المعاد الجسماني

شاكر عطية الساعدي

المعاد الجسماني

المؤلف:

شاكر عطية الساعدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: صدف
الطبعة: ١
ISBN: 964-7741-72-3
الصفحات: ٢٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

استبعاد الإنکار أو ما ينشأ منه ، والدليل على ذلک قوله على ما حکى الله عنه في آخر القصة : ( أعلم أن الله على کل شيء قدير ) ، ولم يقل : الآن کما يماثله قوله حکاية عن امرأة العزيز : ( الآن حصحص الحق ) ، ... على أنّ الرجل نبي مکلم وآية مبعوثة إلى الناس ، والأنبياء معصومون حاشاهم عن الشک والارتياب في البعث الذي هو أحد أصول الدين ... ) (١).

الدليل الثاني : إحياء طيور إبراهيم : وقد حکى الله سبحانه وتعالى هذه القصة عن طريق قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). (٢)

والدليل نفهمه عند التدبر والتأمل في هذه الآية الشريفة ، إنّ الإيمان أعمّ من الاطمئنان ؛ لأن الإيمان قد يشوبه الاضطراب ما لم يصل إلى درجة الاطمئنان ، أو قد نفهم منها أن الإيمان مفهوم تشکيکي له عدة مراتب ودرجات ، وأعلى مراتبه ودرجاته هو الاطمئنان الذي لايشوبه أي شائبة ما ، ويمکن أن نفهم لها معنى ثالثاً مستفاداً من رواية علي ابن الجهم عن المأمون ، حيث سأل الإمام الثامن علي بن موسى الرضا ٧ ، عن تفسيرها ، وعن سبب وعلة طلب نبي الله إبراهيم ٧ من ربّه بيان کيفية إحياء الموتى ، بعد ما کان نبياً معصوماً ، وحينئذ لا ينبغي له الشک والترديد ، مع أن الله سبحانه وتعالي علق ذلک على إيمانه ( أو لم تؤمن ) ، فأجاب الإمام رضا ٧ : « إنّ الله تعالى کان قد أوحى إلى إبراهيم ٧ أني متخذ من عبادي خليلاً ، إن سألني إحياء الموتى أجبته ، فوقع في نفس إبراهيم ٧ أنه ذلک الخليل ، فقال : ربّي أرني کيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلي ولکن ليطمئن قلبي على الخلّة ، قال : فخد أربعة من الطير فصرهن إليک ثم اجعل على کل جبل منهن

ــــــــــــــــ

١. الميزان في تفسير القرآن ، خ ٢ ، ص ٣٦٠ ، ٣٦١.

٢. البقرة ، ٢٦٠.

١٠١

جزءاً ، ثم أدعوهن يأتينک سعياً واعلم أن الله عزيز حکيم ». فأخذ إبراهيم ٧ نسراً وبطاً وطاووساً وديکاً ، فقطعهن وخلطهن ، ثم جعل على کل جبل من الجبال التي حوله ـ وکانت عشرة ـ منهن جزءاً وجعل مناقيرهن بين أصابعه ثم دعاهن بأسمائهن ، فوضع عنده حباً وماءاً ، فتطايرت تلک الأجزاء بعضها إلى البعض حتى استوت الأبدان ، وجاء کل بدن حتى انظم إلى رقبته ورأسه ، فخلى إبراهيم ٧ عن مناقيرهن ، فطرن ثم وقعن فشربن من ذلک الماء ، والتقطن من ذلک الحب ، وقلن : يا نبي الله أحييتنا أحياک الله ، فقال إبراهيم : (بل الله يحيي ويميت ، وهو على کل شيء قدير ، فقال المأمون : بارک الله فيک يا أبا الحسن ). (١)

وينبغي التنبيه إلى أن ما وقع فيه الاختلاف في باب التفسير ، هو ما يتعلق بمعاني جزئيات ومفردات هذه الآية الشريفة ، لوجود الإبهام في المراد منها ، کالإبهام في عدد الأجزاء ، وأسماء الجبال ، وأسماء الطيور ، وغيرها ، فقد جاء في بعض الروايات أن الطيور کانت هي الطاووس والديک والحمامة والغراب ، وفي بعضها أن المرامن الطير هو الطاووس ، وفي بعض الروايات ذکرت تأويلات لکل واحد منها ، ولکن المهم أن القضية کانت متعلقة بمسألة إحياء الموتى بعد متوتها ، ولکن لا بأي شکل يکون ، وإنما إحياء بکيفية مخصوصة تتناسب والطلب الإبراهيمي ، وقد عبر عن ذلک الشيخ مصباح اليزدي : ( أجمالاً نعلم أنها کانت طيور ، وممکن أن تکون من نوع واحد ، ومن الآية نستفد منها شيئاً واضحاً ، والروايات مختلفة في جزئيات هذه الآية ... ). (٢)

ومن موارد الاختلاف الذي وقع بين المفسرين هو ما يتعلق بالمراد من کلمة ( فصرهن إليک ) ، من حيث دلالتها على المعنى المقصود ، فقد قرأت بقراءتين ، بضم الصاد ، وکسرها ، وعندئذ يتغير المعنى تبعاً لتغير القراءة ، فعلي الأولى تکون بمعنى

ــــــــــــــــ

١. عبد علي جمعة ، تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٢٧٥ ـ ٢٨٢ ؛ نقلاً عن : عيون أخبار الرضا ٧.

٢. محمد تقي مصباح اليزدي ، کتاب معارف قرآن ، ج ١ ـ ٣ ، ص ٤٧٥.

١٠٢

صار يصور بمعنى ( أملهن ) أي أوجد ميلاً بها ، وآنسها بک ، ويشهد به تعديته ب‍ ( إلى ) فإنّ صار إذا تعدي ب‍ ( إلى ) کان بمعنى الإمالة ، وعلى الثانية تکون بمعنى صار يصير ، بمعنى قطعهن ، ولکن المعنى الأول خلاف الظاهر من النص القرآني الشريف ، حيث أمره سبحانه وتعالى أن يجعل کل جزء منهن على جبل ، لا کل واحد منهن ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى أن من مقتضى حال المجيب أن يکون جوابه مطابقاً لسؤال السائل ، والسائل سأل عن کيفية الإحياء بعدما رأى تلک الجيفة تمزقها سباع البر والبحر ، کما عليه بعض الروايات ، أو بيان ومعرفة مقام الخلة عند الحق تعالى کما مرّ علينا في رواية علي بن الجهم عن المأمون ، وکان من جملتها رؤية إحياء الموتى ، وهذه المطالب تتناسب مع المعنى الثاني ، والقراءة الثانية ، وإلاّ فلا مطابقة لذلک على القراءة الأولى. فتأمل !

ثم أنه لم يذهب إلى المعنى الأول إلاَّ بعض المفسرين ، کصاحب المنار حيث إنّه ذکر في تفسيره قائلاً : ( ... خذ أربعة من الطير فضمها إليک ، وآنسها بک ، حتى تستأنس وتصير بحيث دعوتک إذا دعوتها ، فإن الطيور من أشد الحيوانات استعداداً لذلک ، ثم اجعل کل واحد منها على جبل ، ثم ادعها ، فإنها تسرع إليک من غير أن يمنعها تفرق أمکنتها وبعدها ، کذلک أمر ربک إذا أراد إحياء الموتي ، يدعوهم لکلمة التکوين « کانوا أحياء » فيکونون أحياء ، کما کان شأنه في بدء الخلقة ، تلک إذ قال للسموات والأرض : ( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (١) ... والدليل على ذلک من الآية قوله تعالى : فصرهنّ ، فإن معناه ( أملهن ) أي أوجد ميلا بها ، وآنسها بک ، ويشهد به تعديته ب‍ ( إلى ) ، فأن صار إذا تعدى ( إلى ) کان بمعنى الإمالة. (٢)

وکما ذکرنا سابقاً أن حمل الآية على هذا المعنى يخالف ظاهر النص الشريف

ــــــــــــــــ

١. فصلت ، ١١.

٢. محمد رشيد رضا ، تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ٥٥ ـ ٥٨.

١٠٣

من جهة ، ومن جهة أخرى لا يحقق مطابقة الجواب للسؤال ، وهو خلاف الحکمة وإرادة المعنى الحقيقي من ظاهر الجواب ، ثم أنه لا يتناسب مع ما لإبراهيم من مقام النبوة ، وأما مسألة وجود القرينة على إرادة غير المعنى الظاهر ، وهي التعدية کما ذکر ب‍ « إلى » ، فقد قال فيها الشيخ مصباح اليزدي : ( ... أما تعدية « صرهنّ » ب‍ « إليک » إن کان بمعنى الميل فالأمر بالتقطيع مقدّر ، وإن کان بمعنى القطع فالکلمة متضمنة لمعنى الميل ). (١) المهم أن هذه القصة تکشف لنا بشکل واضح لا يقبل الشک والترديد عن إمکان المعاد الجسماني الوقوعي فضلاً عن إمکانه الذاتي ، فهذه القصة في الواقع ما هي إلا صورة من صور المعاد الجسماني ، وقد ثبت وقوعها بالحس والوجدان والمشاهدة العينية في هذا العالم الجسماني الطبيعي المادي ، ومع وجود المقتضي وعدم المانع وقدرة الفاعل وعلمه ، فإن الإمکان الوقوعي لا يقبل الشک والترديد والاستبعاد بعد.

الدليل الثالث : قصة إحياء قتيل بني إسرائيل : وقد حکى الله سبحانه وتعالى هذه القصة عن طريق قول : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ * ... وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ). (١)

ففي رواية البزنطي قال : سمعت الرضا ٧ يقول : إنّ رجلاً من بني إسرائيل قتل قرابة له ، ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ، ثم جاء يطلب بدمه ، فقال لموسى إنّ سبط أل فلان قتلوا فلاناً ، فأخبر من قتله ، قال : أتوني ببقرة ، قالوا : أتتخذنا هزواً ؟ قال : أعوذ بالله أن أکون من الجاهلين ، ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ، ولکن شددوا فشدد الله عليهم ، قالوا : أدع لنا ربّک يبين لنا ما هي ؟

ــــــــــــــــ

١. راجع : محمد تقي اليزدي ، کتاب معارف قرآن ، ٤٧٧ ـ ٤٥٠.

٢. البقرة ، ٦٧ ـ ٧٣.

١٠٤

قال : إنّه يقول بقرة لا فارض ولا بکر ، يعني لا صغيرة ولا کبيرة ، عوان بين ذلک ، ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ، ولکن شددوا فشدد الله عليهم ، قالوا : فادع لنا ربّک يبين ما لونها ، قال : إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ، ولو عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ، ولکن شددوا فشدد الله عليهم ، قالوا : ادع لنا ربّک يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا ، وإنا إن شاء الله لمهتدون ، قال : إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها ، قالوا : الآن جئت بالحق ، فطلبوها عند فتى من بني إسرائيل ، فقال : لا أبيعها إلا بملؤ مسک ذهباً ، فجاءوا إلى موسى ، وقالوا له ذلک ، قال اشتروها فاشتروها ، وجاءوا بها فأمر بذبحها ، ثم أمر أن يضربوا الميت بذنبها ، فلما فعلوا ذلک حيى المقتول ، وقال : يا رسول الله : إن ابن عمي قتلني دون من أدعي عليه قتله ، فعلموا بذلک قاتله ... الحديث. (١)

لا يخفى ما تنطوي عليه هذه القصة من معاني وحکايات عجيبة ولطيفة وهادفة ، ولکن الذي يعنينا هنا ما يتعلق بمسألة إحياء الموتى بعد موتهم مرة أخرى ، تلک المسألة التي کانت تشکل عقبة أمام بعض المشککين والمستبعدين لهذا الأمر ، وإن کان هناک شاهد وحس فطري على ذلک ، ولکنه عندما يصل إلى مرتبة من الضعف والخفاء في بعض النفوس ، لا يشکل بعد ذلک رادعاً لأوهامهم وشکوکهم ، فهذه القصة تکشف لنا عن إمکان هذه المسألة من جهة وقوعها في الخارج ، فهي نموذجٌ حيٌّ جسد لنا هذه الحقيقة ـ المعاد الجسماني والروحاني معاً ـ من باب أن القادر عليه هنا فهو قادر عليه هناک إلا أن بعض المفسرين حاول إنکار هذه الحقيقة ، مستبعداً حصول الکرامات والمعاجز لأولياء الله : ، ولذا احتاج إلى تأويل حصول مثل هذه ، کما هو عليه صاحب تفسير المنار ، إذ کان يقول فيها: ( إنّ معنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي کانت عرضة لأن تسفک بسبب الخلاف في قتيل تلک النفس ). (٢)

ــــــــــــــــ

١. نقلاً عن : الميزان في تفسير القرآن ، ج ١ ، ص ٢٠٤.

٢. لاحظ : محمد رشيد رضا ، تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٣٤٥ ـ ٣٥٠.

١٠٥

وبهذا القدر نکتفي من ذکر الأدلة على إثبات الإمکان الوقوعي للمعاد الجسماني بعدما بينا قبل ذلک الإمکان الذاتي له ، وإلاّ فإنّه توجد شواهد قرآنية أخرى تحکي لنا هذا الأمر ، کمسألة إحياء قوم بني إسرائيل ، الذين اُحيوا بدعاء نبي الله حزقيل ٧ ، عندما مرّ عليهم ، وکانوا ألوفاً مؤلفة خرجوا من ديارهم حذر الموت ، فأدرکهم الموت ، بقوله تعالى لهم : مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ، (١) وببرکة دعاء نبي الله حزقيل ٧ أحياهم وأعادهم مرة ثانية لأن يعيشوا حياة دنيوية مرة أخرى بعدما تلاشت جثثهم وتبعثرت عظامهم هنا وهناک ، وکذلک مسألة إحياء قوم موسى الذين اختارهم لميقات ربّه ، (٢) وکذا مسألة إعادة أصحاب الکهف : بعد مرور السنوات عديدة عليهم ، (٣) وغيرها ، کلها شواهد لنا على إثبات الإمکان الوقوعي للمعاد ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى کون المعاد في هذا اليوم للروح والجسم معاً ، وقلما نجد لمثل هذه الدعوى مثيلاً في الرسائل السماوية الأخرى ، فقد جاء ما يقارب ثلث القرآن الکريم في خصوص بيان هذه الحقيقة وما يتعلق بها من لوازم وخصوصيات خاصة ، فلم يترک القرآن الکريم جانب من جوانبها إلا وکشف عن وجهه الستار ، حتى صار أمرها کالشمس في رابعة النهار ، وعندئذ لا يبقى للکافر بها إلا أن يقول : ( يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ) ، (٤) ( يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللهِ ). (٥)

ــــــــــــــــ

١. البقرة ، ٢٤٣.

٢. راجع : سورة البقرة ، ٥٥ ، ٥٦.

٣. راجع : سورة الکهف ، ١٠ ـ ١٢.

٤. النبأ ، ٤٠.

٥. الزمر ، ٥٦.

١٠٦

١٠٧
١٠٨

١

المعاد الجسماني عند أبي حامد الغزالي

تمهيد

قبل أن نبين نظرية أبي حامد الغزالي في طبيعة وکيفية المعاد في اليوم الآخر ، رأينا أن نذکر قبل ذلک طبيعة ونوع وأسلوب التحقيق المتبع من قبل أبي حامد الغزالي في مختلف أبحاثه المعرفية ؛ إذ يعد الغزالي شخصية منفردة في هذا الأمر ؛ لأنه لم يتبع منهجاً وأسلوباً واحداً في أبحاثه وتحقيقاته ، کما هو عليه أکثر المحققين والباحثين ، کما سيأتي بيانه فيما بعد هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لم يکن الغزالي على مذهب واحد ، ومدرسة واحدة ، فقد قال عنه حسام الآلوسي ما هذا لفظه : ( ... أن الغزالي لم يسلک طريقاً معرفياً واحداً ، فهو مشکلة فکرية لدارسيه ، فهو متکلم طوراً ، وفيلسوفٌ طوراً آخراً ، وفي حال کونه متکلماً فهو أشعري مرة ، ومعتزلي مرة أخرى ، وفي ثالثة هو أقرب للحشوية ، کما هو حاله في « إلجام العوام » ، وأخيراً فهو صوفي وعرفاني ) ، (١) ولذا کان منهجه في البحث والتحقيق يختلف تماماً عن غيره ،

ــــــــــــــــ

١. حسام الآلوسي ، دراسات في الفکر الفلسفي ، ص ٢٣٧.

١٠٩

ولأجل أن تتضح لنا الصورة بشکل جيد وواضح ، کان علينا أن نذکر أسلوبه في ذلک بنحو من التفصيل يتناسب مع طبيعة هذا البحث وغرضه ، وإليک التوضيح :

١. موقف الغزالي من الأساليب العلمية في التحقيق

يعد المنهج العلمي التحقيقي للغزالي نوعاً خاصاً به ، لم ينتهج مثل هذا الأسلوب في المذهب السني من قبل ؛ إذ أنّه قد اعتمد فيه على مجموعة أساليب مختلفة ومتنوعة ، فقد جمع بين الأسلوب الکلامي ، والأسلوب الفلسفي القائم على الطريقة البرهانية العقلية ، والأسلوب الصوفي والذوقي القائم على أساس المعرفة القلبية ، وقد عدّ الأسلوب الأخير أوثق من الأسلوبين الأخريين الجدلي والعقلي ، وکما سيأتي بيان قيمة کل واحد منهما وجهة نظر الغزالي ، ولکنه لم ينتخب هذا النهج الذوقي بدون سابقة قيمة کل واحد منهما من وجهة نظر الغزالي ، ولکنه لم ينتخب هذا النهج الذوقي بدون سابقة معرفة وإطلاع ، بل کان مطلعاً على مجموعة کبيرة من الکتب التي دونت في المجالين المذکورين الکلامي والفلسفي ، بل أکثر من ذلک ، فقد کانت له کتابات کثيرة فيهما ، وکان غرضه منها حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها من تشويش أهل البدع بحسب تعبيره خصوصاً ما جاء به الفلاسفة آنذاک من آراء مخالفة للسنة هذا من جهة ، ومن جهة أخرى کان يرى طريقة المتکلمين قائمة على أساس الجدل الذي يعتمد على مقدمات غير يقينية تسلموها من خصومهم واضطروا إلى علمها ، ولکن هذا بنظر الغزالي لم يکن کافياً في کشف حقائق الأمور ، فيبقى علم الکلام غير واف للغرض المطلوب ، وقد لخص موقفه من هذا العلم بما حاصله : ( فصادفته علماً وافياً بمقصوده غير وافٍ بمقصودي ) ، (١) ويقول الغزالي أيضاً : ( إن المتکلمين لم يفارقوا عقود العوام ، وإنما فارقوهم بالجدل ... والجدل علم لفظي وأکثره احتيال وهمي ، وهو عمل النفس وتخليق الفهم ، وليس بثمرة المشاهدة

ــــــــــــــــ

١. أبو حامد الغزالي ، المنقذ من الضلال ، ص ٢٧.

١١٠

والکشف ) (١) ، وقال في استعمال هذا الأسلوب في البحث والتحقيق ما هذا لفظه : ( وهذه الأساليب قد يستضر بها خلق کثيرون ). (٢)

وأمّا الفلاسفة وإن تمسکوا بالأدلة العقلية البرهانية ، ولکنهم بنظره لم يعتمدوا في بعض براهينهم على مقدمات صحيحة ، بل کانت تعتمد على مقدمات فاسدة ، فکانت نتائجها تابعة في فسادها لها ، وبعضها ناشئة عن فساد صورة الاستدلال ، وبهذا يرميهم بعدم التدقيق في البرهان أيضاً ، کما جاء في کتابه تهافت الفلاسفة ما هذا لفظه : ( فإذا کان المتکلمون لم يعرفوا البرهان ، فإن الفلاسفة وإن فهموه فهماً حسناً فإنهم لم يحسنوا تطبيقه ، فأنتجوا معتقدات على خلاف ما ادعوه واشترطوه ، ويترکز ذلک في الإلهيات ... ) ، (٣) وقال في حق المعلوم الأخرى التي بحثوا فيها غير الإلهيات ما هذا نصه : ( ... في حين أن لديهم ما يحمد لهم وما لا يجب إنکاره ، وهو هنا الرياضيات والمنطق والفلک وبعض العلوم الأخرى ... ). (٤)

کل هذا وغيره من الأسباب دعت به إلى أن ينتهج أسلوباً خاصاً في البحث عن الحقيقة ، وهو الذي تمثل بالأسلوب الذوقي ، الذي أنتهجه بعد مروره بمرحلة الشک التي کادت تقضي على معارفه وأفکاره ، وقد استمرت حوالي شهرين ، قد عبر عنه بما هذا نصه : ( فأعضل هذا الداء ودام قريباً من شهرين ، وأنا فيهما على مذهب السفسطة بحکم المال لا بحکم النطق والمقال ، حتى شفاني الله تعالى من ذلک المرض ، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدلال ، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة ، موثوقاً بها على أمن ويقين ، ولم يکن ذلک بنظم دليل وترتيب کلام ، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر ، وذلک النور هو مفتاح أکثر المعارف ... ) ، (٥) وإليک بيان هذه الأساليب بنحو من التفصيل :

ــــــــــــــــ

١. أبو حامد الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج ٥ ص ٢٩.

٢. الزعبي أنوار ، مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي ، ص ١٧٩.

٣. المصدر السابق ، ص ١٨٠ ، ١٨١.

٤. المصدر السابق.

٥. المصدر السابق ، ص ٨٠ ؛ وکذا : المنقذ من الضلال الغزالي ، تصحيح محمد ، ص ١١.

١١١

الأسلوب الأول : الأسلوب العقلي

قد يرى بعضهم (١) أن الغزالي بنقده للفلسفة والفلاسفة أنه عدو شديد للعقل ، وليس هو بصحيح کما يتصوره هذا البعض ؛ إذ أن الغزالي لم يستغنِ عن البرهان العقلي بشکل مطلق ، وإن انتهج المنهج الذوقي الصوفي في البحث عن الحقيقة ؛ لأنّه يعد العقل من أشرف الأشياء التي منحها الله تعالى إلى الإنسان حيث قال فيه : ( إنّ ما لا ينال سعادة الدنيا والآخرة إلا به ، فکيف لا يکون أشرف الأشياء ، وبالعقل صار الإنسان خليفة الله وبه تقرب إليه ، وبه تم دينه ... ) ، (٢) ثم قال : وناهيک به شرفاً ، أنه قد شبه الله سبحانه العقل بالنور فقال : ( اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ، (٣) أي منورهما ، وأکثر ما يطلق النور في القرآن على العلم في مقابل الجهل ، مثل قوله : ( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، (٤) وإنما کل ذلک بالعقل. (٥)

في حين أن بعضهم يرى خلاف ما يراه السابقون ، بل يرونه لم يقف قط ضد العقل ، ولم يخفض من شأنه ، أو يقلل من أهميته ، ولکنه حدد نطاقه ، ومجال عمله ، وقد استدلوا على کلامهم بما جاء في کتابات الغزالي نفسه حيث قال : ( فأما العقل إذا تجرد من غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط ، بل رأي الأشياء على ما هي عليه ، وفي تجرده عسر عظيم ... ) ، (٦) وقد نسب خطأ بعض العقلاء أنّه راجع إلى : ( ... أن فيهم خيالات وأوهاماً واعتقادات يظنون أحکامها أحکام العقل ، فالغلط منسوب إليها ... ) ، (٧) ولکن لماذا لم يجعل العقل مطلقاً في أحکامه وفي کشف الحقائق ؟ وذلک

ــــــــــــــــ

١. البرون کارادفو ، الغزالي ، ترجمة عادل زعيتر ، ص ٢١ ؛ هنري کوربات ، في التاريخ الفلسفة الإسلامية ، ترجمة نصير مروه ؛ وحسن قبيس ، ومراجعة الإمام موسى الصدر والأمير عارف ثامر ، ص ٢٧٥.

٢. أبو حامد الغزالي ، ميزان العمل ، ص ١١٩.

٣. النور ، ٣٥.

٤. البقرة ، ٢٥٧.

٥. زکي محمود ، کتاب الإنسان في فلسفة الغزالي وتصوفه ، ص ٧٩.

٦. المصدر السابق ، ص ٨٢.

٧. المصدر السابق ، ص ٨٢.

١١٢

لخروج تلک الحقائق عن دائرة عمله وحکمه بحسب الواقع ، ولکن هذا لا يضر بحکم العقل ، ولا يقلل من شأنه وأهميته ، وعندئذ قال في هذا الصدد : ( ... العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب ، ولا کاشفاً عن جميع المعضلات ... فالعقل إذا أراد أن ينتقل إلى مسائل ما وراء الطبيعة ، فهو يقرب في عماء بغير هداية ، ويقيم بنيانه بدون أساس ، ولذلک يقول الإمام عن بحث الفلسفة في الإلهيات ، ففيها أکثر أغاليطهم فما قدروا على الوفاء بالبرهان على ما شرطوه في المنطق ... ). (١)

وعليه فالغزالي لم يکن محارباً وعدواً للأسلوب العقلي الذي کان يمثل المنهج الفلسفي في التحقيق آنذاک ، ولا متخذاً له في أبحاثه المعرفية بنحو الموجية الکلية ، بل بنحو الموجبة الجزئية ، فهو من جهة لم يجعله الوسيلة الوحيدة في کشف جميع حقائق الأمور ، وکذلک لم يرفضه کل الرفض کما يتصور من اعتراضاته على الفلاسفة وکشف إغاليطهم في بعض المسائل بحسب نظره.

الأسلوب الثاني : الأسلوب الجدلي

يعتمد المتکلمون هذا المنهج والأسلوب العلمي في أبحاثهم الکلامية ، ولکنه من وجهة نظر الغزالي لم يعد ذا قيمة معرفية ؛ لأنهم لم يستندوا فيه على مرجعية العقل ، باعتباره کمرجع وأصل ليعبروا من خلاله إلى المنقول کأصل الآخر ، وإنّما يسلمون بالشريعة أولاً ، ثم يحاولون تعقلها بأساليب غير کافية ، کما أنه لا يرى العکس صحيحاً ، بأن يجعل المنقول أصلاً والعقل متفرعاً عليه ، وقد وضح هذه الحقيقة بما جاء في کلامه : ( ... لا يصلح هذا العکس ، فليس لک أن تجعل المنقول أصلاً ، والعقل تابعاً ورديفاً ) ، (٢) وهذا الموقف من علم الکلام موقف جزم وحزم أيضاً.

ويعتبر الغزالي المتکلمين نقليين من حيث الأساس ؛ لأنّهم يتمسکون بالقرآن

ــــــــــــــــ

١. المصدر السابق.

٢. أنور الزعبي ، مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي ، ص ١٧٩.

١١٣

والسنة ، ثم بالدلائل العقلية ، وقد بيّن هذه الحقيقة بقوله : ( أهل النظر في هذا العلم « التوحيد الکلام » يتمسکون أولاً بآيات الله تعالى ، ثم بأخبار الرسول ، ثم بالدلائل العقلية والبراهين القياسية ، وأخذوا مقدمات القياس الجدلي والعنادي ولواحقها من أصحاب المنطق الفلسفي ، ووضعوا أکثر الألفاظ في غير مواضعها ، ويعبرون في عباراتهم بالجوهر ، والعرض ، والدليل ، والنظر ، والاستدلال ، والحجة ، ويختلف معنى کل لفظة من هذه الألفاظ عند کل قوم ، حتى الحکماء يعنون بالجوهر شيئاً ، والصوفية يعنون شيئاً آخر ، والمتکلمون شيئاً ، وعلى هذا المثال ... ). (١)

الأسلوب الثالث : الذوقي الصوفي

يعتمد هذا اللون من المعرفة على التأمل في الباطن والتزکية النفسية من جميع التعلقات الخارجية والداخلية التي تمنع النفس من مشاهدة ومکاشفة الموجودات المجردة الأخرى ، وقد أعطي الغزالي مکانة لهذا اللون من المعرفة ، وقيمة أعلى من قيمة العلم ، فقد قال فيه : ( العلم فوق الإيمان ، والذوق فوق العلم ، فالذوق وجدان ، والعلم قياس ، والإيمان مجرد بالتقليد ... ). (٢)

ويعتمد الأسلوب الذوقي بصورة مباشرة على الکشف والشهود ، فإذا لم يکن هناک کشف شهود فلا وجود للذوق عنده ، ويعني الغزالي بعلم المکاشفة ما يلي : ( قال : فنعني بعلم المکاشفة أن يرفع الغطاء حتى تتضح له جلية الحق الأمور اتضاحاً يجري مجرى البيان الذي لا شک فيه ، وهذا ممکن في جوهر الإنسان لولا أنّ مرآة القلب قد تراکم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا ، وإنّما نعني بعلم طريق الآخرة ، العلم بکيفية تصقيل هذه المرآة عن هذه الخبائث التي هي حجاب عن الله سبحانه وتعالى وعن معرفة صفاته وأفعاله ، وإنما تصفيتها وتطهيرها بالکف عن الشهوات

ــــــــــــــــ

١. المصدر السابق.

٢. أبو حامد الغزالي ، مشکاة الأنوار ، ص ٧٨.

١١٤

والإقتداء بالأنبياء ) ، (١) ويقول أيضاً : ( وأما العاطل عن خاصية الذوق فيشارک في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الآثار ، وهو يتعجب من صاحب الوجد والغشي ، ولو اجتمع العقلاء کلهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه ... ). (٢)

إن الذي يتتبع کلمات الغزالي يجده يمتدح الطريقة الصوفية ، ويذم الطريقتين الکلامية والفلسفية ، ومما يشهد على ذلک قوله في الصوفية : ( إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السابقون لطريق الله تعالى خاصة ، وأن سيرتهم أحسن السير ، وطريقتهم أصوب الطرق ، وأخلاقهم أزکى الأخلاق ، بل لو جمع عقل العقلاء ، وحکمة الحکماء ، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ، ليغيروا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إليه سبيلاً ، فان جميع حرکاتهم وسکناتهم في ظاهرهم وباطنهم ، مقتبسة من نور مشکاة النبوة ، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به ). (٣)

وقال في خصمائهم : ( ووراء هؤلاء قوم جهال هم ينکرون لأصل ذلک المتعجبون من هذا الکلام ويسخرون ويقولون : العجب ! إنهم کيف يهتدون وفيهم قال الله تعالى : ( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) ، (٤) فأصمهم وأعمى أبصارهم ، ومما بان بالضرورة من ممارسة طريقهم « حقيقة النبوة وخاصيتها » ولابد من التنبيه على أصلها لشدة مسيس الحاجة إليها ). (٥)

ويعتبر الغزالي الکشف إدراک وجداني مباشرة يتجاوز حدود العقل ، فيعبر عنه بقوله : ( وراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيکون في

ــــــــــــــــ

١. أبو حامد الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج ١ ، ص ٢٠.

٢. أبو حامد الغزالي ، مشکاة الأنوار ، ص ٧٨.

٣. أبو حامد الغزالي ، المنقذ من الضلال ، ص ٥٠.

٤. محمد ، ١٦.

٥. أبو حامد الغزالي ، المنقذ من الضلال ، ص ٥١.

١١٥

المستقبل وأمور أخرى العقل معزول عنها ) ، (١) وقد اثبت الغزالي قدرة الإنسان على الکشف بدليلين (٢)

الأول : عجائب الرؤيا الصادقة ، فإنه ينکشف بها الغيب ، وإذا جاز ذلک في النوم فلا يستحيل أيضاً في اليقظة ، فلم يفارق النوم اليقظة إلا في رکود الحواس وعدم اشتغالها بالمحسوسات ، فکم من مستيقظ غائض لا يسمع ولايبصر لاشتغاله بنفسه.

الثاني : إخبار رسول الله ٩ عن الغيب وأمور في المستقبل کما أشتمل عليه القرآن.

خلاصة الکلام

وينبغي أن يلتفت إلى أننا لسنا في صدد تبيين کل ما جاء به الغزالي في الموضوع ، غاية الأمر أن غرضنا منه هو بيان موقف الغزالي من هذا الأسلوب من حيث الإيجاب والسلب ، وقد تبيّن لنا کيف اعتبر الغزالي هذا النمط من طرق المعرفة أوثق الطرق في کشف حقائق الأمور بعد ما ناقش الطريقين الأولين ، واعترض عليهما من جهة تشويه الحقيقة فضلا عن بيانها ، وبهذا القدر نکتفي من نقل کلامه فيه ، وعليه نقول : إن اعتماده على هذا الطريق دون غيره من الطرق الأخرى بعدما طالعها وحققها ، وکتب في ردها ، هو شوقة لطلب الحقيقة بعد ما مر بمرحلة الشک التي أصابته في مرحلة من حياته ، خصوصاً وأنّ والده کان عاشقاً للطريقة الصوفية ، حتى أنّه أوصى به بعض أصدقائه من الصوفية ، فطالما کان يسمع عن حکايات العرفاء والمتصوفة في زمانه ، فدفعه ذلک الشوق لطلب معرفة الحقيقة عن طريقهم ؛ لأنه كان يرى أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها إلاّ عن هذا الطريق مع ما فيه من الصعوبات والعقباب المهلکة والمنهکة للنفس والبدن في حال عدم مراعاة قواعد السير والسلوک ، فکثيراً ما عبر عن بعض أهل هذا الطريق بالمغرورين ، فکان الغزالي يصف لنا شوقه إلى معرفة الحقيقة بما يلي : ( وقد کان التعطش إلى درک

ــــــــــــــــ

١. المصدر السابق ، ص ٣٥.

٢. أبوحامد الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج ٢ ، ص ٢٥.

١١٦

حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري ، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي ، لا باختياري وحيلتي ، حتى انحلت عني رابطة التقليد ). (١)

والسبب الثاني الذي دفع بالغزالي لانتخاب هذا اللون من المعرفة هو نبذه للطرق الأخرى ؛ لإحساسه بشائبة التقليد للغير فيها ، وما کان هذا حاله لا يمکن أن يدرک الحقيقة ؛ لأن الذي يصده عن الوصول إليها هو إتباعه للغير وتقليده في کل ما جاء به ، عن تحقيق أو بلا تحقيق ، فمثل هذا قد أصمه عن الحق إتباعه لذلک الغير ، فقد قال فيه : ( فالحقيقة لا يمکن أن يصل إليها الإنسان عن طريق تقليد الآخرين ، مهما کانوا هؤلاء الآخرين ) ، (٢) وعليه فإن طريق الذوق ليس فيه هذا الأمر ، بل الإنسان فيه حر في فکره غير مقلد لغيره ، بل أکثر من ذلک فهو فيه حر حتى من أهوائه وعواطفه وغزائره ، وإلاّ بقي سجين هذه الدار ، فلا يرى ما هو خارج عنها ، وعندئذ لا يتحقق لها معرفة بالواقع وحقائق الأمور التي يسعى لطلب معرفتها.

أقول : وليت الغزالي اتبع الحق کما جاء به الحق ، لقوله تعالى : ( قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ). (٢)

وختاماً نقول : لم يکن غرضنا هنا مناقشة کل ما جاء به الغزالي ، نعم هناک ثمة مناقشة مختصرة رأينا من الضروري القيام بها ، وسنوافيک بها في المبحث اللاحق.

٢. في مناقشة المنهج العلمي للغزالي

مما تقدم تبيّن لنا أنّ نقده وتقييمه للأساليب العلمية المتبعة من قبل بعض المدارس الإسلامية فلسفية ، أو کلامية ، أو عرفانية کانت ، عدم الاعتدال فيها ؛ لأنا تارة نجده مادحاً وأخرى ذامّاً ، وفي الوقت الذي يکون فيه ذامّاً نجده متبعاً لطريقتهم ، وفي

ــــــــــــــــ

١. أبو حامد محمد الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج ٣ ، ص ٤٠٦.

٢. أبو حامد محمد الغزالي ، المنقذ من الضلال ، ص ١٨.

٣. يونس ، ٣٥.

١١٧

هذا خلاف واضح لما تبناه من الموقف تجاه منهجهم في التحقيق والاستدلال على إثبات مسائلهم ، ولکن الغالب عليه إتباعه لواحد من هذه الأساليب ، حتى اتخذه منهجاً له في معرفة ما هو حق عما هو باطل ، فامتدحه مدحاً غريباً وعجيباً ، مع أنّه لا يعکس الحقيقة إلا في حالة الصفو والخلوة من وجود أي نوع من أنواع التعلقات النفسية بالخارج عنها ، أو بداخلها من قوى ورغبات وميولات ، فما هو الضامن من حصول هذه الأمور بحيث تکسوها النفس بکسوة الحق والحقيقة ، ولکن حتى لو سلمنا عدم حصول هذه الأمور ، واکتفينا بما ذکره الغزالي في مجموع کتبه ومؤلفاته التي ألفها لوجدنا فيها التناقض والتنافي بين آرائه في هذه الأساليب التي ذکرناها في بداية هذه المسألة ، فقد نُقِلَ عنه موقف سلبي مع المنهج الکلامي ، ذکره في کتابه إحياء العلوم حيث جاء فيه : ( إن أدلته موجودة في الکتاب والأخبار مشتملة عليه ، وفيما عدا ذلک يثير الشبهات في العقائد ، يجر إلى الجدل العقيم الذي يعکر صفاء الإيمان الصحيح ... ). (١)

في حين نجد الغزالي في رسالته اللدنية ، يجعل علم التوحيد (٢) أشرف العلوم وأجلها وأکملها ، فهو علم ضروري وواجب تحصيله على جميع العقلاء ... والأعجب من کل هذا وذاک ، أن الغزالي رغم کل هذه الانتقادات التي ذکرنا بعضها في هذه المسألة ، والتي لا يسعنا المجال لذکرها ، نجده يعد نفسه واحداً من المتکلمين ، مدافعاً عن جملة من القضايا التي طرحها وتناولها أستاذه إمام الحرمين الجويني ، وبعض التي بحثها أبو الحسن الأشعري ، وأدل دليل على إتباعه المنهج الکلامي الذي يعتبره منهجاً جدلياً من جهة ، ومعتمداً على ظاهر النقل من جهة أخرى ، هو ما انتهجه في مسألة إثبات البدن والجسم الأخروي ، حيث کان فيه مقلداً وتابعاً لما

ــــــــــــــــ

١. أبو ريان ومحمد علي ، تاريخ الفکر الفلسفي في الإسلام ، ص ١٨٥.

٢. يقصد الغزالي بعلم التوحيد هو علم الکلام ، کما جاء في بعض کتاباته التي دونها في مصنفاته ؛ فتدبر !

١١٨

قال به الشرع المقدّس ، حتى أنّه لا يعير أهمية لمخالفة العقل في مسألة التناسخ عندما ثبت لديه بحسب نظره أن الشرع قد جوّز ذلک ، فجعله موضوع إيمان لا موضوع نظر عقلي.

والملفت للنظر أن الغزالي شهد لنفسه بالکمال العلمي في تحصيله وما بقي عليه إلا العمل ، فقال : ( ... إنّ ما يمکن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته ، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعليم ، بل بالذوق والسلوک ... ) ، (١) وأين هذه من مقال ابن سينا عندما قال : ( اليوم أدرکت أني لا أعلم شيئاً ، وأنّه فوق کلّ ذي علم عليم ) فالمهم يمکن أن نلخص مناقشتنا إياه بعدة نقاط وهي :

١. إن الغزالي جعل الفطرة الأصلية هي القاعدة الأساسية لوجوب الإتباع ، ولکنه فرق بين التقليد والاستبصار ، أي بين الإتباع والعقل ، فالأول منهج العوام ، والثاني منهج أهل النظر ، مع أن الفطرة واحدة عند الجميع ، فکلامه يحتاج إلى مزيد تفصيل حتى يتضح سبب الفرق بين الناس.

٢. إنّه عمم بشکه معارفه ، فکيف انتهى إلى اليقين ولم يسلم اعتقاده ومعرفته بالله من الشک الذي دخله ، فهذا السؤال يحتاج إلى جواب ، وکيف عرف أن هذا النور من الحق لا من الباطل ؟.

٣. الانکشاف التام الذي يحصل للإنسان لرؤية المنکشف على ما هو عليه من واقعية ونفس الأمر ، لا يتم إلا بطي النفس لمراتبها ، حتى تبلغ أعلى المراتب ، وعندئذ نسأل هل وقف الغزالي في الجانب العملي بحيث وصل إلى أعلى المراتب أم لا ؟

٤. مخالفته الصريحة لمنهجة الذي کان من الواجب عليه إتباعه ، ولکننا نجده مخالفاً له في عدة قضايا ، کقضية إثبات وجود الحق تعالى ، مسألة المعاد الجسماني.

٥. وأخيراً نقول : هل تمکن الغزالي من حل المشکلة المعرفية ، أم أنّه عقدها ؟

ــــــــــــــــ

١. مجموعة رسائل الغزالي ، ١ ـ ٧ ؛ المجموعة (٧) أبو حامد الغزالي ، رسالة المنقذ من الضلال ، ص ٥٩ ؛ وکذا في کتاب مجموعة رسائل الغزالي ( ١ ـ ٢٦ ) ؛ الرسالة (٢٤) رسالة المنقذ من الضلال ، ص ٥٥٢ ، ٥٥٣.

١١٩

٣. في ماهية الإنسان

لا يخفى علينا أهمية هذه المسألة في باب المعاد ، بل هي من أمهات المسائل التي يتوقف على تحديدها ثبوت المعاد وعدمه ، وقد اختلفت فيها الآراء والنظريات ، ولا يهمنا هنا بيان هذه الآراء والنظريات المتعددة ، سوى بيان الغزالي في المسألة ، وقد قال فيها أنها جوهر مجرد غير جسماني ، مستدلاً على ذلک بعدة أدلة ، نذکر هاهنا بعضاً منها وهي (١) :

أولاً : قال : نتلقى المعقولات وندرک الأشياء التي لا تدخل في الحس والخيال والمعقول متحد ، فلو حل في منقسم لأنقسم المتحد وهذا محال.

ثانياً : القوة العقلية هي ذات تجرد المعقولات عن الحکم ألاين والوضع وسائر عوارض الجسم.

ثالثاً : القوة العقلية لو کانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يکون فعلها إنما يستتم باستعمال تلک الآلة الجسدانية ، لکن يجب أن لا تعقل ذاتها ، وأن لا تعقل الآلة ، وأن لا تعقل أنها عقلت ، فإنّه ليس بينها وبين ذاتها آلة ، وليس بينها وبين آلتها آلة ، ولا بينها وبين أنها عقلت آلة ، لکنها تعقل ذاتها آلتها والتي تدعى آلتها وأنها عقلت فإذا تعقل بذاتها لا بالآلة.

رابعاً : النفس لو کانت جسماً فلا يخلو إما أن تکون حالة في البدن ، أو خارجة البدن ، فإن کانت خارجة عن البدن فکيف تؤثر وتتصرَّف في هذا الجسم ، وکيف يکون قوام البدن بها ؟ ... وإن کانت حالّة في البدن فلا يخلو إما أن تکون حالة بجميع البدن ، أو بعضه ، فإن کانت حالة بجميع البدن فکان ينبغي إذا قطع منه طرف أن تنقص ، أو تنزوي وتنتقل من عضو إلى عضو ، فتارة تمتد بامتداد الأعضاء ، وتارة تتقلص بذبول الأعضاء ، وهذا کله محال ... وإن کانت حالة في بعض البدن فذلک

ــــــــــــــــ

١. لاحظ : أبو حامد الغزالي ، رسالة معارج القدس ، ص ٢٧ ـ ٣٣.

١٢٠