المعاد الجسماني

شاكر عطية الساعدي

المعاد الجسماني

المؤلف:

شاكر عطية الساعدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: صدف
الطبعة: ١
ISBN: 964-7741-72-3
الصفحات: ٢٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

المتعارف عليه بين المناطقة والفلاسفة ، وإليک هذه المجموعة من الآيات الدالة عليه :

قال تعالى : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ، (١) وقوله أيضاً : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٢) وقال أيضاً : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ، (٣) وقوله تعالى : ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) ، (٤) وغيرها من آيات الذکر الحکيم في بيان القسط والأمر به.

وقد يعترض المعترض فيقول : لو سلمنا بوجود محکمة داخلية لکل شخص منا ، فلا حاجة لوجوب وجود محکمة ثانية في عالم آخر مجهولة الکنه لنا ، فإذا کان الغرض من وجوب وجود المحکمة الأخروية هو الحساب والعقاب ، والحال هو حاصل بوجود المحکمة الداخلية التي نعبر عنها بالفطرة السليمة ، أو الوجدان الأخلاقي ، أو بتعبير القرآن الکريم النفس اللوامة ، فجعها من قبل الباري عزَّ وجل يکفي في تحقيق الغرض ، وهو إجراء وإقامة المحکمة لکل شخص ، بالشکل الذي لا يتنافي فعلها مع اختيار الإنسان وإرادته.

نقول : هذا صحيح ولا شک فيه ، ولکن الکلام ليس في وجودها وعدم وجودها ، وإنما الکلام في قوة هذه المحکمة وضعفها ، فإنها تصل إلى وضع يتساوي فيه وجودها وعدمه ، بحيث لا تنهى عن فعل ولا تأمر بشيء ؛ لأن هذا الأمر الفطري قابل للشدة والضعف ، فيختلف باختلاف الأشخاص ، حتى تصبح عند بعضهم نتيجة اقتراف الذنوب والمعاصي کأنها غير موجودة ، فلذا احتاج مثل هؤلاء الأشخاص وغيرهم إلى قيام محکمة کبرى يحضر فيها الجميع ، فيثاب فيها المطيع ويعاقب فيها العاصي ، وهي من مقتضى عدله تعالى ، إذ أن المؤمن قد يعيش في هذه الدنيا طريداً

ــــــــــــــــ

١. ص ، ٢٨.

٢. الجاثية ، ٢١ ، ٢٢.

٣. فصلت ، ٤٦.

٤. الأعراف ، ٢٩.

٨١

بلا مأوى ، والکافر يتنعم بمختلف النعم واللذات الدنيوية ، وعندئذ لو دخل الاثنان مدخلاً واحداً ، لکان ذلک ظلماً للمؤمن ، وحينئذٍ يتنافى مع عدل الله تعالى : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ، (١) ( أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ، (٢) فحصول المحکمة الکبرى للفصل بين ما هو حق عمّا هو باطل من مقتضي عدل الله تعالى ، وهذا الوجوب يدرکه العقل قبل تشريعه ، باعتبار أن الظلم قبيح لذاته ، والعدل حسن لذاته ، هذا بناءً على نظرية الإمامية ومن حذا حذوهم ، وبالإضافة إلى وجود المحکمة الداخلية الفطرية ، شُرِعَت محاکمٌ قضائية للحکم بين الناس ، الغرض منها تنظيم أمورهم وحفظ السلام والأمن والاستقرار ، سواء کانت تعتمد في قضائها على الحکم الشرعي أو الحکم الوضعي ، ولکن کيفما کانت لم تفِ في أداء المطلوب ؛ لأنّ الرشاوي في أغلبها فاشية ، وشهادة الزور فيها نافذة ، والطواغيت مظلومون والمحرومون ظالمون بنظر حکامها ، فيحکم فيها للظالم على المظلوم ، فلم تتحقق العدالة المطلوبة في أغلبها ، والحال أن حکمها صادر على أساس الأدلة الظاهرة ، التي يصورها کلُّ من الطرفين ، فتنتهي القضية بلا جدوى ولا ثمرة فيها ، ولذا قال الحق تعالى ناهياً عن ذلک : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ، (٣) وعليه تَطَلَّبَ الأمر وجود محکمة لا تجور ولا تظلم ، بل تعطي کل ذي حق حقه ، ولا يتحقق هذا الأمر في هذا العالم ، لعدم صلاحية هذا العالم لقيام مثل هذه المحکمة ، فلابد إذاً أن يکون في عالم آخر ، وهو عالم الآخرة الذي يکشف الله فيه الغطاء فيظهر کل واحد على حقيقته ، وحينئذ يقال للإنسان : ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) ، (٤) ( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ، (٥) ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ، (٦)

ــــــــــــــــ

١. فصلت ، ٤٦.

٢. ص ، ٢٨.

٣. البقرة ، ١٨٨.

٤. الإسراء ، ١٤.

٥. ق ، ٢٢.

٦. البقرة ، ٢٨١.

٨٢

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ). (١)

ولقد ذُکِرَت للعدالة معاني لغوية واصطلاحية ، فقد جاء في کتاب أقرب المواد : ( العدل : الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط ، والقصد في الأمر : ضد الجور ... ) ، (٢) وأما في کتاب غريب القرآن فقد قال فيها : ( العدالة والمعادلة لفظ يقتضي معنى المساواة ، ويستعمل باعتبار المضايفة ... إلى أن قال : فالعدل هو القسط على السواء ، وعلى هذا روي : بالعدل قامت السموات والأرض ) ، ولکن أحسن ما جاء فيها ، وهو ذلک المعنى الذي خرج عن مشکاة النور عن أمير المؤمنين فقد قال فيها : « العدل يضع الأمور مواضعها » ، (٣) وموضع کل شيء بحسبه.

وأما المعنى الاصطلاحي فقد قيل فيه ، کما عن صاحب بداية المعارف : ( ... وظاهره هو اختصاصه بما إذا کان في البين حق ، وإلاّ فلا مورد له ، فإعطاء الفضل والنعم مع تفضيل بعض على بعض لا ينافي العدالة ، ولا يکون ظلماً ؛ إذ الذين أنعم عليهم لا حق لهم في التسوية حتى يکون التبعيض بينهم منافياً للعدالة ، نعم لابد أن يکون التبعيض التفضيل لحکمة ومصلحة ، وهو أمر آخر ... ) ، (٤) نعم قد يستعمل العدل بمعنى الحکمة ، وعليه يکون مرادفاً لها ، ولعل منه قول مولانا أمير المؤمنين : « ولعدله في کلّ ما جرت عليه صروف قضائه » ، (٥) والتفصيل في هذا الأمر يخرجنا عن هدفنا ، ولم يبقَ إلا أن نبين لکم ما استفدناهُ من برهان في باب عدله تعالى لإثبات ضرورة المعاد ، وإليک تقريره على أساس المنهج المنطقي :

ــــــــــــــــ

١. التحريم ، ٧.

٢. سعيد الحوزي الشرتوتي ، أقرب الموارد في فصيح العربية والشوارد ، مادة عدل.

٣. نهج البلاغة ، قسم الحکم ، الرقم ٤٣٧.

٤. محسن الخرازي ، بداية المعارف ، ص ١٠٢

٥. نهج البلاغة الجامع لخطب أمير المؤمنين على بن أبي طالب ٧ ، قسم الخطب ، الخطبة ٢١٦ ؛ لابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، ج ١١ ، ص ٨٨ ؛ بحار الأنوار ، ج ٤١ ، ص ١٥٢ ، ٢٥٦ ؛ محمد ري شهري ، ميزان الحکمة ، ج ٣ ، ص ٢٥٧٠ ؛ محمد مهدي شمس الدين ، دراسات في نهج البلاغة ، ص ١٤١.

٨٣

المقدمة الأولى : إنّ الله عادل.

المقدمة الثانية : العادل لا يظلم ولا يجور على أحد من العالمين.

النتيجة : أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم ولا يجور على أحد من العالمين.

أقول : لو لم يکن هناک يوم يجازى فيه الناس لکان ذلک ظلماً وجوراً منه. والتالي باطل ، فالمقدم مثله.

وجه البطلان : إذ المفروض أن الله سبحانه وتعالى منزَّه عن الظلم والجور کما هو ثابت في البرهان السابق الاقتراني.

وجه الملازمة : معنى العدالة والعدل أن يصل کل ذي حق حقه ، والحال أن الدنيا لم تکن صالحة لتحقق هذا الأمر ، فلابد أن يکون هناک يوم يتحقق فيه هذا الأمر ، لأن المساواة بينهم في عالم الآخرة يعد ظلماً منه تعالى مع ما کانوا عليه من تفاوت في العمل خيره وشره ، فلذا إن لم يجعل الله تعالى للفصل بينهم يوماً يقتص فيه من الظالم وللمظلوم ، فذلک عين الظلم ، وهو منزَّه عنه ، وعليه فبطلان اللازم يقتضي بطلان الملزوم.

النتيجة : إذن لابد للإنسان من يوم يحاسب فيه ، فيجازي فيه بما کسب فإن کان مطيعاً مؤمناً يثاب على طاعته وإيمانه ، وإن کان کافراً عاصياً ، فيعاقب على عصيانه وظلمه وکفره ، وذلک اليوم هو المعاد ويوم القيامة ، وقد قال الحق عنه : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ). (١)

تبصرة : إنّ هذا الدليل قاصر عن إثبات المعاد لغير المکلفين ، إذ لا معنى لأن يحاسب غير المکلف على الطاعة والعصيان ، کما فهمنا من غرضه ، وهو إيصال کل ذي حق حقه ، کما جاء في قوله تعالى : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ

ــــــــــــــــ

١. إبراهيم ، ٤٢

٨٤

لا يُظْلَمُونَ ) ، (١) وغيرها من الآيات الکريمة.

فمتعلق العدل هو موارد استحقاق الجزاء بالطاعة أو المخالفة ، وهما متعلقان بأفعال المکلفين ، وغير متکلف لا يصح أن نسمية عاصياً أو مطيعاً ، وکما ذکرنا سابقاً أن البرهان رهن حده الأوسط ، وحده في المقام هو العدل الإلهي ، والنتيجة تابعة له ، فعليه أن موارد تحقق العدل هي ما يتعلق بموارد التکليف دون موارد عدم التکليف.

الدليل الثالث : دليل الحرکة

وقد أشار إليه الحق تعالى بمجموعة من آيات الذکر الحکيم ، کما جاء في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ) ، (٢) وقوله تعالى : ( إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ ) ، (٣) ولقوله تعالى : ( قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ). (٤)

فالمتدبر في هذه المجموعة من الآيات الشريفة يتضح له بکل وضوح معنى الحرکة والسير باتجاه الحق تعالى الذي منه البداية وإليه النهاية ، وقد نقل صاحب تفسير الميزان عن الراغب أنه قال : ( الکدح السعى والعناء ، فقال : ففيه معنى السير ، وقيل : الکدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها ، وعلى هذا فهو متضمن معنى السير ، بدليل تعديه ب‍ ( إلى ) ففي الکدح معنى السير على أي حال ، وقوله ( فملاقيه ) عطف على کادح ، وقد بيّن به غاية السير والسعي والعناء هو الله سبحانه بما أن له الربوبية ، أي أنّ الإنسان بما أنّه عبد مربوب ومملوک مدبّر ساع إلى الله سبحانه إلى أن قال : ومن هنا يظهر أولاً : أن قوله ( أنک کادح إلى ربّک ) يتضمن حجة على المعاد ، لما عرفت أن الربوبية لا تتم إلا مع العبودية ولا تتم العبودية إلا مع مسؤولية ولا تتم مسؤولية ، إلاّ برجوع وحساب على الأعمال ، ولا يتم حساب إلا بجزاء ثم قال : إنّ المراد بالإنسان الجنس ؛ وذلک أن الربوبية عامة لکل إنسان ... . (٥)

ــــــــــــــــ

١. الجاثية ، ٢١ ، ٢٢.

٢. الانشقاق ، ٦.

٣. القيامة ، ١٢.

٤. البقرة ، ١٥٦.

٥. الميزان في تفسير القرآن ، ج ٢٠ ، ص ٣٦٠.

٨٥

وأما ما جاء في تفسير الآية : إلى الله المصير ، (١) عن مجمع البيان أنه قال : ( أي مرجع الخلق کلهم إلى حيث لا يملک الحکم إلا الله سبحانه ، فيجازي کلاً على قدر عمله ) ، (٢) وقال صاحب الميزان فيها : ( للدلالة على تزکية من تزکى لا تذهب سدى ، فإنّ کلا الفريقين صائرون إلى ربّهم لا محالة وهو يحاسبهم ويجازيهم ، فيجازي هؤلاء المتزکين أحسن الجزاء ) ، (٣) وفيه إثبات للمعاد. والحرکة تقتضي وجود هدف ما ، وتتناسب طبيعة الحرکة مع طبيعة الهدف المنشود لصاحبها ، فالتناسب بينهما على نحو التناسب الطردي ، فطالب الدنيا هدفه الدنيا بما فيها من موجودات مادية ولذات حسية ، وطالب الجنّة هدفه الجنّة بما فيها من حور وأنهار و ... وطالب الله هدفه معرفته والوصول إليه ، فلا توجد حرکة بلا هدف ، وهدف الخلقة هو وصول کل شيء إلى کماله المخلوق من أجله ، والوصول إليه يحتاج إلى حرکة ما ، والحرکة تحتاج إلى بذل الجهد والمجاهدة والسعي والعناء ، وبما أن الهدف أولاً وأخيراً هو الله تعالى ، لقوله : ( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ) ، (٤) ولقوله : ( وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ) ، (٥) فهو غاية الغايات ، ومنتهى الحرکات ، شاءت أم أبت هذه الموجودات ، ولکننا لم نرَ تحقق هذا الأمر في عالم الدنيا ، فلابد أن يکون ذلک في عالم آخر ، وهو عالم الآخرة ، وفي يوم تحشر فيه الجميع إليه ، ذلک اليوم هو يوم المعاد ويوم القيامة ، حيث ينادي المنادي فيه : ( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَىٰ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ). (٦)

ولکن لا يعني هذا أن الکل سوف يصلون إلى مقام الکمال ، طالحهم وصالحهم ، وإنما هذا من باب الحشر ، ثم يأتي بعده النشر فينشرون کل بحسبه فمنهم من ينجو ومنهم من يهلک ويسقط في الهاوية ، وعندئذٍ لا يظلمون فتيلاً.

ــــــــــــــــ

١. فاطر ، ١٨.

٢. الطبرسي ، تفسير مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٠٥.

٣. الميزان في تفسير القرآن ، ج ١٧ ، ص ٣٤.

٤. الشوري ، ٥٣.

٥. آل عمران ، ١٠٩.

٦. غافر ، ١٦.

٨٦

وينبغي أن ننبه على أن البعض حصر الحرکة فقط في جانب الماديات ، لأن المجردات لا تتناسب مع تعريفه للحرکة ، کما جاء ذلک عن فلاسفة المشاء ، باعتبار أن تعريفهم لها هو عبارة عن خروج الشيء من القوة على الفعل تدريجاً ، فأُخِذَت القوة وصف للشيء المتحرک ، وحيث إن الموجودات المجردة لا قوة فيها ، فلا حرکة فيها ، ولکن البعض ومنهم صدرالمتألهين لم يحصروا الحرکة في الموجودات المادية فقط ، بل قالوا بالحرکة في الموجودات المجردة ، کما يفهم ذلک من تعريفهم للحرکة ، فقد قال فيها ملا صدرا : ( الحرکة هي عبارة عن موافاة حدود بالقوة ) ، (١) فقد جعل وصف القوة للحدود لا للمتحرک ، وطبيعي حتى يستوفي تلک الحدود فانه يحتاج إلى حرکة ، وحيث إن الکمال غير متناه الحدود ، فهو في حرکة مستمرة سواء کان مادياً أو مجرداً بلا فرق ، إذ أن وصف القوة خارج عنه ، وقد قال بالحرکة في الموجودات المجردة بالإضافة إلى الموجودات المادية جملة العرفاء ، ودليلهم على ذلک قوله تعالى :  ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) ، (٢) وهو مما أشار إليه أمير الموحدين : «آه آه من طول السفر وقلة الزاد». (٣)

وبعد أن اتضحت هذه المقدمة ، نأتي إلى تبيين الدليل على أساس المنهج العقلي المنطقي ، کما عليه المذهب المشائي القائل بحصر الحرکة في عالم الماديات ، وإليک تقريره :

المقدمة الأولى : عالم الطبيعة متحرک سيّال.

المقدمة الثانية : کل متحرک له هدف ينشده ويقصده.

النتيجة : عالم الطبيعة الواحد الحقيقي له هدف ينشده ويقصده.

ــــــــــــــــ

١. الأسفار ، ج ٣ ، ص ٣١.

٢. الرحمن ، ٢٩.

٣. لاحظ : بحار الأنوار ، ج ٣٣ ، ص ٢٧٥ :ج ٨٢ ، ص ١٥٦ : أبو الفتح الکراجي ، کنز الفوائد ، ص ٢٧ : أحمد ابن فهد الحلي ، عدة الداعي ، ص ١٩٥ ؛ الشيخ محمد مهدي الحائري ، شجرة طوبى ، ج ١ ، ص ١١١.

٨٧

توضيح : لو رجعنا إلى القرآن الکريم فإنا نجد في تکثير من آياته الشريفة إشارات واضحة تحکي هذه الحقيقة ، ومنها قوله : ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) ، (١) وقوله : ( وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ، (٢) وقوله : ( وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ) ، (٣) وقوله : ( اللهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، (٤) وغيرها من الآيات القرآنية الدالة على هذا الأمر ، فالحرکة ثابتة للأشياء المادية بالحس والوجدان ، فما من لحظة إلا وللتغيير والتبدل قدم فيها ، وما بالعرض يرجع إلى ما بالذات ، ومادام عالم الطبيعة واحداً بالوحدة الحقيقة غير الحقة ، فما لم يصل إلى مرساه وغايته ونهايته ، فحاله کحال السفينة الجارية في البحر ، ما لم تصل إلى الساحل ونقطة مرساها فإنها تبقى متحرکة هنا وهناک في کل لحظة من لحظات الزمان ، وقد سئل النبي الأعظم عن مرسى سفينة الطبيعة والعالم ( أَيَّانَ مُرْسَاهَا ) ، (٥) أي متى تلقي القيامة مرساها ؟ متى يهدأ الطوفان ؟ فموجودات هذا العالم في حالة حرکة مستمرة وسيلان دائم ، ولهذا يمکن أن يلحق ببعضها الأذى بسبب التصادم والتزاحم ، وعندئذ فلا يصل إلى هدفه المطلوب له ، ولکن النظام بما هو نظام کلي واحد سيصل إلى هدفه ومقصده لعدم وجود المزاحم للنظام الکلي لا من الداخل ولا من خارج ، لأن المزاحمة أمر نسبي له ، ومع عدم وجوده ، فما هو المانع من وصوله إلى هدفه ومقصده ؟

هذا ما أشار إليه السيد العلامة محمد حسين الطباطبائي بقوله : بما أن هذا النظام هو واحد حقيقي ، وهذا الواحد الحقيقي في حالة متابعة الهدف ، ولا شيء خارج عن ذلک يکون له عمل مع الحرکة فيؤذيها أو تؤذيه ، إذن فلا مانع في الطريق ، وعندما لا يوجد مانع في الطريق فسيصل کل عالم الطبيعة وعالم الحرکة إلى هدفه ، ولن يوجد باطل ، ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى القيامة باسم المستقبل الذي لاريب فيه ( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ) ، (٦) ولکنها تصل فجأة عندما سينتهى

ــــــــــــــــ

١. الرعد ، ٢.

٢. لقمان ، ٢٢.

٣. آل عمران ، ١٠٩.

٤. الروم ، ١١.

٥. النازعات ، ٤٢.

٦. الحج ، ٧.

٨٨

التدريج تأتيهم ( السَّاعَةُ بَغْتَةً ) ، (١) وقد دعا رسول الله ٩ قافلة البشرية إلى مبدأها وإلى مآبها ، ( إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ) ، (٢) ( قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ) ، (٣) وفي الواقع هي دعوى إلى توحيده والإيمان به ، ودعوى إلى معاده.

وعليه فإنّ برهان الحرکة بناءً على الأخذ بتعريف المشاء ومن حذا حذوهم للحرکة ، فإنّه يکون قاصراً عن إثبات المعاد للموجودات المجردة ، وأمّا على أساس تعريف صدرالمتألهين لها ، أو على أساس مبنى العرفاء فيها ، فإن الدليلَ وافٍ بالمطلوب ، فالبرهان غير قاصرٍ عن إثبات معاد الموجودات المادية والمجردة معاً.

٢. إمکان المعاد الجسماني

مقدمة

قبل الشروع في البحث ينبغي أن نلتفت نظر القارئ إلى نقطة هامة تتعلق به ، وهي أنّ القرآن الکريم في الوقت الذي فيه تبيان کلّ شيء لم يکن کتاب علم وفن خاص من فنون العلوم المختلفة ، فلم يکن مصوغاً بصياغة علمية تتوافق مع صياغات هذه العلوم والفنون ، فلم تکن آياته الشريفة قوانين رياضة أو فيزيائية أو فلسفية أو ... الخ ، في الوقت الذي لا تخلو آياته عن الحديث والبيان الرياضي والمسائل الفيزيائية والکونية والفلسفية والوقائع التاريخية وغيرها ؛ لأن ذلک يخرجه عن هدفه وغرضه المطلوب منه ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، إنّ البحث القرآني قائم على أساس الدليل والبرهان المنطقي ، ولذا نجده يخاطب المعاندين بإقامة الدليل والبرهان على مدعاهم إن کانوا صادقين ، کما جاء ذلک في قوله تعالى : ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ، (٤) وأيضاً في قوله تعالى : ( ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا

ــــــــــــــــ

١. يوسف ، ١٠٧.

٢. الرعد ، ٣٦.

٣. يوسف ، ١٠٨.

٤. النمل ، ٦٤.

٨٩

أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ، (١) فکأن هذا الأصل مبدأ أساسي من مبادئ القرآن الکريم في المحاججة والمناضرة مع الحصم وغيره ، والمعاد الجسماني واحد من تلک المسائل التي وقع الاختلاف فيها ، وقد أقام على إثبات إمکانها مجموعة من الأدلة ، ومنها :

١. الآيات الدالة على بدأ الخلقة للإنسان والکون.

٢. الآيات الدالة على إثبات القدرة المطلقة لله تعالى.

٣. الآيات الدالة على إحياء الأرض بعد موتها.

٤. الآيات الدالة على التطورات المرحلية للجنين إلى أن يصير إنساناً کاملاً.

٥. الآيات الدالة على رجوع الطاقة بعد فنائها وانعدامها ظاهراً.

٦. الآيات الدالة على حکاية رجوع بعض الناس في هذا العالم الدنيوي کنماذج عينية تاريخية دالة تحکي الإمکان بشکل جلي.

ولا يحفى علينا أن بعض هذه الآيات تحکي الإمکان الذاتي ، والبعض الآخر يحکي الإمکان الوقوعي للمعاد الجسماني ، کما سيأتي البحث عنهما بنحوٍ من التفصيل.

أولاً : الإمکان الذاتي للمعاد الجسماني

ينبغي علينا قبل أن نذکر الأدلة القرآنية على ثبوت هذه المسألة ، رأينا أن نبين نقطتين مهمتين في هذه المسألة وهما :

أولا : إنّ النسبة بين الإمکان الذاتي والإمکان الوقوعي ، هي نسبة العموم والخصوص مطلقاً ، بمعنى أنّ الأول أعم مطلقاً من الثاني.

ثانياً : إنّ الترتيب بينهما طولي ، بمعنى أنّ الشيء ما لم يکن ممکناً ذاتاً لا تصل النوبة إلى إمکان وقوعه. وإليک أولاً جملة الآيات الدالة على ثبوت إمکانه الذاتي ، ثم بعد ذلک نذکر لک الآيات الدالة على إمکانه الوقوعي.

المجموعة الأولى : الآيات الدالة على بدأ الخلقة الأولى للإنسان والکون

ــــــــــــــــ

١. الأحقاف ، ٤.

٩٠

قال الله تعالى : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) ، (١) وقال أيضاً : ( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) ، (٢) وقال أيضاً : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ، (٣) وغيرها من الآيات الکريمة المتعلقة ببدء الخلقة.

في الوقت الذي تشير فيه هذه الآيات إلى توجيه نظر السامع إلى جريان قدرة الله سبحانه وتعالى وعدم محدوديتها ، فإنها أيضاً تشير إلى مسألة عدم استحالة المعاد الجسماني ، بل جعلت إمکانه من المسائل البديهية ، بناءً على أساس قياس الأولوية ، الذي غبر عنه بقوله ( أهون عليه ) ، فإنَّ القادر بدأ الشيء وتکوينه من لا شيء فهو أقدر على إعادته من شيءٍ ، خصوصاً وأنّ المقتضي موجود وعدم المانع وحضور العلة التامة.

فجملة هذه الآيات ، والآيات الأخرى التي نزلت في بيان هذا الأمر ، لم تکن بمعنى الدليل الذي يفهمه الخاصة من الناس ، بل کانت في الواقع بمثابة المنبهات والموقظات للغارقين في نوم الغفلة ؛ باعتبار أنّ الأمر ينکشف للإنسان بأقل تأمل وتدبر.

وقد استفاد جمع من المفسرين ، من کلمة « يبدأ » و « يعيد » ، معنى الدوام والاستمرار في إنشاء لخلق جديد وإعادة مستمرة له ، بعبارة أخرى : إنّ عالم الوجود الخارجي عبارة حياة وموت ، ومبدأ ومعاد مستمر ، وعليه فلا ينبغي الشک والترديد بعد ذلک في إمکان المعاد الجسماني الذي طرحه القرآن الکريم ، وأکدته الروايات الشريفة ، وأقيمت عليه الأدلة البرهانية المنطقية العقلية.

المجموعة الثانية : الآيات الدالة على القدرة المطلقة لله تعالى :

قال الله تعالى : ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ، (٤) وقال أيضاً : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ

ــــــــــــــــ

١. يس ، ٧٨ ، ٧٩.

٢. العنکبوت ، ١٩.

٣. الروم ، ٢٧.

٤. غافر ، ٥٧.

٩١

قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورًا ) ، (١) وقال أيضاً : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ المَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، (٢) وقال أيضاً : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ). (٣)

لو نظرنا فيها نظر المتأمل والمتدبر لوجدناها تتحدث عن أمرين مهمين ، وهما :

الأول : تتحدث هذه الآيات عن خلق السموات والأرض بما فيها من موجودات مرئية وغير مرئية ، قد نالتها المعرفة الإنسانية أو لم تنلها بعد لحد الآن.

الثاني : حديثها عن الإنسان بما ينطوي عليه من معالم الخلقة والإعجاز ، ولکن مع ذلک کله جعله الحق تعالى أقل شأناً من خلق السموات والأرض ، کما مرّ ذکره في هذه الآية : ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ). (٤)

وقد اختلف في تعريف القدرة بعد التسليم بإطلاقها وعدم محدوديتها بأي نحو من الحد والتقييد ، فقد قال المتکلمون في تعريفها : ( بصحة الفعل والترک ) ، (٥) وإن شئت قلتَ : ( إمکان الفعل والترک ، وکون نسبتها إليه على السواء ) ، (٦) بينما عرفها الفلاسفة ب‍ : کونه إذا شاء فعل وإذا لم يشأ لم يفعل ، ولکنه شاء وفعل ) ، (٧) ولسنا هنا في مقام تبيين ما هو الحق من هذين القولين ، وإنما نوکله إلى محله.

ولقد علقَّ العلامة الطباطبائي في ذيل الآية : ( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) (٨) بقوله : ( هذه الآية إلى تمام الخمسة من کلامه واقعة في بيان القصة التي تقيم الحجة على المعاد ، وترفع استبعادهم له بما تقدم من حيث

ــــــــــــــــ

١. الأسراء ، ٩٩.

٢. الأحقاف ، ٣٣.

٣. يس ، ٨١.

٤. غافر ، ٥٧.

٥. عبد الهادي الشيرازي ، شرح المنظومة ، ص ١٧٢.

٦. العلامة الحلي ، حاشية السبحاني على کتاب کشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، قسم الإلهيات ، ص ١٠.

٧. الحاج ملا عبدالهادي السبزواري ، شرح المنظومة ، ص ١٧٢.

٨. العنکبوت ، ١٩.

٩٢

إن المعدة في تکذيبهم الرسل وإنکارهم للمعاد ، کما يشير إليه قول إبراهيم ٧ : ( إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ المُبِينُ ) ، (١) فقوله ( أَوَلَمْ يَرَوْا ) الضمير فيه للمکذبين من جميع الأمم من سابق ولاحق ، والمراد بالرؤية النظر العلمي دون الرؤية البصرية إلى أن قال : وفيه رفع الاستبعاد ؛ لأنه إنشاء وإذا کانت القدرة المطلقة تتعلق بالإيجاد فهي تتعلق بالإنشاء بعد الإنشاء وهي نقل للخلق من دار إلى دار ، وإنزل السائرين إليه في دار القرار. (٢)

وقد ذکر الفخر الرازي في تفسير الآية الأولى قائلاً : ( اعلم أنه تعالى لما وصف جدالهم في آيات الله بغير سلطان ولا حجة ، ذکر مثالاً ، فقال ٧ : ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ) ، والقادر على الأکبر قادر على الأصغر لا محالَ ). (٣)

ويمکننا أن نقول : إنّ کل ذلک لأجل إبعاد ذلک الاستغراب والاستبعاد الحاصل في نفوس هؤلاء الجاحدين للحق تعالى ولنبوة محمد ، والمنکرين لخبر المعاد ودليله ، فاستدل لهم بعموم قدرته سبحانه وتعالى التي خلق بها السموات والأرض بما فيها من عجائب وغرائب الخلقة والموجودات ، على خلق الإنسان وإعادته بعد موته ، خصوصاً وأنّه تعالى جعل خلقهما أعظم من خلق الإنسان ، فالقادر على خلق العظيم أقدر على خلق وإعادة ما هو أدون منه عظمة. ولکن الکافرين کما وصفهم الحق تعالى بقوله : ( فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورًا ). (٤) ومن يريد التفصيل في ذلک ، فليراجع المصادر الوارد ذکر بعضها في حاشية هذه الصفحة (٢١٧). (٥)

المجموعة الثالثة : الآيات الدالة على إحياء الأرض بعد موتها :

قال تعالى : ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ

ــــــــــــــــ

١. العنکبوت ، ١٧ ، ١٨.

٢. الميزان في تفسير القرآن ، ج ١٦ ، ص ١١٦.

٣. فخرالدين الرازي ، التفسير الکبير ، ج ٢٧ ، ص ٧٩.

٤. الإسراء ، ٩٩.

٥. راجع : الطبرسي ، تفسير مجمع البيان ، ج ٨ ص ٥٩٢ ؛ تفسير القرطبي ، ج ٨ ص ٥٧٦٩ ؛ تفسير روح البيان ، ج ٨ ، ص ١٩٩.

٩٣

وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ الخُرُوجُ ) ، (١) وقال أيضاً : ( يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ) ، (٢) وقال تعالى : ( فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ). (٣)

فبغض النظر عمّا جاء في تفسير مفرداتها ، فإننا نجد أنّ بعض المفسرين استفاد من الآية الأولى الدلالة على إمکان المعاد للأموات في يوم لم يذر فيه أحداً ، ( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) ، (٤) فمن جهة تحکي قدرة الله تعالى المطلقة على کلّ شيء ، ومن جهة أخرى توجه الأنظار إلى مشاهدة مسيرة الحياة في عالم الدنيا ، فکأنها تريد أن تشبه بين المعاد والحياة في الدنيا ، فما يجرى في هذا العالم الدنيوي بمثابة صورة مصغرة من معاد الآخرة ؛ ولذا تطلب من المريبين أن ينظروا إلى السماوات والأرض وما يجري فيهما ، قال تعالى : ( أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ) ، (٥) فقال صاحب تفسير الأمثل : ( ... أجل إن من له القدرة على خلق السموات وبما فيها من نعمة وجمال ودقة ، فکيف لا يمکنه أن يلبس الموتى ثوب الحياة مرة أخرى ... ).

إلى إن قال : ( أما الآية التالية ففيها استدلال آخر على هذا الأمر « المعاد » إذ يقول : ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ ) (٦) إلى أن قال : تذکر هذه الآيات ضمن بيان النعم العظمى للعباد ، وتحريک إحساس الشکر في مسير المعرفة ، أنهم يرون مثلاً للمعاد کل سنة في حياتهم ، بل خلال سنين في هذه الدنيا ... فهذه الحرکة العظيمة نحو الحياة في عالم النباتات کاشفة عن هذه الواقعية ، وهي أن باري الموجودات قادر على إحياء الموتي مرة أخرى ؛ لأن وقوع الشيء

ــــــــــــــــ

١. ق ، ٩ ـ ١١.

٢. الروم ، ١٩.

٣. الروم ، ٥٠.

٤. الکهف ، ٤٧.

٥. ق ، ٦.

٦. ق ، ١١.

٩٤

أقوى دليل على إمکانه ). (١)

وقال صاحب تفسير مختصر مجمع البيان في ذيل الآية : ( كَذَٰلِكَ الخُرُوجُ ) من القبور ، أي کما أحيينا الأرض وأنبتت نحيي الموتى يوم القيامة فيخرجون من قبورهم. (٢)

بينما يرى صاحب تفسير الميزان في آية ( كَذَٰلِكَ الخُرُوجُ ) برهاناً آخر على البعث غير ما تقدم عند بيان القدرة المطلقة على کل شيءٍ فقد نستنتج من طي کلامه ، إنّ البيان السابق کان في ردِّ استبعادهم للبعث ، في استنادهم إلى صيرورتهم تراباً غير متمايز الأجزاء ، فکان برهاناً من مسلک إثبات علمه بکل شيء ، وقدرته على کل شيءٍ ، وهذا الأخير ، هو البرهان الذي يتضمّنه قوله : ( وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ الخُرُوجُ ) (٣) من مسلک إثبات إمکان الشيء بوقوع مثله بوقوع مثله ، فليس الخروج من القبور بالإحياء بعد الموت إلا مثل خروج النبات الميت من الأرض بعد موتها ووقوف قواه عن النماء والنشوء. (٤)

المجموعة الرابعة : الآيات الدالة على التطورات المرحلية للإنسان :

قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، (٥) وقال أيضاً : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا

ــــــــــــــــ

١. ناصر مکارم الشيرازِي ، تفسير الأمثل ، ج ١٧ ، ص ٦.

٢. محمد باقر الناصري ، تفسير مختصر مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٣١٤.

٣. ق ، ١١.

٤. الميزان في التفسير القرآن ، ج ١٨ ، ص ٣٧٠.

٥. الحج ، ٥ ، ٦.

٩٥

الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) ، (١) وغيرها من الآيات الأخرى.

قوله تعالى : ( خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ) ، يمکن حمل الضمير فيها على خصوص خلقة آدم ٧ ، لشهادة قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ، (١) کما أنه يمکن حمله على أساس أصل تکون الإنسان ، کما هو ثابت في الأبحاث الحياتية العلمية ، حيث إن الإنسان نتيجة أکله لمجموعة من المواد الغذائية ، ونتيجة مروره بمجموعة فعاليات ، تتولد منه مجموعة من الخلايا المعمة في بناء وبقاء جسمه بالإضافة لتکون خلايا النطف الخاصة ببقاء النوع الإنساني عن طريق اتحادها مع بويضات المرأة التي هي الأخرى أيضاً متکونة من مجموعة غذائية في داخل جسم المرأة ، کما هو مبين في محله.

ومن المعنى المشهور للنطفة بين أهل اللغة يمکن حمله على المائين الذکري والأنثوي ؛ إذ کلاهما يمتاز بميزة الصفاء کثرت مادته أو قلّت. (٢)

ولکن الذي يهمنا هنا هو کيفية الاستدلال بهما على إمکان المعاد الجسماني ، کما بيّن الحق تعالى في کل واحد منهما ، وقد استفاد السيد العلامة هذا المعنى من ظاهر سياق الآيتين ، حيث قال : المراد من البعث إحياء الموتى والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى ، وهو ظاهر ... إلى أن قال : ظاهر السياق أن المراد لنبين لکم أن البعث ممکن ونزيل الريب عنکم ، فإنّ مشاهدة الانتقال من التراب الميت إلى النطفة ثم إلى العلقة ثم إلى المضغة ثم إلى الإنسان الحي لا تدع ريباً في إمکان تلبس الميت بالحياة ، وذلک وضع قوله : لنبين لکم ( في هذا الموضع ولم يؤخره إلى آخر الآية ). (٣)

ــــــــــــــــ

١. المؤمنون ، ١٢ ـ ١٦.

٢. آل عمران ، ٥٩.

٣. لاحظ : الزبيدي ، تاج العروس ، ج ٦ ، ص ٢٥٨ ؛ الفراهيدي ، العين ، ج ٧ ، ص ٤٣٦ ؛ ابن منظور ، لسان العرب ، ج ٩ ، ص ٣٣٥ ؛ محمد عبد القادر ، مختار الصحاح ، ص ٣٤٠.

٤. الميزان في تفسير القرآن ، ج ١٤ ، ص ٣٧٧.

٩٦

وأما صاحب مختصر مجمع البيان فقد أستدل بقضية خلق آدم ٧ من لا شيء ، على إمکان البعث والإعادة ، حيث جاء فيه : ( فالدليل على صحة البعث أنا خلقنا أصلکم وهو آدم تراب ، فمن قدر أن يصير التراب بشراً سوياً قادر على أن يحيى العظام ويعيد الأموات ). (١)

المجموعة الخامسة : الآيات الدالة على إعادة الطاقة بعد فنائها :

قال الله تعالى : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) ، (٢) وقوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ ). (٣)

لقد جاء في التفسير المنسوب للإمام الحسن العسکري ٧ في خصوص تفسير الآية الأولى أنه قال : ( ... فأراد الله من نبيه أن يجادل المبطل الذي قال کيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم ؟ فقال الله : يحييها الذي أنشأها أول مرة ، أفيعجز من ابتدأه من لا شيء أن يعيده بعد أن يبلى ؟ بل ابتداؤه أصعب عندکم من إعادته ، ثم قال : الذي جعل لکم من الشجر الأخضر ناراً ، فإذا أنتم منه توقدون ، أي إذا کان في الشجر الأخضر الرطب ، ثم يستخرجها الرطب ، ثم يستخرجها فعرفکم أنه على إعادة ما يلي أقدر ... ). (٤)

وأمّا في خصوص بيان نوع الشجر الذي يتخذ منه الزناد ، فقد جاء فيه إنّه نوع خاص لاکل شجر ، يعرف أحداهما بشجر المرخ ، والآخر بشجر العفار ، کما جاء ذلک في تفاسير القرآن الکريم ، کتفسير الأصفى ، ومجمع البيان ، وتفسير القمي : ( الشجر وهو المرخ والعفار ، شجران يتخذ منهما الزناد ... ) ، (٤) واستشهد السيد عبد الحسين دستغيب بهذا المشهد على إمکان إعادة الأموات ، کما جاء ذلک في کتابه

ــــــــــــــــ

١. تفسير مختصر مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٣٥٢.

٢. يس ، ٧٩ ، ٨٠.

٣. الواقعة ، ٧١ ـ ٧٣.

٤. نقلاً عن ، التفسير المنسوب للإمام الحسن العسکري ٧ ، ص ٥٢٨.

٥. التفسير المنسوب للإمام الحسن العسکري ٧ ، ص ٥٢٨.

٩٧

المعروف بدار الآخرة : ( ... فيا أيها الناس اعلموا أننا يمکننا أن نخرج من الماء ناراً ، وجعلنا ذلک لکم تذکرة لتعرفوا بذلک أننا قادرون على خلقکم ثانية ... ). (١)

ولکن الذي يشاهد ما يحدث اليوم في احتراق الغابات العظيمة عند هبوب العواصف ، يثبت له بالحس والوجدان أن القضية لم تکن تختص بنوع خاص من الشجر کما ذکر ذلک أرباب التفاسير ، وإنما العلة من وراء ذلک شيء آخر ، ولعله يرجع إلى انبعاث تلک الطاقة المخزونة في داخل هذه الأشجار التي حصلت عليها نتيجة عملية الترکيب الضوئي التي يقوم بها النبات ، وليس هنا محل شرح هذه العملية ، فلتطلب من محلها ؛ لأنها تخرجنا من تحقيق هدفنا من هذا البحث.

ومحل الشاهد هو أن الباري عز وجل يريد من خلال هذين الآيتين أن يبين لنا کيف أن إحياء الموتى وإعادة الرفات ليس بأعجب من إخراج النار من العود الأخضر ، والجمع بين المحرق والمورق ، کما بين ذلک صاحب کتاب حقائق التأويل. حتى قال صاحب تفسير التبيان متسائلاً : ( ... ومن يقدر على ذلک ألا يقدر على الإعادة ؟ ... ). (٢)

ثانياً : الإمکان الوقوعي للمعاد

إنّ إثبات الإمکان الذاتي للمسألة لا يکون دليلاً کافياً على إمکانها الوقوعي مالم تضرب بعض الأمثلة لها ، وما لم يتحقق ولو لفرد من أفرادها ومصاديقها في الخارج ، وعندئذ تَطَلَبَ منا أن نبحث عن أدلة قرآنية أخرى تحقق لنا هذا الأمر ، وعلمه سبحانه وتعالى بحال الإنسان ومدى مجادلته في الأمور وإن کانت ضرورية ، دعته أن يأتي بشواهد متعددة ومختلفة تکشف له هذا الأمر ، وترفع الاستغراب والاستبعاد عن نفس الإنسان ، وقد خصصنا بحثنا في هذه المسألة عن طرح تلک

ــــــــــــــــ

١. السيد عبدالحسين دستغيب ، الدار الأخرة ، ص ٢٠٩.

٢. أبو جعفر الطوسي ، تفسير التبيان ، ج ٨ ، ص ٤٧٦.

٩٨

الأدلة القرآنية التي صورت لنا وقوع مثل هذا الأمر في عالم الدنيا ، حتى أصبحت هذه المسألة من المسائل الضرورية التي لا تقبل بعد ذلک الشک والريب ، ولا يخالف إلا من سفه نفسه ، وجحد بالحق الصادع ، وفيما يلي ذکر تلک الأدلة الواضحة في إثباتها :

الدليل الأول : إحياء عزير أو ارميا : (١) لقد حکى الله سبحانه قصتها في القرآن الکريم في جملة من الآيات الشريفة ، کما جاء في قوله تعالى : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ). (٢)

والشيء العجيب في هذه القصة ، وهو حفظ الطعام من الفساد والتلف الذي من عادته أن يفسد قبل فساد بدن الحمار وذهاب لحمه ودمه ، فإنّ بقاءه کل هذه المدة الطويلة يبعث في النفس حالة التأمل والتفکر ، ويدل على تدخل يد القدرة والإعجاز الإلهي فيها ، فعندما شاءت إرادته أن يبقى ، بقي على ما هو عليه کما نقل لنا القرآن الکريم ، وکان بإمکان المولى القدير أن يبقي الحمار حياً عن طريق تطويل عمره ، ولکن لحکمة ربانية اقتضت أن يکون ذلک کما کان ، وحتى يتمکن عزير أو أرميا أن يشاهد کيف تحيى الموتى أمام عينه ، وليکون آية للناس ، فهو جواب عملي وفعلي لا يقبل الشک والترديد ، وکما قال السيد العلامة في تفسير الميزان : ( الهداية إلى الحق بالاراءة والاستشهاد کما في القصة ... وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلة التي تترشح منه الحادثة أقوى من مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها ... وهي أنفى لمراتب الشبهة ) ، (٣) فکان ذلک الفعل الإلهي دليلاً حياً لجواب السائل ، حجة

ــــــــــــــــ

١. ينبغي الإشارة إلى أن التردد الذي ذکرناه هنا في الواقع راجع إلى اختلاف الروايات الناقلة لحکاية هذه القصة القرآنية.

٢. البقرة ، ٢٥٩.

٣. الميزان في تفسير القرآن ، ج ٢ ، ص ٣٦٠ ، ٣٦١.

٩٩

على باقي الناس الذين سيرون رجوعه إليهم بعد کل هذه المدة الطويلة التي استمرت مائة عام ، وعندئذٍ تنقطع السبل والحجج عن المستنکرين والمستبعدين لأمر إعادة الناس مرة أخرى ، وهو دليل حي على وقوعه بعد ثبوت إمکانه فيکون أمر المعاد ممکناً عقلاً وخارجاً ، بعد تحققه بالعيان کما جرى في أحداث هذه القصة.

وقال أيضاً : ( ... قد أبهم الله سبحانه وتعالي اسم الذي مرّ على القرية ، واسم القرية ، والقوم الذي کانوا يسکنونها ، والقوم الذي بعث هذا المار آية لهم ، کما يدل عليه قوله : ( وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ) ، (١) مع أن النسب في مقام الاستشهاد بالإشارة إلى أسمائهم ليکون أنفى للشبه ، لکن الآية وهي الإحياء بعد الموت ، وکذا أمرُ الهداية بهذا النحو من النصع لمّا کانت أمراً عظيماً ، وقد وقعت موقع الاستبعاد والاستعظام ، کان مقتضى البلاغة أن يعبر عنها المتکلم الحکيم القدير بلحن الاستهانة والاستصغار ؛ لکسر سور استبعاد المخاطب والسامعين کما أن العظماء يتکلمون عن عظائم الأمور بالتصغير والتهوين تعظيماً لمقام أنفسهم ؛ وکذلک أيضاً أبهم خصم إبراهيم ٧ في الآية السابقة ، وأبهم جهات القصة من أسماء الطيور وأسماء الجبال وغيرها في الآية اللاحقة ، وأما التصريح باسم إبراهيم ٧ فإنّ للقرآن عناية تشريف به ٧ قال تعالى : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ، (٢) وقال تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ، (٣) وبما ذکرنا من النکتة ترى أنه تعالى يذکر أمر الإحياء والإماتة في غالب الموارد من کلامه بما لا تخلو من الاستهانة والاستصغار ، قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (٤) إلى أن قال : وإنما قال : هذا القول أنى يحيي هذه القرية استعظاماً للأمر ، ولقدرة الله سبحانه من غير

ــــــــــــــــ

١. البقرة ، ٢٥٩.

٢. الأنعام ، ٨٣.

٣. الأنعام ، ٧٥.

٤. الروم ، ٢٧.

١٠٠