التقيّة في الفكر الإسلامي

السيد ثامر هاشم العميدي

التقيّة في الفكر الإسلامي

المؤلف:

السيد ثامر هاشم العميدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-82-X
الصفحات: ١٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

أهل البيت عليهم‌السلام.

القسم الثاني : التقيّة المستحبة :

وهي ما كان تركها مفضياً إلى الضرر تدريجياً ، ويكون استعمالها موجباً للتحرز من الضرر ولو مستقبلاً.

ومن أمثلتها ما مرّ من أحاديث المداراة والمعاشرة ، ومخالقة الناس بأخلاقهم ومخالفتهم بأعمالهم ؛ بحيث يؤدي ترك ذلك إلى المباينة المؤدية إلى العداوة التي تترتب عليها الأضرار لاحقاً ، ولا يمكنه الانتقال بعيداً عنهم ، ولا مقاومتهم.

القسم الثالث : التقيّة المباحة :

وهي ما كان فيها التحرز من الضرر مساوياً لعدم التحرز منه في نظر الشارع المقدس ؛ لكون المصلحة المترتبة على استخدام التقيّة أو تركها متساويتين كما في إظهار كلمة الكفر إذا كان الإكراه عليه بالقتل ، فإن في فعل التقيّة هنا مصلحة وهي النجاة من القتل ، وفي تركها مصلحة أيضاً وهي إعلاء كلمة الإسلام.

ولا يخفى أن هذا يكون في حالة كون المتقي ليس قدوة للمسلمين ، وأما القدوة فعليه أن يوطن نفسه للقتل كما فعل حجر بن عدي ، ورشيد الهجري ، وميثم التمار رضوان الله تعالى عليهم ؛ لأنّ ما يباح لعامّة الناس لا يباح في مثل هذا الحال لقدوتهم ، وسيأتي بعض التوضيح لهذا في قسم التقيّة المحرمة أيضاً ، مع التأكيد هنا على أن القدوة الذي يعلم بأن المصلحة المترتبة على بقائه لخدمة الإسلام أعلى من مصلحة إعلاء كلمته عند الامتناع عن التقيّة ، فله أن يتقي لتفاوت المصلحتين ، والظاهر

١٠١

أن ما فعله عمار بن ياسر وأصحابه من هذا القبيل ؛ لحاجة الإسلام العزيز في ذلك الظرف إلى المؤمنين أكثر من أي شيء آخر.

والخلاصة : إنّ مسألة جواز التلفظ بكلمة الكفر والقلب مطمئن بالايمان يلاحظ فيها جملة من الامور ، وتكون بحسب الازمان والاشخاص والظروف ، ولا يمكن حملها على الجميع مطلقاً وبلا قيد وإن كان فيهم من فيهم.

ويؤيد هذا بعض المواقف البطولية التي سجلها التاريخ بأحرف من نور ، نظير امتناع الصفوة من استخدام التقيّة في سب أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد أن أكرههم الباغي اللقيط عليها ، وقدموا أنفسهم قرابين من أجل إعلاء كلمة الحق.

القسم الرابع : التقيّة المحرمة :

وهي ماترتب على تركها مصلحة عظيمة ، وعلى فعلها مفسدة جسيمة.

والواقع أنّ هذا القسم يُعدُّ من أهمّ أقسام التقيّة بلحاظ حكمها ؛ لما فيه من خطورة ، زيادة على تشويه مفهوم التقيّة بهذا القسم من لدن بعض الجهلاء والمتعصبين ، وذلك بتعميمه على سائر موارد الأقسام الاُخرى ، ولعل بعضهم يخفف من غلوائه فيزعم صحتها في غير موارد حرمتها إلّا أنه يفتري على الشيعة الإمامية ، فيزعم أنهم يجوزون التقيّة في كلِّ شيء حتى في ارتكاب الجرائم والموبقات كما نجده صريحاً في الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة (١) متناسين بذلك ما أباحه

____________

(١) راجع : الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة : ٣٠٢ ، الندوة العالمية للشباب الإسلامي ، ط ٢ ، السعودية / ١٤٠٩ هـ.

١٠٢

اعلامهم من ارتكاب أبشع الموبقات تحت ستار التقيّة ، كسفك الدماء وهتك لاعراض وما جرى مجراهما ، كما سيوافيك في الفصل الأخير من فصول هذا البحث.

هذا في الوقت الذي صرّح فيه فقهاء وعلماء الشيعة الإمامية بحرمة التقيّة في كثير من الموارد ، ومن جملتها ما ألصقته بها زوراً الموسوعة المذكورة ، ولهذا سوف نبين بعض تلك الموارد مع اعطاء قاعدة كلية لمعرفة ما هو محرم من التقيّة عند الشيعة الإمامية ، كالآتي :

من موارد التقيّة المحرمة عند الشيعة الإمامية :

١ ـ التقيّة في الدماء.

إنّ قتل المؤمن في مورد لا يستحق فيه القتل حرام بلا كلام ، والتقيّة في ذلك باطلة وعلى المتقي القصاص ؛ لأنّ المؤمنين تتكافأ دماؤهم ، ووجوب حفظ دم أحدهم لا يوجب جعل دم الآخر منهم هدراً ؛ إذ سيؤدي ذلك إلى نقض الغرض الذي شرّعت التقيّة لأجله ، وهو حقن دماء المؤمنين وصيانة أنفسهم ، وقد مرّ ما يدل على ذلك في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام.

٢ ـ التقيّة في الافتاء.

يحرم افتاء المجتهد بحرمة ما ليس بحرام بذريعة التقيّة ، خصوصاً إذا كان ذلك المجتهد ممن يتبعه عموم الناس ، وإنّه لا يستطيع الرجوع عن فتياه طيلة حياته ، بحيث تبقى فتياه محل ابتلاء العموم ومورد عملهم.

فهنا يجب الفرار من التقيّة بأي وجه ، حتى ولو أدّى تركها إلى قتله.

توضيح ما قد يشتبه به في هذا الصدد :

قد يُشتَبَه بما صدر عن أهل البيت عليهم‌السلام وكان بخلاف الحكم الواقعي

١٠٣

عند ضغط التقيّة ، فيُدَّعى أن فقهاء الشيعة تجوّز الافتاء المخالف للحق تقية ! وليس الأمر كذلك ؛ لأنّ أهل البيت عليهم‌السلام كانوا حريصين جداً على بيان الحكم الواقعي لاصحابهم ، وتفهيم شيعتهم ومن يطمئنون إليه من عامة المسلمين بحقيقة الأمر وواقعه ، وإنما اقتصروا في اصدار ما هو بخلاف الحكم الواقعي على حالات معينة كانت فيها عيون السلطة تتربص بهم عليهم‌السلام وبشيعتهم الدوائر ، ولنأخذ مثالين على ذلك وقس عليهما ما سواهما ، وهما :

المثال الأول : الافتاء بحلية ما قتل البازي والصقر.

عن أبان بن تغلب ، قال : سمعتُ أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : « كان أبي عليه‌السلام يفتي في زمن بني أُمية أن ما قتل البازي والصقر فهو حلال ، وكان يتقيهم ، وأنا لا أتقيهم ، وهو حرام ما قتل » (١).

ونظير هذا الحديث ما رواه الحلبي ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أنّه قال : « كان أبي عليه‌السلام يفتي ، وكان يتقي ، ونحن نخاف في صيد البزاة والصقور ، وأما الآن فانّا لا نخاف ولا نحل صيدها إلّا أن ندرك ذكاته ، فإنّه في كتاب علي عليه‌السلام : إنّ الله عزَّ وجلّ يقول : ( وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) في الكلاب » (٢) أي : في كلاب الصيد لا في البزاة ولا في الصقور.

وإذا علمنا أن الإمام الباقر عليه‌السلام عاش في فترة حكم أولاد عبدالملك بن

____________

(١) فروع الكافي ٦ : ٢٠٨ / ٨ كتاب الصيد باب صيد البزاة والصقور. ومن لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٠٤ / ٩٣٢. وتهذيب الأحكام ٩ : ٣٢ / ١٢٩. والاستبصار ٤ : ٧٢ / ٢٦٥.

(٢) فروع الكافي ٦ : ٢٠٧ / ١ من الباب السابق. وتهذيب الأحكام ٩ : ٢٢ / ١٣٠. والاستبصار ٤ : ٧٢ / ٢٦٦ ، والآية من سورة المائدة : ٥ / ٤.

١٠٤

مروان وهم : الوليد بن عبدالملك (ت / ٩٦ هـ) ، وسليمان بن عبدالملك (ت / ٩٩ هـ) ويزيد بن عبدالملك (ت ١٠٥ هـ) ، وأدرك تسع سنين من حكم طاغيتهم هشام بن عبدالملك (ت / ١٢٥ هـ) ، اتضح لنا سرّ تلك الفتيا ، ومع هذا ، فقد أظهر الإمام الباقر عليه‌السلام لشيعته ومواليه وجه الحق في تلك المسألة ، لكي لا يشتبه عليهم الحكم كما رواه عنه عليه‌السلام خلّص أصحابه كزرارة ونظرائه (١).

وجدير بالذكر ، هو أن المذاهب الأربعة المالكية ، والحنفية ، والشافعية ، والحنبلية وان لم تكن موجودة أصلاً في حياة الإمام الباقر إلّا أن اتفاق أئمتهم : أبو حنيفة ، ومالك والشافعي ، وأحمد بن حنبل على حلية ما قتل البازي والصقر (٢) يعدُّ بحقيقته وواقعه انعكاساً لتلك الفترة التي عاشها الإمام الباقر وآباؤه عليهم‌السلام ، إذ استمدت تلك الفتوى المجمع عليها عندهم مقوماتها من روايات ذلك العهد الذي حاول فيه الطغاة اقصاء أهل البيت عليهم‌السلام وتحجيم دورهم.

ومن هنا كان الاستدلال بفقه تلك المذاهب معبراً عن شيوع حليّة ما قتل البازي والصقر في عهد الإمام الباقر عليه‌السلام ، خصوصاً وقد نسب بعض

____________

(١) راجع : ما روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام في حرمة ما قتل البازي والصقر في قرب الاسناد / الحميري : ٥١. وفروع الكافي ٦ : ٤٠٧ / ٤ من الباب السابق. وتهذيب الأحكام ٩ : ٣١ / ١٢١. والاستبصار ٤ : ٧١ / ٢٥٧. وتفسير العياشي ١ : ٢٩٥ / ٢٩. ووسائل الشيعة ٢٣ : ٣٥٤ ـ ٣٥٥ / ٢٩٣٣٢ و ٢٩٧٣٣ باب ١٠ من أبواب كتاب الصيد.

(٢) اُنظر : اتفاقهم على تلك الفتيا في المدونة الكبرى / مالك بن أنس ٥ : ٥٠ ـ ٥١ ، كتاب الشركة ، باب الرجلين يشتركان في السمك أو الطير في نصب الشرك وصيد البزاة والكلاب. وكتاب الام / الشافعي ٢ : ٢٢٧ باب صيد كل ما صيد به من وحش أو طير. والمبسوط / السرخسي الحنفي ١١ : ٢٢٣. والمغني / ابن قدامة الحنبلي ١١ : ١١ ـ ١٢ / المسألتان : ٧٧٠٨ و ٧٧١٠.

١٠٥

متأخري أعلامهم حليّة ذلك إلى ابن عباس ، وطاووس ، ويحيى بن كثير ، والحسن البصري ، وغيرهم ، مع ادعاء اجماع الصحابة على ذلك (١).

إذن لا معنى لوقوف الإمام الباقر عليه‌السلام بوجه السلطة واعلان أن الصحابة العدول بزعمهم كانوا يأكلون الميتة من غير ضرورة ، زيادة على الطعن بفقهاء السلاطين ، إلّا التهلكة المحققة ، وفي أقل تقدير سيكون افتاء الخصم بواقع الأمر هواءً في شبك لا يغيّر ما اعتادوه شيئاً ، والدليل عليه هو ان فقه أهل البيت عليهم‌السلام كان ولا زال موجوداً ميسّراً لمن أراده ، ولكن مخالفته بالقياس ونظائره لم تزل قائمة إلى اليوم.

هذا ، وأما عن تصريح الإمام الصادق عليه‌السلام بواقع الحال وعدم خشيته في تلك الفتيا ، إنّما يؤول إلى كونه عليه‌السلام عاش في ظل فترتين سياسيتين وجد فيهما متسعاً ومجالاً نسبياً للانطلاق في أرحب الميادين العلمية ، وهما فترة تداعي الدولة الاموية ، ثم تلاشيها على أيدي بني العباس ، وفترة انشغال الدولة الجديدة بتثبيت أقدامها ، ولكن لم تلبث تلك الدولة بعد توطيد أركانها أن حملت إمام الحق على التقيّة كما يُعلم من قواعد الترجيح بين الأخبار المتعارضة التي بيّنها الإمام الصادق عليه‌السلام نفسه.

المثال الثاني : في تجويز الوضوء البدعي.

وهو ما حصل في قصة علي بن يقطين في مسألة تجويز الإمام الكاظم عليه‌السلام له في مسألة الوضوء البدعي الذي ما أنزل الله به من سلطان إذ كان يخشى عليه من طاغية زمانه هارون ، ثم تنبيهه عليه‌السلام لعلي بن يقطين

____________

(١) المبسوط / السرخسي ١١ : ٢٢٣.

١٠٦

بالعودة إلى سنة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الوضوء بعد زوال الخطر عليه (١).

تمييز خبر التقيّة عن غيره :

وهنا يجب التأكيد على مسألة في غاية الأهمية ، وهي أن جملة من الاخبار التي صدرت تقية عن أهل البيت عليهم‌السلام لم يصل إلينا إعلام منهم عليهم‌السلام بأنها كانت كذلك وإن كان المقطوع به أنّهم أعلموا المقربين إليهم بواقع الحال ، لكنّه لم يصل هذا الإعلام إلينا.

ولأجل تمييز تلك الاحاديث عن غيرها أصبح الرجوع إلى فقهائنا الاقدمين رضي الله تعالى عنهم كافياً في المقام ؛ لأن عدم عملهم بجملة من الاخبار المعتبرة الاسناد دال بطبيعته على أن أخبار التقيّة هي من ضمن المجموعة التي أعرض عنها الفقهاء ، ومعنى هذا انتفاء وجود علم اجمالي بوجود أخبار التقيّة ضمن الاخبار المعمول بها فعلاً في استنباط الاحكام ، كما أن حصول الوثوق في بعض الأخبار بعدم صدورها لبيان الحكم الواقعي بسبب شهرة الإعراض عنها مع سلامة سندها يسقطها عن الاعتبار لانها مسوقة في دائرة التقيّة.

هذا ، زيادة على وجود جملة من الاُسس والقواعد المستفادة بصورة أو اُخرى من كلمات أهل البيت عليهم‌السلام في تمييز الأخبار ونقدها ومعرفة ماصدر منها تقية عما صدر بنحو الإرادة الجدية ، ومن بين تلك الاُسس والقواعد ملاحظة ما يتعلق بالخبر من الامور الخارجية عند التعارض ، إذ يعرف خبر التقيّة الذي لا بدّ وان يكون معارضاً لما صدر في قباله في بيان

____________

(١) كما في الارشاد / الشيخ المفيد ٢ : ٢٢٧ ـ ٢٢٩. والخرائج والجرائح / الراوندي ١ : ٣٣٥ / ٢٦. ومناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٢٨٨. وأعلام الورى / الطبرسي : ٢٩٣.

١٠٧

الحكم الواقعي من خلال وجوه الترجيح : كاعتضاد أحدهما بدليل آخر معتبر ، أو بلحاظ الاجماع على العمل باحدهما ، أو شهرة العمل به ، وشذوذ الخبر الآخر وعدم شهرته ، أو بموافقة أحدهما للعامّة ، ومخالفة الآخر.

ولا شكّ أن هذه الوجوه ونحوها كفيلة بالكشف عن أيّ من الخبرين صدر تقية.

شبهة الأغبياء وجوابها الطريف :

يتضح ممّا تقدّم أنّه لا أصل للشبهة التي أثارها بعض الأغبياء من خصوم الشيعة.

وخلاصتها : أنّ أئمة الشيعة كانت ظروفهم غير ملائمة للافتاء بما يريدون فاضطروا إلى التقيّة ، وتسرب ذلك إلى كتب الشيعة فيما بعد ، وإنّ عدم القدرة على التمييز بين ما صدر تقية عن غيره ، يقتضي طرح ما في كتب الشيعة من روايات ؛ لاحتمال تطرق التقيّة إلى أي حديث فيها (١).

أقول : إنّ في طيات هذه الشبهة أمرين أود التنبيه عليهما وهما :

الأول : إنّ هذه الشبهة ، ليست شبهة في الواقع ، بل مكيدة خبيثة ، رام مروّجها أن يحول دون التمسك بأقوال أهل البيت عليهم‌السلام ، والأخذ بالقياس والاستحسان ونحوهما.

____________

(١) آثار هذه الشبهة محمد عبدالستار التونسوي في كتابه بطلان عقائد الشيعة : ٨٧ نشر المكتبة الامدادية ، مكة المكرمة ، طبعة دار العلوم ، القاهرة / ١٩٨٣ م ، ولم يحسن صياغتها ، وربّما لم يتّضح مراده لأكثر القرّاء بيد أنّا فهمنا من ذلك ، ولهذا تكفّلنا له بصياغة شبهته وجوابها.

١٠٨

الثاني : دلالة هذه المكيدة على غباء أصحابها ؛ لأنّها بمثابة الطلب من الشيعة ترك العمل بأخبار العامّة ؛ لأن خبر التقيّة في أدق وصف له إنّما هو خبر عامّي فرضته السياسة الجائرة على لسان أهل البيت عليهم‌السلام ، ولا ينبغي لعامي فَهِم عاقل أن يتقدم بمثل هذا الطلب إلى الشيعة ؛ لأنّه سالب بانتفاء موضوعه.

٣ ـ التقيّة في القضاء :

إنّ حكم القضاة بخلاف ما أنزل الله تعالى في كتابه العزيز ، له صور متعددة ، منها : أن يكون حكم القاضي موجباً لقتل مسلم بريء ، فهنا لايجوز الحكم بحال والتقيّة فيه حرام بلا كلام.

ومنها : أن يدفع القاضي بحكمه المخالف للحق ضرراً عن نفسه فيوقعه ظلماً بالآخرين ، وهذا الحكم باطل أيضاً ولا تجوز التقيّة فيه ؛ لعدم جواز دفع الضرر عن النفس بالحاقه بالغير.

وبالجملة ، فإنّ الافتاء والقضاء المخالف لما أنزل الله عزَّ وجل خطير جداً ، وقد وصف سبحانه من يحكم بغير ما أنزل الله ، تارة بالكافرين ، وأُخرى بالظالمين ، وثالثة بالفاسقين (١).

٤ ـ التقيّة المؤدية إلى فساد الدين أو المجتمع :

لا ينبغي الشك في حرمة استخدام التقيّة المؤدية إلى فساد الدين أو المجتمع ، كما لو كانت سبباً في هدم الإسلام ، أو النيل من مفاهيمه وأحكامه المقدسة ، أو محو بعض آثاره.

____________

(١) راجع سورة المائدة : ٥ / الآيات ٤٤ و ٥٠ و ٥٢.

١٠٩

لقد نادى فقهاء وأعلام التشيع بهذا عالياً ، وكانوا النموذج الأمثل للتضحية والفداء واعلان الحق في المواقف الحرجة ، ولا نقول هذا جزافاً فنظرة واحدة إلى كتاب شهداء الفضيلة ، للعلامة الأميني ، تكفي دليلاً على ما نقول ، ومن الأمثلة المعاصرة على ذلك هو ما نجده في نداءات وتصريحات الإمام الخميني رضي‌الله‌عنه حينما رأى خطورة حكم الشاه على أُصول الإسلام وكرامته. ومن تلك التصريحات :

قوله : « إنّ التقيّة حرام ، واظهار الحقائق واجب مهما كانت النتيجة ، ولا ينبغي على فقهاء الإسلام استعمال التقيّة في المواقف التي تجب فيها التقيّة على الآخرين ، إنّ التقيّة تتعلق بالفروع ، لكن حينما تكون كرامة الإسلام في خطر ، وأصول الدين في خطر ، فلا مجال للتقية والمداراة ، إنّ السكوت هذه الأيام تأييد لبطانة الجبار ، ومساعدة لاعداء الإسلام » (١).

وقوله أيضاً : « من العار أن نسكت على هذه الاوضاع ، ونبدي جبناً أمام الظالمين المارقين ، الذين يريدون النيل من كرامة الإنسان والقرآن وشريعة الإسلام الخالدة ، انهضوا للثورة والجهاد والاصلاح ، فنحن لا نريد الحياة في ظل المجرمين » (٢).

وهكذا نجد الإمام الخميني رضي‌الله‌عنه كان في منتهى الصراحة في رفض استخدام التقيّة مع الشاه وأعوانه ، منذ أن اكتشف أن الشاه صنيعة الاستعمار.

____________

(١) دروس في الجهاد والرفض : ٥٥ ـ ٥٨ نقلاً عن كتاب ايران من الداخل / فهمي هويدي : ٤٦ ـ ٤٧.

(٢) تحرير الوسيلة / الإمام الخميني ، مسألة ٢٧٩٢.

١١٠

ومن بيانات الإمام الخالدة في هذا المجال ، هو البيان الذي أصدره على أثر قرار رئيس وزراء الشاه أسد علم سنة ١٩٦١ م بشأن تعديل قانون المجالس المحلية ، وأهم ما في ذلك التعديل المثير ، أنّه ألغى القسم على القرآن الكريم عند الترشيح لتلك المجالس ، على أن يحلّ محلّه أي كتاب سماوي آخر معترف به.

ومما جاء في ذلك البيان : « إنني بحكم مسؤوليتي الشرعية أعلن الخطر المحدق بشعب إيران والمسلمين في العالم ، إنّ القرآن الكريم والإسلام معرضان للسقوط في قبضة الصهيونية التي ظهرت في إيران في صورة طائفة البهائية » (١).

أقول : ماذا يقول المشنّعون على الشيعة بالتقيّة بشأن ما يسمى بعملية السلام مع الصهيونية التي راح ضحيتها آلاف الشهداء من المسلمين ؟

بل وماذا يقولون بحق من افتى بجواز المصالحة معهم ممن يتصدون حالياً إلى ادارة الدعوة والارشاد في بعض البلاد الإسلامية ؟

٥ ـ التقيّة في غير ضرورة :

ومن موارد حرمة التقيّة عند الشيعة ، ان تكون من غير ضرورة ، ولاحاجة ملحة إليها.

وأما في بعض أقسام التقيّة التي أُخذ الخوف في موضوعها كالتقيّة الخوفية أو الاكراهية ، فإنّه اذا انتفى الخوف فلا تجوز التقيّة حينئذ.

٦ ـ التقيّة في شرب الخمر وبعض الموارد الاُخر :

تقدمت بعض النصوص المصرحة بحرمة التقيّة في مثل هذه الموارد ،

____________

(١) إيران من الداخل / فهمي هويدي : ٣٦.

١١١

وقد قيدها الفقهاء بما إذا لم يبلغ الخطر النفس ، أما اذا خيف القتل عند الاكراه عليها ، فالتقيّة جائزة فيها.

٧ ـ التقيّة الاكراهية عند عدم تحقق الاكراه :

ونعني بها التقيّة الاكراهية التي يكون الاكراه فيها فاقداً لبعض أركانه ومقوماته التي سبق بحثها في الفصل الأول ، إذ اتفق الفقهاء على ان للاكراه أربعة أركان ، وأنه لايكون الاكراه ملجئاً للتقية إلّا مع توفرها جميعاً ،

وأما لو فقد بعضها أو واحداً منها فسيكون لغواً لا تجوز معه التقيّة ، فلو أكرَه انسانٌ آخرَ على ارتكاب محرم وكان ذلك الإنسان عاجزاً عن تنفيذ تهديده ووعيده ، وعلم أو ظن المكره بهذا فلا تجوز له التقيّة ، وكذلك لو كان الإتيان بالمكرَه عليه غير منجٍ من الضرر المتوعد به ، ومثله لو كان المكرَه به تافهاً وحقيراً والفعل المطلوب جسيماً وخطيراً.

فالشرط إذن في صحة التقيّة الاكراهية هو اجتماع أركان الاكراه الأربعة وتحققها جميعاً ، وأما لو فقد واحد منها أو أكثر فلا تصح التقيّة الاكراهية إذ لا اكراه حينئذ.

٨ ـ التقيّة التي يتجاوز فيها مقدار أو جنس ما يُكره عليه :

من الثابت ان التقيّة في دين الإسلام تجوز في كل ضرورة إلّا ما خرج عن ذلك بدليل معتبر كما مرَّ في أدلة التقيّة ومشروعيتها ، ولما كانت الضرورات تقدر بقدرها فلا ضرورة بحق الزيادة إذن.

فمن اضطرته التقيّة مثلاً على ارتكاب شيء محرم فعليه أن يقتصر على مقدار وجنس ما يراد ارتكابه من ذلك الشيء المحرم من غير زيادة.

فلو أكرَه السلطان الجائر مسلماً على أكل قطعة واحدة من اللحم

١١٢

المحرم شرعاً فليس له أن يأكل عشرين قطعة من ذلك اللحم نفسه ، ولا أن يقتصر على تلك القطعة ويشرب معها خمراً بحجة إرضاء السلطان الجائر تحت ستار التقيّة ، إذ لا تقية هنا بحق الزيادة ؛ لعدم وجود الاكراه عليها.

٩ ـ التقيّة عند امكان التخلص من الضرر :

ومن موارد حرمة التقيّة عند بعضهم أن يكون المُكرَه عليها قادراً على التخلص منها ، بحيث يجد في نفسه القدرة الكافية على استخدام احدى وسائل التخلص من التقيّة ، وبما لا يترتب عليه ضرر ولا حرج ، كما في استخدام التورية مثلاً ، ومع ذلك يلجأ إلى التقيّة ، فهنا لا تجوز له لانها ستكون من غير ضرورة ، وقد مرّ حكم التقيّة من غير ضرورة أيضاً.

وبالجملة فإنّ الميزان الدقيق في معرفة موارد الحرمة الاُخرى ، هو أن تكون المصلحة المترتبة على ترك التقيّة لا يرضى الشارع المقدس بتفويتها في التقيّة ، وكذلك فيما لو استقل العقل بوجوب حفظها في جميع الاحوال.

القسم الخامس : التقيّة المكروهة :

وقد مثل بعضهم لها بإتيان ما هو مستحب عند المخالفين مع عدم خوف الضرر لا عاجلاً ولا آجلاً ، مع كون ذلك الشيء المستحب مكروهاً في الواقع ، وإلّا لو كان حراماً فالتقيّة باتيانه لموافقتهم حرام ، وأما مع احتمال وقوع الضرر بالمخالفة فيكون الاتيان بما وافقهم تقية مستحباً (١).

وخلاصة هذه الاقسام ، أنه يراعى في معرفتها نوع المصلحة المترتبة على فعل التقيّة وعدمها.

____________

(١) القواعد الفقهية / البجنوردي ٥ : ٤٧ ، من قاعدة التقيّة.

١١٣

فإنّ كانت المصلحة مما يجب حفظها فالتقيّة فيها واجبة.

وان كانت المصلحة مساوية لمصلحة ترك التقيّة فتكون التقيّة جائزة.

وإن كان أحد الطرفين راجحاً فحكم التقيّة تابع له.

ومن كل ما تقدم يُعلَم أن التقيّة ليست من عقائد الشيعة الإمامية ، كما يزعم بعض الجهلاء من خصوم الشيعة ؛ لأنّها من فروع الاحكام عندهم ، بدليل ما فصلناه من أقسامها عندهم باعتبار حكمها الشرعي.

نعم ، أصبح للتقية صلة بالعقيدة الشيعية زيادة على صلتها الواضحة بفروع الاحكام ؛ إذ صار القول بها عند خصوم الشيعة دليلاً على ضعف المذهب الشيعي ومبانيه ، ومن هنا دخل الحديث عنها في دائرة الاعتقاد.

ثانياً : أقسام التقيّة بلحاظ أركانها :

إنّ أقسام التقيّة بهذا الملحظ تستدعي بيان أركان التقيّة ، لتتضح العلاقة بينهما ، فنقول :

أركان التقيّة : إنّ أركان التقيّة ومقوماتها هي أركان الإكراه ومقوماته التي سبق البحث عنها مع فرق التسمية ، وما يشترط في أحدهما يشترط في الآخر ، إذ لاتختلف فيما بينها إلّا من جهة بعض أقسام التقيّة الآتية ، التي لا يكون الدافع إلى استخدامها هو التحرز من ضرر الغير ، وإنّما لأجل تحقيق بعض المصالح التي تصب في خدمة الدين أو المجتمع ، كالعمل بالتقيّة لأجل تحقيق الوحدة الإسلامية ولمّ شمل المسلمين بعد فرقتهم وتناحرهم ، وهذا يعني فقدان الإكراه في مثل تلك التقيّة.

وعليه ، فالاركان والمقومات التي سنذكرها للتقية بمفهومها العام ، هي نفسها في الأقسام الاُخر للتقية التي لم يؤخذ الخوف في موضوعها ،

١١٤

ولكنها تختلف عما هنا في تفسيرها.

فالمُتّقي مثلاً الذي هو الركن الأوّل من أركان التقيّة ، ونظيره في الاكراه (المُكرَه) ، لا يرتفع في غير التقيّة الاكراهية ، وإنّما يأخذ تعريفاً وتفسيراً آخر.

فبدلاً من أن يكون في التقيّة الاكراهية : الشخص الذي يعمل بالتقيّة كرهاً لدفع ضرر معلوم أو مظنون أو محتمل ، سيكون في بعض أقسام التقيّة : الشخص الذي يستخدم التقيّة بلا إكراه ، ولكن لتحقيق غايات مرغوبة شرعاً ولا سبيل إلى الوصول إليها إلّا بالتقيّة. وهكذا الحال في بقية الأركان الاُخر ، ومجموعها مع ما ذكرناه أربعة ، وهي :

الركن الأول : المُتَّقي ، وقد مرَّ آنفاً.

الركن الثاني : المُتَّقى منه : وهو من يتولى اجبار المتقي على التقيّة ، ولايشترط به أن يكون كافراً ؛ إذ لا فرق بحكم العقل في ضرورة تجنب الضرر من أيّة جهة كانت كافرة أو مسلمة ، وقد مرّ أن العقل يحكم بلزوم حفظ النفس من الهلكة سواء كانت على أيدي بعض المسلمين أو الكفار ، ونظير هذا الركن في الإكراه (المُكرِه).

الركن الثالث : ما يتقى عليه : وهو كل ما حكم الشارع ، أو استقل العقل بضرورة حفظه من الضرر ، لما في ذلك من مصلحة تعود إلى نفس المتقي ، أو عرضه ، أو ماله ، أو دينه ، أو اخوانه المؤمنين ، ونظيره في الإكراه (المُكرَه به) ، فكلاهما ناظران إلى نوع الضرر.

الركن الرابع : ما يُتّقى به : وهو نوع العمل المحرم المراد انجازه كالافطار في شهر رمضان ، أو الكلام الباطل المطلوب تلفظه ، كما في تلفظ كلمة

١١٥

الكفر والقلب مطمئن بالايمان ، ونظيره في الاكراه (المُكرَه عليه).

وقد قسموا التقيّة بلحاظ هذه الأركان على قسمين ، وهما :

القسم الأول : تقية الفاعل : وهذا القسم ناظرٌ إلى الركن الأول (المُتَّقي) ، والتقيّة فيه بحسبه ، لما مرّ في الفصل الأول من تأثير اختلاف الاشخاص في واقع الإكراه وجوداً وعدماً ، إذ قد يكون الإكراه الواحد ملجئاً تارة بحق شخص ، وغير ملجىءٍ بحق آخر تارة اُخرى ، ومن هنا تدرك قيمة هذا من التقيّة ، نظراً لما يترتب على معرفة الفاعل من آثار كبيرة وخطيرة في تقييم تقيته من الناحية الشرعية ، إذ ليس الناس سواسية في التقيّة ، وقد مرّ بنا أن الإمام الخميني رضي الله عنه حرّم التقيّة على الفقهاء في موارد جوازها على العامّة في ظرف لا بدّ فيه من ذلك التحريم.

القسم الثاني : تقية القابل : وهذا القسم ناظر إلى الركن الثاني (المُتَّقى منه).

الثمار المترتّبة على معرفة القابل :

في معرفة القابل ثمرتان وهما :

الثمرة الأولى : معرفة مدى قدرته على تنفيذ ما وعد وهدد به ، إذ ربما قد يكون عاجزاً عن إيقاع أي ضرر بالمتقي ، فتسقط التقيّة.

الثمرة الثانية : معرفة عقيدة القابل ودينه قد تؤثر على سلامة التقيّة في بعض صورها ، فالاكراه من كافر لمسلم على النطق بكلمة الكفر مثلاً ، لايكون عادة إلّا في بلاد الكفر ، ولو فرض حصوله في أرض الإسلام لأمكن التخلص بطلب النجدة من المسلمين.

ثالثاً : أقسام التقيّة بلحاظ أهدافها وغاياتها :

التقيّة بهذا الملحظ تكون على ثلاثة أقسام ، وهي :

١١٦

القسم الأول : التقيّة الخوفية أو الاكراهية : وهي فيما إذا كان الهدف من استخدامها دفع الضرر عند الخوف منه سواء أكان الخوف شخصياً أم نوعياً ، كتقية عمّار بن ياسر من المشركين.

القسم الثاني : التقيّة الكتمانية : وهي فيما إذا كان الهدف منها حفظ الدين من الاندثار والإنمحاء في دولة الباطل فيما لو أُذيعت تعاليمه وأحكامه المخالفة لهوى السلطة الظالمة ، وعليه لا بدّ من كتمانها إلّا على المختصين ؛ لا سيّما إذا كان أهل الحق هم القلة القليلة المحاطة بزمر الباطل.

ومن هذه التقيّة تقية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدم اظهار أمر الدعوة إلّا للمختصين مدة ثلاث سنوات كما مرّ في محلّه. وكذلك ما ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام من التأكيد على عدم اذاعة أسرارهم عليهم‌السلام خوفاً على مذهب الحق وقادته الأطهار وأنصاره وأتباعه.

ويدخل في هذا القسم من التقيّة ما كانت الغاية منه حفظ بعض المصالح المشروعة بالكتمان ، كما فعل مؤمن آل فرعون في كتم إيمانه ، وكما كتم يوسف الصديق عليه‌السلام أمره عن اخوته.

القسم الثالث : التقيّة المداراتية أو التحبيبية : وهي فيما إذا كان الهدف منها ، هو الحفاظ على وحدة المسلمين ، وتقليل شقة الخلاف فيما بينهم وجمع كلمتهم ، كما في أحاديث المخالطة والمعاشرة ، وكذلك فيما لو كانت أغراضها اتقاء فحش الآخرين بإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم ، نظير ما مرّ في تقية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من (بئس ابن العشيرة ، أو بئس أخو العشيرة).

١١٧

المبحث الثاني

أهمية التقيّة وفوائدها

لا خلاف بأن كلّ ما ثبت تشريعه في الإسلام لا بدّ وان يشتمل على مجموعة من الفوائد التي ترجع بالنفع إما على الفرد أو المجتمع أو الدين نفسه ، بل عليها جميعاً إذ لا يمكن تصور صلاح المجتمع مع فساد أفراده ، ولا سيادة الدين بفساد المجتمع.

وإذا عدنا إلى التقيّة نجدها مفردة واحدة من مفردات ذلك التشريع العظيم كما مرّ في أدلة تشريعها. وعليه فالحديث عن أهميتها وفوائدها هو الحديث عن فوائد وعوائد التشريع الإسلامي قرآناً وسُنّة ولكن في حيز صغير منه اسمه : التقيّة.

ومن الواضح أنّ المقصود بالتقيّة هنا هي التي تكون في موردها الصحيح والموصوفة على لسان أمير المؤمنين عليه‌السلام كما سيأتي بأنّها من شيمة الأفاضل ، وليس كل تقية حتى التي لم يدخلها الشارع المقدس في مفهوم الحكم الثانوي الاضطراري (١) فتلك تقية مرفوضة ، إذ لا أهمية لها

____________

(١) الحكم إمّا أن يكون أوّليّاً وهو المنصوص عليه بخصوصه في الشريعة الإسلامية ، كحرمة أكل لحم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وغيرها. وهذا الحكم هو الأصل.

وإمّا أن يكون ثانوياً وهو الفرع ويكون على قسمين :

١ ـ حكم ثانوي ظاهري ، كالأحكام الواردة لحالة شك المكلف ، ومواردها الأصول العملية : البراءة ، والاحتياط ، والتخيير ، وكذلك القواعد الفقهية ، كقاعدة التجاوز وغيرها.

٢ ـ حكم ثانوي اضطراري ، وهي الاحكام التي جاءت للتوسعة على المكلف العاجز عن القيام

١١٨

ولا فائدة بنظر الشارع ، زيادة على ما فيها من ضرر بكلا قسميه :

الأخروي ، باعتبار ارتكاب ما لم يرخّص الشارع بارتكابه حتى في صورة الاضطرار.

والدنيوي ، بلحاظ ما يترتب على فعلها من آثار سيئة عاجلة أو آجلة.

وإذا عُرفت مضار شيء عُرفت قيمته ، وإذا شخّصت فوائد آخر أدركت أهميته.

وهذا الأمر لا بدّ من التنبيه عليه وإن كان واضحاً في نفسه ، لكي لاتحمل فوائد التقيّة على غير محملها ، ولا تفسر أهميتها بغير تفسيرها الصحيح.

وثمة شيء آخر يحسن التنبيه عليه ، وهو أن المفاهيم الإسلامية لايمكن سبر غورها واكتشاف جميع فوائدها لأنّ مشرعها سبحانه أحاط بكل شيء علماً ، وإنّما يكون الاكتفاء عادة بالمنظور منها ، إما بالمشاهدة والحس ، أو بالنظر العقلي والادراك الفطري ، زيادة على الاستهداء بالنصّ في بيان فوائد تلك المفاهيم.

وسوف نستهدي بهذه السبل الأمينة في بيان فوائد التقيّة ، وعلى النحو الآتي :

١ ـ في التقيّة تحفظ النفس من التهلكة ، ويُصان ما دونها من الأذى ، كما لو كان المدفوع بها ضرب مبرّح ، أو هتك عرض ، أو سلب مال ، أو إهانة

____________

بالحكم الاولي ، فمن لا يقدر على الالتزام بحرمة أكل لحم الميتة بسبب الجوع الشديد يباح له ذلك لاضطراره إليه ، بلا خلاف بين جميع فقهاء الإسلام ، فكذلك الحال مع استخدام التقيّة عند الضرورة ، إلّا ما استثني منها بدليل ، وقد مرّ بعض مستثنياتها ، فراجع.

١١٩

ونحوها من الأمور التي تعرض سلامة الإنسان المسلم وكرامته إلى الخطر ، ومن هنا ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام في وصفها بأنّها : « .. حرز لمن أخذ بها ، وتحرّز من التعريض للبلاء في الدنيا » (١).

كما تحفظ بالتقيّة حقوق المؤمنين ، وقد جمع هذه الفوائد قول أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « التقيّة من أفضل أعمال المؤمن ، يصون بها نفسه واخوانه من الفاجرين » (٢) وعلى هذا تكون التقيّة صدقة على النفس والإخوان ، وفي الحديث المروي عن الإمام العسكري عليه‌السلام : « .. إنّ مداراة أعداء الله من أفضل صدقة المرء على نفسه واخوانه » (٣).

٢ ـ التقيّة صمود بوجه الباطل ، كما يفهم من وصفها بأنّها سلاح المؤمن ، وترسه وحرزه ، وليست تخاذلاً أو تراجعاً ، فهي أشبه ما تكون بالانسحاب الهادف إلى التحيز إلى جهة المؤمنين لتقوية شوكتهم ، وخير مايدل على ذلك صمود عمار بن ياسر على الحق ثم انسحابه الهادف الذي وفّر عليه فرصة الاشتراك مع اخوانه المؤمنين في ميادين الحق ضد الباطل ابتداء من بدر الكبرى بقيادة أشرف المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واختتاماً بصفين تحت لواء أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ولولا تقيته لما عرف له دور في قتال المشركين ، والناكثين ، والقاسطين.

فالتقيّة إذن من عوامل تقوية الدين ، وقد جاء في حديث الإمام

____________

(١) مشكاة الأنوار / سبط الطبرسي : ٤٢. وعنه في مستدرك الوسائل ١٢ : ٢٥٦ / ١٣ باب ٢٣ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ٧ : ٣٢١ / ١٦٤.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ٧ : ١٤٢.

١٢٠