المعاد الجسماني

شاكر عطية الساعدي

المعاد الجسماني

المؤلف:

شاكر عطية الساعدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: صدف
الطبعة: ١
ISBN: 964-7741-72-3
الصفحات: ٢٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

بحسب الترتيب الطولي ، فهو وجود واحد ذو مراتب ، ننتزع من کل مرتبة من هذه المراتب مفهوماً يحکي لنا طبيعة ذلک الوجود الخارجي الخاص بها ، وعندئذ يمکن أن يتفق مع ما جاء به حسن زاده آملي في کتابه ( عيون مسائل النفس ) حيث قال فيه : ( اعلم أن الإنسان لما کان لسعة وجوده وکونه مظهراً من مظاهر الحق الکلية شخصاً واحداً ذا مراتب ومقامات من مرتبته النازلة العنصرية التي هي شهادته المطلقة إلى مرتبة غيبة الأحدي الإلهي ، يتصف بالأضداد وهو شخص واحد ، فله أين ومتى مثلاً کما أن له تجرد عنهما ، وهو ظاهر وباطن وغيرهما من الأسماء المتقابلة ، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه بجمعه بين الأضداد ... ) (١).

وعليه يظهر مما تقدم وغيرها من عبارات الفلاسفة والحکماء في باب معرفة الإنسان ونفسه ، أن الإنسان الواحد المحسوس ، لم يکون واحداً کما عليه في الحس ، وإنما هو کالمرکب من مجموعة حقائق ، کل واحد منها يمثل مرتبة من مراتب وجوده الخارجي ، فله وجود طبيعي ظاهر بهذا البدن العنصري المادي ، وله وجود مثالي يظهر بالجسم المثالي ، وهو برزخ بين الإنسان العقلي ، فالنفس في وحدتها کل القوى ، تظهر في مراتبها على نحو لا التجلي لا التجافي ، فلها في کل عالم من هذه العوالم الثلاثة حکم بلا تجاف ، وهذا الحکم والأمر لا يختص بالإنسان ، بل ما سواه مشترک فيه لقوله تعالى : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (٢) ، ولقوله: ( مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ... ) (٣).

الأصل الرابع : الحرکة الجوهرية

تعدّ مسألة الحرکة الجوهرية من مبتکرات الحکمة المتعالية ، بالشکل الذي طرحت به ، وبالنحو الذي استدل به على إثباتها ودفع الإشکالات الواردة عليها ، إذ لم تحظ

ــــــــــــــــ

١. حسن زاده آملى ، عيون مسائل النفس في شرح العيون ، العين ٤٤ ، ص ٥٦٣.

٢. الحجر ، ٢١.

٣. نوح ، ١٣ ، ١٤.

٦١

هذه المسألة بهذا النحو من الاهتمام والبحث کما حظيت به على يد الحکيم الکبير صدر الدين الشيرازي ، حتى قبل فيه أنه مبتکرها ، فقد عجز بعض الفلاسفة القدماء عن إثباتها ، بل يرون الحرکة فيها تلزم من تحقق الحرکة فيها تلزم من تحقق الحرکة من غير موضوع ثابت ، في الوقت الذي يعد من أهم أرکانها ، بالشکل الذي يتوافق مع تعريفهم للحرکة ، الذي جاء فيه : ( الحرکة عبارة عن خروج الشيء من القوة إلى الفعل تدريجاً ) ، (١) فقد ذکر الشيخ الرئيس في باب الحرکة الجوهرية ما هذا لفظه : ( ... أما الجوهر فإن قولنا أن فيه حرکة قول مجازي ؛ فإن هذه المقولة لا يعرض فيها الحرکة ؛ وذلک لأن الطبيعة الجوهرية إذا فسدت تفسد دفعة ، وإذا حدثت تحدث دفعة واحدة ، فلا يوجد بين قوتها الصرفة وفعلها الصرف کمال متوسط ؛ وذلک لأن الصورة الجوهرية لا تقبل الاشتداد والتنقص ؛ وذلک إذا قبل الاشتداد والتنقص لم يخلُ ، إما أن يکون الجوهر هو في وسط الاشتداد والتنقص يبقى نوعه أو لا يبقى ، فإن کان يبقى نوعه ما تغيرت الصورة الجوهرية ، بل إنّما تغير عارض للصورة فقط ، فيکون الذي کان ناقصاً فاشتد قد عدم ، والجوهر لم يعدم ، فيکون هذا استحالة ، أو غيرها لاکوناً ، وان کان الجوهر لا يبقى مع الاشتداد فيکون الاشتداد جلب جوهراً آخر ، وکذلک في کل آن يفرض للاشتداد يحدث جوهراً آخر ، ويكون الأول قد بطل ويکون بين جوهر وجوهر إمکان أنواع جوهرية على غير النهاية بالقوة کما في الکيفيات ). (٢)

ويمکننا أن نستشف من کلامه هذا ، أنه مبني على أساس ما يعتقد به الشيخ الرئيس في فلسفته من أصول موضوعة وهي :

١. عدم قبول التشکيک الخاصى بالوجود.

٢. تفسير الإدراک على أساس التقشير.

ــــــــــــــــ

١. لاحظ : العلامة محمد حسين الطباطبائي ، کتاب بداية الحکمة ، المرحلة العاشرة ، الفصل الثالث ، ص ١٥٣.

٢. الشيخ الرئيس ابن سينا ، کتاب الشفاء ، قسم الطبيعيات ، ص ٦٤.

٦٢

٣. إنّ الوجود عبارة عن حقائق بسيطة متباينة بتمام الذات ، وهو ما يصطلح عليه بالتشکيک العامي.

نظريته في تکامل النفس قائمة على أساس اللبس بعد الخلع التي يعبر عنها بنظرية الکون والفساد ، وطبيعي من يرى ذلک لا يستطيع أن يقبل الحرکة الجوهرية ، بينما من يفسر الحرکة التکاملية للنفس على أساس نظرية اللبس بعد اللبس فبسهولة تثبت عنده الحرکة الجوهرية.

وقد عرّف صدرالمتألهين الحرکة بتعريف يختلف عن تعريف الفلسفة المشائية ومن يحذو حذوهم ، فقد قال في تعريفها : ( الحرکة عبارة عن موافاة حدود بالقوة على الاتصال ) ، (١) فيکون الوصف ـ بالقوة ـ وصفاً للحدود وليس للشيء المتحرک حتى تتعلق الحرکة بالموجودات المادية دون غيرها ، وعلى هذا الأساس ـ قبول الحرکة الجوهرية ـ التي تعرض للبرهنة عليها بالأدلة القطعية والاشراقات النورية والمشاهدات العرفانية ، المؤيدة بالشرع المقدّس ، تم إثبات المعاد الجسماني للموجودات الإنسانية وغيرها ، حيث إن المتحرکات تسير في طريق استکمالها إلى مبادئها الفاعلية التي هي صور کمالية غائية لها ، ويشهد لذلک قوله تعالى : ( صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ) ، (٢) ولقوله : ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) ، (٣) فالحرکة الاستکمالية للنفس في الواقع هي عبارة أخرى عن عود النفس إلى مبدئها ، فتکون البدايات هي النهايات ، فالمعاد هو رجوع النفس إلى الحياة الذاتية ، وعندئذ تتحد المتحرکات الجوهرية بصورها الکمالية ، سواء کانت صوراً إدراکية أم غير إدراکية ، على أساس قاعدة اتحاد العاقل والمعقول ، وحينئذ تتجلى تلک البواطن ، کما قال تعالى : ( فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ، (٤) ولقوله : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا

ــــــــــــــــ

١. صدرالدين الشيرازي ، الأسفار الأربعة ، ج ٣ ، ص ٣١.

٢. الشوري ، ٥٣.

٣. البقرة ، ١٥٦.

٤. ق ، ٢٢.

٦٣

عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) ، (١) وقال تعالى : ( كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ). (٢)

٦. الفرق بين البحث الکلامي والبحث الفلسفي

إنّ مدار البحث في هذه الرسالة التي بين أيدينا يدور حول مسألة المعاد الجسماني عند بعض المتکلمين وعند بعض الحکماء والفلاسفة ، کما سيأتي الکلام مفصلاً عن وجهة نظر کل واحد منهما ، وعليه ينبغي أن نبين بصورة مجملة أهم هذه الفروق التي يمکن مشاهدتها بين البحثين الکلامي والفلسفي ، وسيأتي فيما بعد بيان الأسلوب المتبع من قبل کل واحد منهما في بداية بحثه عن مسألة المعاد الجسماني في الفصل الذي خُصص له ، وفيما يلي ذکر هذه الفروق :

أولاً : من حيث الهدف

ولا يخفى علينا هذا الأمر ؛ إذ أن الهدف من البحث الکلامي هو إثبات مسائل موضوعِهِ ، بشکل يؤدي إلى الإقناع والتبکيت للمقابل ، بينما الهدف من البحث الفلسفي هو الکشف عن الحقيقة والواقع ، وتمييز ما هو حق عما هو باطل ، على أساس محکم ومتقن.

ثانيا : من حيث الطريقة والأسلوب المتبع

إنّ الأسلوب المتبع في الأبحاث الکلامية لإثبات مسألة ما ، هو الأسلوب والطريقة الجدلية في بعض الأحيان ، نعم قد يستفيد الباحث الکلامي من البراهين والأقيسة البرهانية ، ولکن المشهور عنهما هو هذا اللون من الأساليب ، وهذا لا يعني النفي لاستخدامهم الأساليب والأقيسة المنطقية ، والأسلوب الجدلي کما هو معروف يعتمد فيه على مجموعة من المسلمات عن الخصم ، بينما الأسلوب الفلسفي هو الأسلوب البرهاني والاستدلال العقلي القائم على أساس المقدمات اليقينية.

ــــــــــــــــ

١. آل عمران ، ٣٠.

٢. الإسراء ، ١٤.

٦٤

ثالثاً : من حيث الوظيفة

إنّ وظيفة البحث الکلامي هي :

أولاً : البحث عن الموجود المطلق على أساس الشرع.

ثانياً : القيام بوظيفة الدفاع عن الدين عن طريق رفض المزاعم والشبهات المفروضة من قبل الخصم ، وإثبات المزاعم الشرعية له.

ثالثاً : وينبغي أن ننبه إلى أنّ هناک وظيفة ثالثة يجب أن يقوم بها الباحث الکلامي وإن لم تکن متحققة بالشکل المطلوب ، وهي الهجوم على الخصم بطرح مجموعة إشکالات وقضايا يطلب حلها وإثباتها من قبل الخصم ، ولا يقتصر فقط على الدفاع دون الهجوم.

بينما نجد الفلسفة تجعل من موضوعها الوجود المطلق ومسائله وأحکامه العامة ، يعني الوجود بما هو هو ، ومن هنا نستکشف أن النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه ؛ لأن الکلام يشارک الفلسفة في الموضوع وبعض المسائل ، ويخالفها في بعض المسائل.

وهناک سؤال يطرح نفسه ، وهو : هل هناک فرق بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة العامة ؟

الجواب : نعم يوجد فرق ينبغي الالتفات إليه ، وأخذه بنظر الاعتبار ، وهو أن الفلسفة الإسلامية تفترق مع الفلسفة العامة في بعض الأسس والمباني ، منها أن الفلسفة الإسلامية تارة تعتمد في بعض مسائلها على ما يطرحه المعصوم : على أنه أمر يقيني ؛ على أساس الإيمان المسبق بصدق المعصوم ٧ في أقواله وأفکاره ، فما يصدر عنه هو عين الواقع ، وعليه فإننا نأخذه ونجعله مقدمة للبرهان والقياس المنطقي ، وعليه تکون النتيجة مأخوذة من مقدمات يقينية ، بينما هذا اللون من التفکير تفتقر إليه الفلسفة العامة في إثبات قضاياها ، وإنما هو مختص فقط بالفلسفة الإسلامية ، نعم هي تتفق مع الفلسفة العامة من حيث الهدف والوظيفة ، ولکن قد

٦٥

تفترق معها من حيث الطريق للوصول إلى إثبات الواقع ، وعلى هذا الأساس تعددت المدارس الفلسفية الإسلامية إلى مشائية وإشراقية وحکمة متعالية.

خلاصة الکلام

يمکننا أن نلخص ما تقدّم من أبحاث في الفصل السابق في النقاط التالية :

أولاً : أتضح لنا من أبحاث المسألة الأولى التي تعلق البحث فيها بالتعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي لکلمة المعاد ، أن الأصل اللغوي لهذه الکلمة هو المرجع والمصير ، على وزن مفعل ، أي معود ، مأخوذ من العود ، يطلق على المعنى المصدري فيعني العود والرجوع ، وعلى زمان العود ، فيکون اسم زمان ، کما يطلق على مکان العود ، فيکون اسم مکان ، هذا فيما إذا أُخِذَ بالفتح ، وأما لو أُخِذَ بالضم ، فإنه يراد به نفس الشيء الذي يقع متعلقاً للرجوع والعود ، وهذا هو محل تعلق بحثنا في هذه الأطروحة.

وأما بالنسبة لتعريف المعاد في الاصطلاح الفلسفي والکلامي ، فإنه تابع في الأصل إلى ما يتبناه المتکلم والفيلسوف من رأي في هذه المسألة ، فالشيخ الرئيس عرفه بتعريف يتناسب مع مبناه الفلسفي في تحقيق المسائل ويختلف عمّا انتهى إليه من رأي في هذه المسألة بالذات ، فتعريفه يتفق مع القول بالمعاد الروحاني دون المعاد الجسماني الذي قال به في نهاية البحث ، تعبداً بالشرع المقدّس ، فقال فيه : ( إنه الحال الذي کان عليه الشيء فيه ، فباينه ، فعاد إليه ، ثم نقل إلى الحالة الأولى أو إلى الوضع الأول الذي يصير إليه الإنسان بعد الموت وانفصل عنه قبل الحياة الأخرى ) ، (١) وبالتدبر والتأمل في هذا الکلام نجده يتناسب مع القول بأن المعاد روحاني فقط ، وهو ما توصل إليه عن طريق البحث العقلي دون البحث الشرعي.

ــــــــــــــــ

١. لاحظ : د. عاطف العراقي ، النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد ، بهامش ص ٢٩٣.

٦٦

وأما الخواجة نصير الدين الطوسي فقد ذهب في تعريفه للمعاد بأنه : إعادة للأجزاء الأصلية ، أو هي مع النفس المجردة ، (١) بينما يرى الغزالي أنّ المعاد يکون للنفس المجردة مع أي بدن کان ، من مادته الأولى أو من مادة أخرى ، مادام الشرع أجاز ذلک ، (٢) فلا تناسخ في البين هذا بحسب تعبيره وقد بيّنا الکلام عنه مفصلاً في محله ، أي عند البحث في التناسخ وأقسامه وأدلة بطلانه ، فراجع ، بينما عرفه صدرالمتألهين بالشکل الذي يتناسب مع ما توصل إليه من نظر في مسألة المعاد الجسماني ، (٣) وسيأتي الکلام عنه مفصلاً في الفصل السادس ، فارتقب.

ثانياً : فمن خلال ما تقدم من أبحاث في مسألة المعاد عبر التاريخ البشري ، والذي تم التحدث فيه عن تصورات الأقوام والديانات القديمة التي سبقت المجتمع والدين الإسلامي ، فقد توصلنا فيه إلى أن جميع الأقوام والمجتمعات القديمة ، کالمجتمع البدائي الصحراوي والمجتمع المصري والمجتمع الهندي ، کانت جميعها تؤمن بوجود معاد جسماني يحصل بعد الموت مع اختلاف في تصوير کيفية ذلک ، فقد صورهُ بعضهم بتصويرات تتفق مع القول بالتناسخ الملکي الباطل ، وبعض يراه جسمانياً في عالم آخر ، وقد بيّنا في الأبحاث السابقة أن هذا الاختلاف قد يکون سببه نتيجة الخلط الحاصل بين ما وصل إليهم من خبر السماء عن المعاد وکيفيته مع أوهام وخرافات بشرية ، ولکن النتيجة التي انتهت إليها هذه الأقوام تکشف عن وجود أثر السماء فيها ، وأما بالنسبة إلى نظر الديانات القديمة التي تحدثنا عنها في هذه المسألة ، فإنها هي الأخرى قد ذهب أغلبها إلى القول بجسمانية المعاد ، عدا فرقة صغيرة من اليهود کانت لا تؤمن بالمعاد الأخروى ، بل کانت تراه معاداً اجتماعياً دنيوياً خاصاً بقوم اليهود الذين ذلوا وشردوا في البلدان ، وهي فرقة

ــــــــــــــــ

١. العلامة الحلي ، کشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، قسم الإلهيات ، تحقيق الشيخ جعفر السبحاني ، ص ٢٥٩.

٢. محمد الغزالي ، تهافت الفلاسفة ، ص ٢٤٣.

٣. صدرالدين الشيرازي ، مفاتيح الغيب ، المفتاح ١٢ ، المشهد ٧ ، ص ٢٩٨.

٦٧

الصدوقيين ، ودليلهم على ذلک عدم وجود نص صريح في التوراة المکتوبة عليه ، وقد تقدم البحث مفصلاً عنه ذلک في محله ، فراجع ، وکذا من جملة القائلين بروحانية المعاد هم المسيحيون ؛ باعتبار أن النصوص الإنجيلية في الأناجيل الأربعة تتحدث عنه بالکيفية الروحانية دون الجسمانية ، کما مرّ بيانه سابقاً ، والسبب في ذلک کله يعود إلى تلاعب الأيدي في تغيير وتبديل النصوص الشرعية بعد رحيل أنبيائهم : ، وإلاّ فلو رجعنا إلى الفطرة الإنسانية والنصوص القرآنية فإنا نجدها تنص على جسمانية المعاد الأُخروي ، کما سيأتي البحث عنه مفصلاً في الفصل الثاني ، فانتظر.

ثالثاً : وهو ما يتعلق في بحث حقيقة النفس الإنسانية التي حارت العقول وتاهت الأفکار في معرفة کنهها وحقيقتها ، وتضاربت الآراء والنظريات فيها ، وقد نقل لنا السيد نعمة الله الجزائري قولهم فيها : ( قالوا : إنها معلومة الوجود مجهولة الکيفية ، فکما أن الربَّ غير مدرک لنا لتعالي حده ، کذلک کيفيتها غير معلومة لنا لتداني حدها ، فعلي هذا قال أمير المؤمنين : « من عرف نفسه فقد عرف ربَّه » من باب تعليق المحال على المحال ). (١)

وقد تبين لنا من خلال البحث في ذلک التفاوت والاختلاف في الآراء ، فقد ذهب أغلب المحدّثين إلى القول بجسمانيتها اعتماداً على ظاهر بعض الأخبار ، ومنهم المحدث المجلسي صاحب کتاب بحار الأنوار ، (٢) کما ذهب إلى هذا القول بعض متکلمي السنة نذکر البعض منهم ، وهو النظام ، (٣) والجويني ، (٤) وابن الإخشيد ، (٥) وأما القول بتجردها عن المادة ، فقد ذهب إليه جملة الفلاسفة والحکماء السابقين

ــــــــــــــــ

١. السيد نعمة الله الجزائري ، نور البراهين ، ج ٢ ، ص ٤٠٢.

٢. بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١٠٣.

٣. نقلاً عن : الشيخ الطريحي ، مجمع البحرين ، ج ١ ، ص ١٢١.

٤. أبوالمعالي عبدالملک الجويني ، کتاب الإرشاد ، ص ٣١٨.

٥. نقلاً عن بحار الأنوار ، ج ٥٨ ص ٩٤.

٦٨

والمتأخرين ، مع تفاوت في بعض مراتبها وقواها ، فقد ذهب بعضهم إلى عدم تجردها والبعض الآخر إلى تجردها کما بينا ذلک في محله ، کما ذهب إلى هذا الرأي بعض متکلمي الإسلام ، وأما مفسرو الإسلام فقد ذهب أغلبهم إلى القول بتجردها اعتماداً على جملة من الآيات الشريفة الصريحة فيه ، ويکاد يکون هذا القول محل اتفاق بينهم.

رابعاً : ما يتعلق ببحث الأصول الموضوعة لهذه المسألة ، فقد ذکرنا منها أربعة أصول وکانت نتيجتها ، أن النفس جوهر مجرد ، لا تفسد بفساد البدن العنصري الدنيوي ، وأنها تشکل الجنبة الثالثة في الإنسان بالإضافة إلى الجنبتين الأُخريين وهما الجسم الطبيعي العنصري والجسم المثالي ، وتارة يعبر عنها بالروح ، فيقال إن للإنسان جسماً طبيعياً وجسماً مثالياً وروحاً مجردة ، وأنها قابلة للتکامل الصعودي عن طريق الحرکة الجوهرية التکاملية الاشتدادية التي قال بها صدرالمتألهين ، کل ذلک تم بيانه في المسألة الخامسة من هذا الفصل ، فراجع.

خامساً : وأخيراً فيما يتعلق بمسألة الفرق بين البحث الکلامي والبحث الفلسفي في تحقيق المسائل المعرفية ، فقد أتضح لنا أنه هناک فرق بين البحث الکلامي والبحث الفلسفي من ثلاثة جهات ؛ الجهة الأولى : من حيث الهدف ، وقد تبين لنا أن هدف الفلسفة هو الکشف عن الحقيقة والواقع وتمييز الحق عن الباطل وهدف الکلام هو الإقناع والتبکيت للمقابل ، والجهة الثانية : من حيث الطريقة والأسلوب ، وتبين لنا أنه في الفلسفة يتم عن طريق إقامة البراهين والأقيسة المنطقية ، وفي الکلام عن طريق الجدل والبرهان العقلي في بعض الأحيان ، وأما الجهة الثالثة : من حيث الوظيفة ، فوظيفة الکلام هي البحث عن الموجود المطلق على أساس الشرع ، والدفاع عن الدين عن طريق رفض المزاعم وردّ الشبهات وإثبات المزاعم الشرعية له ، وأما وظيفة الفلسفة فإنها تجعل من الموجود المطلق وأحکامه العامة موضوعاً لدراستها ، وعليه فالنسبة بين الوظيفتين العموم والخصوص من وجه.

٦٩
٧٠

٢

المعاد الجسماني في القرآن الکريم

تمهيد

يعد القرآن الکريم المنبع الأساس والمرجع الأصلي لجميع المسلمين ، ولقد حُفِظَ عن التحريف والتغير والتبدل ، ولم يذهب أحدٌ من علماء المسلمين المعروفين إلى القول بالتحريف ، (١) لقوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ، (٢) ولقد أولى القرآن الکريم الاهتمام بمسألتين بشکل خاص وملموس ، وهما مسألة المبدأ والمعاد ، فقد أنزل في المعاد ما يقارب أکثر من ألفين آية شريفة ، أي ما يعادل ثلث القرآن الکريم ، ولم يولِ اهتماماً بهذا المستوي في المسائل الأخرى من مسائل الدين الإسلامي ، سوى مسألة التوحيد التي کانت منطلق الدعوة الإسلامية الأولى ، کما أننا لم نرَ ولم نسمع من قَبلُ في الديانات الإلهية والسماوية اهتماماً بها مثلما جاء في الذکر الحکيم والفرقان المبين ، وقد يعود السبب في ذلک لجملة أسباب منها ما يلي :

ــــــــــــــــ

١. نعم توجد بعض الأقوال الضعيفة تقول بذلک ، مستندة في ذلک على روايات ضعيفة لم تنهض بالمطلوب ، وقد ناقشها واثبت بطلانها علماؤنا بالأدلة القطعية التي لا يشوبها شک ولا ترديد ، وعليه فلا يعتني بمثل هذه الأقوال لعدم ثبوت أدلتها سنداً ومتناً.

٢. الحجر ، ٩.

٧١

أولاً : إنّ الرسالة المحمدية هي خاتمة الرسائل السماوية ، وعليه فينبغي عليها أن تکشف الحجاب عن کل مستور.

ثانياً : إنّ أمة محمد ٩ هي آخر الأمم الوارثة لعلوم الأمم السابقة ، وينبغي عليها أن تصل إلى کمالها المطلوب لها ، بل يجب أن تصل إلى أعلى مراتب الکمال الإلهي ، وهذا يتوقف أولاً على معرفة الواقع بشکل جلي ، وثانياً على تطبيق ما علمته ، بعبارة أخرى : يجب أن تکون لديها نظرة کونية دينية شاملة للعالم بما فيه من مراتب وجودية ، وعندئذ ينعکس هذا الأمر على أيدلوجيتها التي ينبغي القيام بها. ولا يتحقق هذا الأمر مع وجود بعض المعارف المجهولة عن ما يتعلق بشأن من شؤون الإنسان.

ثالثاً : إنّ غرض القرآن الکريم من عرض هذه الأمور وتعريفها للمسلمين ليس فقط تحقيق السعادة الأخروية ، بل ما لم تتحقق للمسلم السعادة الدنيوية الواقعية التي سعى الإسلام لإيجادها للفرد المسلم لا تتحقق السعادة الأخروية ، ولا تتحقق السعادة الدنيوية للإنسان ما لم يتحرر من قيوده بشکل عام ، ومنها قيود الشهوة والغضب والرغبات النفسية ، ولا يتحقق هذا الأمر إلا من خلال الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ، ومسألة المعاد تفصح عن ذلک ، فهي خير باعث إلى فعل الخير والصلاح وأحسن رادعٍ عن المعصية والفساد.

رابعاً : باعتبار دورها الکبير في تهذيب النفس الإنسانية وتربيتها التربية الصحيحة ، وبناء الشخصية الإسلامية بالشکل الذي يوافق حرکتها الجوهرية التکاملية للوصول إلى کمالها المنشود الذي يتناسب مع مرتبة التوحيد المطروحة في الدين الإسلامي ، کما جاء في قوله تعالى : ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ ) (١) وقوله تعالى : ( قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ). (٢)

ففي الوقت الذي أولى فيه القرآن الکريم الاهتمام الکبير بهذه المسألة ، فأنا لا نجد في المقابل اهتماماً کهذا من قبل علماء المسلمين ، بل کل ما کتب فيها لا يتعدى

ــــــــــــــــ

١. الإخلاص ، ١ ، ٢.

٢. النجم ، ٩.

٧٢

بعض الأسطر ، أو بعض الصفحات ، في الوقت الذي يجب عليهم أن يبحثوا فيها بالمقدار الذي يتناسب مع عظمها وخطورتها ، نعم نحن لا ننکر ما کتب فيها من أبحاث تفسيرية ، أو روائية ، أو أبحاث کلامية ، وفلسفية ، إلا أن أغلبها مبني على التسليم بما جاء به الشرع المقدّس ، من دون بذل الجهد المطلوب في تحقيقها وبحثها على أساس البرهان العقلي ، والاستدلال المنطقي ، سوى بعض العلماء المعدودين بالأصابع ، ولم يوفق أکثرهم في إثباتها بالشکل الذي طرحه القرآن الکريم ، ما عدا صدر الأعاظم صدرالمتألهين ، الذي توصل إلى إثبات عقلانيته ، بناءً على مجموعة أصول فلسفية قد تبناها في فلسفته ، وسيأتي الکلام عن ذلک مفصلاً فيما بعد.

وقد يعود الأمر في ذلک إلى جملة أسباب کالأمور التالية :

الأول : الاتکال على ما جاء به الشرع المقدّس مفصلاً. والإحساس بعدم الفائدة من تکرار البحث فيها ، خصوصاً عند احتمال عدم الإتيان بأکثر مما جاء به الشرع.

الثاني : طبيعة التسليم بالشرع المقدّس تقتضي عدم السؤال عما جاء به ، والبحث وراءه.

الثالث : غيبية هذه المسألة باعتبار أنها تتعلق بالمستقبل ، والعقل لا يدرک ما هو خارج دائرته ومجال حکمه ؛ لأن المطلوب منه الحکم التام بما يتعلق بکل خصوصياتها بنحو التفصيل ، وهذا مما هو خارج عن مجال حکمه.

الرابع : جزئية المسألة ، باعتبار أن البحث عن کيفية المعاد تخرجه عن مورد حکم العقل ؛ لأن دائرة حکم العقل الأمور الکلية لا الجزئية.

الخامس : الانشغال بالمسائل الخلاقية کمسألة الإمامة ، والدفاع عن الدين الإسلامي من خلال دفع الشبهات والإيرادات الواردة عليه من الداخل والخارج والتي من أعظمها ما يتعلق بالتوحيد والنبوة الخاصة والإمامة.

السادس : الانشغال بالأبحاث الفقيهة والأصولية ، باعتبار أنها مورد الحاجة

٧٣

الوقتية ، وعلاقتها المباشرة بتعين ما هو واجب على المکلف.

السابع : صعوبة المسألة يبعث في النفس اليأس من تحقيقها وبحثها بالشکل المطلوب.

الثامن : الفرار من وصمة التفکير فيما لو أدى البحث فيها إلى مخالفة ما جاء به الشرع المقدّس من حيث الکيفية.

التاسع : عدم معرفة حقيقة النفس الإنسانية بالشکل التام للجميع قواها ومراتبها الوجودية ، في الوقت الذي تشکل أهم جزء تقوم عليه مسألة تحقق المعاد الجسماني.

هذه وغيرها من الأسباب التي قد غابت عنا ، کانت السبب الرئيسي وراء عدم بحث هذه المسألة بالشکل المطلوب من قبل علماء الإسلام قاطبة.

ولا يفوتنا أن نبين : أن هذه الأسباب لا تصلح أن تکون المانع ، أو المبرر لعلماء الإسلام عن بحث المسألة على أساس المنطق العقلي ، خصوصاً وأنها من أمهات المسائل الأصولية العقائدية التي لها الدور الکبير في تحقق مسألة الأيمان بالنبوة والإمامة الإلهية التي عليها مذهب الأمامية الاثني عشرية هذا من جهة ، ومن جهة أخرى أن ما جاء فيها في القرآن الکريم لم يکن له مثيل في الديانات السماوية الأخرى ، کماً وکيفاً ، ولقد تناولت الآيات الشريفة مسألة المعاد في اليوم الآخر من عدة جوانب ، فمن جانب بينت مقدمات الحشر والقيام في المحشر للحساب ، ومنها النفخ في الصور ، وخروج الناس من القبور ، والکيفية التي يخرجون بها من قبورهم واجداثهم ، والفزع الذي يصيبهم من شدة الخوف من الحساب الذي ينتظرهم ، وحالات الصعق التي تحل بهم في تلک الساعة ، ونوع الحساب والجزء الذي ينالونه ، حالات الجثي ، وانکشاف البواطن والأسرار ، ومد الصراط ، وکيفية المرور عليه وعقباته التي يحسبون عندها ويحاسبون فيها على الصغيرة والکبيرة ، اختلاف حال الکافرين عن حال المؤمنين فيه ، حقيقتة الجنان وما تحتويه من قرة أعين للمؤمنين ، وحقيقة النيران وما تکمنه للکافرين ، طبيعة ارض المحشر وسماء

٧٤

الآخرة ، ... وغيرها من التفاصيل التي تجري في اليوم الآخر ، فلم تترک شيئاً يتعلق به إلا بينته بشکل مفصل ، ولم يعهد هذا اللون من البيان في الشرائع السابقة.

وسوف نقتصر في بحثنا القرآني حول هذه المسألة على بحث ضرورتها وإمکانها ، بالشکل الذي يتناسب مع هدفنا من طرح موضوع هذه الأطروحة الرسالة فلذا سيکون بحثناً نوعاً ما استطرادياً ؛ لأننا خصصنا هذه الرسالة للبحث عنها عند فيلسوفَين ومتکلمَين من فلاسفة ومتکلمي الإسلام ، وهم ابن سينا ، وصدرالمتألهين ، وأبو حامد محمد الغزالي ، والخواجة نصير الدين الطوسي ، وسنبدأ البحث أولاً في مسألة ضرورة المعاد على أساس المنهج العقلي المستنبط من بعض آيات الذکر الحکيم ، ثم بعد ذلک نشرع في مسألة إمکان المعاد من وجهة نظر القرآن الکريم.

١. في إثبات ضرورة المعاد

مسألة المعاد الجسماني في القرآن الکريم بالشکل الذي يصلح أن يصاغ منها أقيسة منطقية وبراهين عقلية کما سيأتي بيانه فيما بعد عبر عنها القرآن بالحق ، کما جاء في قوله تعالى : ( ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الحَقُّ ) ، (١) وقوله : ( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ) ، (٢) فهي الساعة التي يکشف فيها الغطاء ويکون البصر فيها حديد ، لقوله تعالى : ( فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ، (٣) ولکن حال الناس کما وصفهم الذکر الحکيم في قوله : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) ، (٤) فبالتأمل والتدبر في القرآن الکريم نقف على جملة من الآيات الشريفة التي تصلح أن تکون في الواقع برهاناً قاطعاً ونوراً ساطعاً يورث المتدبر والمتأمل اليقين والاطمئنان بضرورة المعاد في اليوم الآخر ، خصوصاً وأن القرآن الکريم قد تعرض لبيان جميع ما يتعلق بمسألة المعاد الجسماني بشکلٍ لم يکن له نظير في الکتب السماوية السابقة ، کالتوراة والأناجيل وغيرها من الصحف والزبور ، فعند تلاوتنا لآية الشريفة نجد أن القرآن

ــــــــــــــــ

١. النبأ ، ٣٩.

٢. الحج ، ٧.

٣. ق ، ٢٢.

٤. سبأ ، ١٣.

٧٥

الکريم قد طرحها بأشکال وأساليب مختلفة ، واحد منها الأسلوب المنطقي العقلي ، فيما لو قمنا بترتيب آياته على النحو المألوف في القياسات المنطقية ، وسوف نتعرض لبعض هذه الأدلة التي يمکن فهرستها بالنحو التالي :

١. دليل الفطرة : الذي ورد في مجموعة من الآيات ومنها سورة الروم الآية (٢٠) ، وسورة القيامة الآيات (٣١).

٢. دليل الحکمة : الذي ورد في مجموعة أخرى ومنها سورة المؤمنون الآية (١١٥) ، وسورة الحجر الآية (٨) ، وسورة القيامة الآيات (٣٦ و ٤٠).

٣. دليل الوحدة : الذي ورد في مجموعة من السور ومنها : سورة النحل الآيتان (٣٧ و ٣٨) ، وسورة الأنعام الآية (١٦٤) ، وسورة يونس الآية (٩٣) ، وسورة الحج الآيتان (١٧ و ٦٩).

٤. دليل العدالة : الذي ورد في مجموعة من سور القرآن ومنها سورة القلم الآيتان (٣٥ و ٣٦) ، وسورة ص الآية (٢٥) ، وسورة الجاثية الآيتان ( ٢١ و ٢٢).

٥. دليل الحرکة والهدف : الذي ورد في مجموعة من السور ومنها سورة الانشقاق الآية (٦) ، وسورة فاطر الآية (١٨) ، وسورة البقرة الآية (١٥٦) ، وسورة القيامة الآيتان (١٢ و ٣٠).

٦. دليل الرحمة : الذي ورد في مجموعة من السور ومنها : سورة الأنعام الآية (١٢).

٧. دليل بقاء الروح : الذي ورد في مجموعة من السور ومنها : سورة آل عمران الآية (١٦٩) ، وسورة البقرة الآية (١٥٤) ، وسورة المؤمن الآية (٤٦) ، وسورة السجدة الآية (١١) ، وسورة الزمر الآية (٤٢).

وينبغي علينا أن نلتفت نظر القارئ أولاً : إلى أنّ مسألة ذکر السور والآيات لم يبتنِ على أساس الحصر العقلي ، ولا على أساس الاستقراء التام لجميع آيات الذکر الحکيم ، بل کان على أساس أوضح المصاديق لها ، وثانياً : نحن لا ندعي عدم وجود آيات أخرى لها ارتباط مع ما ذکرناه من عناوين لمجموعة هذه الأدلة آنفة الذکر

٧٦

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لا يکون بحثنا القادم متعلقاً بجميع هذه الأدلة ، بل سيکون بخصوص بعض هذه الأدلة ؛ لأن أکثرها لا يخلو من الأشکال ولا يدل على المطلوب بصورة تامة ، ولذا رأينا أن نبين ثلاثة منها وهي کما يلي :

١. دليل الحکمة ؛

٢. دليل العدالة ؛

٣. دليل الحرکة.

وسوف نتناول هذه الأدلة الثلاثة بنحو من التفصيل في الأبحاث اللاحقة على أساس المنهج المنطقي العقلي ، ولکن نود أن نشير لکم أننا لا نزکي أنفسنا من الخطأ والاشتباه في تبيين هذا الأمر العظيم ، ويجب أن يلتفت إلى أن ثمرة ونتيجة کل دليل رهينة بمقدار حده الأوسط ، کما سيأتي بيان ذلک في نهاية کل دليل.

الدليل الأول : دليل الحکمة

الإلهية لقد ورد في القرآن الکريم قوله تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) ، (١) وقوله أيضاً : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ) ، (٢) وقوله تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) ، (٣) وقوله : ( مَا نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ ) ، (٤) وغيرها.

وقبل تقرير البرهان المستفاد من جملة هذه الآيات الشريفة ، ينبغي لنا أن نذکر مقدمة قصيرة لها علاقة بتقرير البرهان الآتي ذکره فيما بعد ، وهي :

إنّ الله ليس له هدف فاعل ، بل له هدف فعل.

وإنّ الله لا يصدر منه عمل بلا هدف.

ــــــــــــــــ

١. المؤمنون ، ١١٥ ، ١١٦.

٢. الأنبياء ، ١٦ ، ١٧.

٣. ص ، ٢٧.

٤. الحجر ، ٨.

٧٧

بمعنى أن الفاعل ليس له هدف مع أن الهدف ضروري لفعله ، أي أن الله ليس له مقصد مع أن وجود المقصد للعالم ضروري ؛ لأن فرض کون المولى له مقصد من ذلک ، بمعنى أن يکون مقصد فاعل لا فعل ، يلزم أن يکون الفاعل فاقداً لکمال ما يريد تحقيقه من وراء فعله هذا ، ولکن فعله لا يخلو عن هدف وغرض وإلاّ للزم أن يکون عبثياً ولهوياً ، وتعالى الله عن ذلک علواً کبيراً ، وهذا أصل قرآني قد عبر عنه الحکيم بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) ، (١) وبقوله : ( إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ). (٢)

فالذي نستفيده من جملة هذه الآيات وغيرها من آيات الذکر الحکيم أن لله في خلق السموات والأرض وما بينهما وما فوقهما وما تحتهما هدفاً ومقصداً ، وهذا الهدف والمقصد هو هدف فعل لا هدف فاعل ؛ لأنّه في الأول لا يعود بالفائدة على الفاعل ، على عکس الثاني الذي يتنافي مع کونه غنياً بالذات غير محتاج إلى غيره. وأما الأمر الثاني الذي قلنا فيه إن الله حکيم لا يصدر منه فعل بلا هدف ؛ لأنه مقتضى حکمته ، فالحکيم لا يفعل فعلاً بلا هدف ولا فائدة ، وإلاّ فلا يكون ذلك الفعل صادراً عن فاعل قاصد وحكيم ، وهو خلاف الفرض أنه حکيم ، ولذا قال عزّ وجل : ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) ، (٣) أي أنّه خلق الجن والإنس للعبادة ليصلوا إلى کمالهم.

فهذان المعنيان أشارت لهما الآيات الشريفة التي ذکرناها في بداية البحث عن دليل الحکمة الإلهية من وراء خلق السموات والأرض وما بينهما والإنسان ، وقد وصفه المولى بعدم العبث وعدم اللعب من وراء ذلک ، وبطلان کل من کان هکذا وصفه ، وهذا خلاف تصور البعض عن نهاية الإنسان والعالم ، إذ يعدانهما محصورين بهذا العالم الدنيوي فقط من دون أن يکون وراءه شيء آخر ، فيقولون لا معاد ولا رجوع ، وقد کذبهم القرآن الکريم بقوله : ( ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ

ــــــــــــــــ

١. فاطر ، ١٥.

٢. العنکبوت ، ٦.

٣. الذاريات ، ٥٦.

٧٨

النَّارِ ) ، (١) مع أنه عدّ الدنيا لعباً ولهواً وزينةً تفاخراً بالأولادِ والأموالِ ، کما جاء في قوله تعالى : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ ) ، (٢) وکما هو معلوم « أنّما » تفيد الحصر ، فکيف يحصر ما هو مزرعة الآخرة باللعب واللهو و ... ، من دون أن تلحظ جهته الثانية ؟.

وقد أجاب بعضهم عن هذا التساؤل والاعتراض ، کما جاء في کتاب المعاد والقيامة للشيخ جوادي آملي : ( لا يعني بهذا أن موجودات عالم الدنيا لعب ولهو وليس لها هدف مخصوص ، بل کل هذه هي آيات إلهية وعلامة الأسرار الإلهية ، والدنيا تلک العقود الاعتبارية الخاصة التي لتنظيم الأمور الحياتية ؛ من يکون رئيساً ، ومن يکون عضواً ، لمن يکون هذا المال ، کيف تصير ملاکاً ؟ وکيف ننقله ... إلى أن قال : فهذه من العناوين والمقررات الاعتبارية للدينا ). (٣)

ويمکن أن يقال أو يعبر عن دنيا الإنسان بمعنى آخر ، وهو أن يتخذ موجودات هذا العالم الذي سخره الله تعالى له غايات لا وسائل يتوسل بها للوصول إلى الحق تعالى اسمه ، فيجثو عابداً فيصبح ويمسي ساجداً خاضعاً لها ، منهمکاً في طلبها ، عاکفاً عليها ، مشغولاً بها عن الحق تعالى ، فيکون أکبر همه الدنيا بما فيها من موجودات إمکانية فانية حقيرة ، يظن أنها باقية دائمة مستمرة ، فيذهب عمره في طلبها ، فلا هو باقياً لها ولا هي باقية له ، فيخرج منها مقهوراً آسفاً عليها تارکاً لها ، لم يأخذ معه شيئاً منها سوى حسراتٍ وآهاتٍ وأناتٍ ، يدعو على نفسه بالويلِ والثبورِ ، ويقول : يا ليتني قدمت لحياتي شيئاً ، يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ، يا ليتني کنت تراباً ، يا ليتني کنت نسياً منسياً ، وعندئذ لا فائدة من جميع ذلک.

وبعد أن أصبح المراد واضحاً من المعنيين الماضيين ، نعود ثانية لإيفاء الوعد ، وذلک بتقرير البرهان المستنبط من جملة هذه الآيات السابقة الذکر على النهج المنطقي العقلي ، إليک التقرير :

ــــــــــــــــ

١. ص ، ٢٧.

٢. الحديد ، ٢٠.

٣. ص ٢٥٤.

٧٩

المقدمة الأولى :أن الله تعالى حکيم.

المقدمة الثانية : وکل حکيم لا يصدر منه فعل باطل ، بلا فائدة وبلا هدف.

النتيجة : إنّ الله تعالى لا يصدر منه فعل باطل وبلا فائدة وبلا هدف.

نقول : لو لم يکن للعالم هدف وفائدة ومقصد لکان باطلاً ولغواً ولهواً ولعباً.

والتالي باطل ، فالمقدم مثله ، وإذا بطل الأصل ثبت عکسه.

وجه البطلان : أنّ العالم فعل الله ، والله لا يصدر منه الباطل ؛ لأنّه خلاف کونه حکيماً ، وقد ثبت ذلک في البرهان.

وجه الملازمة : باعتبار إنّ الأمر دائر بين النفي والإثبات على أساس الحصر العقلي ، يعني أما أن يکون له قصد وهدف منه ، وهو فعل الحکيم ، أو لا يکون ذلک ، وهو فعل غير الحکيم.

النتيجة : إذن للعالم هدف وفائدة ومقصد ، فلابد إذاً أن يصل إليه ، والحال أنه في عالم الدنيا لم يصل إليه ، فلابد أن يکون هناک عالم آخر ونشأة أخرى يمکن أن يحصل فيه على هدفه ومقصده المطلوب له ، والمخلوق لأجله ، وهو عالم الآخرة ، واليوم الذي يمکن أن يصل فيه ويحصل على مقصده هو يوم القيامة ويوم البعث والحشر إلى الله سبحانه وتعالى ، کما قال عنه تعالى : ( ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الحَقُّ ) ، (١) ( إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ) ، (٢) ( إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ ). (٣)

وجه تقدمه : باعتبار إنّ هذا الدليل من أحکم الأدلة على إثبات ضرورة المعاد ويوم القيامة ، فلذا نحن صدّرنا به البحث عن مسألة ضرورة المعاد في القرآن الکريم.

الدليل الثاني : دليل العدالة الإلهية

وکما هي عادتنا أن نصدّر البحث عن کل دليل بمجموعة آياته المشيرة إليه ، ثم بعد ذلک تصل النوبة إلى تقرير کل واحد من هذه الأدلة على أساس المنهج العقلي

ــــــــــــــــ

١. النبأ ، ٣٩.

٢. الشوري ، ٥٣.

٣. القيامة ، ١٢.

٨٠