الرّجعة

علي موسى الكعبي

الرّجعة

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-75-7
الصفحات: ١٠٧
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

لقد اختلفت الروايات والتفاسير في تحديد هذا الذي مرَّ علىٰ قرية ، لكنها متّفقة علىٰ أنّه مات مائة سنة ورجع إلىٰ الدنيا وبقي فيها ، ثم مات بأجله ، فهذه رجعة إلىٰ الحياة الدنيا.

قال الطبرسي : الذي مرَّ علىٰ قرية هو عزير ، وهو المروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام وقيل : هو أرميا ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام (١).

وروىٰ العياشي بالإسناد عن إبراهيم بن محمد ، قال : ذكر جماعة من أهل العلم أنَّ ابن الكواء الخارجي قال لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين ، ما ولد أكبر من أبيه من أهل الدنيا ؟

قال عليه‌السلام : « نعم ، أُولئك ولد عزير ، حيث مرَّ علىٰ قرية خربة ، وقد جاء من ضيعة له ، تحته حمار ، ومعه شنّة فيها تين ، وكوز فيه عصير ، فمرَّ علىٰ قريةٍ خربةٍ ، فقال : ( أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ) فتوالد ولده وتناسلوا ، ثمَّ بعث الله إليه فأحياه في المولد الذي أماته فيه ، فأُولئك وُلده أكبر من أبيهم » (٢).

إحياء سبعين رجلاً من قوم موسىٰ عليه‌السلام :

قال تعالىٰ : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٣).

هاتان الآيتان تتحدثان عن قصة المختارين من قوم موسىٰ عليه‌السلام لميقات

__________________

(١) مجمع البيان ، للطبرسي ٢ : ٦٣٩ دار المعرفة ـ بيروت.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٤١ / ٤٦٨ المكتبة العلمية ـ طهران.

(٣) سورة البقرة ٢ : ٥٥ ـ ٥٦.

٢١

ربه ، وذلك أنّهم لمّا سمعوا كلام الله تعالىٰ قالوا : لا نصدّق به حتىٰ نرىٰ الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا ، فقال موسى عليه‌السلام : « يا ربِّ ، ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم » فأحياهم الله له ، فرجعوا إلىٰ الدنيا ، فأكلوا وشربوا ، ونكحوا النساء ، وولد لهم الأولاد ، ثم ماتوا بآجالهم (١).

فهذه رجعة أُخرىٰ إلىٰ الحياة الدنيا بعد الموت لسبعين رجلاً من بني إسرائيل ، قال تعالىٰ : ( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ) (٢).

المسيح عليه‌السلام يحيي الموتىٰ :

ذكر في القرآن الكريم في غير مورد إحياء المسيح للموتىٰ ، قال تعالىٰ لعيسى عليه‌السلام : ( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ) (٣) ، وقال تعالىٰ حاكياً عنه : ( وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ ) (٤).

فكان بعض الموتىٰ الذين أحياهم عيسى عليه‌السلام بإذن الله تعالىٰ قد رجعوا إلىٰ الدنيا وبقوا فيها ثم ماتوا بآجالهم (٥).

__________________

(١) الاعتقادات ، للصدوق : ٦١.

(٢) سورة الاعراف ٧ : ١٥٥.

(٣) سورة المائدة ٥ : ١١٠.

(٤) سورة آل عمران ٣ : ٤٩.

(٥) الكافي ٨ : ٣٣٧ / ٥٣٢. وتفسير العياشي ١ : ١٧٤ / ٥١.

٢٢

إحياء أصحاب الكهف :

هؤلاء كانوا فتية آمنوا بالله تعالىٰ ، وكانوا يكتمون إيمانهم خوفاً من ملكهم الذي كان يعبد الأصنام ويدعو إليها ويقتل من يخالفه ، ثم اتّفق أنّهم اجتمعوا وأظهروا أمرهم لبعضهم ، ولجأوا إلىٰ الكهف ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) (١) ثم بعثهم الله فرجعوا إلىٰ الدنيا ليتساءلوا بينهم وقصتهم معروفة.

فإن قال قائل : إنَّ الله عزَّ وجلَّ قال : ( وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ) (٢) وليسوا موتىٰ. قيل له : رقود يعني موتىٰ ، قال تعالىٰ : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) (٣) ، ومثل هذا كثير (٤).

وروىٰ يوسف بن يحيىٰ المقدسي الشافعي في ( عقد الدرر ) عن الثعلبي في تفسيره في قصة أصحاب الكهف ، قال : ( وأخذوا مضاجعهم ، فصاروا إلىٰ رقدتهم إلىٰ آخر الزمان عند خروج المهدي عليه‌السلام ، يقال : إنَّ المهدي يسلّم عليهم فيحييهم الله عزَّ وجلَّ ) (٥) ، وهو يدلُّ علىٰ رجعتهم في آخر الزمان.

__________________

(١) سورة الكهف ١٨ : ٢٥.

(٢) سورة الكهف ١٨ : ١٨.

(٣) سورة يس ٣٦ : ٥١ ـ ٥٢.

(٤) راجع الاعتقادات ، للصدوق : ٦٢.

(٥) عقد الدرر : ١٩٢ نشر دار النصايح ـ قم.

٢٣

إحياء قتيل بني إسرائيل :

روىٰ المفسرون أنَّ رجلاً من بني إسرائيل قتل قريباً له غنياً ليرثه وأخفىٰ قتله له ، فرغب اليهود في معرفة قاتله ، فأمرهم الله تعالىٰ أن يذبحوا بقرة ويضربوا بعض القتيل ببعض البقرة ، ليحيا ويخبر عن قاتله ، وبعد جدال ونزاع قاموا بذبح البقرة ، ثم ضربوا بعض القتيل بها ، فقام حياً وأوداجه تشخب دماً وأخبر عن قاتله ، قال تعالىٰ ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (١).

إحياء الطيور لإبراهيم عليه‌السلام بإذن الله :

ذكر المفسرون أنّ إبراهيم عليه‌السلام رأىٰ جيفة تمزّقها السباع ، فيأكل منها سباع البرّ وسباع البحر ، فسأل الله سبحانه قائلاً ‎« يا ربِّ ، قد علمت أنّك تجمعها في بطون السباع والطير ودواب البحر ، فأرني كيف تحييها لاُعاين ذلك » ؟ قال سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (٢).

فأخذ طيوراً مختلفة الأجناس ، قيل : إنّها الطاووس والديك والحمام والغراب ، فقطعها وخلط ريشها بدمها ، ثم فرقها علىٰ عشرة جبال ، ثم أخذ بمناقيرها ودعاها باسمه سبحانه فأتته سعياً ، فكانت تجتمع ويأتلف

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٧٣. وراجع قصص الأنبياء ، للثعلبي : ٢٠٤ ـ ٢٠٧ المكتبة الثقافية ـ بيروت.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٦٠.

٢٤

لحم كل واحدٍ وعظمه إلىٰ رأسه ، حتىٰ قامت أحياء بين يديه (١).

إحياء ذي القرنين :

اختلف في ذي القرنين فقيل : إنّه نبي مبعوث فتح الله علىٰ يديه الأرض ، عن مجاهد وعبدالله بن عمر. وقيل : إنّه كان ملكاً عادلاً.

وروي بالإسناد عن أبي الطفيل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : ‎ « إنّه كان عبداً صالحاً أحبَّ الله فأحبّه وناصح الله فناصحه ، قد أمر قومه بتقوىٰ الله ، فضربوه علىٰ قرنه فمات ، فأحياه الله ، فدعا قومه إلىٰ الله ، فضربوه علىٰ قرنه الآخر فمات ، فسميَّ ذا القرنين ». قال عليه‌السلام : ‎ « وفيكم مثله » (٢) يعني نفسه عليه‌السلام (٣).

وفي رواية علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « إنَّ ذا القرنين بعثه الله إلىٰ قومه ، فضربوه علىٰ قرنه الأيمن ، فأماته الله خمسمائة عام ثم بعثه إليهم بعد ذلك ، فضربوه علىٰ قرنه الأيسر ، فأماته الله خمسمائة عام ثم بعثه إليهم بعد ذلك ، فملّكه مشارق الأرض ومغاربها من حيث تطلع الشمس إلىٰ حيثُ تغرب » (٤).

إحياء أهل أيوب عليه‌السلام :

قال تعالىٰ : ( وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ ) قال ابن عباس وابن مسعود : ردَّ الله سبحانه عليه أهله ومواشيه وأعطاه مثلها معها. وبه قال الحسن

__________________

(١) راجع تفسير القمي ١ : ٩١. وتفسير العياشي ١ : ١٤٢ / ٤٦٩.

(٢) تفسير الطبري ١٦ : ٨ دار المعرفة ـ بيروت.

(٣) تفسير الطبرسي ٦ : ٧٥٦ دار المعرفة ـ بيروت.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٤٠.

٢٥

وقتادة وكعب ، وهو المروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام (١).

هذه الحالات جميعاً تشير إلىٰ الرجوع للحياة بعد الموت في الاُمم السابقة ، وقد وقعت في أدوار وأمكنة مختلفة ، ولأغراض مختلفة ، ولأشخاص تجد فيهم الأنبياء والأوصياء والرعية ، وهي دليل لا يُنازع فيه علىٰ نفي استحالة عودة الأموات إلىٰ الحياة الدنيا بعد الموت.

وهنا من حقنا أن نتساءل : ما المانع من حدوث ذلك في المستقبل لغرض لعلّه أسمىٰ من جميع الأغراض التي حدثت لأجلها الرجعات السابقة ؟ ألا وهو تحقيق مواعيد النبوات وأهداف الرسالات في نشر مبادئ العدالة وتطبيق موازين الحق علىٰ أرض دنّستها يد الجناة والظلمة ، وأشبعتها ظلماً وجوراً حتىٰ عادت لا تطاق ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (٢) وقال تعالىٰ : ( فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ).

ويعزّز الدليل علىٰ حدوث الرجعة في المستقبل كما حدثت في الاُمم الغابرة ما روي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « لتتبعنَّ سنن الذين من قبلكم شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراع حتىٰ لو سلكوا جُحر ضبّ لسلكتموه » قالوا : اليهود والنصارىٰ ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فمن » (٣).

__________________

(١) تفسير الطبرسي ٧ : ٩٤. وتفسير الطبري ١٧ : ٥٨. وقصص الأنبياء ، للثعلبي : ١٤٤. والآية من سورة الأنبياء ٢١ : ٨٤.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ : ١٠٥.

(٣) كنز العمال ، للمتقي الهندي ١١ : ١٣٣ / ٣٠٩٢٣. وروىٰ نحوه الشيخ الصدوق في كمال الدين : ٥٧٦ جماعة المدرسين ـ قم.

٢٦

ثانياً : الآيات الدالة علىٰ وقوعها قبل القيامة :

أولاً : قوله تعالىٰ : ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) إلىٰ قوله تعالىٰ : ( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) (٢).

من أمعن النظر في سياق الآيات المباركة وما قيل حولها من تفسير ، يلاحظ أنّ هناك ثلاثة أحداث مهمة تدلُّ عليها ، وهي بمجموعها تدلُّ علىٰ علامات تقع بين يدي الساعة وهي :

١ ـ إخراج دابة من الأرض : ( أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ ).

٢ ـ الحشر الخاص : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ).

٣ ـ نفخة النشور ثم القيامة : ( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ... وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) ، وسوف نتحدث عمّا في تلك الآيات من دلالة واضحة علىٰ الاعتقاد بالرجعة وعلىٰ النحو الآتي :

فالآية الاُولىٰ تتعلق بالوقائع التي تحدث قبل يوم القيامة باتّفاق المفسرين ، ويدلُّ عليه أيضاً ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنَّ بين يدي الساعة الدجال والدابة ويأجوج

__________________

(١) سورة النمل ٢٧ : ٨٢ ـ ٨٤.

(٢) سورة النمل ٢٧ : ٨٧.

٢٧

ومأجوج والدخان وطلوع الشمس من مغربها » (١).

وروىٰ البغوي عن طريق مسلم ، عن عبدالله بن عمرو ، قال : سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « إنَّ أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة ضحىً » (٢).

ماهي دابة الأرض ؟

الدابة تطلق في اللغة علىٰ كلِّ ما يدبُّ ويتحرك علىٰ وجه الأرض من الإنسان والحيوان وغيره ، قال تعالىٰ : ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ) (٣) ، وقال تعالىٰ : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ ) (٤).

وخُصصت في بعض آي القرآن بالإنسان ، كقوله تعالىٰ : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) (٥) ، وفي بعض آخر بغير الإنسان ، كقوله تعالىٰ : ( وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ) (٦) ، وقوله تعالىٰ : ( وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ ) (٧).

وقد ذكرت الدابة التي في قوله تعالىٰ : ( دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ ) بشكل

__________________

(١) الدر المنثور ، للسيوطي ٦ : ٣٨٠.

(٢) مسند أحمد ٢ : ٢٠١ دار الفكر. ونظم الدرر ، للبقاعي ٥ : ٤٥١ دار الكتب العلميّة.

(٣) سورة هود ١١ : ٦.

(٤) سورة النحل ١٦ : ٦١.

(٥) سورة الانفال ٨ : ٢٢.

(٦) سورة الحج ٢٢ : ١٨.

(٧) سورة فاطر ٣٥ : ٢٨.

٢٨

مجمل ، والوصف القرآني الوحيد المذكور لها بأنّها تكلّم الناس ، أما سائر أحوالها وخصوصياتها وكيفية ومكان خروجها ، فإنّها مبهمة في ظهر الغيب ولا يفصح عنها إلاّ المستقبل.

والروايات الواردة بشأن تفسير هذه الآية كثيرة ، ولا دلالة من الكتاب الكريم علىٰ شيءٍ منها ، فإن صحّ الخبر فيها عن الرسول الأكرم وآله عليهم‌السلام قبلت ، وإلاّ لم يلتفت إليها ، ويمكن تلخيص مضمون هذه الروايات في نقطتين :

١ ـ إنَّ طائفة منها تدل علىٰ أنَّ هذه الدابة كائن حي غير معروف ومن غير جنس الإنسان ، ولها شكل مخيف ، فهي ذات وبر وريش ومؤلفة من كل لون ، ولها أربع قوائم ، ولها عنق مشرف يبلغ السحاب ، ويراها من بالمشرق كما يراها من بالمغرب ، تخرج في آخر الزمان من الصفا ليلة منىٰ ، وقيل : من جبل جياد في أيام التشريق ، لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ، وتحدّث الناس عن الإيمان والكفر ، وتسم المؤمن بين عينيه ويكتب بين عينيه مؤمن ، وتسم الكافر بين عينيه ويكتب بين عينيه كافر.

٢ ـ والطائفة الثانية تدل علىٰ أنّ وجهها كوجه إنسان وجسمها كجسم الطير ، وأنّها تصرخ بأعلىٰ صوتها بلسان عربي مبين : ( أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) وأن معها عصا موسىٰ وخاتم سليمان ، وتميّز بهما بين المؤمنين والكافرين ، فتنكت وجه المؤمن بالخاتم فتكون في وجهه نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة حتىٰ يضيء لها وجهه ، وتنكت أنف الكافر بالعصا فتكون في وجهه نكتة سوداء فتفشو تلك النكتة حتىٰ يسودّ لها

٢٩

وجهه (١).

وفي بعض الروايات ما يدل علىٰ أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام هو مصداق لهذه الآية ، فقد روي بالاسناد عن سفيان بن عيينة ، عن جابر بن يزيد الجعفي ، أنّه قال : دابة الأرض عليّ عليه‌السلام (٢).

وروىٰ الشيخ الكليني بالإسناد عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : وإنّي لصاحب الكرّات ودولة الدول ، وإنّي لصاحب العصا والميسم ، والدابة التي تكلم الناس » (٣).

وروىٰ الشيخ علي بن إبراهيم بالإسناد عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال : « قال رجل لعمار بن ياسر ، يا أبا اليقظان ، آية في كتاب الله قد أفسدت قلبي وشككتني. قال عمار : أيّة آية هي؟ قال : ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) فأيّة دابة هذه ؟

قال عمار : والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتىٰ أُريكها ، فجاء عمار مع الرجل إلىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يأكل تمراً وزبداً ، فقال : يا أبا اليقظان ، هلمّ ، فجلس عمار ، وأقبل يأكل معه ، فتعجّب الرجل منه ، فلمّا قام قال له الرجل : سبحان الله يا أبا اليقظان ، حلفت أنّك لا تأكل ولا تشرب

__________________

(١) مجمع البيان ، للطبرسي ٧ : ٣٦٦. وتفسير القرطبي ١٣ : ٢٣٧. والدر المنثور ٦ : ٣٧٨. وروح المعاني ، للآلوسي ٢٠ : ٢١. وتفسير الرازي ٢٤ : ٢١٧. وتفسير ابن كثير ٣ : ٣٨٧. والآية من سورة النمل ٢٧ : ٨٢.

(٢) ميزان الاعتدال ، للذهبي ١ : ٣٨٤ دار المعرفة.

(٣) الكافي ١ : ١٩٨ / ٣ باب أنّ الأئمة عليهم‌السلام هم أركان الأرض.

٣٠

ولا تجلس حتىٰ ترينيها. قال عمار : قد أريتكها ، إن كنت تعقل » (١).

وروي أيضاً عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « انتهىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو نائم في المسجد ، وقد جمع رملاً ووضع رأسه عليه ، فحركه ثم قال له : قم يا دابة الأرض.

فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله ، أيسمي بعضنا بعضاً بهذا الاسم ؟ فقال : لا والله ، ما هو إلاّ له خاصة ، وهو الدابة التي ذكرها الله تعالىٰ في كتابه : ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ ) » (٢).

وروي عن الأصبغ بن نباتة ، قال : دخلت علىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يأكل خبزاً وخلاً وزيتاً ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، قال الله عز وجل : ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) الآية ، فما هذه الدابة ؟ قال عليه‌السلام : ‎ « هي دابة تأكل خبزاً وخلاً وزيتاً » (٣).

ويقول أبو الفتوح الرازي في تفسيره : طبقاً للأخبار التي جاءتنا عن طريق الأصحاب ، فإنَّ دابة الأرض كناية عن المهدي صاحب الزمان عليه‌السلام (٤).

ومع الأخذ بنظر الاعتبار لهذا الحديث والأحاديث المتقدمة ، يمكن

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٣١. ومجمع البيان ٧ : ٣٦٦.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٣٠. وتفسير البرهان ، للبحراني ٤ : ٢٢٨ / ٨٠٤٣ تحقيق مؤسسة البعثة.

(٣) تأويل الآيات ، للسيد شرف الدين ١ : ٤٠٤ / ١٠٩. والرجعة ، للاسترآبادي : ١٦٦ / ٩٥ دار الاعتصام.

(٤) تفسير الأمثل ، للشيخ ناصر مكارم الشيرازي١٢ : ١٢٩ مؤسسة البعثة ـ بيروت. عن تفسير أبي الفتوح ٨ : ٤٢٣.

٣١

أن يستفاد من دابة الأرض مفهوم واسع ينطبق علىٰ أي إمام عظيم يرجع في آخر الزمان ، ويميّز الحق عن الباطل والمؤمن من الكافر ، وهو آية من آيات عظمة الخالق.

والتعبير الوارد في الروايات المتقدمة بأنّ معه عصا موسىٰ التي ترمز إلىٰ القوة والاعجاز ، وخاتم سليمان الذي يرمز إلىٰ الحكومة الإلهية ، قرينة علىٰ كون الدابة إنساناً مسدّداً بالقدرة الإلهية العظيمة بحيث يكون آية للناس ، إضافة إلىٰ ذلك فإنّ قوله تعالىٰ : ( تُكَلِّمُهُمْ ) يساعد علىٰ هذا المعنىٰ.

الحشر الخاص ، قوله تعالىٰ : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ).

سبق أن بيّنا أنَّ الآية الاُولىٰ ( أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ ) تتعلق بالحوادث التي تقع قبل يوم القيامة ، وذلك باتّفاق المفسرين ، وعليه تكون آية الحشر الخاص ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ) مكملة لها ومرتبطة بها من حيث التسلسل الزمني للأحداث فضلاً عن سياق الآيات وترتيبها ، فقد وقعت آية الحشر الخاص بين علامتين من العلامات التي تقع قبيل الساعة وهي الدابة والنفخة ( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ) ممّا يدلُّ علىٰ أنّ الحشر الخاص يقع قبل القيامة وأنّه من علاماتها ، وعبّر تعالىٰ عن الحشر العام بعد نفخة النشور بقوله : ( فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ ... وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) ، إذن فهناك حشران حشر يجمع فيه من كلِّ أمة فوجاً وهو الرجعة ، وحشر يشمل الناس جميعاً وهو يوم القيامة ، وبما أنّه ليس ثمة حشر بعد القيامة إجماعاً فيتعين وقوع هذا الحشر بين يدي القيامة.

٣٢

وبعبارة أُخرىٰ أنّ ما يدلُّ علىٰ منافاة الحشر الخاص ليوم القيامة ، هو أنّ هذه الآية تدلُّ علىٰ حشر فوج من كلِّ أُمّة من أُمم البشرية ممّن كان يكذّب بآيات الله ، و ( مِن ) في قوله تعالىٰ ( مِن كُلِّ أُمَّةٍ ) تفيد التبعيض ، وهذا يعني الاستثناء ، وقد دلنا الكتاب الكريم في آيات عديدة علىٰ أنّ حشر القيامة لا يختصّ بقوم دون آخرين ، ولا بجماعة دون أُخرىٰ ، بل يشمل الجميع دون استثناء ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ) (١) ، فطالما حصل الاستثناء فإنَّ ذلك لا يتعلق بأحداث يوم القيامة الذي ينهي الحياة برمّتها علىٰ وجه الأرض ، ومن خلال ما تقدم اتضح الكلام عن دلالة الآية الثانية التي ذكرناها كعلامة بين يدي الساعة.

إذن فالآية تأكيد لحدوث الرجعة التي تعتقد بها الشيعة الإمامية في حق جماعة خاصة ممّن محضوا الكفر أو الإيمان ، وتعني عودة هذه الجماعة للحياة قبل يوم القيامة ، أما خصوصيات هذه العودة وكيفيتها وطبيعتها وما يجري فيها ، فلم يتحدث عنها القرآن الكريم ، بل جاء تفصيلها في السُنّة المباركة ، فإنّ صحت الأخبار بها توجّب قبولها والاعتقاد بها ، وإلاّ وجب طرحها (٢).

استدلال الأئمة عليهم‌السلام :

لقد استدل أئمة الهدىٰ من آل البيت عليهم‌السلام بهذه الآية علىٰ صحة الاعتقاد بالرجعة ، فقد روي عن أبي بصير ، أنّه قال : قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : « ينكر أهل العراق الرجعة ؟ » قلتُ : نعم ، قال : « أما يقرأون القرآن ( وَيَوْمَ

__________________

(١) سورة الانعام ٦ : ١٢٨.

(٢) راجع نقض الوشيعة ، للسيد محسن الأمين : ٤٧٣ طبعة ١٩٥١ م.

٣٣

نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ) ؟ » (١).

وروىٰ علي بن إبراهيم في تفسيره بالاسناد عن حماد ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « ما يقول الناس في هذه الآية ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ) ؟ ». قلتُ : يقولون إنّها في القيامة.

قال عليه‌السلام : « ليس كما يقولون ، إنّ ذلك في الرجعة ، أيحشر الله في القيامة من كلِّ أُمّة فوجاً ويدع الباقين ؟ إنّما آية القيامة قوله : ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) » (٢).

استدلال أعلام الشيعة :

واستدل بها أيضاً جملة علماء الشيعة ومفسريهم علىٰ صحة عودة الأموات إلىٰ الحياة قبل يوم القيامة ، قال الشيخ المفيد قدس‌سره : إنَّ الله تعالىٰ يحيي قوماً من أُمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد موتهم قبل يوم القيامة ، وهذا مذهب يختص به آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أخبر الله عزَّ وجل في ذكر الحشر الأكبر يوم القيامة ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) (٣) ، وقال سبحانه في حشر الرجعة قبل يوم القيامة : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا ) فأخبر أنَّ الحشر حشران عام وخاص (٤).

__________________

(١) مختصر بصائر الدرجات : ٢٥. وبحار الأنوار ، للمجلسي ٥٣ : ٤٠ / ٦. والايقاظ من الهجعة : ٢٧٨ / ٩١. والرجعة ، للاسترآبادي : ٥٥ / ٣٠.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٤. ومختصر بصائر الدرجات ، للحسن بن سليمان : ٤١. وبحار الأنوار ٥٣ : ٦٠ / ٤٩. والرجعة ، للاسترآبادي : ٧٧ / ٤٨.

(٣) سورة الكهف ١٨ : ٤٧.

(٤) المسائل السروية ، تحقيق الاُستاذ صائب عبدالحميد : ٣٣ نشر مؤتمر الشيخ المفيد قدس‌سره.

٣٤

وقال الشيخ الطبرسي قدس‌سره : استدل بهذه الآية علىٰ صحة الرجعة من ذهب إلىٰ ذلك من الإمامية ، بأن قال : أنّ دخول ( من ) في الكلام يوجب التبعيض ، فدلّ ذلك علىٰ أنَّ اليوم المشار إليه في الآية يحشر فيه قوم دون قوم ، وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه : ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ).

وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدىٰ من آل محمد عليهم‌السلام في أنّ الله تعالىٰ سيعيد عند قيام القائم عليه‌السلام قوماً ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ، ويبتهجوا بظهور دولته ، ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقونه من العقاب في الدنيا من القتل علىٰ أيدي شيعته والذلّ والخزي بما يشاهدون من علوّ كلمته ، ولا يشكّ عاقل أنَّ هذا مقدور لله تعالىٰ غير مستحيل في نفسه ، وقد فعل الله ذلك في الاُمم الخالية ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع مثل قصة عزير وغيره ، وقد صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « سيكون في أُمتي كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتىٰ لو أنَّ أحدهم دخل جُحر ضبٍّ لدخلتموه » (١).

أقوال المفسرين :

أغلب المفسرين من غير الإمامية يمرون في تفاسيرهم بهذه الآية مرورا سريعاً ، ويوجزون القول بكلمات معدودة ، ويمكن إجمال حصيلة آرائهم في نقطتين :

__________________

(١) مجمع البيان ، للطبرسي ٧ : ٣٦٦.

٣٥

الأُولىٰ : إنّها إخبار عن يوم القيامة (١) ، وبيان إجمالي لحال المكذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها (٢).

الثانية : إنّها من الاُمور الواقعة بعد قيام القيامة (٣) ، وإنّ المراد بهذا الحشر هو الحشر للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق (٤) ، أي هو حشر بعد حشر.

وهذا الكلام لا يستند إلىٰ أساس علمي ، وترتيب الآيات وارتباطها ببعضها ينفيه كما أسلفنا ، ولأنَّ تفسير الحشر الأول بيوم القيامة سيوقع التناقض في حقّ الله تعالىٰ ، فكيف يقول تعالىٰ سنحشر من كلِّ أُمّة فوجاً يوم القيامة ، وسنحشر الناس جميعاً يوم القيامة ؟ قال ابن شهر آشوب : لا خلاف أنَّ الله يحيي الجملة يوم القيامة ، فالفوج إنّما يكون في غير القيامة (٥).

يقول السيد الطباطبائي : لو كان المراد الحشر إلىٰ العذاب ، لزم ذكر هذه الغاية دفعا للابهام ، كما في قوله تعالىٰ : ( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا ) (٦) ، مع أنّه لم يذكر فيما بعد هذه الآية إلاّ العتاب والحكم الفصل دون العذاب ، والآية كما ترىٰ مطلقة لم يشر فيها إلىٰ شيءٍ يلوح إلىٰ هذا الحشر الخاص المذكور ، ويزيدها إطلاقاً قوله

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٣ : ٣٨٨. وتفسير البيضاوي ٢ : ١٨٣.

(٢) روح المعاني ٢٠ : ٢٦.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ٢١٨.

(٤) روح البيان ، للبروسوي ٦ : ٣٧٣.

(٥) متشابه القرآن ٢ : ٩٧.

(٦) سورة فصلت ٤١ : ١٩.

٣٦

بعدها : ( حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا ) فلم يقل : حتىٰ إذا جاءوا العذاب أو النار أو غيرها.

ويؤيد ذلك أيضا وقوع الآية والآيتين بعدها بعد نبأ دابة الأرض ، وهي من أشراط الساعة ، وقبل قوله : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) إلىٰ آخر الآيات الواصفة لوقائع يوم القيامة ، ولا معنىٰ لتقديم ذكر واقعة من وقائع يوم القيامة علىٰ ذكر شروعه ووقوع عامة ما يقع فيه ، فإنَّ الترتيب الوقوعي يقتضي ذكر حشر فوج من كلّ أُمّة لو كان من وقائع يوم القيامة بعد ذكر نفخ الصور وإتيانهم إليه داخرين.

وقد تنبّه لهذا الإشكال بعض من حمل الآية علىٰ الحشر يوم القيامة ، فقال : لعل تقديم ذكر هذه الواقعة علىٰ نفخ الصور ووقوع الواقعة للايذان بأنّ كلاً ممّا تضمّنه هذا وذاك من الأحوال طامّة كبرىٰ وداهية دهياء ، حقيقة بالتذكير علىٰ حيالها ، ولو روعي الترتيب الوقوعي لربّما توهّم أن الكل داهية واحدة.

قال : وأنت خبير بأنّه وجه مختلق غير مقنع ، ولو كان كما ذكر لكان دفع توهّم كون الحشر المذكور في الآية في غير يوم القيامة بوضع الآية بعد آية نفخ الصور مع ذكر ما يرتفع به الإبهام المذكور أولىٰ بالرعاية من دفع هذا التوهّم الذي توهّمه.

فقد بان أنَّ الآية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة (١).

__________________

(١) تفسير الميزان ، للطباطبائي ١٥ : ٣٩٧.

٣٧

أمّا القائلون بالحشر الخاص بعد حشر يوم القيامة فهو رأي غريب لا يستند إلىٰ شيء من القرآن الكريم أو السُنّة المطهّرة الناطِقَينِ بوحدة يوم المعاد.

ثانياً : قوله تعالىٰ : ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) (١).

روى الشيخ الكليني قدس‌سره بالاسناد عن عبدالله بن سنان ، قال : سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن قول الله جل جلاله ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) الآية ، فقال عليه‌السلام : « هم الأئمة عليهم‌السلام » (٢).

وقال الطبرسي : المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات النبي وأهل بيته عليهم‌السلام ، وتضمّنت الآية البشارة لهم بالاستخلاف والتمكين في البلاد وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي عليه‌السلام منهم ، ويكون المراد بقوله تعالىٰ : ( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) هو أن جعل الصالح للخلافة خليفة مثل آدم وداود وسليمان عليهم‌السلام ، ويدلّ علىٰ ذلك قوله تعالىٰ : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (٣) وقوله ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) (٤) وقوله : ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) (٥).

__________________

(١) سورة النور ٢٤ : ٥٥.

(٢) الكافي ١ : ١٥٠ / ٣.

(٣) سورة البقرة ٢ : ٣٠.

(٤) سورة ص ٣٨ : ٢٦.

(٥) سورة النساء ٤ : ٥٤.

٣٨

قال : وعلىٰ هذا إجماع العترة الطاهرة ، وإجماعهم حجة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتىٰ يردا عليَّ الحوض » وأيضا فإنّ التمكين في الأرض علىٰ الاطلاق لم يتّفق فيما مضىٰ فهو منتظر ، لأنّ الله عزَّ اسمه لا يخلف وعده (١).

قال الحر العاملي قدس‌سره : وهذا أوضح تصريح في نقل الاجماع علىٰ رجعة النبي والأئمة عليهم‌السلام ، ويظهر ذلك جلياً من ضمائر الجمع في الآية (٢) ، ومن الافعال المستقبلة الكثيرة ، ولفظ الاستخلاف والتمكين والخوف والأمن والعبادة وغير ذلك من التصريحات والتلويحات التي لا تستقيم إلاّ في الرجعة (٣).

ثالثا : قوله تعالىٰ : ( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) (٤).

قال الشيخ المفيد قدس‌سره : قال سبحانه مخبرا عمّن يحشر من الظالمين أنّه يقول يوم الحشر الأكبر : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ) الآية ، وللعامة في هذه الآية تأويل مردود ، وهو أن قالوا : إنَّ المعني بقوله تعالىٰ : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ) أنّه خلقهم أمواتاً بعد الحياة ، وهذا باطل لا يجري علىٰ لسان العرب ، لأنَّ الفعل لا يدخل إلاّ علىٰ ما كان بغير الصفة التي انطوىٰ اللفظ علىٰ معناها ، ومن خلقه الله مواتا لا يقال إنّه أماته ، وإنّما يدخل ذلك فيمن طرأ عليه

__________________

(١) مجمع البيان ، للطبرسي ٧ : ٢٣٩.

(٢) الايقاظ من الهجعة ، للحر العاملي : ٣٨.

(٣) المصدر السابق : ٧٤.

(٤) سورة غافر ٤٠ : ١١.

٣٩

الموت بعد الحياة ، كذلك لا يقال أحيا الله ميتا ، إلاّ أن يكون قبل إحيائه ميتاً ، وهذا بيّن لمن تأمله.

وقد زعم بعضهم أنَّ المراد بقوله : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ) الموتة التي تكون بعد حياتهم في القبور للمُساءلة ، فتكون الاُولىٰ قبل الإقبار والثانية بعده ، وهذا أيضاً باطل من وجه آخر ، وهو أنَّ الحياة للمساءلة ليست للتكليف فيندم الإنسان علىٰ ما فاته في حياته ، وندم القوم علىٰ ما فاتهم في حياتهم المرتين يدلُّ علىٰ أنّه لم يرد حياة المساءلة ، لكنه أراد حياة الرجعة التي تكون لتكليفهم والندم علىٰ تفريطهم فلا يفعلون ذلك فيندمون يوم العرض علىٰ ما فاتهم من ذلك (١).

إذن فالمراد بالموتتين موتة عند انتهاء آجالهم ، والموتة الثانية بعد عودتهم إلىٰ الحياة ، وتفسير منكري الرجعة بأنَّ الموتة الثانية قبل خلقهم حين كانوا عدماً لا يستقيم ، لأنّ الموت لا يكون إلاّ للحي ، ويلزم هذا وجودهم أحياء وهم في العدم ، فلا يبقىٰ إلاّ ما بيّناه للخروج من هذا التناقض.

رابعاً : قوله تعالىٰ : ( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ ) إلىٰ قوله تعالىٰ : ( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ) (٢).

روىٰ الشيخ الصدوق والكليني وعلي بن إبراهيم والعياشي وغيرهم

__________________

(١) المسائل السروية : ٣٣.

(٢) سورة النحل ١٦ : ٣٨ ـ ٣٩.

٤٠