الإيمان والكفر وآثارهما على الفرد والمجتمع

عباس ذهبيات

الإيمان والكفر وآثارهما على الفرد والمجتمع

المؤلف:

عباس ذهبيات


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-76-5
الصفحات: ١٠٨

الهدىٰ من أحبهم ذاق طعم الإيمان قال أبو عبدالله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّه لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتىٰ يعلم أنّ مالآخرنا لأوّلنا » (١).

ولا يكفي الحب المجرّد بل لا بدَّ من الاتّباع وتحمل تبعات هذا الحب ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « إنّا لا نعدُّ الرجل مؤمناً حتىٰ يكون بجميع أمرنا متّبعاً مريداً » (٢). وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : « لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتىٰ يكون فيه ثلاث خصال : حتىٰ يكون الموت أحبّ إليه من الحياة ، والفقر أحبّ إليه من الغنىٰ ، والمرض أحبّ إليه من الصحة. قلنا : ومن يكون كذا ؟! قال : كلّكم ! ثم قال : أيّما أحبُّ إلىٰ أحدكم يموت في حبّنا أو يعيش في بغضنا ؟ فقلت : نموت والله في حبّكم ؟ قال : وكذلك الفقر ... » قلتُ : إي والله (٣).

فالمقياس النبوي الدقيق لمعرفة حقيقة الإيمان إذن هو حب أهل البيت عليهم‌السلام والتزام طاعتهم ، والتبرّي من أعدائهم ، وقد عرفنا من خلال بعض ما مرَّ أنه المقياس السليم الذي يتم به الكشف عن حقيقة الإيمان الكامل.

ويمكن تصوير الإيمان والكفر ـ بدليل ما تقدم ـ بميزان ذي كفتين : كفة بيضاء نقية تشتمل علىٰ حب أهل البيت عليهم‌السلام ؛ وهي كفة الإيمان الصادق ، واُخرىٰ سوداء مظلمة من بغضهم عليهم‌السلام ؛ وهي ليس إلاّ الكفر والنفاق والمروق من الدين.

______________

١) الاختصاص ، للشيخ المفيد : ٢٦٨.

٢) اُصول الكافي ٢ : ٧٨ / ١٣ كتاب الإيمان والكفر.

٣) معاني الاخبار : ١٨٩.

٢١

خامساً : التدبر والنظرة الواعية : قد تظهر حقيقة إيمان الإنسان من خلال نظرته الفاحصة الواعية لمن حوله ، فحينما يرىٰ الناس منهمكين في إعمار دنياهم وتخريب دينهم ، فيؤثرون الفاني علىٰ الباقي ، يدرك ـ حينئذٍ ـ أنّ هؤلاء عقلاء في دنياهم حمقاء في دينهم. فهذه النظرة وذلك الإدراك يكشفان عن وصول الإنسان لحقيقة الإيمان الواعي. ومن هنا قال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر الغفاري ; : « يا أبا ذرّ لا تصيب حقيقة الإيمان حتىٰ ترىٰ الناس كلّهم حمقاء في دينهم ، عقلاء في دنياهم » (١). وقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام ما يشير إلىٰ ذلك بقوله : « لن تكونوا مؤمنين حتىٰ تعدّوا البلاء نعمة والرَّخاء مصيبة » (٢).

ولا تكفي ـ بطبيعة الحال ـ النظرة الواعية في تحقق الإيمان الكامل بل لا بدَّ من موقف معاكس ومخالف لما عليه عامة الناس وهو إيثار الباقي علىٰ الفاني والعزوف عن الدنيا الفانية..

لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً حارثة.. فقال له : « كيف أصبحت يا حارثة ؟ فقال : أصبحت يا رسول الله مؤمناً حقاً ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ لكلِّ إيمان حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ قال : عزفت نفسي عن الدنيا ، وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري فكأني بعرش ربي وقد قرب للحساب وكأني بأهل الجنة فيها يتراودون ، وأهل النار فيها يعذّبون.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت مؤمن نور الله الإيمان في قلبك ، فاثبت ثبتك

______________

١) مكارم الأخلاق ، للطبرسي : ٤٦٥.

٢) تحف العقول : ٣٧٧.

٢٢

الله » (١).

سادساً : السلوك العبادي السوي : قد تبرز حقيقة الإيمان في سلوك عبادي سويّ ، من خلال العمل بأوامر الله واجتناب نواهيه والنصيحة لأهل بيت رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وفي هذا الصدد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أسبغ وضوءه وأحسن صلاته وأدىٰ زكاة ماله وخزن لسانه وكفَّ غضبه واستغفر لذنبه وأدّىٰ النصيحة لأهل بيت رسوله فقد استكمل حقائق الإيمان وأبواب الجنة مفتحة له » (٢). وقد تظهر حقيقة إيمان العبد في ضبطه لجوارحه وخاصة لسانه ، فقد ورد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « لا يعرف عبدٌ حقيقة الإيمان حتىٰ يخزن من لسانه » (٣).

سابعاً : الموقف الاجتماعي : وقد تظهر حقيقة الإيمان في موقف إجتماعي مشرّف كأن ينفق المؤمن علىٰ ذوي الفاقة علىٰ الرغم من ضيق ذات يده ، أو أن ينصف الناس من نفسه فلا يُسيء لهم ولا يظلمهم ، أو يبذل علمه للجاهل منهم. كل موقف من هذا القبيل قد يأخذ بيد المؤمن إلىٰ مراقي الصعود في درجات الإيمان ، ويشكّل بمفرده حقيقة من حقائقه الناصعة ، يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ثلاث من الإيمان : الإنفاق من الإقتار ، وبذل السلام للعالم ، والانصاف من نفسك » (٤).

ثامناً : حالة الخوف والرجاء : قد تتمثل حقيقة الإيمان في الجانب النفسي عندما يكون المؤمن في حالة نفسية بين الخوف والرجاء عاملاً

______________

١) تحف العقول : ٣٧٧.

٢) أمالي الصدوق : ٢٧٣.

٣) اُصول الكافي ٢ : ١١٤ / ٧ كتاب الإيمان والكفر.

٤) كنز العمال ١ : ٤٤ / ٨٨.

٢٣

وفق مقتضياتهما. قال أبو عبدالله الصادق عليه‌السلام : « لا يكون المؤمن مؤمناً حتىٰ يكون خائفاً راجياً ، ولا يكون خائفاً راجياً حتىٰ يكون عاملاً لما يخاف ويرجو » (١).

المبحث الثالث : مراتب الإيمان :

إذا كان الإيمان هو العلم بالشيء مع الالتزام به بحيث تترتب عليه آثاره العملية ، وكان كل من العلم والالتزام مما يزداد وينقص ويشتد ويضعف ، كان الإيمان المؤلف منهما قابلاً للزيادة والنقيصة والشدة والضعف ، فاختلاف المراتب وتفاوت الدرجات من الضروريات التي ينبغي أن لا يقع فيها اختلاف. هذا ما ذهب إليه الأكثر ، وهو الحق. ويدل عليه من النقل قوله تعالىٰ : ( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ) وغيره من الآيات.

كما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت عليهم‌السلام الدالة علىٰ أنّ الإيمان ذو مراتب (٢) :

كالذي رواه عبدالعزيز القراطيسي قال : قال لي أبو عبدالله عليه‌السلام : « يا عبدالعزيز أنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلَّم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة فلا يقولنَّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست علىٰ شيء حتىٰ ينتهي إلىٰ العاشر » (٣).

وكذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : « الإسلام درجة

______________

١) اُصول الكافي ٢ : ٧١.

٢) تفسير الميزان ١٨ : ٢٥٩. والآية من سورة الفتح ٤٨ : ٤.

٣) اُصول الكافي ٢ : ٤٥ / ٢ كتاب الإيمان والكفر باب آخر من درجات الإيمان.

٢٤

والإيمان علىٰ الإسلام درجة. واليقين علىٰ الإيمان درجة. وما أوتي الناس أفضل من اليقين » (١).

وعن أبي عمرو الزبيدي عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنه قال : « .. الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل ، فمنه التام المنتهي تمامه ، ومنه الناقص البيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد رجحانه ، قلت : إنَّ الإيمان ليتم وينقص ويزيد ؟ قال عليه‌السلام : نعم.. قلت : .. فمن أين جاءت زيادته ؟ فقال عليه‌السلام : قول الله عزَّ وجلَّ : ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ ) (٢). وقال : ( نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) (٣). ولو كان واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل علىٰ الآخر ولاستوت النعم فيه ولاستوىٰ الناس وبطل التفضيل ، ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة ، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله وبالنقصان دخل المفرّطون النار » (٤).

ومن كلِّ ما تقدم تبين أنّ الإيمان له مراتب ودرجات متفاوتة بتفاوت العلم والمعرفة والعمل الصالح ، والناس يختلفون تبعاً لذلك قال تعالىٰ : ( هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) (٥).

______________

١) تحف العقول : ٣٥٨.

٢) سورة التوبة ٩ : ١٢٤ ـ ١٢٥.

٣) سورة الكهف ١٨ : ١٣.

٤) اُصول الكافي ٢ : ٣٣ ، ٣٧ / ١ كتاب الإيمان والكفر.

٥) سورة آل عمران ٣ : ١٦٣.

٢٥

وروىٰ الفضيل بن يسار عن الإمام الرضا عليه‌السلام قوله : « إنَّ الإيمان أفضل من الإسلام بدرجة ، والتقوىٰ أفضل من الإيمان بدرجةٍ ، ولم يُعط بنو آدم أفضل من اليقين » (١).

ولا شكّ أنّ أكثر الخلق إيماناً بالله تعالىٰ هم الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، لأنهم صفوة الخلق من العباد ، ثم يليهم رتبة من خلص لله سراً وعلانية.

ومنهم دون ذلك ، يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « إنَّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم ، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة.. وكان المقداد في الثانية ، وأبو ذر في التاسعة ، وسلمان في العاشرة » (٢).

ومنهم من عصفت بهم موجة الشك في أوقات الشدّة والعسر.

ولا بدَّ من التنويه علىٰ أنّ الترقي الممدوح هو أن يرتفع المؤشر البياني للإيمان ؛ لأنّ كل هبوط فيه إنّما هو نتيجة الشك أو الشبهة مما يكسب ذلك صاحبه المذمة والملامة ويبعده عن ساحة الحق تعالىٰ.

عن الحسين بن الحكم قال : كتبت إلىٰ العبد الصالح عليه‌السلام ـ الإمام الكاظم ـ أُخبره إنّي شاك وقد قال إبراهيم عليه‌السلام : ( ... رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ) (٣) وإنّي أحبُّ أن تريني شيئا ، فكتب عليه‌السلام : « إنّ إبراهيم كان مؤمناً وأحبَّ أن يزداد إيماناً وأنت شاك والشاك لا خير فيه... » (٤).

______________

١) تحف العقول : ٤٤٥.

٢) الخصال ، للشيخ الصدوق : ٤٤٨ / ٧ باب العشرة.

٣) سورة البقرة ٢ : ٢٦٠.

٤) اُصول الكافي ٢ : ٣٩٩ / ١ كتاب الايمان والكفر.

٢٦

عوامل زيادة الإيمان :

هناك عوامل رئيسية تسهم في إيصال الإنسان إلىٰ أعلىٰ درجات الإيمان ، يمكن الإشارة إليها بالنقاط التالية : ـ

أولاً : العلم والمعرفة : لما كان العلم رأس الفضائل صار أمل المؤمن ، لكونه المرتقىٰ الذي يتجه به صعوداً إلىٰ الدرجات الرفيعة ، قال تعالىٰ : ( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ .. ) (١).

فالعلم هو الذي يكسب صاحبه الشرف والسؤدد ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « .. لا شرف كالعلم » (٢) وقال ـ أيضاً ـ موصياً بضرورة اقتران العلم بالأدب : « يا مؤمن إنّ هذا العلم والأدب ثمن نفسك فاجتهد في تعلّمهما ، فما يزيد من علمك وأدبك يزيد من ثمنك وقدرك ، فإنَّ بالعلم تهتدي إلىٰ ربّك ، وبالأدب تحسن خدمة ربّك » (٣).

فالإمام عليه‌السلام يضع ميزاناً لا يقبل الخطأ وهو كلّما تصاعد المؤشر البياني للعلم المقترن بالأدب في نفس المؤمن كلما زيد في قيمته ومكانته أكثر فأكثر. ومن أجل ذلك كان العلماء أقرب الناس إلىٰ درجة النبوة ، بدليل قول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أقرب الناس من درجة النبوّة أهل العلم والجهاد ، أما أهل العلم فدّلوا الناس علىٰ ما جاءت به الرسل ، وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم علىٰ ما جاءت به الرسل » (٤).

______________

١) سورة المجادلة ٥٨ : ١١.

٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٤٨٨ / حكم ١١٣.

٣) روضة الواعظين ، الفتال النيسابوري ١ : ١١ في فضل العلم.

٤)المحجة البيضاء ، للفيض الكاشاني ١ : ١٤.

٢٧

وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من جاء أجله وهو يطلب العلم لقي الله تعالىٰ ولم يكن بينه وبين النبيين إلاّ درجة النبوة » (١).

وفي القرآن الكريم آيات عدة تشير إلىٰ دور العلم وأهميته في حقل الإيمان بالله وكتبه وملائكته ورسله ، ومن الآيات الصريحة جداً بهذا المجال قوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (٢) ومن هنا نجد وصايا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكثيرة في طلب العلم ، وكذلك وصايا أهل البيت عليهم‌السلام نكتفي بما قاله أمير المؤمنين عليه‌السلام : « تعلم العلم فإنَّ تعلمه حسنة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد ، وتعليمه من لا يعلمه صدقة وهو عند الله لأهله قربة ... يرفع الله به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة ... » (٣).

ثانيا : العمل الصالح : وهو العنصر الثاني الذي يقترن بالإيمان ويسهم في إيصال المؤمن إلىٰ أعلىٰ الدرجات ، قال تعالىٰ : ( وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ ) (٤).

وإذا كان الإيمان يمنح الشخصية الإيمانية الرؤية الصحيحة وسلامة التصور ونقاء الاعتقاد فإنَّ العمل الذي هو شعار المؤمن يفجّر طاقتها الابداعية ، فتنطلق في آفاق أرحب وتحيىٰ حياة طيبة ، يقول عزَّ من قائل : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٥). فالإسلام لا يريد من المؤمن أن ينعزل

______________

١) كنز العمال ١٠ : ١٦٠ / ٢٨٨٣١.

٢) سورة فاطر ٣٥ : ٢٨.

٣) روضة الواعظين : ٩ في فضل العلم.

٤) سورة طه ٢٠ : ٧٥.

٥) سورة النحل ١٦ : ٩٧.

٢٨

عن الحياة ويكتفي بالإيمان المجرَّد الذي يقصره البعض وفق نظره القاصر علىٰ الاعتقاد القلبي أو التلفظ اللساني ، وإنّما يُريد المؤمن أن يترجم إيمانه إلىٰ عمل صالح يحقق النقلة الحضارية التي تتطلع إليها الاُمّة الإسلامية كأُمّة رائدة.

ومن يتدبر في قوله تعالىٰ : ( .. وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) (١) ، يلاحظ أنه استعمل لفظة « كيف » ولم يقل « كم » تعملون ، لأن الأهم هو نوعية العمل وأبعاده الحضارية وليس كميته. فمبيت الإمام علي عليه‌السلام ـ علىٰ سبيل المثال ـ ليلة واحدة في فراش الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنقذت الرسول والرسالة ، وضربته يوم الخندق كانت تعادل عبادة الثقلين !.

فالإنسان يرتفع بنوعية العمل الذي ينجزه علىٰ صعيد الواقع ، ومن هنا ركّزت مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام علىٰ « الثنائي الحضاري » المتمثل بالإيمان المقترن بالعمل ، وفي هذا الصدد قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل.. يحبُّ الصالحين ولا يعملُ عملهم... » (٢).

ومن المعروف أنّ بعض الناس يتّكلون علىٰ أحسابهم الرّفيعة في كسب المكانة الاجتماعية ، ولكن الإمام علياً عليه‌السلام ركّز علىٰ مقياس العمل وأعطاه الأولوية في تكامل الإنسان ورفعته ، فقال عليه‌السلام : « من أبطأ به عمله ، لم يسرع به حسبه » (٣).

وكان أئمة أهل البيت عليهم‌السلام علىٰ الرغم من شرف حسبهم ، وسمو

______________

١) سورة الأعراف ٧ : ١٢٩.

٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٤٩٧ / حكم ١٥٠.

٣) نهج البلاغة ، صبحي الصالح / ٤٧٢ / حكم ٢٣.

٢٩

مقامهم الاجتماعي ، يجهدون أنفسهم في العمل ، فعلىٰ سبيل الاستشهاد أنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام قد أعتق من كد يده جماعة لا يحصون كثرة ، ووقف أراضي كثيرة وعيناً استخرجها وأحياها بعد موتها (١). وسلك ذات المسلك ولده من بعده ، كانوا يعملون لخدمة الناس فينقلون علىٰ ظهورهم الجراب وفيها الدقيق والأطعمة إلىٰ المحتاجين والفقراء. وكانوا يعملون بأيديهم الكريمة في الشمس المحرقة حباً للعمل واحتساباً لله ، حتىٰ عرّضوا أنفسهم في بعض الاحيان لسهام النقد المسمومة وقوارص الكلام ، ومن الشواهد ذات الدلالة ما ورد عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « إنَّ محمد بن المنكدر كان يقول : ما كنت أرىٰ أنّ مثل علي بن الحسين عليه‌السلام يدع خلفاً لفضل علي بن الحسين عليهما‌السلام حتىٰ رأيت ابنه محمد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني فقال له أصحابه بأي شيء وعظك ؟ قال : خرجتُ إلىٰ بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيتُ محمد بن علي عليهما‌السلام وكان رجلاً بديناً وهو متكىء علىٰ غلامين له أسودين أو موليين له ، فقلت في نفسي شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة علىٰ هذه الحال في طلب الدّنيا لأعظه فدنوت منه فسلمت عليه فسلم عليَّ بنهر وقد تصبب عرقاً فقلتُ أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة علىٰ هذا الحال في طلب الدنيا لو جائك الموت وأنت علىٰ هذه الحال قال : فخلىٰ عن الغلامين من يده ثم تساند وقال لو جائني والله الموت ، وأنا في هذه الحال جائني وأنا في طاعة من طاعات الله أكف بها نفسي عنك وعن الناس وإنّما كنت أخاف الموت لو جائني وأنا علىٰ معصية من معاصي الله فقلت يرحمك الله أردت أن أعظك

______________

١) الفصول المختارة : ١٠٣.

٣٠

فوعظتني » (١).

ثالثاً : الإيثار : وهو خصلة كريمة ترفع الإنسان إلىٰ أعلىٰ مراتب الإيمان ، فحينما يرتفع الإنسان فوق ( الأنا ) ويضع مصلحة الآخرين فوق مصلحته الخاصة ، فلا شك أنه قد قطع شوطاً إيمانياً يستحق بموجبه الدَّرجات الرَّفيعة. وقد مدح تعالىٰ أولئك الذين يخرجون من دائرة ( الأنا ) الضيقة علىٰ الرغم من ضيق ذات اليد إلىٰ دائرة أسمىٰ هي دائرة الإنسانية ، فقال عزَّ من قائل : ( .. وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.. ) (٢).

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أشد الخلق حرصاً علىٰ تلك الفضيلة السامية ، حتىٰ ورد في الخبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما شبع ثلاثة أيام متوالية حتىٰ فارق الدنيا ، ولو شاء لشبع ولكنه كان يؤثر علىٰ نفسه (٣).

وبلغ وصيه الإمام علي عليه‌السلام القمة في الإيثار ، وقد ثمنت السماء الموقف التضحوي الفريد الذي قام به عندما بات علىٰ فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « .. فأوحىٰ الله إلىٰ جبرئيل وميكائيل إني آخيت بينكما وجعلت عمر الواحد منكما أطول من عمر الآخر فأيُّكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختار كلاهما الحياة. فأوحىٰ الله عزَّ وجلَّ إليهما أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد فبات علىٰ فراشه يفديه بنفسه فيؤثره بالحياة فأنزل الله تعالىٰ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ

______________

١) الارشاد ، للشيخ المفيد : ٢٦٤.

٢) سورة الحشر ٥٩ : ٩.

٣) تنبيه الخواطر ١ : ١٧٢.

٣١

بِالْعِبَادِ ) (١).

فالإيثار ـ إذن ـ يرفع الإنسان إلىٰ أعلىٰ الدرجات الإيمانية كما رفع الإمام عليّاً عليه‌السلام بحيث أنّ ربِّ العزة يفاخر به ملائكته المقربين.

ومن الإيثار ما يكون معنوياً كإيثار الصدق علىٰ الكذب مع توقع الضرر ، وذلك من أجلىٰ علائم الإيمان ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الإيمان أن تؤثر الصدق حيثُ يضرك علىٰ الكذب حيثُ ينفعك » (٢).

رابعاً : الخُلق الحسن : وهو عنوان صحيفة المؤمن (٣) ، وأن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنّه لضعيف العبادة كما يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤).

وقد ورد عن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام : « إنَّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً » (٥). وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام موصياً : « روضوا أنفسكم علىٰ الأخلاق الحسنة فإنَّ العبد المؤمن يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم » (٦).

إذن فالخلق الحسن أحد مقاييس الإيمان ، يصل من خلاله المؤمن إلىٰ مقامات عالية ويحصل به علىٰ أوسمة معنوية رفيعة ، فمن حكم ومواعظ

______________

١) تنبيه الخواطر ١ : ١٧٣ ـ ١٧٤. والآية من سورة البقرة ٢ : ٢٠٧.

٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٥٥٦ / حكم ٥٨.

٣) اُنظر تحف العقول : ٢٠٠.

٤) المحجة البيضاء ٥ : ٩٣ كتاب رياضة النفس.

٥) اُصول الكافي ٢ : ٩٩ / ١ كتاب الإيمان والكفر.

٦) تحف العقول : ١١١.

٣٢

أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ... عليكم بمكارم الاخلاق فإنها رفعة ، وإيّاكم والأخلاق الدّنية فإنها تضع الشريف ، وتهدم المجد » (١).

المبحث الرابع : أنواع الإيمان :

يمكن تقسيم الإيمان بالنظر إلىٰ رسوخه وثباته أو عدمه إلىٰ ثلاثة أقسام هي : ـ

أولاً : الإيمان الفطري : كإيمان الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، الذين لا تخالجهم الشكوك ، ولا يكونون نهبا للوساوس ، لأنّ الله تعالىٰ فطرهم علىٰ الإيمان به واليقين بما أخبرهم عنه من مكنون غيبه.

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « إنَّ الله جبل النبيين علىٰ نبوتهم ، فلا يرتدون أبداً ، وجبل الأوصياء علىٰ وصاياهم فلا يرتدون أبداً ، وجبل بعض المؤمنين علىٰ الإيمان فلا يرتدون أبداً ، ومنهم من أعير الإيمان عارية ، فإذا هو دعا وألحَّ في الدعاء مات علىٰ الإيمان » (٢).

ثانياً : الإيمان المستودع : وهو الإيمان الصوري غير المستقر الذي سرعان ما تزعزعه عواصف الشبهات ووساوس الشيطان ويُعبر عنه ـ أيضاً ـ بالإيمان المعار كأنما يستعير صاحبه الإيمان ثم يلبسه ولكن سرعان ما ينزعه ويتخلىٰ عنه ، ويذهب بعيدا مع أهوائه ومصالحه. عن الفضل بن يونس عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « أكثر من أن تقول : اللّهمَّ

______________

١) تحف العقول : ٢١٥.

٢) اُصول الكافي ٢ : ٤١٩ / ٥ كتاب الإيمان والكفر.

٣٣

لا تجعلني من المعارين ولا تخرجني من التقصير.. » (١). وكان الأئمة عليهم‌السلام يطلبون من شيعتهم الاكثار من هذا الدعاء وذلك أنّ بعض كبار الأصحاب قد تعرضت رؤيته للاضطراب بفعل عواصف الشبهات ودواعي الشهوات ، عن جعفر بن مروان قال : إنَّ الزبير اخترط سيفه يوم قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : لا أغمده حتىٰ أُبايع لعليّ ، ثمَّ اخترط سيفه فضارب عليّا فكان ممّن أُعير الإيمان ، فمشي في ضوء نوره ثمَّ سلبه الله إيّاه (٢).

وفي قوله تعالىٰ : ( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ.. ) (٣) إشارة إلىٰ هذين القسمين من الإيمان : الثابت والمتزلزل. يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب ، ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور إلىٰ أجل معلوم.. » (٤).

ثالثاً : الإيمان الكسبي : وهو الإيمان الفطري الطفيف الذي نمّاه صاحبه واستزاد رصيده حتىٰ تكامل وسمىٰ إلىٰ مستوىٰ رفيع ، وله درجات ومراتب (٥).

ويمكن تنمية هذا النوع من الإيمان وترصينه حتىٰ يصل إلىٰ مرتبة الإيمان المستقر ، ولذلك ورد في نصائح أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل قوله : « يا كميل إنّه مستقر ومستودع ، فاحذر أن تكون من المستودعين ، وإنّما يستحقُّ أن تكون مستقراً إذا لزمت الجادَّة الواضحة التي لا تُخرجك إلىٰ

______________

١) اُصول الكافي ٢ : ٧٣ / ٤ كتاب الايمان والكفر.

٢) تفسير العياشي ١ : ٣٧١.

٣) سورة الانعام ٦ : ٩٨.

٤) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٢٧٩ / خطبة ١٨٩.

٥) أخلاق أهل البيت عليهم‌السلام ، للسيد مهدي الصدر : ١٠٠.

٣٤

عوجٍ ولا تزيلُك عن منهج » (١).

وتجدر الإشارة إلىٰ أنّ للإيمان أربعة أركان يستقر عليها ، فمن اتّصف بها كان إيمانه مستقراً ، وحول هذه المسألة قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الإيمان له أركان أربعة : التوكل علىٰ الله ، وتفويض الأمر إلىٰ الله ، والرّضا بقضاء الله ، والتسليم لأمر الله عزَّ وجل » (٢).

كما أنّ للإيمان أربع دعائم معنوية يرتكز عليها ، يقول الإمام علي عليه‌السلام : « إنَّ الإيمان علىٰ أربع دعائم علىٰ الصبر واليقين والعدل والجهاد » (٣).

وفوق ذلك للإيمان عرىٰ وثيقة تأمن من تمسك بها من السقوط في مهاوي الضلال منها : التقوىٰ والحب في الله والبغض في الله ، وتولي أولياء الله ، والتبري من أعدائه ، ومن الأدلة النقلية علىٰ ذلك ، قول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أوثق عرىٰ الإيمان : الولاية في الله ، والحب في الله ، والبغض في الله » (٤).

وقد وجه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاصحابه ـ يوماً ـ سؤالاً استفهامياً : « أي عرىٰ الإيمان أوثق ؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم ، وقال : بعضهم الصلاة ، وقال بعضهم الزكاة.. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لكلِّ ما قلتم فضل وليس به ، ولكن أوثق عرىٰ الإيمان : الحبُّ في الله ، والبغض في الله ، وتولي أولياء الله ،

______________

١) تحف العقول : ١٧٤.

٢) اُصول الكافي ٢ : ٤٧ / ٢ كتاب الإيمان والكفر.

٣) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ١٨ : ١٤٢.

٤) كنز العمال ١٥ : ٨٩٠ / ٤٣٥٢٥.

٣٥

والتبري من أعداء الله » (١).

وأهل بيت العصمة عليهم‌السلام من العرىٰ الوثيقة التي تعصم من تمسك بها عن السقوط في مهاوي الضلال ، وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام كثيراً ما كان يردد هذه الكلمات : « ... أنا حبل الله المتين ، وأنا عروة الله الوثقىٰ ، وكلمته التقوىٰ... » (٢).

لم يكن ذلك منه للتفاخر بل لإلفات النظر إلىٰ أنّ أهل البيت عليهم‌السلام هم العروة الوثقىٰ التي لا انفصام لها ، عن عبدالله بن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أحبَّ أن يتمسك بالعروة الوثقىٰ التي لا انفصام لها فليتمسك بولاية أخي وحبيبي علي بن أبي طالب فإنّه لا يهلك من أحبه وتولاّه ولا ينجو من أبغضه وعاداه » (٣).

المبحث الخامس : علامات المؤمن :

العلامات الأساسية التي يتميز بها المؤمن عن غيره أربعة ، وهي :

أولاً : علائم عبادية :

العبادة هي التجسيد الحقيقي للإيمان وتحتل مركز الصدارة في الكشف عن حقيقة إيمان الإنسان ، فمن آمن بالله تعالىٰ حقاً عليه أن يتقرب إليه بطقوس عبادية تكشف عن عبوديته ، وتعبر عن شكره وحمده لخالقه ، وخير كاشف عن مصداقية الإيمان هو أداء الإنسان لما افترضه الله

______________

١) الاختصاص ، للشيخ المفيد : ٣٦٥.

٢) التوحيد ، للشيخ الصدوق : ١٦٥ باب معنىٰ جنب الله.

٣) معاني الأخبار : ٣٦٨ ـ ٣٦٩ باب معنىٰ العروة الوثقىٰ.

٣٦

عليه من صلاة وصيام وحج البيت الحرام وما إلىٰ ذلك من فرائض عبادية. يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « .. لا عبادة كأداء الفرائض » (١) ، وعن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « نزل جبرئيل علىٰ النبي ٦ فقال : يا محمد.. ما تقرب إليَّ عبدي المؤمن بمثل أداء الفرائض ، وإنّه ليتنفل لي حتىٰ أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها.. » (٢).

وهناك علاقة طردية بين الإيمان والعبادة ، كلما ازداد إيمان العبد كلما أقبل علىٰ العبادة أكثر فأكثر ، وظهرت عليه علائم التفاعل معها والانفعال بها. كما هو حال أهل البيت عليهم‌السلام الذين ضربوا بعبادتهم أروع الأمثلة ، فكانوا عليهم‌السلام إذا حضرت الصلاة تقشعر جلودهم وتصفر ألوانهم ويرتعدون من خوف الله ، فعلى سبيل الاستشهاد لا الحصر ، ورد عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « كان أبي عليه‌السلام يقول : « كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما إذا قام في الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرّك منه شيء إلاّ ما حرّكه الريح منه » (٣).

إنَّ العبادة الصادقة تصنع الأعاجيب وتمنح المؤمن الكرامة وتزوده بالبصيرة الصافية ، قد تجعله يسبر أغوار نفس غيره فيطلع علىٰ ما يدور فيها ، تمعّن في الحكاية التالية التي تكشف عن بعض كرامات الإمام موسىٰ الكاظم عليه‌السلام كما روتها مصادر العامّة : « عن شقيق البلخي قال : خرجت حاجاً في سنة تسع وأربعين ومئة ، فنزلت القادسية ، فبينما أنا أنظر إلىٰ الناس وزينتهم وكثرتهم ، نظرت فتىٰ حسن الوجه فوق ثيابه ثوب

______________

١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٤٨٨ / حكم ١١٣.

٢) المؤمن ، للشيخ الثقة الحسين بن سعيد الكوفي : ٣٢ / ٦١.

٣) فروع الكافي ٣ : ٣٠٠.

٣٧

صوف مشتملاً بشملة وفي رجليه نعلان ، وقد جلس منفرداً ، فقلت في نفسي : هذا الفتىٰ من الصوفية يريد أن يكون كلاً علىٰ الناس في طريقهم ، والله لأمضينَّ إليه ولأوبخنه ، فدنوت منه ، فلما رآني مقبلاً قال : « يا شقيق ( اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ )(١) » وتركني ومضىٰ ، فقلتُ في نفسي : إنَّ هذا لأمر عظيم قد تكلم علىٰ ما في نفسي ونطق باسمي ، ما هذا إلاّ عبد صالح ، لألحقنه ولأسألنه أن يحللني ، فأسرعت في أثره فلم ألحقه ، وغاب عن عيني ، فلما نزلنا واقصة إذا به يصلي وأعضاءه تضطرب ، ودموعه تجري فقلت : هذا صاحبي أمضي إليه وأستحله ، فصبرت حتىٰ جلس وأقبلت نحوه ، فلما رآني مقبلاً قال : « يا شقيق اقرأ ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ ) (٢) » ثم تركني ومضىٰ ، فقلتُ : إنَّ هذا الفتىٰ لمن الأبدال ، قد تكلم علىٰ سري مرتين ، فلما نزلنا إلىٰ منىٰ إذا بالفتىٰ قائم علىٰ البئر وبيده ركوة يريد أن يستقي ، فسقطت الركوة من يده إلىٰ البئر وأنا أنظر إليه ، فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول :

« أنت ربي إذا ظمئت من الماء

وقوتي إذا أردت الطعاما

اللهمَّ أنت تعلم يا إلهي وسيدي ما لي سواها ، فلا تعدمني إياها » ، قال شقيق.. : فو الله لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤه ، فمدّ يده وأخذ الركوة وملأها ماء وتوضأ وصلىٰ أربع ركعات ثم مال إلىٰ كثيب من رمل ، فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحرّكه ويشرب ، فأقبلت إليه وسلمت

______________

١) سورة الحجرات ٤٩ : ١٢.

٢) سورة طه ٢٠ : ٨٢.

٣٨

عليه ، فردَّ عليَّ السلام ، فقلت أطعمني من فضل الله ما أنعم الله تعالىٰ به عليك فقال : « يا شقيق لم تزل نعمة الله تعالىٰ علينا ظاهرة وباطنة ، فأحسن ظنك بربك » ثم ناولني الركوة فشربت منها ، فإذا سويق وسكر ، فوالله ما شربت قطّ ألذَّ منه ولا أطيب منه ريحاً ، فشبعت ورويت وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً ، ثم لم أره حتىٰ دخلنا مكة فرأيته ليلة في جنب قبة الشراب في نصف الليل يصلي بخشوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتىٰ ذهب الليل ، فلما رأىٰ الفجر جلس في مصلاه يسبح ثم قام فصلىٰ ، فلما سلم من صلاة الصبح طاف بالبيت أسبوعاً وخرج فتبعته ، فإذا له حاشية وأموال ، وهو علىٰ خلاف ما رأيته في الطريق ، ودار به الناس من حوله يسلمون عليه ، فقلت لبعض من رأيته بالقرب منه ؟ من هذا الفتىٰ ؟ فقال : هذا موسىٰ بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين.. رضوان الله عليهم أجمعين ، فقلتُ : قد عجبت أن تكون هذه العجائب والشواهد إلاّ لمثل هذا السيد » (١).

يبقىٰ أن نشير إلىٰ أنّ العبادة لا ينحصر مصداقها في الصلاة والصيام وما إلىٰ ذلك من الفرائض العبادية ، بل توجد لها مصاديق أعلىٰ ، تكشف لنا عن علائم المؤمن كالفكر والذكر ، فعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّ : « التفكر في آلاء الله نعم العبادة » (٢) ، وعنه أيضاً أنّ : « التفكر في ملكوت السماوات والأرض عبادة المخلصين » (٣).

______________

١) روض الرياحين في حكايات الصالحين ، عفيف الدين أبي السعادات عبدالله بن أسعد اليافعي اليمني : ١٢٢ / الحكاية ٧٤ مؤسسة عماد الدين ، قبرص.

٢) غرر الحكم.

٣) المصدر السابق.

٣٩

فالإنسان إذا كان شغله الشاغل التفكر في خلق الله وآلائه فمن الطبيعي والحال هذه أن يترجم هذا الفكر إلىٰ ذكر يفيض بمعاني الحمد والعرفان ، وهذا من أجلىٰ مظاهر الإيمان.

يقول علماء النفس : قل لنا فيم تفكر نقل لك من أنت.

ففكر الإنسان الذي يتجسد في أقواله وينعكس علىٰ أعماله يكشف عن شخصيته ومتبنياته العقيدية.

والإسلام يعتبر التفكر في أمر الله مؤشرا عظيما علىٰ الإيمان ، يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « ليست العبادة كثرة الصلاة والصوم إنّما العبادة التفكر في أمر الله عزَّ وجلَّ » (١).

وقد : « سئلت أمّ أبي ذرّ عن عبادة أبي ذر فقالت : كان نهاره أجمع يتفكر في ناحية عن الناس » (٢).

ثانياً : علائم نفسية :

يتميز المؤمن عن غيره بعدة علائم نفسية ، يمكن الإشارة إلىٰ أبرزها بالنقاط التالية :

١ ـ الصلابة والثبات : فالمؤمن يكون ثابتاً كالطود الشامخ لم تزعزعه الحوادث ويستسهل كل صعب بقلب مطمئن بقضاء الله وقدره ، ويتمسك بعروة الصبر في مواطن الخطر ، وقور لا يخرج عن طوره ، شاكراً لربه قانعاً برزقه ، يؤثر راحة الآخرين علىٰ راحته كالشجرة العظيمة في الصحراء

______________

١) اُصول الكافي ٢ : ٥٥ / ٤ باب الإيمان والكفر.

٢) تنبيه الخواطر ١ : ٢٥٠ / باب التفكر.

٤٠