المعاد الجسماني

شاكر عطية الساعدي

المعاد الجسماني

المؤلف:

شاكر عطية الساعدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: صدف
الطبعة: ١
ISBN: 964-7741-72-3
الصفحات: ٢٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الخصوصية الأولى : إن الأسلوب والمنهج المتبع في تحقيق مسائلها ، النظرية والعملية ، باعتبار أن الفلسفة کانت في بداية الأمر شاملة وعامة لجميع ما يرتبط بجوانب الإنسان النظرية والعملية ، الفلسفية منها والعلمية والعملية بحسب مراد المتأخرين من هذين الاصطلاحين ، إلا هذه الفلسفة لم تکن تنتهج الأساليب الأخرى غير الأسلوب العقلي في استخراج واستنباط مسائل هذه العلوم ، التي استقلت بعد ذلک بحيث أصبح لکل واحد منها منهج خاص يتناسب مع طبيعة مسائله.

الخصوصية الثانية : إن موضوعها الرئيسي العام هو الاهتمام بالإلهيات بالمعنى الأعم ، خصوصاً دراسة المسائل الميتافيزيقية التجريدية بصورة عامة.

الخصوصية الثالثة : هي محاولة ربط الأبحاث الفلسفية بالقضايا الحياتية للإنسان ، وتتجلى هذه المحاولة بشکل واضح في فلسفة سقراط ، ولذا يعبر عن فلسفته بالفلسفة الإلهية ، وهو کناية عمّا انطوت عليه هذه الفلسفة النظرية من البعد العمل المتعلق بالجانب الأخلاقي ؛ لحل مشکلة الحياة الإنسانية بشتى جوانبها ، ثم قام بعده تلميذ أفلاطون المعروف بالمعلم الأول أرسطو بتتميم هذا الدور الجبّار ، وما زالت عدّة من أصولها وقواعدها خالدة إلى يومنا هذا.

وما ذکرناه إلى الآن کان متعلقاً بالفلسفة الأم للمدرسة المشائية من وجهة نظر العامة ، وأما ما يتعلق بالنسبة للفلسفة المشائية الإسلامية التي کان روادها الکندي والفارابي والشيخ الرئيس ابن سينا ، فقد انتقلت أصولها عن طريق ترجمة الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية ؛ وکان في طليعة الفلاسفة الإسلاميين يعقوب بن إسحاق الکندي ، الذي قام بدور التفسير والشرح بالشکل الذي لا يتعارض مع النصوص والأفکار الأساسية في الدين الإسلامي ، (١) ويمکن أن نعتبر هذا اللون من الجهد في عداد المنتجين للفکر الفلسفي ، وأن لم يأتِ بأصول جديدة ومسائل حديثة ، وقد

ــــــــــــــــ

١. جميل صليبا ، تاريخ الفلسفة العربية ، ص ١٣٠.

١٨١

عدّه البعض أنه أول من لقب بلقب فيلسوف العرب ، (١) وأول من أخذ بالمذهب المشائي في الإسلام ، وکان للمعرفة عنده طريقان ؛ طريق العقل وطريق الوحي ، وکلاهما يوصلان إلى الحقيقة الواحدة ، والجدير بالإشارة أنّه لم يکن على مذهب واحد ، بل کان في بعض الأحيان ينتهج المنهج الأفلاطوني ، وأخرى منهج الفيثاغوريين ، والکندي هو الذي ساعد على انتشار الفلسفة بين المسلمين من خلال مراسلة المعتصم بالله العباسي ، يبيّن فيها شرافة هذا العلم ووجوب تعلمه من قبل المسلمين ، ومن جملة ما جاء في هذه الرسالة ما هذا نصه : ( الفلسفة علم بحقائق الأشياء على قدر طاقة البشر ... ) ، (٢) وکان ظهوره في الوقت الذي يرى فيه علماء الإسلام ، ومنهم المتکلمون ، والمحدثون والفقهاء ضلالة وکفر الفکر الفلسفي آنذاک. (٣)

ولکن الذي يطالع التاريخ الفلسفي الإسلامي المختص بالفلسفة المشائية ، فإنه يرى ظهوراً بارزاً لعلمين من أعلام الفلسفة الإسلامية لم يضاهه ظهور آخر لغيرهما في هذا اللون من التفکر البشري القائم على أساس المنهج العقلي المحض ؛ وهما المعلم الثاني المعروف بأبي نصر الفارابي ، والشيخ الرئيس أبو علي سينا ، وقد أسهم هذان العلمان البارزان في تطوير الفکر الفلسفي الإسلامي لکثير من أصوله الفلسفية حتى امتاز عن الفلسفة الأم اليونانية ، بالشكل الذي جعل لها الاستقلالية عن الفلسفة الأرسطية القديمة ، وسائر الفلسفات الغربية التي ترجمت إلى اللغة العربية ، وأهم مميز لهذه الفلسفة المشائية الإسلامية ، هو استنادها في إثبات مطالبها على أساس المنهج العقلي المحض ، وکان هو الطابع المعروف عنها ، وقد قال عنها الحکيم السبزواري ما هذا لفظه : ( ... إن المتصدين لمعرفة حقائق الأشياء إما أن يبحثوا بحيث يطابق الظاهر من الشريعة في الأغلب فيقال لهم : المتکلمون ، وإما أن

ــــــــــــــــ

١. المصدر السابق ، ص ١٢٩.

٢. حنا الفاخوري ، وخليل الجر ، تاريخ الفلسفة في العالم الإسلامي ، نقلاً عن رسائل الکندي الفلسفية ، ص ١٠٤.

٣. راجع : کتاب تهافت الفلاسفة ، بحار الأنوار ، ج ٧ ، ص ٤٧ ـ ٥٤.

١٨٢

لا يراعوا المطابقة ولا المخالفة ، فإما أن يقصروا على المجاهدة والتصفية فيقال لهم الصوفية ، وإما أن يکتفوا بمجرد النظر والبيان والدليل والبرهان فيقال لهم : المشاؤون ، فإن عقولهم في المشي الفکري ، فإنّ النظر والفکر عبارة عن حرکة من المطالب إلى المبادئ ، ومن المبادئ إلى المطالب ، ... ). (١)

وقد اختلف المنهج المتبع من قبل ابن سينا عن المنهج العام الذي امتازت به المدرسة المشائية في تقصي الحقائق ومعرفتها وإثباتها ، وذلک بإعطاء المنهج الذوقي الکشفي دوراً في معرفة الحقائق الوجودية إلى جانب المنهج العقلي السائد عليها. (٢)

نعم نحن لا ننکر اعتقاد الشيخ في استقلالية المنهج العقلي في إثبات الحقائق الوجودية ، ولکن في کتابه المعروف بالإشارات أشار إلى أنّ المذهب الذوقي العرفاني يمکن أن يکون أحد الطرق في إدراک الحقيقة ، حتى ادعى البعض أن الشيخ الرئيس ينبغي أن يعد من فريق الباطنية المعتقدين ، بالکشف والشهود ، وخروجه عن فريق المعتقدين بالمنهج العقلي الاستدلالي ، (٣) وليس هذا بصحيح ، وکذلک لا يمکن عد الفلسفة السينوية فلسفة مستقلة عن الشريعة الإسلامية على نحو النقيض أو الضد ، بل إن هذا التصور ليس بصحيح عن الفلسفة السينوية الإسلامية ؛ باعتبار أنها اتسمت بسمة الإسلام ، فلا يمکن لأصحابها أن يفصلوا بينها وبين الأفکار التي جاء بها الإسلام ، فإنّ الأساس الذي ينطلق منه هؤلاء الحکماء هو أنهم کانوا معتقدين : ( إن الشريعة الحقة صادرة عن مبدأ العقل ، إذ يستحيل مناقضتها لقضايا العقل الضرورية أو القريبة من الضرورية ، کما يستحيل مخالفة العقل لقضايا الشريعة الحقة بصفتها صادرة عن مبدأ العقل ). (٤)

ــــــــــــــــ

١. عبدالهادي السبزواري ، شرح الأسماء الحسني ، ص ٢٣٤.

٢. راجع : نصير الدين الطوسي ، کتاب شرح الإشارات ، النمط التاسع في مقالات العارفين ، ص ٣٦٣ فما بعد.

٣. راجع : محمد عابد الجابري ، نحن والتراث ( قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي ) ، ص ٨٧.

٤. السيد کمال الحيدري ، کتاب شرح بداية الحکمة ، ص ٣٨.

١٨٣

وأخيراً ينبغي التنبيه إلى شيء مهم ، وهو عدم توفيق الفلسفة المشائية في التطبيق بين ما جاءت به الشريعة الإسلامية وبين الأصول العقلية التي تبنتها هذه المدرسة في الفکر الإسلامي ، وخصوصاً ما حصل لها في مسألة المعاد الجسماني الذي نحن بصدد دراسته وإثباته على أساس المنهج المتبع في هذه المدرسة ، فقد أخففت في تحقيقه فلسفياً وعقلياً وآمنت بها تعبدياً ، کما سيأتي في محله ، ولکن هناک شيئاً يختلج في أذهاننا ، وهو لماذا هذا الإخفاق ؟ هل هو لقصور في أصولها العقلية التي تراها مصونة من الخطأ ، أم أن النصوص الشرعية لم تکن موافقة في الواقع لما يثبته العقل ؟ بمعنى أن ساحة الشريعة شيء ، وساحة العقل شيء آخر ؟ وفي جواب هذه الأسئلة وغيرها ، نقول: إن الفصل بين الشريعة والعقل قول بلا دليل ، بل الدليل قام على عکسه ، ولکن ثمّة أصولاً أخذت بعنوان أصول موضوعة في الفلسفة المشائية ، وکانت في الواقع ليست کذلک ، إذ ظهر بطلان الکثير منها ، کأصل عدم تجرد القوة الخيالية ، وأصل نفي الحرکة الجوهرية ، وغيرها ، التي على أساسها صعب إثبات الکثير من المسائل الضرورية ، کمسألة المعاد الجسماني ، ومسألة برزخ النفوس الناقصة غير الکاملة ، وغيرها.

وعليه فإنّ الأسلوب والمنهج العلمي في تحقيق مسائل الفلسفة المشائية المتعلقة بشتى جوانب العالم الکوني ، کان منهجاً قائماً على أساس الاستدلال العقلي المحض ، المبني على أساس وجوب تأويل الشرع المخالف للنتائج المنتهى إليها في الاستدلال ، بحيث تکوّن عنه رؤية کونية فلسفية تختلف عن الرؤية الکونية الدينية ، وهذا هو أکبر خطأ ارتکبته الفلسفة المشائية في مسألة عدم التوفيق بين قواعدها وقواعد الشرع ، في الوقت الذي لا يمکن أن تکون نتائج الشرع مخالفة لنتائج العقل ، فإن کان هناک خلل ، فهو في حقيقة الأصول الموضوعة لها.

١٨٤

٢. مدى خطورة وأهمية مسألة المعاد الجسماني

إن أحد المباحث المعضلة في القرآن الکريم والأحاديث الشريفة المأثورة عن أهل بيت الوحي والرسالة : هو بحث المعاد ، وينبغي ألا يرجع الذين لا حظ لهم من العلم الإلهي إلى القرآن الکريم في هذه المسألة ، کما روي عن أمير المؤمنين ٧ في وصيته لأصحابه في محاجة الخوارج بالأحاديث الصحيحة لا بالقرآن الکريم ؛ لأن القرآن حمال ذو وجوه ، (١) فالشيخ الرئيس مع ما عنده من قابلية وقدرة في البحث والتحقيق والتأليف ، إلاّ أن ما کتبه في المعاد لا يتجاوز بعض الصفحات ، فکيف بالآخرين ؟ بينما نجده في الشؤون العامة وسائر الأبحاث الأخرى قد وفي الکلام حقه ، وقد قال صدر المتألهين قولاً يصف فيه عظم هذه المسألة جاء فيه : ( اعلم أن مسألة المعاد هي رکن عظيم في الإسلام ، وأصل کبير في الحکمة ، وهي من أغمض المسائل دقة ، وأعظمها شرفاً ورتبة ، قلّ من هدي إليها من کبراء الحکماء من المتقدمين ، ومن يرشد إلى إتقانها من عظماء الفضلاء من الإسلاميين ) ، (٢) وقال أيضاً : ( فکيف يجد الإنسان الطريق إلى مثل هذا المطلوب الذي هو أحد عمودي الاعتقاد وهما علم المبدأ والمعاد. (٣)

لقد اختلفت الأنظار والآراء في قبول ما طرحه ابن سينا في باب المعاد الجسماني ، الذي سيأتي بيانه فيما بعد ، حيث بيّن هناک عجز العقل عن إثبات المعاد الجسماني ، حتى عرف أنّه يقول بالمعاد الروحاني بناءً على مبناه ومنهجه في البحث والتحقيق ، وکانت کتبه المختلفة مليئة بهذا القول ، ولکنه في الوقت الذي

ــــــــــــــــ

١. لاحظ : بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٤٥ ؛ ج ٣٣ ، ص ٣٧٦ ؛ محمد الشوکاني ، فتح القدير ، ص ١٢ ؛ ابن بابويه ، الإمامة والتبصرة ، ص ١٤٨.

٢. راجع : غلامحسن إبراهيمي ديناني ، معاد از ديدگاه حکيم مدرس زنوزي ؛ نقلاً عن الحکيم الزنوزي ، ص ٨١ ، ٨٢.

٣. راجع : کتاب معاد از ديدگاه ؛ به کوشش زهرا عبد الرزاقي ، علامه سيد ابوالحسن رفيعي قزويني ، ص ٥٦ ، ٥٧ ؛ سيد جلال الدين آشتياني ، شرح برزاد المسافر لملا صدرا ؛ ص ٧١.

١٨٥

أثبت فيه عدم قدرة العقل على إثبات المعاد الجسماني رجع وقال فيه قولاً تعبدياً ، خلافاً لمبناه ومنهجه العلمي في إثبات المسائل الإلهية وغير الإلهية ، وعندئذ تضاربت الآراء والأنظار في مصداقية الشيخ الرئيس في مقالته هذه ، فبعضهم حمله محملاً حسناً ، فقال : ( إن الذي بعث الشيخ على هذا الأمر ، هو تواضعه العظيم أمام الشرع وقبول الحقيقة ) ، (١) وبعضهم الآخر لم يحمله محملاً حسناً ، بل کان يقول : ( إن الذي بعث بالشيخ في قبول هذا الأمر ، هو التقية من متکلمي المسلمين في ذلک الزمان ) ؛ (٢) لأنّهم يعتبرون مسألة المعاد الجسماني ضرورة من ضروريات الدين الإسلامي ، فمن لم يعتقد بها ، أو لم يصدق بها ، أو من لم يقل بها فهو کافر ؛ لإنکاره هذه الضرورة من ضروريات الدين الإسلامي ، بينما لا يرى المتأخرون کما کان عليه المتقدمون ، بل فصلوا بين إنکار أصل المسألة والاعتقاد بها « مسألة المعاد » وبين تقرير کيفيتها « من أنّه جسماني أو روحاني أو جسماني وروحاني معاً » ، فالأولي يعد إنکارها من باب إنکار ضرورة من الضروريات ، والثانية لا يعد منکرها منکراً لضرورة من ضروريات ، والثانية لا يعد منکرها منکراً لضرورة من ضروريات الدين ، والشيخ الرئيس لم ينکر أبداً المسألة من أساسها ، ولکن البحث العقلي الاستدلالي انتهى به إلى القول بالمعاد الروحاني من غير أن يکون جاحداً بأصل المسألة ، وباعتبار أنه مؤمن بالدين الإسلامي فلا يجرأ على مخالفة ما جاء به الوحي الإلهي ، لأن الإيمان به يوجب إيماناً بکل ما جاء به ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى إنّ الشيخ الرئيس لا يرى العقل قادراً مطلقاً على معرفة کل الموجودات ، وإدراک کنهه وحقيقته ، وکثيراً ما کان يصرح بهذه الحقيقة حتى أصبحت واضحة عنه أوضح من الشمس في رائعة النهار ، وإليک بعض الشواهد من کلامه.

قال في باب معرفة کنه وذات الأشياء ما هذا الأشياء ما هذا نصه : ( الوقوف على حقائق الأشياء

ــــــــــــــــ

١. الشيخ الرئيس ابن سينا ، کتاب التعليقات ، ص ٣٤ ، ٣٥.

٢. المصدر السابق ، ص ١٣٧.

١٨٦

ليس في قدرة البشر ، ونحن لا نعرف من الأشياء إلا الخواص واللوازم والأعراض ، ولا نعرف الفصول المقوّمة لکل واحد منها ، الدالة على حقيقته ، بل نعرف أنها أشياء لها خواص وأعراض ، فإننا لا نعرف حقيقة الأول ، ولا النفس ، ولا الفلک والنار والهواء والماء والأرض ، ولا نعرف أيضاً حقائق الأعراض ، ومثل ذلک أنا لا نعرف حقيقة الجوهر ، بل إنّما عرفنا شيئاً له هذه الخاصية ، وهو أنّه الموجود لا في موضوع ، وهذا ليس حقيقته ، ولا نعرف حقيقة الجسم ، بل نعرف شيئاً له هذه الخواص ، وهي الطول والعرض والعمق ، ولا ... ). (١)

وقال أيضاً : ( الفصول المنوعة لا سبيل ـ البتة ـ إلى معرفتها وإدراکها ، وإنّما يدرک لازم من لوازمها ، فلا سبيل إلى معرفة ما تنفصل به النفس النباتية عن النفس الحيوانية وعن الناطقة ... الفصل المقوّم للنوع لا يعرف ولا يدرک علمه ومعرفته ، والأشياء التي يؤتي بها على أنها فصول ، فإنها تدل على الفصول وهي لوازمها ، وذلک کالناطق ، فإنّه شيء يدل على الفصل المقوّم للإنسان ، وهو معنى أوجب له أن يکون ناطقاً ، والتحديد بمثل هذه الأشياء يکون رسوماً ، لا حدوداً حقيقة ، وکذلک ما يتميّز به الأشخاص ، وما تتميّز به الأمزجة ). (٢)

٣. موقف علمائنا من نظرية الشيخ الرئيس في المعاد

ذکرنا في المسائل السابقة أن مسألة المعاد کانت مجملة في الزمن السابق ، عندما کان المعاد يؤخذ مقيداً بالجسماني والروحاني معاً ، على نحو اللزوم ، فالمعاد هو الجسماني ، والجسماني هو المعاد ، کما صرحت به الشريعة الإسلامية المقدسة من دون الحاجة إلى التأويل وصرف النظر عن ظاهر نصوصها الشرعية ، بينما نجد المتأخرين يفرقون بين الاعتقاد بأصل المسألة وبين ما ينتهى إليه البحث والتحقيق

ــــــــــــــــ

١. العلامة الحلي ، کشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، تحقيق الزنجاني ، قسم الإلهيات ، ص ٢١٣ ـ ٢٣٢.

٢. نقلاًً عن : الشيخ محمد المحمدي ، کتاب المعاد في الکتاب والسنة ، ص ١٤٦.

١٨٧

في کيفية معاد الإنسان في اليوم الآخر ، من کونه جسمانياً أو روحانياً أو روحانياً وجسمانياً معاً ، واعتبروا الأول يوجب الحکم بکفر منکريه ، بينما الثاني لا يوجب الحکم بکفره ، باعتبار أن الأول لازم لإنکار ضرورة من ضروريات الدين ، والثاني ليس کذلک ، وإن لم تکن موافقة لصريح القرآن ، ولکن لا دليل للحکم على منکره بوجوب کفره ، وإليک بيان بعض الأقوال في المسألة :

قال العلامة الحلي في کشف المراد في شرح التجريد : ( الواجب في المعاد هو إعادة الأجزاء الأصلية التي لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان ، أو النفس المجردة مع الأصلية ، أما الأجسام المتصلة بتلک الأجزاء فلا يجب إعادتها بعينها ). (١)

وقال شيخنا الشهيد الثاني في المقاصد العليّة : ( القدر الذي يجب التصديق به مما جاء به النبي ما علم مجيئه به تواتراً من أحوال المبدأ والمعاد ، کالتکليف بالعبادات ، والسؤال في القبر وعذابه ، والمعاد الجسماني والحساب والصراط والميزان ، والجنّة والنار ، ولا يجب العلم بکيفية ذلک وتفاصيله ، فإنه مما يخفى على الخواص ). (٢)

وقال شيخ الفقهاء العظام الأستاذ الأکبر الشيخ کاشف الغطاء في المبحث الثالث من الفن الأول من کتاب کشف الغطاء : ( يجب العلم بأنه تعالى يعيد الأبدان بعد الخراب ، ويرجع هيأتها الأولى بعد أن صارت إلى التراب ، ويحل بها الأرواح على نحو ما کانت ، ويضمها إليها بعد ما انفصلت وبانت ، فکأن الناس نيام انتبهوا ، فإذا هم قيام ينظرون إلى عالم جديد إلى أن قال : والمقدار الواجب معرفة أصل المعاد ومعرفة الحساب وترتيب الثواب والعقاب ، ولا يجب المعرفة على التحقيق التي لا يصلها إلا صاحب النظر الدقيق کالعلم بأن الأبدان هل تعود بذواتها أو إنّما يعود ما يماثلها بهيئاتها ، وأن الأرواح هل تعدم کالأجساد أو تبقى مستمرة حتى تتصل بالأبدان عند المعاد ، وأن المعاد هل يختص بالإنسان أو يجري على کافة ضروب

ــــــــــــــــ

١. کشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، تحقيق الزنجاني ، قسم الإلهيات ، ص ٢١٣ ـ ٢٣٢.

٢. نقلاً عن : کتاب المعاد في الکتاب والسنة ، ص ١٤٦.

١٨٨

الحيوان ، وان عودها بحکم الله دفعي أو تدريجي ، وحيث لزمه معرفة الجنان وتصور الميزان لا يلزم معرفة وجودها الآن ، ولا العلم بأنها في السماء أو في الأرض أو يختلفان ، وکذا لا يلزم معرفة الميزان ولا يجب عليه معرفة أنها ميزان معنوية أو لها کفتان ، ولا يلزم معرفة الصراط جسم دقيق أو عبارة عن الاستقامة المعنوية على خلاف التحقيق إلى أن قال : ولا يلزم معرفة ضروب العذاب وکيفية ما يلقاه العصاة من أنواع النکال والعقاب ). (١)

والذي يهمنا من الأقوال الثلاثة التي مرّ ذکرها ، أنهم لا يشترطون إعادة جميع أجزاء جسم الإنسان ، بل المهم الاعتقاد بأن المعاد في اليوم الآخر لابد أن يکون جسمانياً.

وقال صاحب کتاب المعاد في القرآن والسنة الشيخ الفقيه آية الله محمد المحمدي : ( ... فمن اعتقد بأصل المعاد الجسماني ثم أدى نظره بالبحث والتحقيق إلى الاعتقاد ببعض الخصوصيات في الجسم حسب الأدلة الدالة عليه عنده ـ وإن کان نظره مخالفاً لآحاد الأخبار ـ فلا يحل لأحد إزراؤه فضلاً عن تکفيره ، فإن من أفحش القول تکفير أهل القبلة إلا بما فيه نفي للصانع تعالى أو شرک به أو إنکار للنبوة أو ما علم أنه من دين النبي ضرورة ، مع علم المنکر بکونه من دين النبي ٩ إلى أن قال : وفي غير ما ذکر فالتکفير تقوّل على الله بغير علم عز اسمه ، ومن أظلم ممن افترى على الله کذباً ، والمکفر داخل في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ) ، (٢) واستشهد على قوله بالرواية التالية ، قال : روى عنه ( أنه قال : « إذا قال المسلم لأخيه : يا کافر ، فقد باء بهاء أحدهما » (٣) انتهى ). (٤)

ــــــــــــــــ

١. کاشف الغطاء ، کتاب کشف الغطاء ، ص ٥.

٢. الأحزاب ، ٥٧ ، ٥٨.

٣. بحار الأنوار ، ج ٧٢ ، ص ١٦٤ ؛ صحيح البخاري ، ج ٧ ، ص ٩٧.

٤. طه ، ١١٤.

١٨٩

٤. في تحقيق مسألة المعاد الجسماني وبحثها

إنّ البحث في مسألة الجسماني في نظر الشيخ الرئيس يتميز بطابع خاص يختلف عما هو عليه في أبحاث الآخرين ؛ لأن المتعارف عليه أن صاحب المبنى الخاص يجب عليه أن يتبع في تحقيقاته على أساس ما قرره من أصول ومبانٍ ، إلاّ أن شيخنا الرئيس ابن سينا کان له منهج خاص وأسلوب معين في تحقيق مسألة المعاد في اليوم الآخر ، خالف فيه کل مبانيه في التحقق ـ عندما أخذ النتيجة من الشرع المقدّس ـ باعتبار أنه صاحب منهج عقلي ومنطقي فيه ، إلاّ أنه في تحقيق هذه المسألة اتبع طريقاً خاصاً خالف فيه المنهج المتبع في تحقيق مسائل الفلسفة المشائية ، المبنى على أساس الاستدلال والمنطق العقلي ، فقد اتبع فيها أسلوباً يعتمد على ملاحظة مقدمتين أساسيتين عنده ؛ إحداهما عقلية ، والأخرى شرعية ، وقد استخلص من نتيجة

المقدمة الثانية وجوب الإيمان والاعتقاد بالمعاد الجسماني دون الکيفية التي توصل إليها عن طريق ما تبناه من أصول موضوعية في تحقيقه لمسائل فلسفته ، التي کانت تحتم عليه رفض التسليم التعبدي بشيء ما لم يدل الدليل المنطقي على إثباته ، ولکي تتضح هذه الحقيقة کان علينا أن نبين هاتين المقدمتين بنحو من التفصيل ، وکما يلي :

المقدمة الأولى : المقدمة العقلية في بيان محدودية العقل

إنّ أروع شيء في العالِم المحترف في أي فن من الفنون المختلفة ، هو بيان عجزه وافتقاره وعدم قدرته المطلقة في باب الإحاطة التامة بجميع المعارف والعلوم التي لم تکن تحت إمکانه ودائرة علمه وإدراکه ، خصوصاً فيما إذا کانت من جملة العلوم الغيبية التي قد لا يکون للعقل الإنساني سعة في إدراکها ومعرفة کنهها وحقيقتها ، والإلمام بجميع جزئياتها بتمام تفاصيلها ، ولا يعد هذا نقصاً في عقله ، بقدر ما يدل

١٩٠

على کماله وتواضعه للحق ، وواحدة من هذه الأمور التي امتاز بها أرباب العلم والمعرفة والحکمة ، وکبار الفلاسفة ، هي اعترافهم بمحدودية عقل الإنسان وتحديد قدرته في إدراک الحقائق الواقعية على ما عليها في الواقع الثابت ، ومن أبرز هؤلاء الفلاسفة الکبار الشيخ الرئيس ابن سينا ، فهو على ما عنده من قدرة عقلية في بيان وبرهنة الکثير من المسائل ، إلاّ أنه أظهر عجز عقله عن أدراک کل الحقائق الواقعية ، کما ذکرنا بعض کلماته في بداية هذا البحث ، فإن دلّ هذا الأمر على شيء فإنّما يدل على تواضعه من جهة ، وشجاعته من جهة أخرى ، إذ ليس من السهل أن يصرع رجل کهذا نفسه ، وهي ترى ما عندها من المعلوم کثيرة ، وخير شاهد على ذلک کتابه المعروف بالمباحثات التي أظهر فيها عجز العقل عن إدراک جميع الواقعيات ، بل أکّد فيها محدودية العقل في هذا الأمر ، ولم يخل کتابه الکبير المعروف بکتاب الإشارات من الإشارة إلى هذه الحقيقة ، کما بيّن ذلک في النمط التاسع تحت عنوان مقامات العارفين ، من وجود وسيلة أخرى يمکن للإنسان أن يدرک الواقع الخارجي من خلالها ، تعمل خارج حدود العقل ، وهي الوحي الإلهي ، وإخبار الصادق المصدق المعصوم.

ويجب أن يعلم أن الحکم بمحدودية العقل لم يکن خالياً من الدليل النقلي ، ولکن تکمن أهمية هذه المسألة في طبيعة الاعتراف بها من قبل أصحاب المذهب العقلي في البحث والاستدلال ، فإن هذه الأدلة النقلية تلزم العقل بالعمل في ضمن حدوده ومجال معرفته وإدراکه ، فالعقل يحکم بمقدار دائرته ومجاله الممکن إثباتاً ونفياً ، ولا يحق للعقل أن يثبت أو ينفى شيئاً واقعاً في مجال خارج مجاله ودائرة حکمه وإدراکه ، هذا فيما إذا أخذنا العقل بما هو عقل من دون تدخل العامل الخارجي الذي بإمکانه أن يساعده في إدراک ذلک الأمر الواقع في مجال خارج مجاله ؛ لأن العقل بمساعدة هذا العامل الخارجي يستطيع الحکم إيجاباً وسلباً في تحديد مصير ذلک الأمر المفروض ، وهذا العامل الخارجي تارة يکون محدوداً بحدود معينة ، وإن کانت بالنسبة لحدود العقل أوسع ، ولکنها بالنسبة لعامل آخر فهي محدودة ، فقد

١٩١

يکون العامل الخارجي هو الکشف والشهود ، وقد يکون هو الوحي الإلهي ، فالأول محدود بحدود المعرفة الشهودية ، ولکن الثاني لا حدود له ؛ لأن مجال الوحي الإلهي غير مقيد بقيود معينة ، بل مجال المعرفة فيه مطلقة غير محدودة ، لقوله تعالى : ( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ). (١)

وقد لخص البعض محدودية القدرة الإدراکية للعقل في عشر مراحل ، (٢) وهي کما يلي :

الأولى : محدودية قدرة العقل في معرفة جميع طرق إدراک الحقائق.

الثانية : محدودية قدرة العقل في إدراک نفس الحقائق.

الثالثة : محدودية قدرة العقل في إدراک جميع أبعاد الحقائق.

الرابعة : محدودية قدرة العقل في الإدراک الکامل لروابط الحقائق.

الخامسة : محدودية قدرة العقل في إدراک الحقائق التي وراء العقل بشکل خاص.

السادسة : محدودية قدرة العقل في إدراک تأثير معرفة المواضيع ما وراء العقل في مواضيع العقل المحضة.

السابعة : محدودية قدرة العقل في إدراک تأثير معرفة مواضيع ما وراء العقل في معرفة مواضيع الحس والتجربة.

الثامنة : محدودية قدرة العقل في إدراک تأثير معرفة مواضيع ما وراء العقل في معرفة مواضيع الکشف والشهود.

التاسعة : محدودية قدرة العقل في إدراک الطريق والمنهج الصحيح للاستفادة من العقل ( استعمال العقل ).

العاشرة : محدودية قدرة العقل في إدراک العوامل الخنثى للمعرفة العقلية.

وعليه فإنّ ما قاله الشيخ الرئيس في بيان محدودية العقل في مجال معرفة جميع الحقائق الواقعية ، يتناسب بشکل تام مع ما جاء به صاحب هذا الکتاب الشيخ

ــــــــــــــــ

١. طه ، ١١٤.

٢. محمد رضا حکيمي ، معاد جسماني در حمکت متعالية ، ص ١٥٣ ـ ١٥٥.

١٩٢

محمد رضا الحکيمي ، وهذا الأمر کما بينا قبل قليل ، يکشف عن مدى تواضع الشيخ الرئيس أمام الحق والواقع الثابت من جهة ، ومدى تسليمه وإيمانه بالشرع الإسلامي والوحي الإلهي ؛ باعتبار أنه أحد المؤمنين بهذه الشريعة السمحاء من جهة أخرى.

المقدمة الثانية : المقدمة الشرعية

وفيها يتضح مدى تسليم الشيخ للشرع المقدس ، فقد جاء قبوله بالشرع المقدس في الوقت الذي وصل إلى طريق مسدود أمام العقل في مسألة إثبات جسمانية المعاد في اليوم الآخر ، (١) فالدليل العقلي معه کان مثبتاً للمعاد الروحاني دون الجسماني ، ولکن هذا الأمر لم يکن مضراً بيقينه التام بوجوب تصديق خبر الصادق الأمين ٩ بناءً على ما اخترناه من الحمل على المحمل الحسن وإن ما توصل إليه بالدليل العقلي کان مخالفاً لظاهر ما جاء به الشرع في بيان کيفية وطبيعة المعاد في اليوم الآخر ، لصريح القرآن بجسمانيته على النحو الذي لا مجال للتإويل فيه ، فقد کانت بعض آياته نص في ذلک ، وأما بالنسبة للمصدر الشرعي الثاني والذي لا تقل درجته عن مقام القرآن فيما إذا کانت دلالته صريحة وواضحة مع سلامة السند من التضعيف والخدش فقد بلغ حد الاستفاضة ، إن لم نقل بالتواتر في إثبات هذه الحقيقة ، التي أصبحت بعد ذلک واضحة للجميع ، إلى الحد الذي لا يبقى للمنکر إلا العناد والتعمد في الجدال بلا دليل يعضده لقوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ ). (٢)

ومن هنا تتجلى لنا عظمة الشيخ الرئيس في هذه المسألة ، فإنه على الرغم من وجود الدليل عنده على إثبات الطرف الثاني المعاد الروحاني ونفي الطرف الأول

ــــــــــــــــ

١. فقد ذکر السيد جلال الدين الآشتياني في شرحه على زاد المسافر لملا صدرا ، ( ... ابن سينا لا يعتقد بحشر الأجساد وبالمعاد الجسماني ، خصوصاً وأنّه أقام الدليل على امتناع المعاد الجسماني وعود الروح إلى البدن ) ، راجع الکتاب المذکور ، ص ٦٥ ـ ٧١.

٢. النمل ، ١٤.

١٩٣

المعاد الجسماني ولکن مع کل هذا الجهد الکبير الذي بذله في تحقيق المسألة ، عاد على بدأ وقال بالجسماني ، بالرغم من أنه أثبت استحالة إمکانه عقلاً ، فضلاً عن وقوعه ، وتحمل على ذلک الأمر التهم والازدراء من الطرفين الموافق والمخالف ، فقد قال الموافق للقول بالمعاد الجسماني : إن إظهار هذا الأمر لم يکن من باب التسليم للشرع ، بل من باب الخوف من وصمة التکفير ، لأنها کانت تلحق بکل من يقول بالقول المخالف لظاهر الشرع المقدس ، وإن ثبت عنده بالدليل القاطع ، بينما أشکل عليه أصحاب الطرف المخالف القائلين بالمعاد الروحاني ، بأن صاحب المبنى لا يصح منه مخالفة مبناه على أساس عدم القدرة في إثبات ما يريده الطرف الآخر ، فأن التعبد لصاحب العقل أمر قبيح جداً ، وقد غفل الطرفان على أن القضية قد لا تکون على أساس ما ذهبوا إليه ، فمن طرف تدل على صدق اعتقاد الرجل ومدى إيمانه بالشريعة الإسلامية ، باعتباره فرداً من أفرادها ، والمقدار الذي يجب التسليم به ، لا من باب الخوف کما تصوره الطرف الموافق للمعاد الجسماني ، ولا من باب القبح کما قال به الطرف المخالف للجسماني أصحاب النظر العقلي بل قد يکشف عن مدى تواضع الرجل أمام الحق وشجاعته الفائقة أمام نفسه وعقله الذي يرى الواقع خلاف الشرع ، ولکنّ إدراکه وإيمانه بمسألة تطابق العقل مع الشرع ، في الوقت الذي لا يرى فيه طريق لإمکان تأويل الشرع ؛ باعتبار أنّ هذه المسألة بالذات تأبى التأويل والانصراف عما هو ظاهر ونص فيها الجسماني فقبوله للشرع لا يعد قبيحا کما يتصور ، بل کان کاشفا عن عظمة وعلمية الشيخ الرئيس في هذا الأمر ، هذا ما نراه نحن في اتخاذ الشيخ لهذا الموقف ، معتمدين فيه على عدة قرائن لفظية ظهرت من مباحثاته مع تلميذه بهمنيار صاحب کتاب التحصيل ، فلتراجع تلک المباحثات المدوّنة في کتاب المباحثات.

١٩٤

٥. في ماهية الإنسان المکلف بالخطابات الإلهية

لا يخفى علينا دور هذه المسألة في تحقيق مسألة المعاد الجسماني ، بل قد تکون من أهم مسائله التي يتوقف عليها دراسته وتحقيقه وإثباته ، فلا معاد ما لم يثبت موضوعه ، فهي القطب الذي يدور عليه أبحاث المعاد ، وقد سبق وأن بينا الأقوال فيها ، ثم قمنا بعد ذلک بمناقشة بعضها ، وما بقى علينا هنا إلا أن نبيّن رأي الشيخ الرئيس ابن سينا فيها ؛ لأن الإشارة السابقة کانت مجملة عامة شاملة لجميع الفلاسفة والحکماء ، فعلينا علينا أن نذکر رأي الشيخ الرئيس مفصلاً فيها ، فقد ذهب جمهور الفلاسفة والحکماء إلى القول الآتي : بأن ماهية الإنسان التي تقع مورد الخطاب الإلهي جوهر مجرد لا جسم ولا جسماني ، إلا أنه يجب الالتفات إلى مسألة مهمة ، وهي أن هذا الجوهر المجرد الذي يعبر عنه في الإنسان بالنفس الناطقة ، قد اختلف الفلاسفة في مسألة قواه ، هل هي مجردة أم مادية منطبعة بجزء مادي ؟ وقد ذهب الشيخ الرئيس ابن سينا إلى القول بتجرد القوة العقلية دون القوى الأخرى کالقوة الوهمية والخيالية ، بينما نرى ملا صدرا ذهب إلى تجرد جميع القوى العقلية والخيالية والوهمية وستأتي الإشارة إليها في محله. نعم قد يفهم من بعض عبارات الشيخ الرئيس الإشارة إلى القول بتجرد القوة الخيالية ، کما فهم ملا صدرا ذلک من عبارته التالية : ( إن الصور الخيالية ليست تضعف عن الحسية ... ) ، (١) فقال صدر المتألهين في شرحه لکتاب الهداية الأثيرية : ( وللشيخ الرئيس إشارة خفية في آخر إلهيات الشفاء إلى وجه في صحة المعاد الجسماني بقوله : إن الصور الخيالية ليست تضعف عن الحسية ... ) ، (٢) ويريد أن يؤکد في قوله هذا ما ذهب إليه في جعل تجرد القوه الخيالية رکناً أساسياً في ثبوت المعاد الجسماني الذي قال به.

ــــــــــــــــ

١. الشيخ الرئيس ابن سينا ، الإلهيات من کتاب الشفاء ، تحقيق آية الله حسن حسن زاده آملي ، ص ٤٧٣.

٢. صدر المتألهين ، شرح الهداية الأثيرية ، ص ٣٧٧.

١٩٥

٦ ـ في أدلّة تجرد النفس الإنسانية الناطقة

وقد ذکر الشيخ الرئيس ما يقارب ثمانية أو تسعة براهين على إثبات تجرد النفس الناطقة تجرداً عقلياً تاماً ، وسنقوم بنقل بعضها ونترک البعض الآخر إلى من يرغب التفصيل ؛ لأن النقل لجميعها يخرجنا من محل البحث ، لأن بعضها طويل إلى حدٍ ما ، وبعضها الأخر قصير إلى حدٍّ ما ، کما هو البرهان الرابع الوارد في کتاب الشفاء ، وأطولها البرهان الأول الوارد بنفس المصدر السابق ، ويعتبر هذا البرهان ـ الأول ـ أقوى من براهينه الأخرى ؛ ولذا اعتنى به الشيخ الرئيس عناية خاصة ، فقد أتى به في سائر تصانيفه بتقريرات يقرب بعضها من البعض ، فقد ذکره في کتابه النجاة ، (١) وفي کتابه المعروف بکتاب الإشارات ، (٢) وجاء في کتاب المبدأ والمعاد ، (٣) وغيرها من مؤلفاته الفلسفية.

ونحن في هذا المقام لا نستطيع الإتيان بجميع هذه البراهين لطولها ، ولکن سنقوم بذکر برهان واحد منها لتحقيق الغرض ، وحيث أن البرهان الأول يعتبر أقوى هذه البراهين وأقلها إشکالاً واعتراضاً ، وقد تعرض لتقريره الشيخ الرئيس في مجموعة من مؤلفاته کما ذکرنا قبل قليل ، فأنا نختار أحد هذه التقريرات وأخصرها ، وهو الوارد في کتابه المبدأ والمعاد ، فقد جاء فيه : ( فصل في أن المعقولات لا تحل جسماً ، ولا قوة في جسم ، بل جوهراً قائماً بنفسه ونحن الآن ملتمسون أن نعرف کيف تأخذ کل قوّة مدرکة صورة المدرک ، فنقول : المدرک إذا کان ذاتاً عقلياً فلا يجوز أن يدرکه قوّة حسيّة ، ولا قوّة في جسم بوجه من الوجوه.

ــــــــــــــــ

١. الشيخ الرئيس ابن سينا ، کتاب النجاة ، ط ٢ ، ص ١٧٧ ـ ١٧٤ ، ط مصر سنة ١٣٥٧ ه‍. ق.

٢. الشيخ الرئيس ابن سينا ، کتاب الإشارات ، النمط الثالث ، الفصل السادس عشر ، وکذلک في الفصل الدول من النمط السابع.

٣. ابن سينا ، المبدأ والمعاد ، المقالة الثالثة ، الفصل السادس عشر ، فصل في أن المعقولات لا تحل جسما ، ولا قوة في جسم ، بل جوهراً قائماً بنفسه.

١٩٦

والبرهان على ذلک أن کل قوّة في جسم ، فإن الصورة التي تدرکها تحل جسماً لا محالة ، ولو کان محله مجرداً عن الجسم لکان لتلک القوّة قوام دون الجسم ، ثم لا يجوز أن يکون لصورة عقلية ، کيف کانت ، بذاتها أو بتجرد العقل لها ، تصوّر وحلول في الجسم ، وذلک لأن کل معنى وذوات عقلية فهي بريئة عن المادة وعن عوارض المادة ، وإنّما هو حدّ فقط.

ثم إنّ کل صورة تحل جسماً فقط يمکن فيها أن تنقسم ؛ فإن تشابهت الأقسام فيکون الشيء لم يدرک مرّة ، بل مراراً کثيرة ، بل مراراً بغير نهاية بالقوّة ، وإن لم تتشابه وجب أن تختلف ، فيجب أن يکون بعضها قائماً مقام الفصول من الصور التامة ، وبعضها قائم مقام الجنس ، لأن أجزاء تلک الصورة تکون أجزاء معنى الذات ، ومعني الذات لا يمکن أن يقسم إلا على وجه ، لکن القسمة واجبة أن تکون على جهة واحدة ، بل يمکن على جهات مختلفة ، فيمکن أن تکون أجزاء الصورة کيف اتفق فصلاً أو جنساً ، فلنفرض جزءاً جنساً وجزءاً فصلاً معيناً ، ولنقسم على خلاف تلک القسمة : فإن کان ذلک بعينه فهذا محال ، وإن کان فصل آخر وجنس آخر حدث للشيء فصول کيف اتفق وبغير نهاية وأجناس کذلک ، فهذا محال.

ثم کيف يجوز ولم يجب أن يکون صورة هذا الجانب مختصاً بأنه جنس ، وصورة هذا الجانب أنه فصل ، وإن کان هذا الاختصاص يحدث بتوهم القسمة ، فالتوهم بغير صورة الشيء ، وهذا محال ، وإن کان موجوداً فيجب من ذلک أن يکون عقلنا شيئين لا شيئاً واحداً ، والسؤال في کل واحد من الشيئين ثابت ، فيجب أن يکون عقلنا أشياء بلا نهاية ، فيکون للمعقول الواحد مبادٍ معقولة بلا نهاية.

ثم کيف يمکن أن يحصل من المعقولين معقول واحد ، ونحن نعقل طبيعة الفصل بعينها لطبيعة الجنس ، فيجب أن تحل طبيعة الفصل وصورته في الجسم حيث طبيعة الجنس ، فيستحيل ، ثم کيف يمکن أن يحصل من المعقولين معقول واحد ، ونحن نعقل طبيعة الفصل بعينها لطبيعة الجنس ، فيجب أن تحل طبيعة الفصل وصورته في الجسم حيث طبيعة الجنس ، فيستحيل.

١٩٧

ثم الواحد الذي لا قسمة له کيف يعقل ؟ والحد من جهة ما هو حدّ واحد ، فکيف يعقل من جهة وحدته ؟ والفصول المجرّدة لا تنقسم بالفصول ، والأجناس المجرّدة التي ليس لها أجناس ، وصورة المعقولات التي لا قسمة لها إلى مبادئ حدود کيف تعقل ؟

وقد بان وأتضح أن المعقولات الحقيقية لا تحل جسماً من الأجسام ولا تقبلها صورة متقررة في مادة جسم ). (١)

وقد لخص الشيخ حسن زاده آملي في کتابه الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة ، البرهان الأول المنقول في الشفاء بعبارة مختصرة قال فيها : ( وعصارة البرهان : أن الصور المعقولة بسيطة مفارقة ، ووعاء المفارق مفارق ، وأخصر من هذه أن نقول : وعاء العلم مجرّد ، أو تقول : العلم بسيط فمدرکه بسيط ). (٢)

وکيفما کان فإن مسألة تجرّد النفس الناطقة مما نطق به الشرع والعقل ، فلا يحتاج إلى مزيد بحث ، ولکن الذي يهمنا هنا هو الإشارة إلى أن البراهين التي طرحها الشيخ الرئيس کان محورها التجرد العقلي للنفس الإنسانية دون المراتب الأخرى ، ونترک التفصيل إلى المطالب له ، فليراجع کتبه. (٣)

٧. موقف الشيخ من نظرية الشرع في المعاد الجسماني

مما تقدم تبيّن لنا أن الکيفية التي انتهى إليها الشيخ الرئيس في طبيعة المعاد يوم القيامة ، هي بنفس الکيفية التي جاء بها الشرع المقدس تصديقاً منه به ، معتمداً في ذلک على مقدمة يقينية ، وهي تصديق خبر الصادق المصدق المعصوم ٧ ، وباعتبار أن مجال الوحي الإلهي غير محدود في المعرفة ومحدودية مجال العقل ، کما بينا

ــــــــــــــــ

١. الشيخ الرئيس ابن سينا ، المبدأ والمعاد ، ط ١ ، ص ١٠٠ ، ١٠١.

٢. حسن زاده آملي ، الحج البالغة على تجرد النفس الناطقة ، ص ٨٧.

٣. راجع : کتاب النجاة ، ط ٢ ، ص ١٧٤ ـ ١٧٧ ؛ الشيخ الرئيس ابن سينا ، کتاب النفس من الشفاء ، تحقيق آية الله حسن زاده آملي ، ص ٢٨٨ ـ ٢٩٤ ؛ مجموعة الرسائل الفلسفية ، ط مصر ، ص ٨٠ ـ ٨٤ ؛ رسالة فارسية في معرفة النفس ، تصحيح د. موسى عميد ، سنة ١٣٧١ ه‍. ش ، وغيرها.

١٩٨

ذلک في المقدمتين السابقتين ، وبناءً على ذلک انتهى إلى النتيجة التالية :

قال الشيخ الرئيس في بعض کتبه الأساسية : ( يجب أن يعلم أن المعاد منه ما هو مقبول (١) من الشرع ، ولا سبيل إلى إثباته إلا من طريق الشريعة ، وتصديق خبر النبوة ، وهو الذي للبدن عند البعث ، وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج إلى أن يعلم ، وقد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا بها سيدنا ومولانا ونبينا محمد ٩ حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن ، ومنه ما هو مدرک بالعقل والقياس ـ البرهان ، وقد صدقته النبوة ، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس ـ بالمقياس خ ل ـ اللتان للأنفس وان کانت الأوهام منات قصر عن تصورهما الآن لما توضح من العلل. والحکماء الإلهيين رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة العادة البدنية ، بل کأنهم لا يلتفتون إلى تلک ، وإن أعطوها ولا يستعظمونها في جنبة هذه السعادة التي هي مقاربة الحق الأول على ما نصه عن قريب ، فلتعرف حال هذه السعادة والشقاوة المضادة لها ، فإن البدنية مفروغ عنها في الشرع ). (٢)

ولا شک أن التعبير بالمقبول فيه دلالة واضحة وصريحة على التقليد في الأمر ، بينما قد لا نستظهره من عبارته في بعض نسخ الشفاء ـ کما نقل ذلک البعض ـ حينما عبر فيها بدل کلمة المقبول بالمعلوم ، وفرق بين التعبيرين ، فان الأول ظاهر في التقليد ، والثاني ظاهر في التصديق ، وقد يکون هو مراده من العبارتين ، إلا أن برهانه العقلي على إثبات روحانية المعاد واستحالة جسمانيته ، يرجح الأول « التقليد ».

وإنّ بيان حقيقة الالتذاذ والتألم بعد الممات وعند قيام الساعة ، دليل لنا على طبيعة تمسک الشيخ الرئيس في ما ذهب إليه في کيفية المعاد في اليوم الآخر ، إلا أنّه

ــــــــــــــــ

١. ينبغي الالتفات إلى أن هذه العبارة قد تغيرت من کتاب إلى آخر من کتب الشيخ ابن سينا ، فالموجود في إلهيات الشفاء ، قوله [ المنقول : ] و في بعض النسخ من کتاب الشفاء وردت بلفظ [ معلوم ] کما نقل ذلک سيد جلال الدين الآشتياني في شرحه على زاد المسافر لملا صدرا ، ص ٧٢.

٢. الشيخ الرئيس ابن سينا ، النجاة ، ص ٢٩١.

١٩٩

لا ينکر الالتذاذ والتألم الجسماني اعتماداً منه على الشرع المقدّس ؛ إذ لا طريق للعقل في بيانه ، فقد قال في توضيح هذه الحقيقة : ( وأمّا إذا انفصلنا عن البدن ، وکانت النفس منّا تنبهت في البدن لکمالها الذي هو معشوقها ولم تحصله ، وهي بالطبع نازعة إليه إذ عقلت أنه بالفعل ، أنه موجود ، إلا أن اشتغالها بالبدن کما قلنا قد أنساها ذاتها ومعشوقها ، کما ينسى المرض الحاجة إلى بدل ما يتحلل ، وکما ينسي المرض الاستلذاذ بالحلو واشتهاءه ، ويميل بالشهوة من المرض إلى المکروهات في الحقيقة عرض لها حينئذ من الألم لفقدانه کفاءة ما يعرض من اللذة التي أوجبنا وجودها ودللنا على عظم منزلتها ، ويکون ذلک هو الشقاوة والعقوبة التي لا يعدلهما تفريق النار الاتصال وتبديل الزمهرير للمزاج ، فيکون مثلنا حينئذ مثل الخدر الذي أومأنا إليه فيما سلف ، وأي الذي قد علمت فيه نار أو زمهرير ، فمنعت المادة الملابسة وجه الحس عن الشعور به ، فلم يلتذ ، ثم عرض أن زال العائق فتشعر بالبلاء العظيم.

وأما إذا کانت القوة العقلية بلغت من النفس حداً من الکمال يمکنها به إذا فارقت البدن تستکمل الاستکمال التام الذي لها أن تبلغه ، کان مثلها مثل الخدر الذي أذيق المطعم الألذ وعرض للحالة الأشهى وکان لا يشعر به ، فزال عنه الخدر وطالع اللذة العظيمة دفعة ؛ وتکون تلک اللذة لا من جنس اللذة الحسية والحيوانية بوجه ، بل لذة تشاکل الحالة الطبية التي هي للجواهر الحية المحضة ، وهي أجل من کل لذة واشرف ، فهذه السعادة ، وتلک هي الشقاوة ، وتلک الشقاوة ليست تکون لکل واحد من الناقصين ، بل الذين اکتسبوا للقوة التشوق إلى کمالها ، وذلک عندما يبرهن لهم أن من شأن النفس إدراک ماهية الکل ... ). (١)

ويتضح لنا من خلال هذا النص المتعلق ببيان طبيعة ونوع الالتذاذ والتألم

ــــــــــــــــ

١. الشيخ الرئيس ابن سينا ، الإلهيات من الشفاء ، ص ٤٦٦ ؛ تحقيق حسن حسن زاده آملي.

٢٠٠