابية محمد عبدالوهاب في رسالته (في الرد على الرافضة) : ٢٠ ، تحقيق الدكتور ناصر بن سعيد ، نشر دار طيبة ، الرياض (بدون تاريخ).

(٣) اُنظر على سبيل المثال لاالحصر مافيالكتب الآتية بشأن التقيّة من تقليدأعمى أوكذب وافتراء :

١ ـ بطلان عقائد الشيعة / محمد عبدالستار التونسوي : ٥٢ و ٧٢ و ٧٣ و ٧٨ و ٧٩ ، دار العلوم ، القاهرة / ١٩٨٣م ، نشر المكتبة الامدادية بمكة المكرمة.

٢ ـ تبديد الظلام / إبراهيم سليمان الجبهان : ٤٨٣ ، ط ٣ ، السعودية / ١٤٠٨ هـ.

٣ ـ التشيع بين مفهوم الأئمة والمفهوم الفارسي / الدكتور محمد البنداري : ٢٣٥ ، دار عمان ، الأردن / ١٤٠٨ هـ.

٤ ـ الثورة الإيرانية في ميزان الإسلام / محمد منظور نعماني الهندي ، ترجمة الدكتور محمد البنداري : ١٢٢ و ١٨٠ و ١٨٢ ـ ١٨٧ و ٢٢٢ ، ط ١ ، دار عمان ، الأردن / ١٤٠٨ هـ.

٥ ـ الخطوط العريضة / محب الدين الخطيب : ٩ و ١٠ ، ط ٩ ، جدّة ، السعودية / ١٣٨٠ هـ.

٦ ـ دراسات في عقائد الشيعة / الدكتور عبدالله محمد الغريب : ١٧ ، ط ١ ، مطبعة طيبة ، الرياض / ١٤٠٢ هـ.

٧ ـ دراسات في الفرق والعقائد / الدكتور عرفان عبدالحميد : ٥٣،ط١ ، مطبعة سعد ، بغداد / ١٩٧٧ م.

٨ ـ رجال الشيعة في الميزان / عبدالرحمن الزرعي : ٦ و ١٧ ـ ١٨ و ٥٠ ـ ٥١ و ١٢٦ و ١٤٨ و ١٧٣ ، ط ١ ، دار الأرقم ، الكويت / ١٤٠٣ هـ.

٩ ـ سراب في ايران / الدكتور أحمد الافغاني : ٢٥ ـ ٢٧ ، ط ٢ ، عمّان / ١٤١٥ هـ.

١٣٢

السبب الثالث : التمسك بالقسم المحرّم من التقيّة ، لعدم معرفة أقسامها الاُخر من الوجوب ، والإباحة ، والاستحباب ، والكراهة ، كما بيّناه في أقسامها.

السبب الرابع : نصرة الآراء الموروثة والتعصب لها ، وعدم تحقيق الاُمور على وجوهها ، مع تعميم هذا الاتجاه السلبي بين البسطاء من الناس ؛ لكي يتمرنوا تدريجياً على قبوله واعتقاد صحته ، ورفض ما خالفه مهما كانت أدلته.

السبب الخامس : الخوف الحقيقي من التقريب بين المذاهب الإسلامية ، والعمل بكلِّ وسيلة للاطاحة بكلِّ المساعي الشريفة الرامية إلى جمع كلمة المسلمين ؛ لأنّ في وحدة المسلمين القضاء المحتم على تلك الشرذمة التي عرفت بشذوذها اصولاً وفروعاً.

السبب السادس : إشاعة الكذب المحض على الشيعة الإمامية بهدف

____________

١٠ ـ الشيعة الاثني عشرية في دائرة الضوء / الدكتور عبدالمنعم البري : ٢٦٠ ومابعدها ، ط ١ ، دار السلام ، القاهرة / ١٤١٠ هـ.

١١ ـ الشيعة في التصور الإسلامي / علي عمر فريج : ١٥٠ و ١٥٢ و ١٥٤ و ١٦٥ و ١٨٣ ، دار عمار ، الأردن / ١٤٠٥ هـ.

١٢ ـ الشيعة معتقداً ومذهباً / الدكتور صابر عبدالرحمن طعيمة : ٥ و ٨٨ و ١١٨ ، ط ١ ، المكتبة الثقافية ، بيروت / ١٤٠٨ هـ.

١٣ ـ الشيعة وتحريف القرآن / محمد مال الله : ٣٥ و ٣٦ ، ط ٢ ، شركة الشرق الأوسط للطباعة ، عمّان ، الأردن / ١٤٠٥ هـ.

١٤ ـ الشيعة والتشيع / إحسان الهي ظهير : ٧٩ و ٨٤ ، ط ٤ ، لاهور ، باكستان / ١٤٠٥ هـ.

١٥ ـ الصراع بين الإسلام والوثنية / عبدالله علي القصيمي : ٤٥٨ و ٤٥٩ (المعلومات الاُخرى لم تذكر).

١٦ ـ الوشيعة في نقد عقائد الشيعة / موسى جار الله : ١٠٤ ، ط ١ ، مطبعة الشرق ، مصر / ١٣٥٥ هـ.

١٣٣

التشنيع عليهم ولو بالكذب على جميع المسلمين كزعمهم أن التقيّة من النفاق ، أو كقولهم عن الشيعة الإمامية : « ... وهم يتوسعون في مفهوم التقيّة إلى حد اقتراف الكذب والمحرمات » (١) ونحو هذا من الاكاذيب المعبّرة عن عدم الشعور بالمسؤولية ، مع انعدام الحياء ، وفقدان الورع والتقوى.

السبب السابع : الدعم المادي الذي تقدمه بعض الجهات المشبوهة بصلاتها المعروفة مع أعداء المسلمين لمن باع ضميره وذمته لقاء ثمن بخس دراهم معدودة لترويج الباطل الذي يضمن سلامة عروشهم عبر ديمومة الوضع الراهن وبقائه في مجتمعنا الاسلامي ، حتى وإن أدى ذلك إلى الطعن بمفاهيم الإسلام كمفهوم التقيّة وغيرها من المفاهيم الإسلامية الناصعة مثل التوسل بالأنبياء والصالحين ، وزيارة قبورهم ، وطلب شفاعتهم ونحوها.

ولكي تتضح الحقيقة أكثر ، وتغلق المنافذ بوجه المشعوذين والمشنعين على الشيعة بالتقيّة ، فلابدّ من بيان بعض الصور الواردة في كتب العامّة في التقيّة على مستوى القول والفعل والفتوى ، لكي يكون ذلك بمثابة المرآة الصافية التي يمكن النظر من خلالها إلى ما هو موجود فعلاً من صور التقيّة في كتب العامّة ، وهو ما سنتناوله في الفصل الرابع من هذا البحث ، مراعين بذلك الاختصار فيما سنذكره من تلك الصور في مباحثه الثلاثة الآتية.

____________

(١) الموسوعة الميّسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة : ٣٠٢ ، ط٢ ، الرياض / ١٤٠٩ هـ.

١٣٤

الفصل الرابع

صور التقيّة في كتب العامّة

المبحث الأول

الصور القولية في التقيّة

روى العامّة الكثير من التقيّة القولية الصادرة عن الصحابة والتابعين وغيرهم ، منبهين على أن الأخبار أو الآثار التي سنوردها من كتب العامّة في هذا الفصل لا تعبر بالضرورة عن التزامنا بدلالتها على التقيّة واقعاً ؛ لا سيّما فيما سيأتي من الصور الفعلية في المبحث الثاني ؛ لكون بعضها أقرب إلى النفاق منه إلى التقيّة ، وإلّا فهو على أقل تقدير من التقيّة ، ولكن في غير موضعها المطلوب شرعاً.

ومهما يكن ، فسوف نذكر من الصور القولية في التقيّة ما يأتي :

تقية عمّار بن ياسر :

وهي أوضح من نار على علم ، والاطالة فيها اطالة في الواضحات ، ويكفي أنّه نزل في عذره على ما واقى المشركين عليه من القول ، قرآناً مبيناً ، وقد علم الكل منزلة عمّار من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويكفي أنّه ملئ ايماناً

١٣٥

من فرقه إلى قدمه.

تقية ابن مسعود :

عن الحارث بن سويد قال : « سمعتُ عبدالله بن مسعود يقول : ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلّا كنت متكلماً به ».

أخرجه ابن حزم في المحلى ، وقال : « ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف » (١).

تقية أبي الدرداء وأبي موسى الأشعري :

أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي الدرداء أنّه كان يقول : « إنّا لنكشر في وجوه أقوام ، وإن قلوبنا لتلعنهم » (٢).

وقد بيّنا سابقاً من نسب هذا القول إلى أبي موسى الأشعري ، كما ورد نظيره عند الإمامية منسوباً إلى أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، وقد تقدم أيضاً.

تقية ثوبان واباحته الكذب في بعض المواطن :

أورد عنه الغزالي أنّه كان يقول : « الكذب إثم إلّا ما نفع به مسلماً ، أو دفع عنه ضرراً » (٣).

علماً بأن التقيّة لم تكن من الكذب كما يتصورها بعض الجهلاء ، ويدل على ذلك أن الله تعالى أخرجها عن حكم الافتراء فقال عزَّ وجلَّ : ( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ * مَن كَفَرَ بِاللَّهِ

____________

(١) المحلّى / ابن حزم ٨ : ٣٣٦ مسألة ١٤٠٩ ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت.

(٢) صحيح البخاري ٨ : ٣٧ ، كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس.

(٣) إحياء علوم الدين / الغزالي ٣ : ١٣٧.

١٣٦

مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) (١).

قال تاج الدين الحنفي في تفسيره : « والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منه المكره ، فلم يدخل تحت حكم الافتراء » (٢).

أقول : أخرج ابن أبي الدنيا بسنده عن سوار بن عبدالله ، قال : « إنّ ميموناً (٣) كان جالساً وعنده رجل من قرّاء أهل الشام ، فقال : إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق ، فقال الشامي : لا ، الصدق في كل المواطن خير. فقال ميمون : أرأيت لو رأيت رجلاً وآخر يتبعه بالسيف ، فدخل الدار فانتهى إليك فقال : أرأيت الرجل ؟

ما كنت فاعلاً ؟

قال : كنت أقول : لا.

قال : فذاك » (٤).

على أن الكذب هو ما عقد كذباً ، والتقيّة إنّما تعقد للاحسان ، والاصلاح ، ودفع الضرر ، وتحقيق المصالح المشروعة ، وفي الحديث الشريف : « إنّما الأعمال بالنيات » ، ثم كيف تكون التقيّة كذباً ! وقد اتقى

____________

(١) سورة النحل : ١٦ / ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٢) الدر اللقيط من البحر المحيط / تاج الدين الحنفي ٥ : ٥٣٧ ـ ٥٣٨ في تفسير الآيتين المتقدمتين.

(٣) هو ميمون بن مهران التابعي (ت / ١١٧ هـ).

(٤) الإشراف على مناقب الأشراف / ابن أبي الدنيا : ١١٨ / ٢١٦ ، دار الكتب العلمية ، بيروت / ١٤١٢ هـ.

١٣٧

قومَه أشرفُ الأنبياء والمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

تقية أبي هريرة :

أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة أنّه قال : « حفظت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعاءين : فأما أحدهما ، فبثثته.

وأما الآخر ، فلو بثثته قطع هذا البلعوم » (١).

وقد صرّح ابن حجر في فتح الباري بأن العلماء حملوا الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي تبيّن أسامي أمراء السوء وأحوالهم ، وأنّه كان يكني عن بعضه ولا يصرّح به خوفاً على نفسه منهم ، كقوله : (أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان) يشير إلى حكم يزيد بن معاوية ؛ لأنّها كانت سنة ستين من الهجرة (٢).

تقية ابن عباس من معاوية مع وصفه بالحمار :

أخرج الطحاوي بسنده عن عطاء أنّه قال : « قال رجل لابن عباس رضي‌الله‌عنه : هل لك في معاوية أوترَ بواحدة ؟ وهو يريد أن يعيب معاوية فقال ابن عباس : أصاب معاوية ».

هذا في الوقت الذي بيّن فيه الطحاوي ما يدل على انكار ابن عباس صحة صلاة معاوية ، فقد أخرج بسنده عن عكرمة ، قال : « كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هزيع من الليل ، فقام معاوية فركع ركعة واحدة ، فقال ابن عباس : من أين ترى أخذها الحمار ؟ ».

____________

(١) صحيح البخاري ١ : ٤١ كتاب العلم ، باب حفظ العلم (آخر أحاديث الباب).

(٢) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني ١ : ١٧٣.

١٣٨

قال الطحاوي بعد ذلك « وقد يجوز أن يكون قول ابن عباس : (أصاب معاوية) على التقيّة له » ثم أخرج عن ابن عباس في الوتر أنه ثلاث (١).

أقول : هو عين التقيّة ، إذ كيف يستصوب حبر الاُمة صلاة حمار !

تقية سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب :

أخرج أبو عبيدة القاسم بن سلام عن حسان بن أبي يحيى الكندي ، قال : سألت سعيد بن جبير عن الزكاة ؟ فقال : ادفعها إلى ولاة الأمر.

قال : فلما قام سعيد تبعته ، فقلت : إنّك أمرتني أن أدفعها إلى ولاة الأمر ، وهم يصنعون بها كذا ، ويصنعون بها كذا ؟! فقال : ضعها حيث أمرك الله ، سألتني على رؤوس الناس فلم أكن لأخبرك (٢).

وأخرج أيضاً عن قتادة أنّه سأل سعيد بن المسيب السؤال نفسه ؟ فسكت ابن المسيب ولم يجبه.

قال الدكتور الهراس في هامشه : « يظهر أن سعيداً رحمه‌الله كان لا يرى دفع الزكاة إلى ولاة بني أمية ، ولهذا سكت » (٣).

هذا وقد أورد العلّامة الأميني تقية سعيد بن المسيب من سعد بن أبي وقاص في سؤاله إياه عن حديث الغدير ، فراجع (٤).

____________

(١) شرح معاني الآثار / الطحاوي١ : ٣٨٩ ، باب الوتر ، ط ٢ ، دارالكتب العلمية ، بيروت / ١٤٠٧ ه.

(٢) كتاب الأموال / أبو عبيدة القاسم بن سلام : ٥٦٧ / ١٨١٣ ، تحقيق الدكتور محمد خليل هراس ، ط ١ ، دار الكتب العلمية ، بيروت / ١٤٠٦ هـ.

(٣) كتاب الأموال : ٥٦٥ / ١٨٠١.

(٤) الغدير / العلّامة الأميني ١ : ٣٨٠ ، ط ٥ ، دار الكتاب العربي ، بيروت / ١٤٠٣ هـ.

١٣٩

تقية رجاء بن حيوة :

قال القرطبي المالكي : « وقال ادريس بن يحيى : كان الوليد بن عبدالملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق ، ويأتون بالأخبار ، فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد ، فرفع ذلك إليه.

فقال : يا رجاء ! أُذكَرُ بالسوء في مجلسك ولم تغيّر ؟!

فقال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين.

فقال له الوليد : قل الله الذي لا إله إلّا هو.

قال : الله الذي لا إله إلّا هو.

فأمر الوليد بالجاسوس ، فضُرب سبعين سوطاً. فكان يلقى رجاء فيقول : يا رجاء ! بك يُستسقى المطر وسبعين سوطاً في ظهري !!

فيقول رجاء : سبعون سوطاً في ظهرك خيرٌ لك من أن يُقتل رجل مسلم » (١).

أقول : إنّ تقية رجاء هنا مضاعفة.

أما أولاً ، فباظهاره خلاف الواقع تقية.

وأما ثانياً ، فبمخاطبته لمثل الوليد الفاسق اللعين بخطاب الموافقين تقية أيضاً.

وقد حصل نظير هذه التقيّة لسعيد بن أشرس صاحب مالك بن أنس مع سلطان تونس ، إذ كان قد آوى رجلاً يطلبه السلطان ، ولما أُحضر أنكر

____________

(١) الجامع لاحكام القرآن / القرطبي ١٠ : ١٢٤.

١٤٠