الإيمان والكفر وآثارهما على الفرد والمجتمع

عباس ذهبيات

الإيمان والكفر وآثارهما على الفرد والمجتمع

المؤلف:

عباس ذهبيات


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-76-5
الصفحات: ١٠٨

المحرقة تُظلل الناس بوارف ظلها ، وهي تصطلي حرَّ الهاجرة وأوارها. روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال : وقورٌ عند الهزائز ، صبور عند البلاء ، شكور عند الرخاء ، قانع بما رزقه الله ، لا يظلم الأعداء ، ولا يتحامل للأصدقاء ، بدنه منه في تعب ، والناس منه في راحة » (١).

ولا بدَّ من إلفات النظر إلىٰ أنّ المؤمن وعلىٰ الرغم من صلابته الإيمانية فهو يتصف بالمرونة مثل العشب الناعم ينحني أمام النسيم ولكن لا ينكسر للعاصفة ، يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « المؤمن له قوّة في دين ، وحزم في لين ، وإيمان في يقين » (٢).

٢ ـ إلتزام الحق عند الرّضا والغضب : المؤمن لا يندفع بغريزته إلىٰ آفاق تبعده عن ساحة الحق ، كما أنه يقاوم بلا هوادة نزعة الغضب الكامنة في نفسه حتىٰ لا تجره إلىٰ مهاوي الباطل ، وفي حالة امتلاكه القوة أو القدرة يتجنب الظلم والعدوان كأمير المؤمنين عليه‌السلام الذي كان يرىٰ أن سلب جُلب شعيرة من نملة ظلم وعصيان للّه وابتعاد عن الحق ، وفي ذلك يقول : « والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها علىٰ أن أعصي الله في نملة أسلبها جُلب شعيرة ما فعلته.. » (٣).

وعليه فالمؤمن من يبلغ مرحلة من السموّ الروحي والتهذيب الوجداني بحيث لا يخرج عن جادة الحق المستقيمة ، وفي هذا الأطار

______________

١) اُصول الكافي ٢ : ٤٧ / ١ كتاب الإيمان والكفر.

٢) اُصول الكافي ٢ : ٢٣١ / ٤ كتاب الإيمان والكفر.

٣) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٣٤٧ / خطبة ٢٢٤.

٤١

ورد عن أبي حمزة قال : سمعت فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام تقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ثلاث من كنَّ فيه استكمل خصال الإيمان ، الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل ، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحقِّ ، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له » (١).

أنّ القوة الحقيقية هي القوة النفسية التي يصنعها الإيمان ويرسخها اليقين ، تلك القوة التي يتميز بها المؤمن والتي يتمكن من خلالها من كبح عواطفه المتأججة عند نشوة الحب وسورة الغضب وسكرة القوة التي تغري صاحبها بالجموح والغطرسة ، فعن الإمام الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه عن جده عليه‌السلام قال : « مرَّ رسول الله ٦ بقوم يرفعون حجراً ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : نعرف بذلك أشدّنا وأقوانا فقال : ألا أخبركم بأشدّكم وأقواكم ؟ قالوا : بلىٰ يا رسول الله ، قال : أشدّكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل ، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له بحق » (٢).

٣ ـ البشر وانشراح الصدر : من العلائم الاُخرىٰ للمؤمن أنّ البشر يطفح علىٰ وجهه أما حزنه فيدفنه في أعماق قلبه كما إنّه يمتاز بسعة الصدر وإنشراحه ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام محدداً أبرز علامات المؤمن : « المؤمن بشره في وجهه وحزنه في قلبه ، أوسع شيء صدرا ، وأذل شيء نفساً ، يكره الرفعة ، ويشنأ السمعة ، طويل غمه ، بعيدٌ همهُ ، كثيرٌ صمته ، مشغول وقتُه. شكورٌ صبور ، مغمور بفكرته ، ضنين بخلَّته ، سهلُ الخليقة ،

______________

١) الاختصاص : ٢٣٣.

٢) معاني الأخبار : ٣٦٦.

٤٢

ليِّن العريكة ! نفسه أصلب من الصلد وهو أذل من العبد » (١). وعن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « ما من مؤمن إلاّ وفيه دُعابة ، قلتُ : ما الدعابة ؟ قال : المزاح » (٢). فالمؤمن تتألق ملامحه بالبشر والنور وتفيض عيناه بالوداعة واللطف فيعبر عما يجيش في نفسه من أحاسيس خيرة تجاه الناس عن طريق المزاح محاولاً إدخال السرور علىٰ قلوبهم ، علىٰ العكس من المنافق الذي يغلي قلبه غيضاً وحقداً كالمرجل علىٰ المؤمنين ، فينعكس ما في داخله علىٰ صفحات وجهه فتجده مقطب الجبين تنتابه نوبات من الهستريا والغضب.

وقد ورد عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « المؤمن دعبٌ لعبٌ ، والمنافق قطب غضب » (٣).

والملاحظ أنه في الوقت الذي يُعتبر ( المزاح ) أحد علائم المؤمن النفسية ، نجد أنّ الإسلام يحث علىٰ عدم الاسراف فيه بحيث يصل إلىٰ حد السخف والسفاهة أو تجافي الحق. وقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمازح أصحابه وأهل بيته عليهم‌السلام ويحب إدخال السرور علىٰ الجميع ، ولكن لا يقول إلاّ حقاً ، ولا يخرج عن طوره ، ولا يخل بوقاره وهيبته.

عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « أنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كثرة المزاح يذهب بماء الوجه ، وكثرة الضحك يمحو الإيمان.. » (٤).

______________

١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٥٣٣ / حكم ٣٣٣.

٢) معاني الأخبار : ١٦٤.

٣) تحف العقول : ٤٩.

٤) أمالي الصدوق : ٢٢٣ / ٤.

٤٣

وعن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « كان بالمدينة رجل بطّال يضحك الناس منه ، فقال : قد أعياني هذا الرجل أن أضحكه يعني علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : فمرَّ علي عليه‌السلام وخلفه موليان له فجاء الرجل حتىٰ انتزع ردائه من رقبته ثم مضىٰ لم يلتفت إليه علي عليه‌السلام فاتبعوه وأخذوا الرداء منه فجاؤا به فطرحوه عليه ، فقال لهم من هذا ، فقالوا له هذا رجل بطّال يضحك أهل المدينة ، فقال عليه‌السلام : قولوا له إنَّ لله يوماً يخسر فيه المبطلون » (١).

٤ ـ قوة الإرادة : وهي من علامات المؤمن الرئيسية التي يتمكن من خلالها من كبح شهواته والسيطرة علىٰ غرائزه ، فالإنسان بلا إرادة كالسفينة بلا بوصلة سرعان ما تنحرف عن المسير فالإرادة هي الخيط المتين الذي يكبح جموح النفس ويمكّنها من السيطرة علىٰ رغباتها. فمن يفتقد الإرادة ـ إذن ـ يكون حاله كقارب تمزقت حبال مرساته في بحر هائج مائج !

وهنا يبدو من الضروري بمكان الإشارة الاجمالية إلىٰ علائم نفسية أُخرىٰ تميز المؤمن عن غيره قد تنكشف لنا من خلال نظرته الواعية لمن حوله وما حوله ، كما قد تظهر أيضاً في طبيعة صمته وذكره أو سرعة رضاه وعفوه عمن أساء إليه ، كما قد ننتهي إليها من نيته وما يضمره من الخير للغير ، ويجمع هذه الاُمور ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنَّ المؤمن إذا نظر اعتبر ، وإذا سكت تذكّر ، وإذا تكلّم ذكر ، وإذا استغنىٰ شكر. وإذا أصابته شدّة صبر ، فهو ربيب الرضىٰ بعيد السخط ، يرضيه عن الله اليسير ، ولا يسخطه الكثير ولا يبلغ بنّيته إرادته في الخير ، ينوي كثيراً في الخير

______________

١) المصدر السابق : ١٨٣ / ٦.

٤٤

ويعمل بطائفةٍ منه ويتلهف علىٰ ما فاته من الخير كيف لم يعمل به » (١).

٥ ـ الاستغلال الأمثل للزمن : للزمن ـ كما هو معروف ـ قيمة حضارية كبرىٰ ، لذلك نجد المؤمن حريصاً علىٰ الزمن الذي هو رأس مال حضاري كبير ، فيقسّم أوقاته بين العبادة الحقة والعمل المثمر واللذَّة المباحة ، لذلك ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « للمؤمن ثلاثُ ساعات : فساعة يُناجي فيها ربَّهُ ، وساعة يَرُمُّ معاشه ، وساعة يُخلِّي بين نفسه وبين لذتها فيما يحلُ ويجمُلُ. وليس للعاقل أن يكون شاخصاً إلاّ في ثلاث : مرَمَّةٍ لمعاش ، أو خطوةٍ في معادٍ ، أو لذَّةٍ في غير مُحرَّمٍ » (٢).

إذن فأحد علامات المؤمن الحضارية هي الحرص علىٰ الزمن والاستغلال الأمثل له.

ثالثاً : علائم أخلاقية :

لا يخفىٰ أنّ هناك علاقة وطيدة بين الإيمان والأخلاق ، كلّما سما المؤمن في إيمانه كلّما حسنت أخلاقه وعليه فالمؤمن المتسلح بإيمان عميق نجد أنه يتصف بخلق رفيع. والأخلاق ـ بدورها ـ هي السور الواقي الذي يصون المؤمن من التردي في مهاوي الضلال والرَّذيلة. ومما يكشف لنا عن عمق نظرة الإمام الصادق عليه‌السلام أنه يحثّ أصحابه علىٰ عدم الانخداع بالمظاهر العبادية للرجل التي قد لا تكلفه شيئاً وقد تنجم عن الألفة والعادة ، ولكن يجب النظر إلىٰ مظاهره الأخلاقية : كالصدق ، والأمانة ، فمن خلال إلتزامه الدائم بها يظهر إيمانه علىٰ حقيقته ، يقول عليه‌السلام :

______________

١) تحف العقول : ٢١٢.

٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٥٤٥ / حكم ٣٩٠.

٤٥

« لا تنظروا إلىٰ طول ركوع الرجل وسجوده فإنَّ ذلك شيء قد اعتاده فلو تركه استوحش لذلك ولكن انظروا إلىٰ صدق حديثه وأداء أمانته » (١).

وقال عليه‌السلام أيضاً : « المؤمن لا يُخلق علىٰ الكذب ولا علىٰ الخيانة » (٢).

ويذهب أهل البيت عليهم‌السلام في تعاليمهم الأخلاقية إلىٰ أقصىٰ حد ، فعن أبي حمزة الثمالي قال : «سمعتُ سيد الساجدين علي بن الحسين عليهما‌السلام يقول لشيعته : « عليكم بأداء الأمانة ، فو الذي بعث محمداً بالحق نبياً لو أنّ قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ائتمنني علىٰ السيف الذي قتله به لأديته إليه (٣) ».

ونسج حفيده الإمام الصادق عليه‌السلام علىٰ هذا المنوال ، فقال لأصحابه : « اتقوا الله وعليكم بأداء الأمانة إلىٰ من ائتمنكم فلو أنّ قاتل أمير المؤمنين عليه‌السلام ائتمنني علىٰ أمانة لأديتها إليه » (٤).

وهناك خصلة أخلاقية تميز المؤمن عن غيره هي خصلة الحياء ، والواقع أنّ الحياء والايمان صفتان متلازمتان يؤدي زوال أحديهما إلىٰ زوال الاُخرىٰ ، وهذا هو ما عبر عنه الإمام الباقر عليه‌السلام بقوله : « الحياء والإيمان مقرونان في قرن فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه » (٥).

وهناك خصال أخلاقية أُخرى كالفهم والرأفة. تشكّل مع الحياء أبرز

______________

١) اُصول الكافي ٢ : ١٠٥ / ١٢ كتاب الإيمان والكفر.

٢) تحف العقول : ٣٦٧.

٣) أمالي الصدوق : ٢٠٤.

٤) المصدر السابق نفسه.

٥) تحف العقول : ٢٩٧.

٤٦

علائم المؤمن ، قال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ... وأمّا علامة المؤمن فإنَّه يرأف ويفهم ويستحي » (١).

أضف إلىٰ ذلك ليس من أخلاق المؤمن أن يحسد الناس علىٰ ما آتاهم الله من فضله ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام : « إنَّ المؤمن يغبط ولا يحسد والمنافق يحسد ولا يغبط » (٢). لأنَّ المؤمن يعلم جيداً أنّ الرزق بيد الله تعالىٰ يقسمه وفق علمه وحكمته وما صرف عنه قد يكون رحمةً به لانقمة عليه.

كما أنّ من أبرز علائم المؤمنين أنهم لا يسيئون إلىٰ الآخرين حتىٰ يعتذروا منهم ، علىٰ عكس المنافقين الذين ديدنهم الإساءة ثم الاعتذار قال الإمام الحسين عليه‌السلام : « إياك وما تعتذر منه ، فإنَّ المؤمن لا يسيء ولا يعتذر ، والمنافق كلَّ يوم يُسيء ويعتذر » (٣).

رابعاً : علائم اجتماعية :

من الاُمور الهامة التي تكشف عن مدىٰ إيمان الفرد شعوره نحو أبناء جنسه وعلاقته معهم. فالمؤمن الواقعي لا يدفن رأسه في رمال اللامبالاة بل يتحسس معاناة الناس ويمد يد العون لهم ، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « المؤمن حسن المعونة خفيف المؤونة.. » (٤).

وكان أئمة أهل البيت عليهم‌السلام نموذجاً فريداً للإيمان الكامل يقدّمون العون للفقراء والمعوزين ـ كما أشرنا سابقاً ـ ويحرصون علىٰ عدم الكشف

______________

١) المصدر السابق : ٢٠.

٢) اُصول الكافي ٢ : ٣٠٧ / ٧ كتاب الإيمان والكفر.

٣) تحف العقول : ٢٤٨.

٤) اُصول الكافي ٢ : ٢٤١ / ٣٨ كتاب الإيمان والكفر.

٤٧

عن شخصياتهم ، توخياً للثواب الجزيل علىٰ صدقة السر ، وبُعداً عن الرياء فكانوا في إعانة الملهوف كالبنفسج المختبىء بين لفائف الأدغال ينشق الناس طيبه ويحمدون عرفه وإن لم يعرفوا مكانه. وفي الخصال بسنده عن الباقر عليه‌السلام : « كان علي بن الحسين عليهما‌السلام يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب علىٰ ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم ، وربما حمل علىٰ ظهره الطعام أو الحطب حتىٰ يأتي باباً باباً فيقرعه ثم يناول من يخرج إليه ، وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه فلما توفىٰ فقدوا ذلك فعلموا أنه كان علي بن الحسين ، ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خز فتعرض له سائل فتعلق بالمطرف فمضىٰ وتركه » (١).

من جانب آخر أنّ المؤمن ألف مألوف ، يتحبب إلىٰ الناس ، ويسعىٰ لكسب رضاهم ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « المؤمن مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف » (٢). فالمؤمن لا يعيش منعزلاً خلف الأسوار العالية والابراج العاجية ، بل يتفاعل مع الناس ويحرص علىٰ مداراتهم والترَّفق بهم ، وقد اعتبر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ : « مداراة الناس نصف الإيمان ، والرفق بهم نصف العيش » (٣).

وهناك قرينة اجتماعية قوية تفرز لنا الإيمان الحقيقي من المزيف وهي علاقة المؤمن بجيرانه ، فمن أحسن إليهم كشف لسان حاله عن عمق إيمانه. وقد صاغ الإمام الصادق عليه‌السلام قاعدة تلازمية لا تقبل الخطأ بين الإيمان والإحسان إلىٰ الجيران ، عن أبي حمزة قال : سمعتُ أبا

______________

١) في رحاب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، للسيد محسن الأمين ٣ : ١٩٤.

٢) اُصول الكافي ٢ : ١٠٢ / ١٧ كتاب الإيمان والكفر.

٣) المصدر السابق ٢ : ١١٧ / ٥.

٤٨

عبدالله عليه‌السلام يقول : « المؤمن من أمِن جاره بوائقه ، قلتُ : ما بوائقه ؟ قال : ظلمه وغشمه » (١). وفي كتب السيرة : « أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتاه رجل من الأنصار فقال : إنّي اشتريت داراً من بني فلان ، وإنَّ أقرب جيراني منّي جواراً من لا أرجو خيره ولا آمن شرّه. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً وسلمان وأبا ذر.. أن ينادوا في المسجد بأعلىٰ أصواتهم بأنّه « لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه ». فنادوا بها ثلاثاً » (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً : « ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع.. » (٣). فحسن الجوار ـ إذن ـ من أبرز العلائم الاجتماعية للمؤمن.

______________

١) وسائل الشيعة ٨ : ٤٨٨ كتاب الحج.

٢) المصدر السابق ٨ : ٤٨٧.

٣) اُصول الكافي ٢ : ٦٦٨ / ١٤ كتاب العشرة.

٤٩
٥٠



الفصل الثاني

الكفر وعلامات الكافر

المبحث الأول : معنىٰ الكفر :

حدد الإمام الصادق عليه‌السلام معنىٰ الكفر أفضل تحديد ، بقوله : « كلّ معصية عُصي الله بها بجهة الجحد والإنكار والاستخفاف والتهاون في كلِّ ما دقّ وجلّ وفاعله كافر ومعناه معنىٰ كُفر ، من أيّ ملّةٍ كان ومن أيّ فرقة كان بعد أن تكون منه معصية بهذه الصفات فهو كافر... » (١).

ويرسم لنا الإمام الباقر عليه‌السلام قاعدة عامة في مسألة الإيمان والكفر هي : « كلّ شيء يجرّه الإقرار والتسليم فهو الإيمان ، وكلّ شيء يجرّه الإنكار والجحود فهو الكفر » (٢).

ومن يستقرأ موجبات الكفر في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام يجد أنها تتمحور ـ أساساً ـ حول الفقرات التالية :

أولاً : الشك في الله تعالىٰ ورسوله : يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « من شكَّ

______________

١) تحف العقول : ٣٣٠.

٢) اُصول الكافي ٢ : ٣٨٧ / ١٥ كتاب الإيمان والكفر.

٥١

في الله وفي رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو كافر » (١).

وعن منصور بن حازم قال : قلتُ لأبي عبدالله عليه‌السلام من شك في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « كافر » (٢).

ثانياً : ترك العمل بالفرائض الواجبة أو جحدها : وحول هذه الفقرة يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « .. إنَّ الله عزَّ وجل فرض فرائض موجبات علىٰ العباد فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها وجحدها كان كافراً » (٣). وعن جابر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بين الإيمان والكفر ترك الصلاة » (٤).

ثالثاً : الانحراف العقائدي : وقد يتمثل في تشبيه الله بخلقه وإطلاق صفات المخلوقين عليه ، يقول الإمام الرضا عليه‌السلام : « من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر » (٥).

ومن مظاهر الانحراف الاُخرىٰ الموجبة للكفر القول بالجبر والتفويض ، فقد ورد عن الإمام الرضا عليه‌السلام إنَّ : « .. القائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك » (٦). كما ورد عنه عليه‌السلام أنّ القول بالتناسخ موجب ـ أيضاً ـ للكفر ، قال : « من قال بالتناسخ فهو كافر بالله العظيم مكذّب بالجنة والنار » (٧).

______________

١) اُصول الكافي ٢ : ٣٨٦ / ١٠ كتاب الإيمان والكفر.

٢) المصدر السابق ٢ : ٣٨٧ / ١١ كتاب الإيمان والكفر.

٣) المصدر السابق ٢ : ٣٨٣ / ١ كتاب الإيمان والكفر.

٤) كنز العمال ٧ : ٢٧٩ / ١٨٨٦٩.

٥) وسائل الشيعة ١٨ : ٥٥٧.

٦) وسائل الشيعة ١٨ : ٥٥٧ باب جملة ما يثبت به الكفر والارتداد.

٧) المصدر السابق.

٥٢

رابعاً : إدعاء الإمامة : فقد جاء عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « من ادّعىٰ الإمامة وليس من أهلها فهو كافر » (١).

خامساً : بغض أهل البيت عليهم‌السلام : وهو من الموارد التي تؤدي إلىٰ الكفر ، قال الإمام الباقر عليه‌السلام لزيد الشحام : « يا زيد حُبنا إيمان وبغضنا كفر » (٢). وعن عبدالله بن مسعود قال : سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « من زعم أنه آمن بي وبما جئت به وهو يبغض عليّاً عليه‌السلام فهو كاذب ليس بمؤمن » (٣). وقد تقدم ما يدل عليه في حب أهل البيت عليهم‌السلام أيضاً.

المبحث الثاني : وجوه الكفر وحدوده :

ما أكثر وجوه الكفر وألوانه وما أكثر الطرق المؤدية إليه ، بعضها واضح جلي وبعضها غامض خفي ، يسير عليها الإنسان ولا يعلم أنه صائر إلىٰ الهاوية.

وقد كشف لنا الإمام الصادق عليه‌السلام بما امتاز به من نظرة قرآنية عميقة ، عن وجوه الكفر في القرآن ، عن أبي عمرو الزبيري ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قلتُ له أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزَّ وجلَّ قال عليه‌السلام : « الكفر في كتاب الله علىٰ خمسة أوجه فمنها : كفر الجحود ، والجحود علىٰ وجهين ، والكفر بترك ما أمر الله ، وكفر البراءة ، وكفر النعم. فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول : لا ربّ ولا جنّة ولا نار

______________

١) وسائل الشيعة ١٨ : ٥٦٠.

٢) المصدر السابق ١٨ : ٥٦١.

٣) المناقب للخوارزمي : ٣٥.

٥٣

وهو قول صنفين من الزّنادقة يقال لهم : الدّهرية وهم الذين يقولون : ( .. وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ )(١)وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان علىٰ غير تثبت منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون.. وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) (٢). يعني بتوحيد الله تعالىٰ فهذا أحد وجوه الكفر.

وأما الوجه الآخر من الجحود علىٰ معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقر عنده وقد قال الله عزَّ وجلَّ : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا.. ) (٣) وقال الله عزَّ وجل : ( .. مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ )(٤) فهذا تفسير وجهي الجحود.

والوجه الثالث من الكفر كفر النعم وذلك قوله تعالىٰ يحكي قول سليمان عليه‌السلام : ( .. هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (٥). وقال : ( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (٦).

وقال : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ) (٧).

______________

١) سورة الجاثية ٤٥ : ٢٤.

٢) سورة البقرة ٢ : ٦.

٣) سورة النمل ٢٧ : ١٤.

٤) سورة البقرة ٢ : ٨٩.

٥) سورة النمل ٢٧ : ٤٠.

٦) سورة إبراهيم ١٤ : ٧.

٧) سورة البقرة ٢ : ١٥٢.

٥٤

والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عزَّ وجلَّ به وهو قول الله عزَّ وجلَّ : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ.. ) فكفّرهم بترك ما أمر الله عزَّ وجلَّ به ونسبهم إلىٰ الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال : ( فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (١).

والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة وذلك قوله عزَّ وجلَّ يحكي قول إبراهيم عليه‌السلام : ( .. كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ.. ) (٢). يعني تبرأنا منكم ، وقال يذكر إبليس وتبرئته من أوليائه من الإنس يوم القيامة : ( .. إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ) (٣). وقال : ( .. إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا.. )(٤)يعني يتبرّء بعضكم من بعض » (٥).

ومن الكفر العظيم ما يتصل بإنكار الأنبياء أو تكذيبهم فيما ينقلون عن

______________

١) سورة البقرة ٢ : ٨٤ ـ ٨٥.

٢) سورة الممتحنة ٦٠ : ٤.

٣) سورة إبراهيم ١٤ : ٢٢.

٤) سورة العنكبوت ٢٩ : ٢٥.

٥) اُصول الكافي ٢ : ٣٨٩ ، ٣٩١ / ١ كتاب الإيمان والكفر.

٥٥

الله تعالىٰ مما وصل إلينا بطريق التواتر ، أو التفريق بينهم ، أو الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعض ، قال تعالىٰ : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ.. أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ) (١).

ويدخل في زمرة الكافرين أهل الأديان الاُخرىٰ الذين يُنكرون نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعموم رسالته وأنه خاتم النبيين ، فالقرآن يقول عن اليهود الذين عرفوا أنّ نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حق في عصره ثم أنكروها إستكباراً وعناداً : ( فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (٢).

ويدخل ـ أيضاً ـ في زمرة الكافرين الذين أنكروا كون القرآن الكريم من عند الله تعالىٰ : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ.. ) (٣).

ولا بدَّ من التنويه علىٰ أنّ الكفر ليس ذاتياً في الإنسان بل هو عارض يضعف ويقوى ، فإذا قوىٰ حجب الإيمان وستره ولكن لا ينفيه ولا يبطله بدليل أنّ من يكفر قد يعود بالتوبة أو بالهداية من الله إلىٰ الإيمان بعد الكفر (٤) قبل أن يموت ، فإذا مات فحكمه أنّه كافر. ومن الشواهد الدالة علىٰ ازدياد الكفر ما ورد عن محمد بن مسلم قال : قلتُ لأبي عبدالله عليه‌السلام : ( عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ ) (٥) قال : « العُتُلُّ العظيم الكفر ، والزنيم المستهتر

______________

١) سورة النساء ٤ : ١٥٠ ـ ١٥١.

٢) سورة البقرة ٢ : ٨٩.

٣) سورة فصلت ٤١ : ٥٢.

٤) ولا بدَّ أن نميز هنا بين من كفر بعد الإيمان ومن كان كافراً أصلاً للفرق بين الحالتين وحكمهما ، وتفصيل ذلك تجده في كتب الفقه بعنوان حكم المرتد.

٥) سورة القلم ٦٨ : ١٣.

٥٦

بكفره » (١).

من جانب آخر نجد نمطاً من الناس قد أسرُّوا الكفر ولكن أظهروا الإيمان نفاقاً ، فهم كالحرباء التي تتأقلم مع الظروف وتتمحور حول المصالح الذاتية ، وكنموذج من أولئك المنافقين في تاريخنا الإسلامي ممن انطلىٰ نفاقهم وكفرهم علىٰ شريحة واسعة من المسلمين لتسترهم بظاهر الإسلام : معاوية بن أبي سفيان وحزبه.

ولا نقول ذلك اجتهادا منّا بل لتواتر التصريح به ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقد حلف بأغلظ الأيمان لأصحابه الذين صفهم في صفين ، علىٰ نفاق وزيف إيمان أعدائهم بل وكفرهم ، قائلاً : « .. فو الذي فلق الحبَّة ، وبرأ النسمة ، ما أسلموا ولكن استسلموا ، وأسرُّوا الكفر ، فلما وجدوا أعواناً عليه أظهروه » (٢). فهذا نموذج من الناس يعيش حالة الفصام بين الظاهر والباطن ، فيظهر الإيمان ويبطن الكفر وهو ـ بلا شك ولا شبهة ـ من أخطر حالات الكفر ضرراً علىٰ الإسلام.

إنَّ الإسلام ركّز علىٰ التلازم بين الظاهر والباطن ، ومثل هذه الرؤية تتوضح خطوطها فيما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام : عن الهيثم التميمي قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « يا هيثم التميمي إنَّ قوماً آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن فلم ينفعهم شيء ، وجاء قوم من بعدهم آمنوا بالباطن وكفروا بالظاهر فلم ينفعهم ذلك شيئاً ، ولا إيمان بظاهر إلاّ بباطن ولا بباطن إلاّ

______________

١) معاني الأخبار : ١٤٩.

٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٣٧٤ / كتاب ١٦.

٥٧

بظاهر » (١).

وبطبيعة الحال يُحمل قوله عليه‌السلام : « .. وجاء قوم من بعدهم آمنوا بالباطن وكفروا بالظاهر فلم ينفعهم ذلك شيئاً » علىٰ عدم القيام بلوازم الإيمان من عبادات ومعاملات ، بتعبير آخر يراد منه « كفر الطاعة » المتمثل بعدم أداء الواجبات وعدم الابتعاد عن المحرمات. وإلاّ فهناك شواهد قرآنية قوية علىٰ إيمان من كفر ظاهرا تقيةً من الكفار ، يقول تعالىٰ : ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ.. ) (٢).

ولا خلاف أنها نزلت في عمّار بن ياسر وجماعته إذ أكرههم مشركوا قريش علىٰ كلمة الكفر فاستجاب بعضهم وأبىٰ بعض ونزل القرآن بعذر من استجاب وقلبه مطمئن بالإيمان.

وإنسجاما مع هذه النظرة القرآنية الأرحب ، دفع آل البيت عليهم‌السلام شبهة كفر أبي طالب عليه‌السلام ، تلك الشبهة التي أثارها معاوية وتمسك بها فيما بعد خلفه وأنصاره ، وفي هذا الصدد قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « إنَّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف ، أسرّوا الإيمان ، وأظهروا الشرك فأتاهم الله أجرهم مرّتين » (٣).

هذا ، وقد أُلّفت في إيمان أبي طالب عليه‌السلام عشرات الكتب.

______________

١) بصائر الدرجات : ٥٣٦.

٢) سورة النحل ١٦ : ١٠٦.

٣) معاني الأخبار : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

٥٨

المبحث الثالث : منازل الكُفر :

للكفر منازل ودرجات ، فمن الكفار من يسد منافذ العقل والبصيرة التي منحها الله تعالىٰ له ، ويتمسك بقوة بمتبنياته العقيدية الباطلة كما هو حال الإنسان الجاهلي الذي تمسك بالاصنام التي صنعها بيده من الحجر أو التمر ! كما تمسك بظنونه بقوىٰ الجن والسحر ، وشبَّ علىٰ شهواته لاهياً عما يصير إليه ، قال تعالىٰ : ( .. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ) (١). ومن الكفار من يؤمن بالله تعالىٰ ولكن يشترون بآيات الله ثمنا قليلاً ، ويلبسون الحق بالباطل ويبادرون الكفر بما جاء به خاتم الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كحال بني إسرائيل الذين بلغت قلوبهم درجة التحجر ، لذلك خاطبهم تعالىٰ مستنكرا : ( .. أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ ) (٢).

وهناك فريق من المسلمين قد يتسافل فيصل إلىٰ أقرب المنازل من الكفر وإن لم يسمَّ كافراً ، وذلك في الحالات التالية :

أولاً : التعصب للبدع : وذلك عندما يبتدع شيئاً مخالفاً لقواعد الشرع ومتبنياته ، فيتعصب لما إبتدعه ويعتبره من المسلمات التي لا تقبل نقاشاً ولا جدلاً ، ومن الشواهد الدالة علىٰ هذا النمط ، ما ورد عن الحلبي قال :  قلتُ لأبي عبدالله عليه‌السلام ما أدنىٰ ما يكون به العبد كافرا ؟ قال : « أن يبتدع به

______________

١) سورة محمد ٤٧ : ١٢.

٢) سورة البقرة ٢ : ٨٧ ـ ٨٨.

٥٩

شيئاً فيتولىٰ عليه ويتبرأ ممّن خالفه » (١).

ومن خطورة التعصب للبدع أنه يجرّ صاحبه إلىٰ الكذب علىٰ الشرع الحنيف وذلك بأن يتخبط تخبطاً عشوائياً فيقلب الحقائق الشرعية الواضحة فيعتبر المنهي عنه مأموراً به ! ويتخذ موقفاً معادياً لمن يخالفه ، ويكشف لنا الإمام علي عليه‌السلام عن هذا النمط من الانحراف عن جادّة الصواب بقوله : « ... أدنىٰ ما يكون به العبد كافراً من زعم أنَّ شيئا نهىٰ الله عنه أنّ الله أمر به ونصبه دينا يتولىٰ عليه ويزعم أنّه يعبد الذي أمره به وإنّما يعبد الشيطان » (٢). كما ورد عن الإمام الرّضا عليه‌السلام : « من شبّه الله بخلقه فهو مشرك ، ومن نسب إليه ما نهىٰ عنه فهو كافر » (٣).

ثانياً : الخروج عن قواعد الأخلاق : لا يمكن التفريق بين الإيمان والاخلاق ، وعليه فكل من فقد الخلق الحسن لا بدَّ وأن يقترب من الكفر وإن نطق الشهادتين ، فمن يتصف بالكذب والخيانة وخلف الوعد ، ويقوم بهتك حرمات الناس ، وإحصاء عثراتهم فسوف يتسافل إلىٰ أسفل السافلين ، وتكون منزلته أدنىٰ منازل الكفر وإن لم يكن كافراً وفي هذا الاطار ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام : « إنَّ أقرب ما يكون العبد إلىٰ الكفر أن يؤاخي الرّجل الرّجل علىٰ الدّين فيحصي عليه زلاّته ليعيّره بها يوماً ما » (٤).

______________

١) معاني الاخبار : ٣٩٣.

٢) اُصول الكافي ٢ : ٤١٤ ـ ٤١٥ / ١ كتاب الإيمان والكفر.

٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٥٥٧ باب جملة ما يثبت به الكفر والارتداد.

٤) اُصول الكافي ٢ : ٣٥٥ / ٦ كتاب الكفر والايمان.

٦٠