المعاد الجسماني

شاكر عطية الساعدي

المعاد الجسماني

المؤلف:

شاكر عطية الساعدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: صدف
الطبعة: ١
ISBN: 964-7741-72-3
الصفحات: ٢٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الالتزام بالتکاليف الشرعية المنوطة من قبل الله تعالى ، والشاهد على ذلک ما ورد في القرآن الکريم ، کقوله تعالى : ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) (١) کذلک قوله تعالى في حکاية لسان السحرة الذين آمنوا بدين ورسالة موسى ) : ( قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَىٰ * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ ). (٢)

ويمکن أن يقال : إن خفاء مثل هذه الحقيقة الأساسية في واحدة من الرسالات السماوية ، دليل واضح لا يقبل الشک والترديد في تدخل اليد البشرية في صياغة عبارات التوراة التي کتبت بعد موسى ٧ ومما لحقها من التحريف والتغيير والتبديل في حقيقتها على أساس ما يوافق شهواتهم ونزواتهم وميولاتهم ورغباتهم النفسية ، وإلاّ کيف يمکن لنا أن نقبل رسالة سماوية تنسب الزنا وارتکاب الموبقات التي يستقبحها عوام الناس فضلا عن علمائها وأنبيائها ، کما جاء في بعض نصوصها المکتوبة کالنص التاسع عشر من سفر التکوين الذي ينسب فعل الزنا للنبي لوط ) ، ثم أنّ السيد الخوئي بعد ما نقل مجموعة من النصوص المذکورة في کتاب التوراة من سفر التکوين ، ومنها ما جاء في الإصحاح التاسع عشر من سفر التکوين الذي يُحکي فيه « قصة لوط » مع ابنتيه في الجبل ، وکيف أن احتالا عليه ؛ إذ قالت الکبيرة لأختها الصغيرة : ( أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا ... هلمي نسقي أبانا خمراً ، ونضطجع معه ، فنحيي من أبينا نسلاً ، فسقتا أباهما خمراً في تلک الليلة ، واضطجعت معه کبيرة ، وفي الليلة الثانية سقتاه خمراً أيضاً ، ودخلت معه

ــــــــــــــــ

١. الأعراف ، ١٤٥.

٢. طه ، ٧٢ ـ ٧٦.

٤١

الصغيرة ، فحمنا منه ، وولدت البکر أبناً وسمته « موآب » وهو أبو الموآبين ، ولدت الصغيرة أبناً فسمته « بن عمّي » وهو أبو بني عمون اليوم ، (١) وغير ها من الخرافات التي تنسب إلى أولياء الله الذين اصطفاهم على العالمين.

قال السيد الخوئي : ( وليحکم الناظر عقله ، ثم ليقل ما شاء وبعد نقله لمجموعة من قبيل هذا النص قال : هذه أمثلة يسيرة في کتب العهدين الرائجة من سخافات وخرافات ، وأضاليل وأباطيل لا تلتئم مع البرهان ، ولا تتمشى مع المنطق الصحيح ، وضعناها أمام القارئ ، ليمعن النظر فيها ، وليحکم عقله ووجدانه ... إلى أن قال : وهل يمکن أن ننسب هذه الکتاباب السخيفة إلى الوحي السماء وهي التي لوثت قداسة الأنبياء بما ذکرناه وبما لم نذکره ). (٢)

نعم لقد ذکرت في التوراة بعض النصوص غير الصريحة في دلالتها على الحساب الأخروي ، کما ظهر ذلک من خلال المحاورات التي جريت بين بعض علماء اليهود مع بعض أتباع فرقة الصدوقيين من اليهود الذين لا يؤمنون بالحساب الأخروي على العکس من فرقة الفريسيين ، وقد برر علماء اليهود غير الصدوقيين على أن هذه النصوص وإن لم تکن ظاهرة عليه ، ولکن هناک من يستطيع فهمها کما جاء هذا في التلمود ، حيث قال علماؤهم فيه : ( لا يوجد قسم من التوراة الکتبية غير دال على الاعتقاد بقيامة الأموات ، ولکن لا صلاحية لنا أن نفسرها بهذا المعنى ) ، (٣) ثم أنهم نقلوا بعض نصوص التوراة التي تشير إلى هذا الأمر ، کما جاء في سفر اشعيا : « تحيا أمواتک ، وتقوم الجثث ، استيقظوا ، ترنموا يا سکان التراب ، لأن طلک طل أعشاب ، والأرض تسقط الأخيلة » ، (٤) وجاء في مزامير داود : « إنما الله يفدي نفسي من يد الهاوية لأنه يأخذني » ، (٥) وأيضاً : « لأنک لم تترک نفسي في الهاوية لن تدع

ــــــــــــــــ

١. سفر التکوين ، الإصحاح ١٩.

٢. أبو القاسم الخوئي ، البيان في تفسير القرآن ، ص ٥٠ ـ ٥٥.

٣. راب دکتر آكهن ، گنجينه اي از تلمود ، باهتمام أمير حسين صدر پور ، ترجمة أمير فريدون گرگاني ، تطبيق با متون يهوشوع ، ص ٣٦٣.

٤. سفر اشعيا ، ١٩ ، ٢٦.

٥. مزامير داود ، ٤ ، ٩ ، ١٥.

٤٢

تقيک يرى على فساد ، فعرفني سبيل الحياة ، أمامک شبع وسرور في يمينک نعم إلى الأبد » ، (١) وغيرها من الأسفار الأخرى. (٢)

ولکن قد ناقش الصدوقيون في دلالة هذه النصوص على البعث الأخروي ، ولم يقبلوا بتلک التأويلات والاستدلالات التي قام بها مخالفوهم في هذه المسألة.

ولو رجعنا إلى علماء اليهود ومفکريهم لوجدناهم يقرون بالبعث والقيامة ، کما جاء ذلک على لسان سعد الفيومي : ( إن إحياء الموتى الذي عرفنا ربنا أنه يکون في دار الآخرة للمجازاة ، فذلک مما أمتنا مجمعة عليه ... إلى أن قال : لأن المقصود من جميع المخلوقين هو الإنسان ، بسبب تشريفه بالطاعة وثمراتها الحياة في دار الجزاء ). (٣)

٦. المعاد في التصور المسيحي

المعاد في التصور المسيحي أظهر مما هو عليه في الديانة اليهودية التي مرّ الکلام عنها في البحث السابق ؛ لأنه وردت نصوص صريحة في الأناجيل الأربعة المعروفة وهي : إنجيل متى ، وإنجيل مرقس ، وإنجيل يوحنا ، وإنجيل برنابا ، ورسائل بولص إلى الکنائس المختلفة في ذلک الوقت ، وبالخصوص رسالة « کورنثوس الأولى » ، لا تقبل الشک والترديد في دلالتها على البعث والقيامة في اليوم الآخر ، ويعبر عن هذه الأناجيل بالعهد الجديد ، ولکن لا يعني أن ما جاء فيها يکون بدرجة ما جاء في القرآن الکريم ، من الوضوح وذکر جميع خصوصياتها وکيفيتها ، وإنما ما جاء فيها يتفق بعضه مع التصور الإسلامي عنها ، فإن دلَّ هذا على شيء فإنمّا يدل على عدم مد يد التغيير والتحريف بالدرجة التي حصلت للتوراة ، وإن لم تخلُ من وقوعه في بعضها ، خصوصا بما جاء في مسألة رفع عيسى ٧.

ــــــــــــــــ

١. سفر اشعيا ، ١٤ : ١٢.

٢. لاحظ : الأسفار التالية ، حزقيال ب ٣٧ ، سفر التثنية ، ٩:١١ ، ٤:٤ ، ٦:٣٣ ، مزامير ، ٥:٨٤ ، سفر الخروج ١:١٥ ، سفر دانيال ٢:١٢ ، ١٣:١٢ ، سفر الإعداد ١٥:٣١.

٣. سعد الفيومي ، کتاب الأمانات والاعتقادات ، ص ٢١١.

٤٣

وقد لخص لنا الدکتور محمد الصادقي ما في هذه الأناجيل حول القيامة وأحوالها ، في کتابه عقائدنا ، بالشکل التالي :

قال : (هذا کدينونة جهنم ( متي ٣٢ : ١٢ ) ، والنار الأبدية ( متي ٤١ : ٢٥ ) ، ( متي ٨ : ١٨ ) ، والعذاب أبدي ( متي ٣٢ : ١٢ ) ، والهلاک الأبدي ( ٢ تسالونيکى ٩ : ١ ) ، ونار لا تطفأ ( متى ٣ : ١٢ ) ، ( مرقس ٩ : ٤٢ ) ، وجهنم حيث الدود لا يموت والنار لا تطفأ (مرقس ٩ : ٤٦ ) ، وإن دخان عذابهم يصعد إلى دهر الدهور ( رؤيا يوحنا ١١ : ١٤ ، ٣ : ١٩ ) ، انظر رؤيا يوحنا ( ١٠ : ٢٠ ) ، وقيامة الدنيوية والحياة ( يوحنا ٢٨ : ٥ ، ٢٩ ) ، العالم الآتي ( متى ٢٧ : ١٦ ) ، واليوم الآخر ( يوحنا ٢٩ : ٦ ، ٤٠ ، ٥٤ ) ، وقيام الأموات ( أتس ١٦ : ٤ ، ١٧) ، وفي انقضاء العالم يخرج الملائکة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار ويطرحونهم في أتون النار ( متى ٤٩ : ١٣ ، ٥٠ ) ، وإن الصالحين أصحاب اليمين يرثون الملکوت المعدّ لهم منذ تأسيس العالم ، وأصحاب الشمال الملاعين يذهبون إلى النار الأبدية المعدّة لإبليس وملائکته ( متى ٣٤ : ٢٥ ، ٤١ ) ، ولا تضطرب قلوبکم وأنتم مؤمنون بالله فآمنوا بي وفي أبي منازل کثيرة وإلاّ کنت قلت لکم أنا ماض لا عدّ لکم مکاناً ( يوحنا ١ : ١٤ ، ٣ ـ ١ ) ، والعصاة يمضون ويطرحون في جهنم النار التي لا تطفأ حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ ( مرقس ٤٩ ـ ٤٣ : ٩ ) ، أن جسدهم يلقي في جهنم أتون النار الأبدية (  متى ٣٠ ـ ٢٩ : ٥ ، ٢٨ : ١٨ ) ، و ... ثم قال : إنني بعد التصفح التام في الأناجيل الأربعة لم أجد تصريحات بالنسبة للمعاد إلا هذه ). (١)

٣. في بيان حقيقة النفس الإنسانية

يعد البحث عن معرفة کنه وحقيقة الروح الإنسانية من أصعب البحوث التي حيرت عقول وأفکار الباحثين عن إدراک حقيقتها وذاتها ، فقد قال المولى محمد صالح

ــــــــــــــــ

١. محمد الصادقي ، عقائدنا ( بحوث مقارنة بصورة الحوار بين القرآن والتوراة والإنجيل ) ، ص ٢٤٨ ، ٢٤٩.

٤٤

المازندراني في هذا الأمر : ( وقد تحير العقلاء في حقيقته ، واعتراف کثير منهم بالعجز عن معرفته حتى قال بعض الأکابر : إن قول أمير المؤمنين ٧ : « من عرف نفسه فقد عرف ربه » ، (١) معناه أنه کما لا يمکن التوصل إلى معرفة النفس أعني الروح كذلك لا يمكن التوصل إلى معرفة الرب ، وقوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ، (٢) مما يعضد ذلک ، وحمل الروح هنا على ما هو مبدأ التأثير والحرکة والحياة ، سواء کان مجرداً عن الکثافة الجسمانية ، أو منطبعاً في مادة جسمانية يشمل الأقسام الخمسة ... ). (٣)

وقد نقل السيد نعمة الله الجزائري قولهم في حقيقة النفس ، قائلاً : ( قالوا : إنها معلومة الوجود مجهولة الکيفية ، فکما أن کيفية الرب غير مدرکة لنا لتعالى حده ، کذلک کيفيتها غير معلومة لنا لتدانى حدها ، فعلى هذا معنى قوله : « من عرف نفسه فقد عرف ربه » من باب تعليق المحال على المحال ). (٤)

وقد نفهم من قوله تعالى في جواب من سأل الرسول الأکرم ٩ عن معرفة حقيقة الروح ، حيث جاء فيه : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ، (٥) من أنه کان جواباً لهم ، ولکن مدارکهم العقلية عجزت عن فهم هذا الجواب ، فقد جاء في ميزان الحکمة عن تفسير الميزان : ( فأفاد أن الروح من سنخ أمره ثم عرف الأمر في قوله تعالى : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، (٥) فأفاد أن الروح من الملکوت ، وأنهما کلمة « کن » ثم عرف الأمر بتوصيفه بوصف آخر بقوله : ( وَمَا أَمْرُنَا

ــــــــــــــــ

١. محمد باقر المجلسي ، بحار الأنوار ، ج ٥٨ ، ص ٩١ ؛ ج ٦٦ ، ص ٢٩٣ ؛ ج ٦ ، ص ٢٥١ ؛ نعمة الله الجزائري ، نور البراهين ، ص ٩٣ ؛ الحر العاملي ، الجواهر السنية ، ص ١١٦ ؛ ابن أبي جمهور الاحسائي ، عوالي اللئالي ، ج ٤ ، ص ١٠٢.

٢. الإسراء ، ٨٥.

٣. محمد صالح المازندراني ، شرح أصول الکافي ، ص ١١٨.

٤. نعمة الله الجزائري ، نور البراهين ، ج ٢ ص ٤٠٢.

٥. الإسراء ، ٨٥.

٦. يس ، ٨٢ ، ٨٣.

٤٥

إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) ، (١) التعبير بقوله « کلمح البصر » يعطي أن الأمر الذي هو کلمة « کن » موجود دفعي الوجود غير تدريجي ، فهو يوجد من اشتراط وجوده وتقيده بزمان أو مکان ، ومن هنا يتبين أنّ الأمر ـ ومنه الروح ـ شيء غير جسماني ولا مادي ، فإن الموجودات المادية الجسمانية من أحکامها العامة أنها تدريجية الوجود مقيدة بالزمان والمکان ، فالروح التي للإنسان ليس بمادية جسمانية إن کان لها تعلق بها. (٢)

وأما من حيث التجرد وعدمه ، فقد ذهب البعض إلى أن النفس مادية جسمانية کما عليه بعض المتکلمين وأکثر المحدثين ، کما سيأتي نقل أقوال بعضهم ، في الوقت الذي يسلمون ببقائها وعدم فنائها وانعدامها ، إلا من شذ في هذا الأمر ، وذهب الفلاسفة والحکماء وبعض المفسرين إلى القول بتجردها عن المادة ، في الوقت الذي يکون فعلها معها ، من حيث التدبير والتصرف في البدن في حال تعلقها به ، وأما مسألة بقائها فقد قام اتفاقهم عليه من دون استثناء ، وإن کانوا يختلفون في بداية نشأتها ووجودها ، فالبعض ذهب إلى أنه جسماني ، والآخر أنه روحاني ، وکيف کان فالأمر في بيان ما هي حقيقتها الجوهرية ، وإليک أقوالهم في المسألة :

١. القائلون بجسمانيتها من المحدثين

نقل السيد نعمة الله الجزائري قولاً عن الشيخ المفيد قائلاً فيه : ( أقول : وقد نقل عن الشيخ المفيد ( أنه قال برهة من الزمان بتجرد النفس ، ثم مرجع وقال :إنه لا مجرد الوجود إلا الله ). (٣) ثم قال : ( وأما قوله طاب ثراه : إن الذي أشارت إليه الکتب والأخبار والأدلة العقلية هو تجرد النفس ، فلا يخفى ما فيه ؛ وذلک أن الکتب والأخبار مشحونة باتصاف النفس بصفات المادية ، کالصعود والنزول ، والعذاب

ــــــــــــــــ

١. القمر ، ٥٠.

٢. محمد ري شهري ، ميزان الحکمة ، ج ٤ ، ص ٣٣٢٣ ؛ محمد حسين الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن ، ج ١ ، ص ٣٥.

٣. نعمة الله الجزائري ، نور البراهين ، ج ٢ ، ص ٤٠٢.

٤٦

الحسي ، وکذا النعيم ، وکاتصافها بالدخول والخروج وإلى غير ذلک من صفات المادية ، والحمل على المجاز بإرادة الجسم بعيد ). (١)

ويمکن أن يرد على کلام السيد نعمة الله الجزائري بأنه لا يخلو من المناقشة ، لماذا ؟ لأن الذي يراجع کتب الشيخ المفيد لم يجد ما نسب إليه من القول بعدم تجرد النفس ثابتاً ، بل قد يجد ما هو خلاف هذا تماماً ، کما سيأتي بعد قليل من نقل کلامه ٧ مع القائلين بتجردها ، فالنسبة غير ثابتة وغير صحيحة ، والنقل عنه ليس بصحيح ، لما قلنا إنه يقول بتجردها.

وإما صاحب البحار فقد قال : ( ولکن تجرد النفس لم يثبت لنا من الأخبار ، بل الظاهر منها ماديتها ، کما سنبين فيما بعد إن شاء الله ). (٢)

وقد نقل عنه إنکاره لتجرد النفس الإنسانية صاحب شرح أصول الکافي ، قائلاً : ( وينکر العلامة المجلسي تجرد النفس ، بل تجرد شيء غير الواجب الوجد ، ولکن جماً غفيراً من العامة والخاصة صرحوا بتجرد النفس ... ). (٣)

وکذلک ذهب بعض متکلمي السنة کالنظام إلى القول بجسمانية ومادية النفس ، حيث جاء فيما قال : ( وهو جسم لطيف داخل في البدن ، سار في أعضائه وإذا قطع من عضو تقلص ما فيه إلى باقي ذلک الجسم اللطيف ، وإذا قطع بحيث انقطع الجسم مات الإنسان ). (٤)

٢. أقوال بعض المفسرين

جاء في تفسير البيضاوي لقوله تعالى : ( وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ ) ، (٥) أنّه قال : ( وفيها دلالة واضحة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما

ــــــــــــــــ

١. المصدر السابق ، ص ٤٠٣.

٢. بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١٠٣

٣. شرح أصول الکافي ، ج ٤ ، ص ١١٧

٤. نقلاً عن : الشيخ الطريحي ، مجمع البحرين ج ١ ، ص ١٢١.

٥. البقرة ، ١٥٤.

٤٧

يحس به من البدن وتبقى بعد الموت دراکة ، وعليه جمهور الصحابة ... ). (١)

وقد جاء في تفسير الميزان لهذه الآية الشريفة ، قوله : ( ويتبين بالتدبر في الآية وسائر الآيات التي ذکرناها حقيقة أخرى أوسع من ذلک ، وهي تجرد النفس بمعنى کونها أمراً وراء البدن ، وحکمها غير حکم البدن وسائر الترکيبات الجسمية لها ، نحو اتحاد بالبدن تدبرها بالشعور والإرادة وسائر الصفات الادراکية ، والتدبر في الآيات السابقة الذکر يجلي هذا المعنى ، فإنها تفيد أن الإنسان بشخصه ليس بالبدن ، لا يموت بموت البدن ولا يفني بفنائه وانحلال ترکيبه وتبدد أجزائه ، وأنه يبقي بعد فناء البدن في عيش هنيء دائم ، ونعيم مقيم ، أو شقاء لازم وعذاب أليم ). (٢)

ثم بيّن السيد العلامة في موضع آخر من تفسيره الميزان ، حقيقة أن التشکيک بتجرد النفس ناشئ من عدم التأمل والإمعان في البراهين العقلية المذکورة ، فقال : ( وهنا إشکالات أوردها على تجرد النفس مذکورة في الکتب الفلسفية والکلامية ، غير أن جميعها ناشئة من عدم التأمل والإمعان فيما مرّ من البرهان وعدم التثبت في تعقل الغرض منه ؛ ولذلک أضربنا عن إيرادها ، والکلام عليها ، فمن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانها ، والله الهادي ). (٣)

٣. متکلمي الإسلام

إن الذي يراجع الکتب الکلامية لجميع المدارس والمذاهب الإسلامية ، فإنّه لا يجد اتفاقاً بينهم في مسألة تجرد النفس الإنسانية وعدمها ، فقد ذهب البعض إلى تجردها وبقائها بعد الموت ، والبعض الآخر ذهب إلى عدم ذلک وقال بجسمانيتها ، ولکن لا بتلک الکثافة التي عليها الجسم العنصري ، بل جسمها لطيف بالشکل الذي يساعد على بقائها بعد الموت ، شأنها شأن التدبير والتصرف بالبدن ، وفيما يلي نقل بعض تلک الأقوال :

ــــــــــــــــ

١. لاحظ : شرح أصول الکافي ، ج ٦ ، ص ٧١.

٢. الميزان في تفسير القرآن ، ج ١ ، ص ٣٥٠.

٣. المصدر السابق ، ص ٣٧٠.

٤٨

أ) بعض القائلين بجسمانيتها : اشتهر النقل عن النظام أنه يقول بمادية الروح وعدم تجردها ، فقد جاء في جملة ما نقل عنه ، أنه يقول : ( أنه جزء لطيف داخل البدن سار في أعضائه ، فإذا قطع منه عضو تقلص ذلک اللطيف ، فإذا قطع اللطيف معه مات الإنسان ... ). (١)

ومن جملة ما نُقِلَ عنه هشام بن الحکم ، بأنّه يقول: ( وهو جسم لطيف يختص بالقلب ، وسماه نوراً ، وأن الجسد موات ، وأن الروح هو الحي الفعال المدرک ) ، (٢) وقد نُقِلَ عن ابن الإخشيد ، بأنّه ذهب إلى : ( أنّه جسم منبث في الجملة الظاهرة ). (٣)

أمّا ما ذهب إليه الأمام الجويني ، أنه قال : ( إن الأرواح أجسام لطيفة مشابکة للأجسام المحسوسة ، أجرى الله العادة باستمرار حياة الأجسام ما استمر مشابکتها لها ، فإذا فارقت يعقب الموت الحياة في استمرار العادة ، ثم الروح يعرج به ، ويرفع في حواصل طيور خضر إلى الجنة ، ويهبط به إلى سحيق من الکفرة ، کما وردت به الآثار ، والحياة عرض تحيا به الجواهر والروح يحيا بالحياة أيضاً ، إن قامت به الحياة ، فهذا قولنا في الروح ). (٤)

أقول : وقد رُدَّ هذا الکلام بالأدلة العقلية والنقلية ، فقد روى عن الصادقين في ردِّ هذه الرواية العامية التي تناقلتها کتب العامة ، أنهم قالوا في ردها : ( إذا فارقت أرواح المؤمنين أجسادهم اسکنها الله في أجسادهم التي فارقوها فينعم في جنته ، أنکروا ما ادعته العامة من أنها تسکن في حواصل الطيور الخضر ، قائلين : المؤمن أکرم على الله من ذلک ). (٥)

ب ) بعض القائلين بتجردها : ورد عن الشيخ المفيد في کتابيه أوائل المقالات ،

ــــــــــــــــ

١. نقلاً عن الشيخ عبدالله نعمة ، هشام بن الحکم ، ص ١٨٦.

٢. بحار الأنوار ، ج ٥٨ ، ص ٩٤.

٣. المصدر السابق.

٤. إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملک الجويني ، الإرشاد ، ص ٣١٨.

٥. لاحظ : بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢٢٩.

٤٩

وأجوبة المسائل السروية ، أنه قال فيهما : ( ... ولنا على المذهب الذي وصفناه أدلة عقلية لا يطعن المخالف فيها ، ونظائرها لما ذکر من الأدلة السمعية ). (١) ويمکن أن يقال أنه أراد في کلامه هذا أن يشير إلى ما ذهب إليه في کتاب أوائل المقالات ، إذ أنه اختار ما ذهب إليه معمر المعتزلي ، وبني نوبخت من الشيعة ، فقد قال فيه : ( وقولي فيه قول معمر وبني نوبخت من الشيعة ) ، (٢) وکان قول معمر کما نقل عنه هو : ( قال : هو عين من الأعيان لا يجوز عليه الانتقال ، ولا يجوز له محل ولا مکان ، يدبر هذا العالم ويحرکه ولا يجوز إدراکه ورؤيته ). (٣)

٤. أقوال بعض الفلاسفة

أ) فلاسفة ما قبل الإسلام : إن الطابع السائد على کتاباتهم هو الطابع الرمزي الذي لا يمکن فهمه من قبل الجميع ، وإلاّ فإن حمل کلماتهم على ظاهرها لا يتناسب مع ما لهم من مقام علمي وفکري ، إذا لا يمکن عدّ مثل هؤلاء المفکرين الکبار الذين خلَّد أسماءهم التاريخ بهذا المستوى من التفکير الظاهري البسيط ، ولکن مع إمکان الحمل على غير الظاهر منها من باب صون کلام الملة عن اللغوية ، کما فعل بعض الحکماء والفلاسفة المتأخرين ک‍ « ملا صدرا » وغيره ، وعليه فإن أساطين الفلسفة السبعة ـ الحکماء السبعة الأوائل ـ قد تکلموا في النفس من حيث النشأة والبقاء ، فقد عدّ طاليس المالطي النفس عبارة عن جسم لا يصير إلى الفناء والبدن جرم يصير على الفناء ، وهي تمثل الصفو من العنصر بينما البدن يمثل الکدر منه ، وفي النشأة الأخرى الجسم يظهر والجرم يبطل ويزول ، وقد حمل الإمام الخميني کلامه في الجسم على الجسم المثالي من قرينة قوله : ( إنه باطن الجرم ، وأنه لطيف وباقي ). (٤)

ــــــــــــــــ

١. الشيخ المفيد ، المسائل السروية ، ص ٦١ ؛ الشيخ المفيد ، أوائل المقالات ، ص ١٨٤.

٢. المصدر السابق.

٣. بحار الأنوار ، ج ٥٨ ، ص ٩٥.

٤. فروغ السادت رحيم پور ، معاد از ديدگاه امام خميني ، ص ٢٦.

٥٠

وأما رأي انکسيمانس المالطي (١) يعتبر أن النفس مصدر جميع هذه الآثار الحياتية ، وأن الفساد لا يطرأ عليها ، وإنما الفساد يکون للجزء الثقيل الذي يکون بمثابة القشر للب ، وکل شخص تعرض عنه ، فإنها تذهب إلى الأعلى وهو عالم لطيف جداً وسروره دائمي ، بينما يرى الفيلسوف الکبير انباذقلس المعاصر لنبي الله داود ، (٢) أن کل نفس سافلة قشر لنفس عالية ، فالنامية قشر البهيمية ، وهي قشر الناطقة ، وهي قشر العقل ، وبواسطة لباب النفس ترجع إلى عالمها ، والنفوس الجزئية من أجزاء النفس الکلية ، والجزئية جاءت من العالم العلوي وإليه ترجع.

وأما فيثاقورس فقد اشتهر عنه أنه يقول : ( إن الإنسان عالم صغير والعالم إنسان کبير ، وإن النفس قد أبدعت قبل الاتصال بالبدن من تأليفات أولية ، فإذا هذب الخلق على ما يناسب الفطره وتبردت من المتعلقات الخارجية فإنها ستتصل بعالمها الأصلي ... على هيئة أجمل وأکمل من الأولى ). (٣)

وأما فلاسفة اليونان ، کسقراط وأفلاطون وأرسطو ، فهم أيضا يذهبون إلى أن النفس موجود مجرد وجدت قبل الأبدان بنحو من الوجود ، وغرضها من الاتصال بالبدن على ما ذهب إليه سقراط هو الاستکمال ، وببطلان الأبدان ترجع إلى عالمها الکلي ، بينما يري أفلاطون أن سبب ارتباطها بالأبدان هو لذنب قد ارتکبته فأدى بها إلى الهبوط ، فلأجل تحصيل حريتها وتجردها فعليها أن تقطع علاقتها بمتعلقات البدن حتى تعود إلى عالمها النوراني الکلي السابق ، بينما لا يرى أرسطو (٤) ما يراه سقراط وأفلاطون (٥) من قدم النفس وبقائها ، وإنما يراها حادثة مع حدوث البدن ، وتفسد بفساده ما لم تصل إلى مرتبتها العقلية ، وعندئذ تتصل بالروحانيين الملائکة

ــــــــــــــــ

١. عبد الکريم الشهرستاني ، المحلل والنحل ، ج ٢ ، ب ٢ ، الفصل الأول ، ص ٣٧٤ ـ ٣٧٨.

٢. المصدر السابق ، ص ٣٨٠ ـ ٣٨٨.

٣. المصدر السابق ، ج ٢ ، ب ٢ ، الفصل الأول ، الحکماء السبعة ، ص ٤٠٧ ـ ٤١٤.

٤. راجع : فردريک کابلستون ، تاريخ فلسفة يونان وروم ، ترجمة سيد جلال الدين مجتبوى ، ج ١ ، ص ٢٤٤ ، ٢٤٥.

٥. المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٤٤ ، ٢٤٥.

٥١

المقربين ، وتکون اللذائذ والابتهاجات لها أکمل ، وعلى خلافه النقوس الخبيثة.

ب) فلاسفة الإسلام : من الجدير بالذکر أن فلاسفة الإسلام بمختلف مذاهبهم ومدارسهم يذهبون جميعاً إلى القول بتجرد النفس وبقائها بعد حصول الموت ، مع تفاوت في بيان ما لهذه النفس من علاقة مع البدن ، فقد ذهب الشيخ الرئيس إلى القول : ( بأن النفس لا تفسد بفساد البدن أصلاً ؛ أما أنها لا تموت بموت البدن ؛ فلأن کل شيء يفسد بفساد شيء آخر ، فهو متعلق به نوعاً من التعلق ... ) ، (١) باعتبار أن علاقتها مع البدن ، علاقة تأثير وتأثر ، کعلاقة الرباني بالسفينة ، فبخراب السفينة وفسادها يبقى الرباني ، لأن النفس بنظره کمال أولي لجسم إلى ، وأنها حادثة بحدوثه ، ليس بينها وبينه علاقة تعلق أبداً ومطلقاً ، وإنما يصح لها الانفراد بقوام ذاتها ، فقد قال في کتاب الإشارات : ( إنّ النفس موضوع الصور المعقولة ، فإذاً لا تکون قائمة ومنطبعة في الجسم ، بل الجسم آلة لها ، فإذا لم يکن الجسم آلة لها بعد الموت ، فذلک لا يضر بحالها ، بل تکون باقية ، بالاستفادة من الجواهر الباقية ). (٢)

وأمّا شيخ الإشراق فأنه يقول : ( الأنوار الاسبهدية ، يعني النفوس المجردة ، عندما تحصل لها ملکة الاتصال بعالم النور المحض ، وعند فساد الجسد فإنها تنجذب إلى ينبوع الحياة ، وتخلص من هذا العالم ، وتصير إلى عالم النور المحض عالم القدس ) بينما يقول في النفوس المتوسطة : ( وأهل السعادة من المتوسطين وأهل الزهد ، يحصل لهم التخلص وينتقلون إلى عالم المثل المعلقة ). (٣)

وأمّا مؤسس مدرسة الحکمة المتعالية الحکيم صدرالمتألهين محمد بن إبراهيم الشيرازي ، فإنه يختلف عن الشيخ الرئيس بقوله بتجرد النفس بجميع قواها الخيالية

ــــــــــــــــ

١. الشيخ الرئيس ابن سينا ، النجاة ، ص ١٨٩.

٢. لاحظ : الشيخ الرئيس ابن سينا ، الإشارات والتنبيهات ، النمط السابع ، ج ٣ ، ص ٢٦٤.

٣. شهاب الدين السهروردي ، حکمة الإشراق ، المقالة الخامسة في المعاد والنبوات ، ص ٣٦٦ ـ ٣٧٤.

٥٢

والوهمية التي لم يثبت ذلک عند الشيخ الرئيس ابن سينا ، کما أنه يختلف معه في بداية نشوء النفس ، إذ أن الشيخ يراه روحانياً ، وصدر الدين يراه جسمانياً ، کما سيأتي بيانه في محله ، ولکن المهم أن ملاصدرا لا يرى أن الفساد ممکن أن يطرأ على النفس أو على أي قوى من قواها المجردة ، فقال : ( فإذا انقطعت العلاقة بين النفس والبدن ، وزال هذا الشوب ، صارت المعقولات مشاهدة ، والشعور بها حضوراً ، والعالم عيناً ، والإدراک رؤية عقلية ، فکان الالتذاذ بحياتنا العقلية أتم أفضل من کل خير وسعادة ). (١)

وعليه فإن الفلاسفة لا يذهبون إلى مادية النفس وانعدامها ، کما کان عليه بعض المتکلمين وعلماء التجربة والأطباء وبعض المحدثين کما مرّ بيانه قبل ذلک.

٤. اختلاف خصائص عالم الدنيا عن عالم الآخرة

من الطبيعي أن يکون هناک اختلاف جذري بين عالم الدنيا وعالم الآخرة في الوقت الذي يکون فيه عالم الدنيا مزرعة ومقدمة لعالم الآخرة ، ونحن ومن خلال هذه المسألة نريد أن نسلط الضوء على أبرز موارد الاختلاف بينهما ، حتى تتضح لنا بعد ذلک الصورة التي تحکى لنا کيفية عود الإنسان في النشأة الأخرى ، ويمکننا من خلال تلاوة آيات الذکر الحکيم أن ندرک مدى هذا التفاوت الحاصل بينهما ، فقد جاء في قوله تعالى : ( إِنَّمَا هَٰذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) (٢) وقوله : ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ، (٣) وقوله : ( وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ ) ، (٤) وفي الحديث الشريف ورد قوله ( « الدُّنيَا مَزرَعَةُ الآخِرَةِ » (٥) ، وغيرها من الآيات الشريفة ، ويمکن أن نفهم من هذه النصوص الشريفة أن عالم الدنيا ممر وطريق لدار هي مقر ومستقر ، وطبيعي أن الممر يختلف

ــــــــــــــــ

١. لاحظ : صدر الدين الشيرازي ، الأسفار ، ج ٩ ، ص ١٢٥.

٢. غافر ، ٣٩.

٣. الرحمن ، ٢٦ ، ٢٧.

٤. العنکبوت ، ٦٤.

٥. ابن أبي جمهور الاحسائي ، عوالي اللئالي ، ج ١ ، ص ٢٩.

٥٣

في قوانينه وخصائصه عن دار المقر والمستقر ، فعالم الدنيا مطلوب بالعرض ولغيره ؛ لوجوب عدم بقائه ودوامه ، وکما عبر عنها المعصوم : أنها مزرعة الآخرة ، فالعمل هنا والجني هناک ، فالإنسان يجني ويجمع ما يزرع ، فإن کان الزرع طيباً فإنه يجني طيباً ، وإن کان نکداً فإنه يجني نکداً ، وهو بالخيار ، فهو المسؤول عن ذلک کله ، ( فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ) (١) ، ولقوله تعالى : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (٢).

وقد لخص ملا صدرا هذه الفوارق بينهما في ضمن ست نقاط أساسية ، وهي عبارة عن نتائج لأبحاث عقلية قام بها ، وفيما يلي إليک بيانها :

١. إنّ کل جسد في عالم الآخرة ذو روح ، بل حيّ بالذات ، ولا يتصور هناک بدن لا حياة له ، بخلاف الدنيا ، فإن أجسادها غير ذات حياة وشعور ، والذي فيه حياة ، فإنّ حياته عارضة له زائدة عليه.

٢. إنّ أجساد هذا العالم « الدنيا » قابلة لنفوسها على سبيل الاستعداد ، ونفوس الآخرة فاعلة لأبدانها على وجه الإيجاب ، وفي الآخرة يتنزل الأمر من النفوس على الأبدان.

٣. إنّ القوة ها هنا مقدمة على الفعل زماناً ، والفعل مقدم عليها ذاتاً ووجوداً.

٤. إنّ الفعل ها هنا أشرف من القوة ؛ لأنه غاية لها ، وهناک القوة أشرف من الفعل لأنها فاعلة له.

٥. إنّ الأبدان في الآخرة وأجرامها غير متناهية على حسب أعداد التصورات للنفوس وادراکاتها ؛ لأن براهين تناهي الأبعاد غير جارية فيها ، بل في جهات وأحياز ماديين ، وليس فيها تزاحم وتضايق ، ولا بعضها من بعض في جهة ولا داخلة ، ولکل إنسان من سعيد وشقي عالم تام برأسه أعظم من هذا العالم ، لا ينتظم

ــــــــــــــــ

١. عبس ، ٢٤.

٢. آل عمران ، ٣٠.

٥٤

مع عالم آخر في سلک واحد ، ولکلٍّ من أهل السعادة ما يريده من المسلک بأي فسحة يريدها ، فالعوالم هناک بلا نهايةٌ کلٌّ منها ( كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ) ، بلا مزاحمة شريک وسهيم.

٦. إن الأجساد الأخروية وعظامها من الجنان والأنهار والغرفات والبيوت والعبيد والغلمان وغيرها موجودة بوجود واحد ، وهو وجود الإنسان الواحد من أهل السعادة ؛ لأنه محيط بها تأييداً من الله نزلاً من غفور رحيم ، وليس کذلک حال الشقي الجهنمي بالنسبة إلى ما يصل إليه من النيران والأغلال والسلاسل الحيّات وغيرها ؛ لأنها محيطة به کما قال تعالى : ( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) (١) ، وقوله : ( إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) (٢) ، إنّ في هذا لبلاغاً لقوم عابدين ، انتهى کلامه ).

وعليه فمن خلال ما ذکره صدر المتألهين في جملة هذه الفروق ، يتضح لنا أن عالم الدنيا عالم آخر غير عالم الآخرة ، له قوانينه الخاصة به ، يختلف تماماً عن قوانين وخصائص عالم الآخرة ، فالدنيا تختص بظواهر الأشياء ، والآخرة تعد انکشافاً لبواطن هذه الظواهر ، کما قال تعالى : ( فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (٣) ، فالدنيا دار فناء والآخرة دار بقاء.

٥. الأصول الموضوعة

إنّ مجموعة من المسائل لا يمکن فهمها وإثباتها ما لم تبحث بعض مقدماتها إلى تشکل المبادئ التصورية أو التصديقية في المرحلة الأولى ، وتختلف المسائل في صعوبتها وسهولتها من مسألة إلى أخرى ، وباعتبار أن مسألة المعاد الجسماني واحدة من المسائل المهمة والعويصة ، والتي مازال إلى يومنا هذا الإبهام وعدم

ــــــــــــــــ

١. الکهف ، ٢٩.

٢. التوبة ، ٤٩ ؛ العنکبوت ، ٥٤.

٣. ق ، آية ٢٢.

٥٥

الوضوح يخيم على القسم الأکبر من فروعها وجزئياتها ، إذ لا طريق للعقل في إدراک الجزئيات ، ولم يبقَ لنا إلى إدراک هذا الأمر إلا الشرع المنقول ، عن طريق التعبد بما جاء به من بيان لتلک الجزئيات ، ولکن مادام البحث يدور مدار الأبحاث العقلية المطروحة احتجنا إلى مجموعة أصول موضوعية ، وليس من الصحيح أن نبينها هناک ، بل کان علينا أن نذکر بعض ما جاء فيها من بيان واستدلال ، وإليک هذه الأصول :

الأصل الأول : تجرد النفس الإنسانية

سبق وأن بيّنا في موضوع الآراء في حقيقة الإنسان من أن مجموعة من العلماء والمحدثين ذهبوا إلى القول بمادية النفس التي اعتبروها جوهر الإنسان حقيقته ، في قبال من قال بتجردها من الفلاسفة وبعض المحققين من المتکلمين ، ولکن الذي يوافق العقل والشرع المقدّس هو القول بتجردها ، وقد بيّن صدرالمتألهين أن للنفس مراتب في التجرد الخيالي ـ المثالي ـ ولها أيضاً مرتبة أخرى وهي مرتبة تجرد العقلي ، وفي الأولى يکون تجردها ناقص ، وفي الثانية يکون تاماً ، وهناک مرتبة ثالثة يقال لها مرتبة التجرد الأتم ، يعبر عنها فوق التجرد ، ويقصد به أنه ليس لها حد تقف فيه ، ومقام تنتهي إليه ؛ باعتبار أنها طالبة للکمال الإلهي ، والکمال الإلهي لا نهاية له ، وهذا المعنى الأخير ذهب إليه العارف حسن حسن زاده آملي حيث قال فيه : ( وهذا المعنى الرفيع تجردها الأتم أي ما فوق تجردها العقلاني ، يستفاد من عدة مواضع في تضاعيف مجلّدات الأسفار ، ويا ليت صاحب الأسفار جعل لهذا المطلب الشريف فصلاً على حده ثم بسط الکلام حوله بقلمه الفياض ) (١) ، ثم أضاف قائلاً : ( ومما يرشدک إلى أن لها رتبة فوق التجرد العقلاني ، ائتلاف حديثين شريفين من رسول الله ٩ ، إحداهما : « ما من مخلوق إلا وصورته تحت العرش » ، والأخر : « قلب المؤمن عرش الله الأعظم » ، (٢) ثم أنه نقل قول أمير

ــــــــــــــــ

١. قال الشيخ في عيون النفس ، ( و إن کان قد أحکمه في الفصل الثالث من الباب السابع من کتاب النفس من الأسفار ، ج ٤ ص ٨٣ ).

٢. إسماعيل بن محمد ، العجلوني الجرامي ، کشف الخفاء ، ج ٢ ، ص ١٠٠.

٥٦

المؤمنين ٧ : « کل وعاء يضيق بما جعل فيه ، إلا وعاء العلم فإنه يتسع به » ، (١) ). (٢)

ثم إنّ الشيخ الرئيس ابن سينا قد ذکر أدلة کثيرة على إثبات التجرد التام العقلي للنفس الإنسانية ، کما جاء ذلک في کتابه النفس من الشفاء ، في الفصل الثاني الذي خصه بإثبات قوام النفس الناطقة ، وقد ذکر فيه ثمانية براهين عليه ، فمن رام التفصيل فليراجعه. (٣)

وبودنا أن نذکّر الأخوة القراء بأن هذا البحث لا يتعلق بذکر کل ما جاء في المسألة من أدلة وبراهين وتفاصيل تتعلق ببيان وتوضيح المسألة ؛ باعتبار أن البحث هنا يتعلق بذکر ما توصل إليه العلماء بالدليل ، فهو بمثابة نتيجة لجملة من الآراء والنظريات المستدل عليها. فتأمل !.

بينما لا يخلو کتاب من کتب صدر المتألهين عن الحديث فيه ، فقد خصص له أبواب خاصة من أبحاثه في إثباته ، وقد لخص الإمام الخميني ١ ، ما ذکره صدرالمتألهين من أدلة على إثبات ذلک ، في أحد عشر دليلاً ، فليراجع (٤).

وأخيراً نذکر ما قاله الشيخ البهائي في کتابه الکشکول ، حيث بين فيه حقيقة النفس وعلاقتها بالبدن ، فقال : قال البعض : النفوس جواهر روحانية ليست بجسم لا جسمانية ، لا داخلة ولا خارجة عنه ، لها تعلق بالأجساد تشبه علاقة العاشق بالمعشوق ، وهذا القول ذهب إليه الغزالي أبو حامد في بعض کتبه ثم قال : ـ ونقل عن أمير المؤمنين ٧ أنه قال : « الروح في الجسد کالمعنى في اللفظ » (٥) ، وقال الصفدي : ( ما رأيت مثالاً أحسن من هذا ) (٦).

ــــــــــــــــ

١. الشيخ محمد عبده ، شرح وتحقيق نهج البلاغة ، قسم الخطب ، ج ٤ ، ص ٤٧ ؛ الشريف الرضي ، خصائص الأئمة ، ج ١ ، ص ١٨٣.

٢. لاحظ : آية الله الشيخ حسن حسن زاده آملي ، عيون مسائل النفس ، العين ٢٤ ، ص ٣٩٩.

٣. الشيخ الرئيس ابن سينا ، راجع کتاب الشفاء ، تحقيق حسن زاده آملي ، ص ٢٤٩ ـ ٢٨٨.

٤. فروغ السادات رحيم پور ، معاد از ديدگاه إمام خميني ، ص ٢١٧.

٥. الشيخ على النمازي ، مستدرک سفينة البحار ، ج ٤ ، ص ٢١٧ ؛ محمد العلجونى ، کشف الخفاء ، ج ٢ ، ص ١٠٠.

٦. البهائي ، کتاب الکشکول ، ص ٤٥.

٥٧

الأصل الثاني : النفس لا تفسد بفساد البدن

بعدما بيّنا أن النفس الإنسانية مجردة ، سواء على أساس القول بتجردها في مرتبتها العقلية فقط ، أو على أساس تجردها العقلي والخيالي ، فلازمه القول ببقائها وعدم فسادها بفساد البدن بعد مفارقتها إياه بالموت ، ولکن بالرغم من هذا فإن الفلاسفة أقاموا الأدلة على إثبات هذا الأصل ، ويمکن حمل فعلهم على إرادة التأکيد عليه ، وإلاّ فلا حاجة إليها ؛ لأن البقاء وعدم الفساد لازم للقول بالتجرد ، فإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم ، وقد ذکر الشيخ الرئيس عدة براهين على إثباته ، في عدة من کتبه ، فمن أراد التفصيل فليراجعها (١).

ثم إنّ صدر المتألهين بيّن لنا علاقة النفس بالبدن بأنها علاقة لزومية ، ولکن لا کعلاقة المتضايفين ، ولا کعلاقة المعلولين لعلة واحدة في الوجود ، بل کمعية شيئين متلازمين بوجه کالمادة والصورة ، والتلازم الذي بينهما کما علمت يشبه التلازم بين الهيولى الأولى والصورة الجرمية ، فکل منهما محتاج إلى الآخر على وجه غير دائر دوراً مستحيلاً ، وأما عدم فسادها بفساد البدن ، فقد بين ذلک تحت عنوان ( الفساد على النفس مطلقاً محال ) (٢) ، ومن خلال هذا البحث برهن على عدم فسادها ، بعد دفع مجموعة من الإشکالات المحتملة التي ترد على الاستدلال ، فليراجع.

الأصل الثالث : للإنسان جسم طبيعي وجسم مثالي وروح مجردة

هذا الأصل جواب لسؤال قد حير العقول وتيه الأفکار ، وهو : ما هي حقيقة الإنسان ؟ هل الإنسان مجموعة من الأعضاء المتکونة من اللحم والدم والعظام ، أم أنه وراء هذا الجسم والبدن المادي شيء آخر ، فما هو ؟

ولقد طرحت نظريات متعددة في جواب هذا السؤال ، بعضها کانت مبتنية على

ــــــــــــــــ

١. الشيخ الرئيس ابن سينا ، کتاب الشفاء ، قسم الإلهيات ؛ تحقيق حسن زاده ، ص ٢٨٨ ـ ٢٤٩.

٢. لاحظ : صدرالدين الشيرازي ، کتاب الأسفار الأربعة ، ج ٨ ، ص ٣٨٨.

٥٨

أساس النظرة الحسية ، والأخرى مستندة على أساس النظرة العقلية الفلسفية ، فالأولى لا تري شيئاً مجرداً اسمه الروح أو العقل ، بل الروح عندهم عبارة عن تلک الحياة السارية في البدن ، ولا تؤمن بوجود حقيقة مجردة وراء مجموعة هذه الأعضاء المادية ، وما الإدراک إلا مجموعة تفاعلات وانفعالات ميکانيکية للجهاز العصبي عند الإنسان ، ينتج عنها مجموعة قوانين کلية ، وحالات نفسية وظواهر روحية ، وعند تحلل خلايا الدماغ وعند ما تتعرض لأمر ما يؤدي إلى توقفها عن العمل ، فإن هذه النشاطات الروحية والتفاعلات الميکانيکية تتوقف عن العمل ، وعندئذ لا تبقى من حقيقة الإنسان سوى الجسد المادي الفاقد للحياة ، فلا وجود جوهري مستقل أصيل بعد ، وإليک شاهد على ذلک ، قول العالم المعروف « هنري برجسون » حيث قال : ( قد نضع قبلياً کما فعل أفلاطون تعريفاً للنفس ، فنقول إنها لا تحلل ؛ لأنها بسيطة ، ولا تفسد لأنها غير منقسمة ، وإنها بطبيعتها خالدة ، ثم ننتقل من ذلک عن طريق الاستنتاج إلى فکرة هبوط النفوس في الزمن ، ففکرة العود إلى الأبدية ، ولکن ماذا تقولون لامرئ ينکر وجود النفس المعرّفة على هذا النحو ؟ وکيف تستطيعون أن تحلوا المسائل المتصلة بالنفس الواقعية ، وأصلها الواقعي ، ومصيرها الواقعي ، حلاً واقعياً ؟ بل کيف تستطيعون أن تطرحوها في تعابير واقعية ؟ وکل ما فعلتم أنکم تتأملون في مفهوم فکري قد يکون فارغاً ، أو ضخمتم اتفاقياً معنى کلمة وضعها المجتمع لجزء من الواقع اقتطعه لسهولة التخاطب ؟ إن تقريره يظل عقيماً مادام التعريف اتفاقياً ، والمفهوم الأفلاطوني لم يتقدم بمعرفتنا عن النفس قيد شعرة ، رغم ألفي سنة انقضت في التأمل على أساسه ) (١).

وأقول : نحن لا ننکر دور الأعضاء ووظائف الجسم في صياغة تلک القوانين وظهور تلک النشاطات الروحية التي يقوم بها الإنسان الحي ، إلا أننا لا نؤمن بإطلاق

ــــــــــــــــ

١. د. عبدالله عبدالدائم ، منبعا الأخلاق والدين ، ترجمة د. سامي : ص ٢٨٠.

٥٩

هذه القوانين الفيزيائية والفسلجية ، وإنما تقوم هذه الخلايا والأعضاء الجسمية بدور الإعداد والتهيئة لممارسة النفس المجردة دورها الفکري والروحي ، وإن مجرد إثبات العلاقة بين الإدراک أو الشعور والأفعال والانفعالات الکيميائية التي تتم في المخ ، لا يستنتج منه أن الأمر الذي نعبر عنه بالنفس ليس إلا هذه الوسائل والآثار الکيميائية والفيزيائية.

وأما النظرة الفلسفية حول الإنسان فإنها ترى بأنه موجود إمکاني ، کالمرکب من جسد وروح وجسم مثالي ، وإن کان فالخارج نراه شيئاً واحداً متصلاً بحسب الرؤية البصرية ، ولکنه بحسب الواحد ليس هو کذلک.

فقد بيّن صدرالمتألهين في کتاب الأسفار نظره في الإنسان قائلاً : ( اعلم أن القوى القائمة بالبدن وأعضائه وهو الإنسان الطبيعي ، ظل ومثل للنفس المديرة وقواها ، وهي الإنسان النفسي الأخروي ، وذلک الإنسان البرزخي بقواه وأعضائه النفسانية ظل ومثل للإنسان العقلي وجهاته واعتباراته العقلية ، فهذا البدن الطبيعي وأعضاؤه وهيأته ظلال ظلال ، ومثل مثل لما في العقل الإنساني ، وأما أن قوى الإنسان الطبيعي الذي هو بمنزلة قشر وغلاف للإنسان الحيواني المحشور في الآخرة التي هي دار الحياة ، لقوله تعالى : ( وَمَا هَٰذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (١). (٢)

فکأن الحکيم الفيلسوف صدرالمتألهين يريد أن يبيّن لنا من خلال هذا النص من عباراته ، أن الإنسان الواحد بحسب النظرة الحسية ، له مراتب في الوجود ، وهذه المراتب لها ظاهر ولها باطن ، ولباطنها باطن آخر ، فالبدن يعد مرتبة من مراتبه ، والبدن المثالي هو الآخر مرتبة ثانية ، والإنسان العقلي هو مرتبة ثالثة له ، مترتبة

ــــــــــــــــ

١. العنکبوت ، ٦٤.

٢. صدرالدين الشيرازي ، کتاب الأسفار الأربعة ، ج ٩ ، ص ٧٠ ـ ٧٢.

٦٠