الرّجعة

علي موسى الكعبي

الرّجعة

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-75-7
الصفحات: ١٠٧
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : نعم ، تكلم بما سمعت ولا تزد في الكلام ، فما قلت لهم ؟

قال : قلت : لا أُؤمن بشيء ممّا قلتم.

فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : ويلك إنَّ الله عزَّ وجلَّ ابتلىٰ قوماً بما كان من ذنوبهم ، فأماتهم قبل آجالهم التي سمّيت لهم ثم ردَّهم إلىٰ الدنيا ليستوفوا أرزاقهم ، ثمّ أماتهم بعد ذلك.

قال : فكبر علىٰ ابن الكواء ولم يهتد له ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : ويلك تعلم أنّ الله عزَّ وجلَّ قال في كتابه : ( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا ) (١) فانطلق بهم معه ليشهدوا له إذا رجعوا عند الملأ من بني إسرائيل إنَّ ربي قد كلمني ، فلو أنهم سلّموا ذلك له ، وصدّقوا به ، لكان خيراً لهم ، ولكنهم قالوا لموسى عليه‌السلام : ( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللهَ جَهْرَةً ) قال الله عزَّ وجلَّ ( فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) يعني الموت ( وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٢).

أفترىٰ يا ابن الكواء أنَّ هؤلاء قد رجعوا إلىٰ منازلهم بعدما ماتوا ؟

فقال ابن الكواء : وما ذاك ، ثمَّ أماتهم مكانهم ؟

فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : ويلك ، أوليس قد أخبرك الله في كتابه حيث يقول : ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ) (٣) فهذا بعد

__________________

(١) سورة الاعراف ٧ : ١٥٥.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٥٥ ـ ٥٦.

(٣) سورة البقرة ٢ : ٥٧.

٨١

الموت إذ بعثهم ، وأيضاً مثلهم يابن الكواء الملأ من بني إسرائيل حيثُ يقول الله عزَّ وجل : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) (١).

وقوله أيضاً في عزير حيثُ أخبر الله عزَّ وجلَّ فقال : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ ) وأخذه بذلك الذنب ( مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) وردّه إلىٰ الدنيا ( قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ) (٢) فلا تشكنَّ يا ابن الكواء في قدرة الله عزَّ وجل » (٣).

٢ ـ احتجاج الشيخ أبي محمد الفضل بن شاذان : (٤)

ذكر الشيخ ابن شاذان قدس‌سره في احتجاجه علىٰ هذه المسألة روايات عديدة في إحياء الموتىٰ مروية بطرق العامّة ، وقد ذكرنا بعضاً منها مراعاة للاختصار :

قال في ذكر الرجعة من كتاب ( الايضاح ) :

ورأيناكم عبتم عليهم ـ أي علىٰ الإمامية ـ شيئاً تروونه من وجوه كثيرة

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٤٣.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٥٩.

(٣) مختصر بصائر الدرجات ، للحسن بن سليمان : ٢٢. وبحار الأنوار ٥٣ : ٧٢ / ٧٢. والايقاظ من الهجعة : ١٨٥ / ٤٢. والرجعة ، للاسترآبادي : ٤٩ / ٢٣.

(٤) وهو أبو محمد الفضل بن شاذان الأزدي النيسابوري ، روىٰ عن أبي جعفر الثاني والهادي والعسكري عليهم‌السلام ، وقيل : روىٰ عن الإمام الرضا عليه‌السلام ، وكان ثقة جليلاً ، وفقيهاً ومتكلماً ، ذُكر أنّه صنّف ١٨٠ كتاباً ، وترحّم عليه الإمام أبو محمد العسكري عليه‌السلام مرتين وقيل : ثلاثاً ، وتوفي سنة ٢٦٠ ه‍. رجال النجاشي : ٣٠٦ / ٨٤٠. والخلاصة : ١٣٢ / ٢.

٨٢

عن علمائكم وتؤمنون به وتصدّقونه ، ونحن مفسّرون ذلك لكم من أحاديثكم بما لا يمكنكم دفعه ولا جحوده.

من ذلك ما رويتم عن إبراهيم بن موسىٰ الفرّاء ، عن ابن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : جاء يزيد بن النّعمان بن بشير إلىٰ حلقة القاسم بن عبدالرّحمن بكتاب أبيه النعمان بن بشير إلىٰ أُم عبدالله بنت أبي هاشم ـ يعني إلىٰ أُمه ـ بسم الله الرحمن الرحيم ، من النعمان بن بشير إلىٰ أُم عبدالله بنت أبي هاشم ، سلامٌ عليكم ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو.

أما بعد ، فإنّي كتبت إليك بشأن زيد بن خارجة ، وأنّه كان من أمره أنّه أخذه وجعٌ في كتفه ، وهو يومئذٍ من أصحّ أهل المدينة حالاً في نفسه فمات ، فأتاني آتٍ وأنا أُسبّح بعد الغروب فقال لي : إنَّ زيداً تكلّم بعد وفاته.

ورويتم عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبدالملك بن عمير ، عن ربعي بن حراش ، قال : كنّا أربع إخوة ، وكان الرّبيع أخونا أصومنا في اليوم الحار ، وأطولنا صلاة ، فخرجت فقيل لي : إنّه قد مات ، فاسترجعت ، ثمَّ رجعت حتىٰ دخلت عليه فإذا هو مسجّىٰ عليه ، وإذا أهله عنده ، وهم يذكرون الحنوط ، فجلست فما أدري أجلوسي كان أسرع أم كشف الثوب عن وجهه ، ثمّ قال : السلام عليك ، فأخذني ما تقدّم وما تأخّر من الذّعر ، ثمَّ قلت : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، أبعد الموت ؟! قال : نعم ، إنّي لقيت ربي بعدكم فتلقاني بروحٍ وريحانٍ وربّ غير غضبان ، فكساني ثياب السندس والإستبرق ، وإنَّ الأمر أيسر ممّا في أنفسكم ولا تغترّوا ، وإنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقسم عليّ أن لا يسبقني حتىٰ أُدركه ، فاحملوني إلىٰ

٨٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فما شبّهت موته إلاّ بحصاةٍ رمىٰ بها في ماءٍ ، ثم ذكرت ذلك لعائشة ، فقالت : ما سمعت بمثل حديث صاحبكم في هذه الاُمّة ، ولقد صدقكم.

وروىٰ عدّة روايات عن إحياء الموتىٰ بطرق العامّة ، إلىٰ أن قال :

فهذه رواياتكم وروايات فقهائكم في الرجعة بعد الموت ، وأنتم تنحلون الشيعة ذلك جرأةً علىٰ الله وقلّة رعةٍ وقلّة حياءٍ لا تبالون ما قلتم.

وروىٰ علي ابن أُخت يعلىٰ الطنافسي ومحمّد بن الحسين بن المختار كلاهما عن محمد بن الفضيل ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن فراس ، عن الشعبي ، قال : أُغمي علىٰ رجل من جهينة في بدء الإسلام ، كان اسمه المفضّل ، فبينا نحن كذلك عنده وقد حفر له ، إذ مرَّ بهم رجلٌ يقال له المفضّل ، فأفاق الرجل ، فكشف عن وجهه ، وقال : هل مرَّ بكم المفضّل ؟ قالوا : نعم ، مرَّ بنا الساعة ، فقال : ويحكم كاد أن يغلط بي ، أتاني حين رأيتموني أُغمي عليَّ آت ، فقال : لاُمّك الهبل ، أما ترىٰ حفرتك تُنثل ، وقد كادت أُمّك أن تثكل ، أرأيت أن حوّلناها عنك بمحوّل ، وجعلنا في حفرتك المفضّل ، الذي مشىٰ فاجتذل ، إنّه لم يؤدّ ولم يفعل ، ثمَّ ملأنا عليه الجندل ، أتشكر لربك وتصلّ ، وتدع سبيل من أشرك وأضلَّ ؟

قال : قلت : أجل ، قال : فأطلق عني ، فعاش هو ، ودفن المفضل مكانه.

فلم ترضوا بالرجعة حتىٰ نسبتم ملك الموت إلىٰ الغلط جرأةً منكم ، ثم لم ترضوا أن تحيوا الموتىٰ من الناس برواياتكم حتىٰ أحييتم البهائم من الحمر وغير ذلك.

٨٤

من ذلك ما رواه عدّة من فقهائكم منهم محمد بن عبيد الطنافسي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عامر الشعبي : أنَّ قوماً أقبلوا من الدّفينة متطوّعين ـ أو قال : مجاهدين ـ فنفق حمار رجل منهم ، فسألوه أن ينطلق معهم ولا يتخلّف ، فأبىٰ فقام فتوضأ ثمَّ صلىٰ ، ثم قال : اللهم إنك تعلم أني قد أقبلت من الدّفينة مجاهداً في سبيلك ابتغاء مرضاتك ، وإني أسألك أن لا تجعل لأحدٍ عليَّ منّة ، وأن تبعث لي حماري ؛ ثمَّ قام فضربه برجله ، فقام الحمار ينفض أُذنيه ، فأسرجه وألجمه ، ثمَّ ركب حتىٰ لحق أصحابه ، فقالوا له : ما شأنك ؟ قال : شأني أنّ الله بعث لي حماري.

قال محمد بن عبيد : قال إسماعيل بن أبي خالد : قال الشعبي : فأنا رأيت حماره بيع بالكناسة.

فهذا من عجائبكم ورواياتكم ، ولسنا ننكر لله قدرة أن يحيي الموتىٰ ، ولكنّا نعجب أنكم إذا بلغكم عن الشيعة قولٌ عظّمتموه وشنّعتموه ، وأنتم تقولون بأكثر منه ، والشيعة لا تروي حديثاً واحداً عن آل محمد عليهم‌السلام أنّ ميّتاً رجع إلىٰ الدنيا كما تروون أنتم عن علمائكم ، إنّما يروون عن آل محمد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لاُمّته : « أنتم أشبه شيء ببني إسرائيل ، والله ليكونن فيكم ما كان فيهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ، حتىٰ لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه ».

وهذه الرواية أنتم تروونها أيضاً ، وقد علمتم أنّ بني إسرائيل قد كان فيهم من عاش بعد الموت ، ورجعوا إلىٰ الدنيا ، فأكلوا وشربوا ونكحوا النساء ، وولد لهم الأولاد ، ولا ننكر لله قدرة أن يحيي الموتىٰ ، فإن شاء أن يردّ من مات من هذه الاُمّة كما ردّ بني إسرائيل فعل ، وإن شاء لم يفعل.

٨٥

فهذا قول الشيعة ، وأنتم تروون أن قوماً قد رجعوا بعد الموت ثمَّ ماتوا بعد ، ثم تنكرون أمرا أنتم تروونه وتقولون به ظلماً وبهتاناً (١).

٣ ـ احتجاج السيد الحميري قدس‌سره : (٢)

روىٰ الشيخ المفيد قدس‌سره عن الحارث بن عبيدالله الربعي ، أنه قال : كنت جالساً في مجلس المنصور ، وهو بالجسر الأكبر ، وسِوار القاضي عنده والسيد الحميري ينشده :

إنَّ الإله الذي لا شيء يشبهه

آتاكم الملك للدنيا وللدين

حتىٰ أتىٰ علىٰ القصيدة والمنصور مسرور ، فقال سِوار : هذا والله يا أمير المؤمنين يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه ، والله إنّ القوم الذين يدين بحبّهم لغيركم ، وإنّه لينطوي في عداوتكم ، إلىٰ أن قال : يا أمير المؤمنين ، إنّه يقول بالرجعة ، ويتناول الشيخين بالسبّ والوقيعة فيهما.

فقال السيّد : أمّا قوله بأنّي أقول بالرجعة ، فإنّ قولي في ذلك علىٰ ما قال الله تعالىٰ : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ) (٣).

__________________

(١) الايضاح ، لابن شاذان : ١٨٩ ـ ١٩٥.

(٢) هو إسماعيل بن محمد بن يزيد الحميري ، أبو هاشم ، شاعر إمامي متقدم ، أكثر شعره في مدح آل البيت عليهم‌السلام ، كان ثقة جليل القدر ، عظيم المنزلة ، لقي الإمام الصادق عليه‌السلام ، وعدّه أبو عبيدة من أشعر المحدثين ، وجعله أبو الفرج ثالث ثلاثة هم أكثر الناس شعرا في الجاهلية والإسلام. ولد في نعمان سنة ١٠٥ ه‍ ومات ببغداد سنة ١٧٣ ه‍.

(٣) سورة النمل ٢٧ : ٨٣.

٨٦

وقال : قال في موضع آخر : ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) (١) فعلمت أنّ هاهنا حشرين : أحدهما عامّ ، والآخر خاصّ.

وقال سبحانه : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) (٢) ، وقال الله تعالىٰ : ( فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) (٣) وقال الله تعالىٰ : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) (٤) ، فهذا كتاب الله عزَّ وجلَّ.

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يحشر المتكبّرون في صور الذرّ يوم القيامة ». وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لم يجرِ في بني إسرائيل شيء إلاّ ويكون في أُمّتي مثله حتىٰ المسخ والخسف والقذف ». وقال حذيفة : والله ما أبعد أن يمسخ الله كثيراً من هذه الاُمّة قردة وخنازير.

فالرجعة التي أذهب إليها ، هي ما نطق به القرآن ، وجاءت به السُنّة ، وأنّي لأعتقد أنّ الله تعالىٰ يردّ هذا ـ يعني سِواراً ـ إلىٰ الدنيا كلبا أو قرداً أو خنزيراً أو ذرّة ، فإنّه والله متكبّر متجبّر كافر.

فضحك المنصور وأنشأ السيد يقول :

جاثيت سوّارا أبا شملة

عند الإمام الحاكم العادلِ

فقال قولاً خطأ كلّه

عند الورىٰ الحافي والناعلِ

__________________

(١) سورة الكهف ١٨ : ٤٧.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ١١.

(٣) سورة البقرة ٢ : ٢٥٩.

(٤) سورة البقرة ٢ : ٢٤٣.

٨٧

حتىٰ أتىٰ علىٰ القصيدة ، قال : فقال المنصور : كفّ عنه. فقال السيد : يا أمير المؤمنين ، البادىء أظلم ، يكفّ عني حتىٰ أكفُّ عنه.

فقال المنصور لسِوار : تكلّم بكلام فيه نَصَفة ، كفّ عنه حتىٰ لا يهجوك (١).

٤ ـ احتجاج الشيخ المفيد قدس‌سره : (٢)

روىٰ السيد المرتضىٰ قدس‌سره عن الشيخ المفيد ، أنّه قال : سأل بعض المعتزلة شيخاً من أصحابنا الإمامية وأنا حاضر في مجلس قد ضمَّ جماعة كثيرة من أهل النظر والمتفقهة ، فقال له : إذا كان من قولك إنّ الله يردَّ الأموات إلىٰ دار الدنيا قبل الآخرة عند قيام القائم ليشفي المؤمنين كما زعمتم من الكافرين ، وينتقم لهم منهم كما فعل ببني إسرائيل فيما ذكرتم حتىٰ تتعلقون بقوله تعالىٰ : ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) (٣) فخبّرني ما الذي يؤمنك أن يتوب يزيد وشمر وعبدالرحمن بن ملجم ويرجعوا عن كفرهم وضلالهم ، ويصيروا في تلك الحال إلىٰ طاعة الإمام ، فيجب عليك ولايتهم والقطع بالثواب لهم ، وهذا نقض مذهب الشيعة ؟

__________________

(١) الفصول المختارة ، للسيد المرتضىٰ : ٩٣ ـ ٩٥.

(٢) هو الإمام أبو عبدالله محمد بن محمد بن النعمان ، المعروف بالشيخ المفيد ، وابن المعلم ، انتهت رئاسة الإمامية في وقته إليه ، وفضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم ، وكان رحمه‌الله ، خاشعاً متعبداً متألهاً كثير الصلاة والصوم والصدقات ، توفي في بغداد سنة ٤١٣ ه‍.

(٣) سورة الإسراء ١٧ : ٦.

٨٨

فقال الشيخ المسؤول : القول بالرجعة إنّما قبلته من طريق التوقيف ، وليس للنظر فيه مجال ، وأنا لا أُجيب عن هذا السؤال لأنّه لا نصَّ عندي فيه ، وليس يجوز أن أتكلّف من غير جهة النصّ الجواب ، فشنّع السائل وجماعة المعتزلة عليه بالعجز والانقطاع.

فقال الشيخ المفيد قدس‌سره : فأقول أنا : إنَّ علىٰ هذا السؤال جوابين :

أحدهما : إنَّ العقل لا يمنع من وقوع الإيمان ممّن ذكره السائل ، لأنّه يكون إذ ذاك قادراً عليه ومتمكناً منه ، لكن السمع الوارد عن أئمة الهدىٰ عليهم‌السلام بالقطع عليهم بالخلود في النار والتدين بلعنهم والبراءة منهم إلىٰ آخر الزمان ، منع من الشكّ في حالهم ، وأوجب القطع علىٰ سوء اختيارهم ، فجروا في هذا الباب مجرىٰ فرعون وهامان وقارون ، ومجرىٰ من قطع الله عزَّ اسمه علىٰ خلوده في النار ، ودلَّ بالقطع علىٰ أنهم لا يختارون أبداً الإيمان ، وأنهم ممّن قال الله تعالىٰ في جملتهم : ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ ) (١) يريد إلاّ أن يلجئهم الله ، والذين قال الله تعالىٰ فيهم ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ ) (٢).

ثم قال جلَّ من قائل في تفصيلهم وهو يوجه القول إلىٰ إبليس : ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) (٣) وقوله : ( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي

__________________

(١) سورة الانعام ٦ : ١١١.

(٢) سورة الانفال ٨ : ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) سورة ص ٣٨ : ٨٥.

٨٩

إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ ) (١) وقال : ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) (٢) وقال : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ) (٣) فقطع عليه بالنار ، وأمن من انتقاله إلىٰ ما يوجب له الثواب ، وإذا كان الأمر علىٰ ما وصفناه بطل ما توهّموه علىٰ هذا الجواب.

والجواب الآخر : أنّ الله سبحانه إذا ردّ الكافرين في الرجعة لينتقم منهم لم يقبل لهم توبة ، وجروا في ذلك مجرى فرعون لمّا أدركه الغرق ( قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ، وقال الله سبحانه : ( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (٤) فرد الله عليه إيمانه ، ولم ينفعه في تلك الحال ندمه وإقلاعه ، وكأهل الآخرة الذين لا تقبل لهم توبة ولا ينفعهم ندم ، لأنّهم كالملجئين إذ ذاك إلىٰ الفعل ، ولأنَّ الحكمة تمنع من قبول التوبة أبداً ، وتوجب اختصاص بعض الأوقات بقبولها دون بعض.

وهذا هو الجواب الصحيح علىٰ مذهب أهل الإمامة ، وقد جاءت به آثار متظاهرة عن آل محمد عليهم‌السلام حتىٰ روي عنهم في قوله سبحانه : ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ) (٥) فقالوا : إنَّ هذه الآية هو القائم عليه‌السلام ، فإذا ظهر لم تقبل توبة المخالف ، وهذا يسقط ما اعتمده السائل.

__________________

(١) سورة ص ٣٨ : ٧٨.

(٢) سورة الانعام ٦ : ٢٨.

(٣) سورة المسد ١١١ : ١ ـ ٣.

(٤) سورة يونس ١٠ : ٩٠ ـ ٩١.

(٥) سورة الانعام ٦ : ١٥٨.

٩٠

سؤال : فإن قالوا في هذا الجواب : ما أنكرتم أن يكون الله سبحانه علىٰ ما أصّلتموه قد أغرىٰ عباده بالعصيان ، وأباحهم الهرج والمرج والطغيان ، لأنّهم إذا كانوا يقدرون علىٰ الكفر وأنواع الضلال ، وقد يئسوا من قبل التوبة ، لم يدعهم داعٍ إلىٰ الكفّ عمّا في طباعهم ، ولا انزجروا عن فعل قبيح يصلون به إلىٰ النفع العاجل ، ومن وصف الله سبحانه بإغراء خلقه بالمعاصي وإباحتهم الذنوب ، فقد أعظم الفرية عليه ؟

جواب : قيل لهم : ليس الأمر علىٰ ما ظننتموه ، وذلك أنَّ الدواعي لهم إلىٰ المعاصي ترتفع إذ ذاك ، ولا يحصل لهم داع إلىٰ قبيح علىٰ وجهٍ من الوجوه ولا سببٍ من الأسباب ، لأنّهم يكونون قد علموا بما سلف لهم من العذاب إلىٰ وقت الرجعة علىٰ خلاف أئمتهم عليهم‌السلام ، ويعلمون في الحال أنهم معذّبون علىٰ ما سبق لهم من العصيان ، وأنّهم إن راموا فعل قبيح تزايد عليهم العقاب ، ولا يكون لهم عند ذلك طبع يدعوهم إلىٰ ما يتزايد عليهم به العذاب ، بل تتوفّر لهم دواعي الطباع والخواطر كلّها إلىٰ إظهار الطاعة والانتقال عن العصيان ، وإن لزمنا هذا السؤال لزم جميع أهل الإسلام مثله في أهل الآخرة وحالهم في إبطال توبتهم ، وكون توبتهم غير مقبولة منهم ، فمهما أجاب به الموحدون لمن ألزمهم ذلك ، فهو جوابنا بعينه.

سؤال آخر : وإن سألوا علىٰ المذهب الأول والجواب المتقدم فقالوا : كيف يتوهّم من القوم الإقامة علىٰ العناد والاصرار علىٰ الخلاف ، وقد عاينوا فيما يزعمون عقاب القبور ، وحلّ بهم عند الرجعة العذاب علىٰ ما يعلمون ممّا زعمتم أنّهم مقيمون عليه ، وكيف يصحّ أن تدعوهم الدواعي إلىٰ ذلك ، ويخطر لهم في فعله الخواطر ، وما أنكرتم أن تكونوا

٩١

في هذه الدعوىٰ مكابرين ؟

الجواب : قيل لهم : يصحّ ذلك علىٰ مذهب من أجاب بما حكيناه من أصحابنا بأن نقول : إنَّ جميع ما عددتموه لا يمنع من دخول الشبهة عليهم في استحسان الخلاف ، لأنَّ القوم يظنون أنّهم إنّما بعثوا بعد الموت تكرمة لهم وليلوا الدنيا كما كانوا ، ويظنون أنَّ ما اعتقدوه في العذاب السالف لهم كان غلطاً منهم ، وإذا حلَّ بهم العقاب ثانيةً توهّموا قبل مفارقة أرواحهم أجسادهم أنّ ذلك ليس من طريق الاستحقاق ، وأنّه من الله تعالىٰ ، لكنّه كما تكون الدول ، وكما حلّ بالأنبياء.

ولأصحاب هذا الجواب أن يقولوا : ليس ما ذكرناه في هذا الباب بأعجب من كفر قوم موسىٰ وعبادتهم العجل ، وقد شاهدوا منه الآيات ، وعاينوا ما حلَّ بفرعون وملئه علىٰ الخلاف ، ولا هو بأعجب من إقامة أهل الشرك علىٰ خلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يعلمون عجزهم عن مثل ما أتىٰ به القرآن ، ويشهدون معجزاته وآياته عليه وآله السلام ، ويجدون مخبرات أخباره علىٰ حقائقها من قوله تعالىٰ : ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (١) وقوله : ( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ ) (٢). وقوله : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ) (٣) وما حلَّ بهم من العقاب بسيفه عليه وآله السلام ، وهلاك كلّ من توعّده بالهلاك ، هذا وفيمن أظهر الإيمان به المنافقون ينضافون في خلافه إلىٰ أهل الشرك والضلال.

__________________

(١) سورة القمر ٥٤ : ٤٥.

(٢) سورة الفتح ٤٨ : ٢٧.

(٣) سورة الروم ٣٠ : ١ ـ ٣.

٩٢

علىٰ أنَّ هذا السؤال لا يسوغ لأصحاب المعارف من المعتزلة ، لأنّهم يزعمون أنّ أكثر المخالفين علىٰ الأنبياء كانوا من أهل العناد ، وأنَّ جمهور المظهرين للجهل بالله يعرفونه علىٰ الحقيقة ويعرفون أنبياءه وصدقهم ، ولكنّهم في الخلاف علىٰ اللجاجة والعناد ، فلا يمنع أن يكون الحكم في الرجعة وأهلها علىٰ هذا الوصف الذي حكيناه ، وقد قال الله تعالىٰ : ( وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (١). فأخبر سبحانه أنَّ أهل العقاب لو ردّهم الله تعالىٰ إلىٰ الدنيا لعادوا إلىٰ الكفر والعناد مع ما شاهدوا في القبور وفي المحشر من الأهوال وما ذاقوا من أليم العذاب (٢).

٥ ـ احتجاج السيد محسن الأمين العاملي : (٣)

في معرض ردوده علىٰ أحمد أمين في افتراءاته علىٰ الشيعة الإمامية التي أوردها في كتابه ( ضحىٰ الإسلام ) وتراجع عن بعضها في أواخر حياته.

يقول أحمد أمين : وأمّا الرجعة ، فقد بدأ قوله ـ أي ابن سبأ ـ بأنّ محمداً يرجع ، ثم تحول إلىٰ القول بأنّ عليّاً يرجع ، وفكرة الرجعة أخذها ابن سبأ من اليهودية ، فعندهم أنّ النبي إلياس صعد إلىٰ السماء ، وسيعود

__________________

(١) الانعام ٦ : ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) الفصول المختارة ، للمرتضىٰ : ١٥٣ ـ ١٥٧.

(٣) هو العالم الكبير السيد محسن بن عبدالكريم الأمين الحسيني العاملي ، من أشهر علماء عصره ، ولد في شقراء بلبنان نحو سنة ١٢٨٤ ه‍ ، وتوفي في بيروت ١٣٧١ ه‍ ، له كتاب أعيان الشيعة ، والرحيق المختوم « شعر » ، والحصون المنيعة ، والمجالس السنية ، وغيرها.

٩٣

فيعيد الدين والقانون ، ووجدت الفكرة في النصرانية أيضاً في عصورها الاُولىٰ (١).

يقول السيد محسن الأمين قدس‌سره في مقام الاحتجاج والإلزام : فكرة الرجعة أول من قال بها عمر بن الخطاب ، روىٰ ابن سعد في الطبقات بسنده عن ابن عباس ، أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً » ، قال عمر : من لفلانة وفلانة ـ مدائن الروم ـ إنَّ رسول الله ليس بميت حتىٰ نفتحها ، ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسىٰ.

وقال الطبري وابن سعد وغيرهما : لمّا توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال عمر : إنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مات ، ولكنه ذهب إلىٰ ربه كما ذهب موسىٰ بن عمران ، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات ، والله ليرجعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليقطعنَّ أيدي رجالٍ وأرجلهم زعموا أنّه قد مات (٢).

__________________

(١) ضحىٰ الإسلام ١ : ٣٥٦.

(٢) أعيان الشيعة ١ : ٥٣. وراجع السيرة النبوية ، لابن هشام ٤ : ٣٠٥. والطبقات الكبرىٰ ، لابن سعد ٢ : ٢٦٦.

٩٤



الفصل السادس

شبهات وردود

لا يخفىٰ ، أنه لا يكاد يوجد حقّ يخلو من شبهة تعارضه ، ولقد تعرضت عقائد أهل بيت النبوة الحقة لشبهات المعاندين علىٰ طول مسيرة التاريخ ، وواقع الأحداث مليء بالشواهد التي يطول بذكرها المقام ، وما ذلك إلاّ من محض التعصب المقيت الذي أولده الأمويون والعباسيون بما كانوا يحقدون علىٰ أعدال وقرناء كتاب الله العالمين الصادقين عترة المصطفىٰ الأمين.

والرجعة التي تعتبر من أسرار آل البيت عليهم‌السلام ، واحدة من تلك العقائد التي أُحيطت بالشبهات واتخذت ذريعة ووسيلة للتشنيع علىٰ شيعتهم من قبل بعض المخالفين ، وفيما يلي أهم الشبهات التي أثارها منكري الرجعة مع جوابها :

الشبهة الاُولى : الرجعة تنافي التكليف

الجواب : القول بمنافاة الرجعة للتكليف جعل بعض الشيعة يتأولونها علىٰ وجه إعادة الدولة لا إعادة أعيان الأشخاص ، وبما أنّ هذا الأمر من الأمور الغيبية ، فلا يمكن إصدار الحكم القطعي عليه ، لكن عامة أعلام

٩٥

الطائفة يقولون إنّ الدواعي معها متردّدة ، أي إنها لا تستلزم التكليف ولا تنافيه ، وإنّ تكليف من يعاد غير باطل ، وقد أجابوا علىٰ ما يترتّب علىٰ ذلك من إشكالات.

يقول السيد المرتضىٰ قدس‌سره : إنَّ الرجعة لا تنافي التكليف ، وإنّ الدواعي مترددة معها حتىٰ لا يظنَّ ظان أنّ تكليف من يعاد باطل ، وإنّ التكليف كما يصحّ مع ظهور المعجزات والآيات القاهرة ، فكذلك مع الرجعة لأنّه ليس في جميع ذلك ملجىء إلىٰ فعل الواجب والامتناع من فعل القبيح (١).

أما من هرب من القول بإثبات التكليف علىٰ أهل الرجعة لاعتقاده أنّ التكليف في تلك الحال لا يصحّ ، لأنّها علىٰ طريق الثواب وإدخال المسرّة علىٰ المؤمنين بظهور كلمة الحقّ ، فيقول السيد المرتضىٰ : هو غير مصيب ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا في أنَّ الله تعالىٰ ليعيد من سبقت وفاته من المؤمنين لينصروا الإمام وليشاركوا إخوانهم من ناصريه ومحاربي أعدائه وأنّهم أدركوا من نصرته ومعونته ما كان يفوتهم لولاها ، ومن أُعيد للثواب المحض فمما يجب عليه نصرة الإمام والقتال عنه والدفاع (٢).

وهؤلاء المتهربون من القول باثبات التكليف ، تأولوا الرجعة علىٰ أنها تعني إعادة الدولة والأمر والنهي لا عودة الأشخاص ، ذلك لأنهم عجزوا عن نصرة الرجعة ، وظنوا أنها تنافي التكليف ، يقول الشيخ أبو علي الطبرسي قدس‌سره : وليس كذلك ، لأنه ليس فيها ما يلجئ إلىٰ فعل الواجب

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ١ : ١٢٦ المسائل التي وردت من الري.

(٢) المصدر السابق ٣ : ١٣٦ الدمشقيات.

٩٦

والامتناع من القبيح ، والتكليف يصحّ معها كما يصحّ مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة كفلق البحر وقلب العصا ثعباناً وما أشبه ذلك.

ولأنّ الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق التأويل عليها ، وإنّما المعول في ذلك علىٰ اجماع الشيعة الإمامية ، وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده (١).

توبة الكفار :

إن قيل : إذا كان التكليف ثابتاً علىٰ أهل الرجعة ، فيجوز تكليف الكفار الذين استحقوا العقاب ، وأن يختاروا التوبة.

قال الشيخ المفيد قدس‌سره : إذا أراد الله تعالىٰ ( رجعة الذين محضوا الكفر محضاً ) أوهَمَ الشياطين أعداء الله عزَّ وجل أنهم إنّما رُدّوا إلىٰ الدنيا لطغيانهم علىٰ الله ، فيزدادوا عتّوا ، فينتقم الله منهم بأوليائه المؤمنين ، ويجعل لهم الكرة عليهم ، فلا يبقىٰ منهم أحد إلاّ وهو مغموم بالعذاب والنقمة والعقاب ، وتصفو الأرض من الطغاة ، ويكون الدين لله ، والرجعة إنما هي لممحضي الإيمان من أهل الملة وممحضي النفاق منهم دون من سلف من الاُمم الخالية (٢).

وأجاب السيد المرتضىٰ قدس‌سره عن هذا بجوابين :

أحدهما : إنّ من أُعيد من الأعداء للنكال والعقاب لا تكليف عليه ،

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ٣٦٧.

(٢) المسائل السروية : ٣٥ وقد تقدم في الفصل الخامس جواب مفصل للشيخ المفيد قدس‌سره عن هذه المسألة.

٩٧

وإنّما قلنا إنّ التكليف باقٍ علىٰ الأولياء لأجل النصرة والدفاع والمعونة.

والجواب الآخر : إنَّ التكليف وإن كان ثابتاً عليهم ، فيجوز أنهم لا يختارون التوبة ، لأنا قد بيّنا أنّ الرجعة غير ملجئةٍ إلىٰ قول القبيح وفعل الواجب وإنّ الدواعي متردّدة ، ويكون وجه القطع علىٰ أنهم لا يختارون ذلك ممّا علمنا وقطعنا عليه من أنهم مخلدون لا محالة في النار (١) ، قال تعالىٰ : ( وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ ) (٢) ، وقال تعالىٰ : ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) (٣).

الشبهة الثانية : قال أبو القاسم البلخي : لا تجوز الرجعة مع الإعلام بها ، لأنَّ فيها إغراء بالمعاصي من جهة الاتكال علىٰ التوبة في الكرة الثانية.

الجواب : إنَّ من يقول بالرجعة لا يذهب إلىٰ أنّ الناس كلهم يرجعون ، فيصير إغراء بأنّ يقع الاتكال علىٰ التوبة فيها ، بل لا أحد من المكلفين إلاّ ويجوز أن لا يرجع ، وذلك يكفي في باب الزجر (٤).

الشبهة الثالثة : كيف يعود كفار الملة بعد الموت إلىٰ طغيانهم ، وقد عاينوا عذاب الله تعالىٰ في البرزخ ، وتيقنوا بذلك أنهم مبطلون.

قال الشيخ المفيد قدس‌سره : ليس ذلك بأعجب من الكفار الذين يشاهدون في البرزخ ما يحلَّ بهم من العذاب ويعلمونه ضرورة بعد المدافعة لهم

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ٣ : ١٣٧ الدمشقيات.

(٢) سورة التوبة ٩ : ٦٨.

(٣) سورة النساء ٤ : ١٨.

(٤) مجمع البيان ، للطبرسي ١ : ٢٤٢.

٩٨

والاحتجاج عليهم بضلالهم في الدنيا ، فيقولون حينئذ ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) فقال الله عزَّ وجل : ( بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (١).

الشبهة الرابعة : الرجعة تفضي إلىٰ القول بالتناسخ.

وللجواب علىٰ هذه الشبهة لا بدَّ من بيان عدّة أُمور :

١ ـ تواترت الروايات عن أئمة الهدىٰ عليهم‌السلام علىٰ بطلان التناسخ وامتناعه ، واتّفقت كلمة الشيعة علىٰ ذلك وقد كتبوا في ذلك مقالات ورسائل.

سأل المأمون الإمام الرضا عليه‌السلام : ما تقول في القائلين بالتناسخ ؟ فقال عليه‌السلام : « من قال بالتناسخ فهو كافر مكذّب بالجنة » (٢).

ويقول الشيخ الصدوق قدس‌سره : القول بالتناسخ باطل ، ومن دان بالتناسخ فهو كافر ، لأنّ في التناسخ إبطال الجنة والنار (٣).

٢ ـ إنَّ الذين يقولون بالتناسخ هم أهل الغلو الذين ينكرون القيامة والآخرة ، وقد فرق الأشعري في ( مقالات الإسلاميين ) بين قول الشيعة بالرجعة وقول الغلاة بالتناسخ بقوله :

واختلف الروافض في رجعة الأموات إلىٰ الدنيا قبل القيامة ، وهم فرقتان :

__________________

(١) المسائل السروية ، للشيخ المفيد : ٣٦ والآيتان من سورة الانعام ٦ : ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) بحار الأنوار ، للمجلسي ٤ : ٣٢٠.

(٣) الاعتقادات ، للصدوق : ٦٢.

٩٩

الاُولى : يزعمون أنّ الأموات يرجعون إلىٰ الدنيا (١) قبل يوم الحساب ، وهذا قول الأكثر منهم (٢) ، وزعموا أنه لم يكن في بني إسرائيل شيء إلاّ ويكون في هذه الاُمّة مثله ، وإنّ الله سبحانه قد أحيا قوماً من بني إسرائيل بعد الموت ، فكذلك يحيي الأموات في هذه الاُمّة ويردّهم إلىٰ الدنيا قبل يوم القيامة.

والثانية : وهم أهل الغلو ، ينكرون القيامة والآخرة ، ويقولون ليس قيامة ولا آخرة ، وإنّما هي أرواح تتناسخ في الصور ، فمن كان محسناً جُوزيَ بأن ينقل روحه إلىٰ جسد لا يلحقه فيه ضرر ولا ألم ، ومن كان مسيئاً جُوزيَ بأن ينقل روحه إلىٰ أجساد يلحق الروح في كونه فيها الضرر والألم ، وليس شيء غير ذلك ، وأنّ الدنيا لا تزال أبداً هكذا (٣).

ومن درس تاريخ أهل البيت الأطهار عليهم‌السلام وشيعتهم الأبرار يلمس أنهم يكفّرون الغلاة ويبرأون منهم ، ولهم في هذا الباب مواقف مشهورة يطول شرحها.

يقول الدكتور ضياء الدين الريس بعد تعداده لفرق الشيعة : وقد تزاد عليهم فرقة خامسة هي الغلاة ، ولكنها في الحقيقة ليست منهم ، بل يخرجها غلوّها عن دائرة الإسلام نفسه (٤).

__________________

(١) لا يرجع جميع الأموات ، بل الرجعة خاصة كما بيّناه في الفصل الثالث.

(٢) بيّنا في الفصل الثالث أن بعض الإمامية قد تأولوا الرجعة بمعنىً يخالف ما عليه ظواهر أحاديثها.

(٣) مقالات الإسلاميين ، لأبي الحسن الأشعري ١ : ١١٤.

(٤) النظريات السياسية الاسلامية : ٦٤ ط ٤ سنة ١٩٦٧ م.

١٠٠