دور العقيدة في بناء الإنسان

عباس ذهبيات

دور العقيدة في بناء الإنسان

المؤلف:

عباس ذهبيات


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-58-7
الصفحات: ١٠٠

الفصل الثالث

البناء النفسي

إنَّ لكلِّ عقيدة أثرا في نفس صاحبها ، يدفعه إلى نوع من الأعمال والتصرفات ، ولقد كانت لعقيدة الإيمان باللّه في المسلمين آثار في النفس عميقة ، كان لها نتائجها العملية في الحياة العامة ، يمكن الإشارة إليها ـ إجمالاً ـ في النقاط التالية : ـ

أولاً : طمأنينة النفس :

إنّ الإنسان المتدين يجد في العقيدة اطمئنانا على الرغم من عواصف الأحداث من حوله ، فهي تدفع عنه القلق والتوتر ، وتخلق له أجواء نفسية مفعمة بالطمأنينة والأمل ، حتى ولو كان يعيش في بيئة غير مستقرة أو خطرة.

وتاريخ الإسلام يحدثنا بما لا يحصى من مصاديق ذلك ، فعلى الرغم من ان المسلمين الأوائل كانوا يعيشون ظروفا صعبة ، حيثُ الحروب المتوالية التي أثارتها قريش وحلفاؤها ، وما صاحبها من مقاطعة اقتصادية وعزلة اجتماعية وضغوط نفسية ، إلاّ أنّهم كانوا يتمتعون بمعنوية عالية ، ويندفعون للقتال بنفس مطمئنة إلى ثواب اللّه ورحمته.

عن أنس أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوم بدر : « قوموا إلى جنّة عرضها السّماوات والأرض ، فقال عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول اللّه ، جنّة

٦١

عرضها السّماوات والأرض؟! قال : نعم ، قال : بخ بخ! لا واللّه يا رسول اللّه ، لا بدَّ أن أكون من أهلها ، قال : فإنّك من أهلها » ، فأخرج تميرات من قرنه فجعل يأكل منهنَّ ، ثم قال : لئن حييت حتّى آكل تمراتي هذه إنّها حياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ، ثمّ قاتل حتى قتل (١).

فالبيئة التي يتواجد فيها هذا المجاهد كانت خطرة ، فهو يعيش أجواء حرب بدر ، ولكن بيئته النفسية كانت سعيدة ، حيثُ يأمل العيش في جنّة عرضها السماوات والأرض فالمسلم بفضل عقيدة الإيمان باللّه تعالى يشعر بالرضا والاطمئنان بما يقع في محيطه من أحداث ، ويوطّن نفسه على قضاء اللّه وقدره ، فالمصيبة التي تصيبه في حاضره ، قد تتحول إلى بَرَكة ، والقرآن الكريم يُنمّي هذا الاحساس في نفس المؤمن قال تعالى : ( .. وعَسى أن تكرهُوا شيئا وهو خيرٌ لكُم وعسى أن تُحبُّوا شيئا وهو شرٌّ لكُم واللّه يعلمُ وأنتم لا تعلمونَ ) (٢).

وأحاديث أهل البيت عليهم‌السلام تعمّق هذا الشعور في نفوس المسلمين ، فقد بعث أمير المؤمنين عليه‌السلام كتابا إلى ابن عباس ، وكان ابن عباس يقول : ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانتفاعي بهذا الكلام : « أمّا بعد ، فإنّ المرء قد يسرّه درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه ، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك ، وليكن أسفك على ما فاتك منها » (٣).

__________________

(١)السيرة النبوية ، لابي الفداء ٢ : ٤٢٠ ـ دار الرائد العربي ط٣.

(٢) البقرة ٢ : ٢١٦.

(٣) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٣٧٨ ـ كتاب ٢٢.

٦٢

صحيح أنّ الإنسان العادي بطبعه يمتلكه اليأس والقنوط عند المصائب ، كما أشار القرآن صراحة لذلك بقوله : ( ... وإن مسَّهُ الشرُّ فيئُوسٌ قنُوطٌ ) (١) .. ( ولئن أذقنا الإنسانَ مِنَّا رحمةً ثمَّ نزعناها منهُ إنَّهُ ليئوسٌ كفورٌ ) (٢) ، ولكن الإنسان المؤمن المتسلح بالعقيدة وقور عند الشدائد ، صبور عند النوازل ، لا يتسرب الشك إلى نفسه : ( .. لا ييئسُ من رَوحِ اللّه إلاّ القومُ الكافِرُونَ ) (٣).

يصف مولى الموحدين عليه‌السلام أولياء اللّه فيقول : « .. وإن صُبّت عليهم المصائب لجؤوا إلى الاستجارة بك ، علما بأنّ أزمّة الاُمور بيدك ، ومصادرها عن قضائك » (٤).

والملاحظ أنّه في الوقت الذي يركّز فيه أمير المؤمنين عليه‌السلام في توصياته على عدم اليأس من رَوح اللّه ، فإنّه يؤكد في تعاليمه التربوية العالية على اليأس عما في أيدي الناس ، لكي يكون الإنسان متكلاً على ربِّه ، ولا يكون كلاًّ على غيره ، يقول عليه‌السلام : « الغنى الأكبر اليأس عمّا في أيدي الناس » (٥).

أساليب العقيدة في مواجهة المصائب :

ضمن هذا السياق ، تخفف العقيدة في نفوس معتنقيها من الضغوط

__________________

(١) فصلت ٤١ : ٤٩.

(٢) هود ١١ : ٩.

(٣) يوسف ١٢ : ٨٧.

(٤) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٣٤٩.

(٥) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٥٣٤.

٦٣

والأزمات النفسية التي يتعرضون لها ، فتصبح ضعيفة الأثر والأهمية ، ضمن أساليب عديدة ، منها :

أ ـ بيان طبيعة الحياة الدنيا التي يعيش فيها الإنسان : وهذه المعرفة سوف تظهر بصماتها واضحة في وعيه وسلوكه ، فالعقيدة من خلال مصادرها المعرفية تبين طبيعة الدنيا وتدعوا إلى الزهد فيها.

يقول الإمام علي عليه‌السلام : « أيُّها الناس ، انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها ، الصادفين عنها ، فإنَّها عما قليل تُزيلُ الثاوي الساكن ، وتفجعُ المترف الآمن .. سرورها مشوب بالحزن .. » (١).

وقال أيضا : ... « وأُحذركم الدنيا ، فإنّها دارُ شخوص ، ومحلَّةُ تنغيص ، ساكنها ضاعن ، وقاطنها بائن ، تميدُ بأهلها مَيَدان السفينة .. » (٢).

وكان من الطبيعي والحال هذه أن تحذّر العقيدة من التعلق بأسباب الدنيا الفانية الذي ينتج آثارا سلبية تنعكس على نفس المسلم ، فعن علقمة ، عن عبداللّه ، قال : نام رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حصير فقام وقد أثّر في جنبه ، فقُلنا : يا رسول اللّه ، لو اتخذنا لك وطاءً؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما لي وللدُّنيا ، ما أنا في الدنيا إلاّ كراكب استظل تحت شجرة ثمَّ راحَ وتركها » (٣)

ويقول وصيه الإمام علي عليه‌السلام : « وأُحذركُم الدنيا فإنّها منزلُ قُلعة ، وليست بدار نُجعة ، قد تزيّنت بغُرورها ، وغرَّت بزينتها ، دارُها هانت على ربِّها ، فخلط حلالها بحرامها ، وخيرها بشرها وحياتها بموتها ، وحلوها

__________________

(١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ١٤٨ خطبة / ١٠٣.

(٢) نهج البلاغة : ٣١٠.

(٣) سُنن الترمذي ٤ : ٥٠٨ / ٢٣٧٧ باب ٤٤ ـ دار الفكر ط ١٤٠٨ ه.

٦٤

بمُرِّها لم يُصفها اللّه تعالى لأوليائه ، ولم يضنَّ بها على أعدائه ، خيرُها زهيد وشرُّها عتيد. وجمعها ينفدُ ، ومُلكها يُسلب ، وعامرُها يخربُ. فما خيرُ دار تنقضُ نقضَ البناء ، وعُمر يفنى فيها فناء الزَّاد ، ومُدَّةٍ تنقطعُ انقطاع السير .. » (١).

يقول الشيخ الديلمي : ما عبر أحد عن الدنيا كما عبر أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : « دارٌ بالبلاءِ محفوفة ، وبالغدر معروفة ، لا تدوم أحوالها ، ولا تسلم نزالها ، أحوالها مختلفة ، وتارات متصرفة ، والعيش فيها مذموم ، والأمان فيها معدوم ، وإنّما أهلها فيها أغراض مستهدفة ، ترميهم بسهامها ، وتفنيهم بحمامها ... » (٢).

وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا الادراك العميق للدنيا إلى حذر شديد منها ، ويكفينا الاستدلال على ذلك : سأل معاوية ضرار بن ضمرة الشيباني عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وهو قائم في محرابه ، قابض على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، ويقول : « يا دنيا! يا دنيا!! إليك عني ، أبيَّ تعرّضتِ؟! أم إليَّ تشوّقتِ؟! لا حان حينك ، هيهات غرّي غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلّقتك ثلاثا ، لا رجعة فيها ، فعيشك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير ، آه من قلّة الزّاد ، وطول الطريق ، وبعد السفر ، وعظيم المورد » (٣).

__________________

(١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ١٦٧ / خطبة ١١٣.

(٢) ارشاد القلوب ، للديلمي ١ : ٣٠ ـ منشورات الرضي ـ قم.

(٣) تنبيه الخواطر ، الأمير ورّام ١ : ٧٩ / باب العتاب.

٦٥

ومن جملة تلك الشواهد ، نجد أنّ العقيدة تكشف طبيعة الدنيا وعاقبة من ينخدع بها أو يركن اليها ، وتبين قصور رؤية من ينشد الراحة التامة فيها ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال لأصحابه : « لا تتمنّوا المستحيل ، قالوا : ومن يتمنى المستحيل؟! فقال عليه‌السلام : أنتم ، ألستم تمنّون الراحة في الدّنيا؟ قالوا : بلى ، فقال عليه‌السلام : الرّاحة للمؤمن في الدنيا مستحيلة » (١).

ب ـ إنّ المصائب تستتبع أجرا وثوابا : الأمر الذي يخفف من وقع المصائب على الإنسان ، فيواجهها بقلب صامد ، ونفس مطمئنة إلى ثواب اللّه ورحمته ، فلا تترك في نفسه أثرا أكثر مما تتركه فقاعة على سطح الماء.

يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « المصائب مفاتيح الأجر » (٢).

وكتب رجلٌ إلى أبي جعفر عليه‌السلام يشكو إليه مصابه بولده ، فكتب إليه عليه‌السلام : « أما علمت أنّ اللّه يختار من مال المؤمن ومن ولده ونفسه ليأجره على ذلك » (٣).

جـ ـ إلفات نظر المسلم إلى المصيبة العظمى : وهي مصيبته في دينه ، مما يهوّن ويصغّر في نفسه المصائب الدنيوية الصغيرة ، وهي حالة امتصاص بارعة للضغوط النفسية تقوم بها العقيدة ، ويحتل هذا التوجه مركز الصدارة في سيرة أهل البيت التربوية ، روي أنّه رأى الصادق عليه‌السلام رجلاً قد اشتدّ جزعه على ولده ، فقال عليه‌السلام : « يا هذا جزعت للمصيبة الصغرى ، وغفلت عن المصيبة الكبرى ، لو كنت لما صار إليه ولدك مستعدّا

__________________

(١) أعلام الدين ، للديلمي : ٢٧٨.

(٢) بحار الأنوار ٨٢ : ١٢٢ ـ عن مسكن الفؤاد.

(٣) بحار الانوار ٨٢ : ١٢٣ ـ عن مشكاة الانوار : ٢٨٠.

٦٦

لما اشتد عليه جزعك ، فمصابك بتركك الاستعداد له ، أعظم من مصابك بولدك » (١).

وكان أبو عبداللّه عليه‌السلام يقول عند المصيبة : « الحمدُ للّه الذي لم يجعل مصيبتي في ديني ، والحمدُ للّه الذي لو شاء أن يجعل مصيبتي أعظم ممّا كانت ، والحمدُ للّه على الأمر الذي شاء أن يكون فكان » (٢).

من جميع ما تقدم ، نخلص إلى أنّ العقيدة تصوغ نفوسا قوية مطمئنة ، تواجه عواصف الأحداث بقلب صامد ومطمئن إلى قضاء اللّه وقدره ، وترسم العقيدة للإنسان خطّ سيره التكاملي ، وعليه فالإنسان بلا عقيدة كالسفينة بلا بوصلة ، سرعان ما تصطدم بصخور الشاطئ فتتحطم.

ثانيا : تحرير النفس من المخاوف :

مما لا شكَّ فيه ، أنّ الخوف يبدد نشاط الفرد ، ويُشل طاقته الفكرية والجسمية ، وكان الإنسانُ الجاهلي في خوف دائم من أخيه الإنسان ودسائسه ، ومن الطبيعة المحيطة به وكوارثها ، ومن الموت الذي لا سبيل له إلى دفعه ، ومن الفقر والجدب ، ومن المرض وما يرافقه من آلام ، وتخفف العقيدة من وطأة الاحساس بتلك المخاوف التي تشلُّ طاقة الإنسان عن الحركة والانتاج ، وتجعله غرضا للهموم والهواجس.

الموت تحفة!

ينبّه القرآن الكريم إلى حقيقة أزلية ، على الإنسان أن يوطّن نفسه

__________________

(١) روضة الواعظين ، للفتال النيسابوري : ٤٨٩ ـ منشورات الرضي ـ قم.

(٢) الكافي ، للكليني ٣ : ٢٦٢ / ٤٢ باب النوادر.

٦٧

عليها ، وهي : (كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ ) (١).

وعليه فلا بدَّ مما ليس منه بد ، والموت لا بدَّ أن يدرك الحي يوما ما ، كما أدرك مَنْ قبله ، وهو شيء لا عاصم منه .. قال تعالى : ( أينما تكُونوا يُدرككُم الموتُ ولو كُنتُم في بُروجٍ مشيَّدة .. ) (٢). وقال : ( قُلْ لَّن ينفعكُم الفرارُ إن فررتُم من الموتِ .. ) (٣).

فالقرآن ـ إذن ـ يؤكد أنّ الموت لا بدَّ منه ، ثم أنّه أمرٌ منوط بإذن اللّه تعالى وليس بيد غيره ، وهذه حقيقة لها انعكاسات إيحائية على نفس الإنسان ، بأنَّ أي قوة أرضية أو سماوية لا تستطيع ـ مهما أُوتيت من قوة ـ أن تسلب الحياة عن الإنسان قال تعالى : ( ما كان لنفسٍ أن تموتَ إلاَّ بإذن اللّه كتابا مُؤجَّلاً .. ) (٤).

ولقد بيّن القرآن الكريم زيفَ مزاعم اليهود الذين كانوا مع حرصهم الشديد على الحياة يتصورون أنهم أولياء اللّه دون غيرهم ، فكشف عن زيف مزاعمهم بهذا التحدّي الذي يخاطب دفائن النفوس ، ذلك أنَّ المؤمن باللّه حقا لا يخشى الموت إذا حلَّ بساحته ، فالموت هو انتقال من دار فانية إلى دار باقية ، واليهود بما يمتازون به من نزعة مادية طاغية ، يخشون الموت ويتشبثون بالحياة ، ومن هنا واجههم القرآن الكريم بهذا التحدي البليغ قال تعالى : ( قُل يأيُّها الَّذين هادُوآا إن زعمتم أنّكُم أولياءُ للّه

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٨٥.

(٢) النساء ٤ : ٧٨.

(٣) الأحزاب ٣٣ : ١٦.

(٤) آل عمران ٣ : ١٤٥.

٦٨

من دُونِ النّاسِ فتَمنَّوا الموتَ إن كنتم صادقين * ولا يتمنَّونه أبدا بما قدَّمت أيديهم واللّه عليمٌ بالظالمين ) (١).

ويقول الإمام علي عليه‌السلام : « ... فما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبّه » (٢). والمثير في الأمر أنّ العقيدة في الوقت الذي تخفف من خوف الإنسان من الموت ، تصوّر الموت للمؤمن كأنه تحفة! ينبغي الإقدام عليه ، وفي ذلك يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « تحفة المؤمن الموت » وإنّما قال هذا لأنَّ الدنيا سجن المؤمن ، إذ لا يزال فيها في عناء من رياضة نفسه ومقاساة شهواته ومدافعة الشيطان ، فالموت إطلاق له من العذاب ، والإطلاق تحفة في حقّه لما يصل إليه من النعيم الدائم (٣).

وقال الإمام أبو عبداللّه الحسين عليه‌السلام لأصحابه يوم عاشوراء : « صبرا يا كرام! فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضّراء إلى الجنان الواسعة والنّعيم الدائم ، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ .. » (٤).

من جانب آخر ، تدعو مدرسة آل البيت عليهم‌السلام إلى ضرورة معرفة الموت ، فإنّ معرفة الشيء قد تبدّد المخاوف منه ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إذا هبت أمرا فقع فيه ، فإنَّ شدَّة توقّيه أعظم مما تخاف منه » (٥) ، وقد روي عن الإمام علي بن محمد الهادي عليه‌السلام أنّه قال لمريض من أصحابه ، عندما دخل عليه فوجده يبكي جزعا من الموت : « يا عبد اللّه ، تخاف من

__________________

(١) الجمعة ٦٢ : ٦ ـ ٧.

(٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٨١ / خطبة ٣٨.

(٣) تنبيه الخواطر ، الأمير ورّام ١ ـ ٢ : ٢٦٨ باب ذكر الموت.

(٤) معاني الاخبار ، للصدوق : ٢٨٨ ـ منشورات جماعة المدرسين ـ ط ١٣٧٩ ه.

(٥) نهج البلاغة : قصار الحكم / ١٧٥.

٦٩

الموت لأنّك لا تعرفه ، أرأيتك إذا اتسخت وتقذّرت ، وتأذيّت من كثرة القذر والوسخ عليك ، وأصابك قروح وجرب ، وعلمت أنّ الغسل في حمام يزيل ذلك كلّه ، أما تريد أن تدخله ، فتغسل ذلك عنك أو تكره أن تدخله فيبقى ذلك عليك؟ قال : بلى يا ابن رسول اللّه ، قال عليه‌السلام : فذاك الموت هو ذلك الحمام ، وهو آخر ما بقي عليك من تمحيص ذنوبك ، وتنقيتك من سيئاتك ، فإذا أنت وردت عليه وجاوزته ، فقد نجوت من كلِّ غمٍّ وهمٍّ وأذى ، ووصلت إلى كلِّ سرور وفرح » ، فسكن الرجل واستسلم ونشط ، وغمض عين نفسه ، ومضى لسبيله (١).

ضمن هذا الاطار ، قيل للإمام الصادق عليه‌السلام : صف لنا الموت ، قال عليه‌السلام : « للمؤمن كأطيب ريح يشمّه ، فينعس لطيبه ، وينقطع التّعب والألم كلّه عنه ، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ .. » (٢).

هكذا تقدم العقيدة إشعاعا من الأمن يخفف من وطأة الموت ، فإنّه للمؤمن تحفة وراحة. قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « شيئان يكرهما ابن آدم : يكره الموت فالموت راحة للمؤمن من الفتنة ، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب » (٣).

والأئمة عليهم‌السلام يؤكدون على الاكثار من ذكر الموت ، لما فيه من آثار تربوية قيّمة ، فهو يميت الشهوات في النفس ، ويهوّن مصائب الدنيا التي تعصف بالإنسان مثل ريح السموم ، يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أكثروا

__________________

(١) معاني الاخبار ، للصدوق : ٢٩٠.

(٢) عيون أخبار الرضا ، لابن بابويه ٢ : ٢٤٨ ـ مؤسسة الاعلمي ط ١.

(٣) روضة الواعظين ، للفتال النيسابوري : ٤٨٦ في ذكر الموت.

٧٠

من ذكر الموت فإنّه يمحّص الذنوب ، ويزهّد في الدنيا » (١).

ويقول الإمام علي عليه‌السلام : « أكثروا ذكر الموت ، ويوم خروجكم من القبور ، وقيامكم بين يدي اللّه عزَّ وجل تهون عليكم المصائب » (٢).

ومن وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما‌السلام : « يا بُنيَّ أكثر من ذكر الموت ، وذكر ما تهجُمُ عليه ، وتُفضي بعد الموت إليه ، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك ، وشددت له أزرك ، ولا يأتيك بغتة فيبهرك » (٣). وقال عليه‌السلام أيضا : « من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير » (٤).

ونعود لنقول إنّ العقيدة تحرر النفوس من شبح الخوف من الموت من خلال التأكيد على أنّه حقيقة لا بدَّ منها ، يجب التسليم بها ، والتسالم معها عبر معرفة حقيقة الموت ، وأنّه للمؤمن راحة ، وبدلاً من نسيانه أو تناسيه ، يجب أن نديم ذكره لما في ذلك من معطيات إيجابية قد أشرنا إليها فيما سبق.

الرّزق مضمون لطالبه :

هناك خوف ينتاب الإنسان ، وينغّص عليه حياته ، وهو الخوف من الفقر ، لكن العقيدة تبدد هذا الخوف من خلال التأكيد على حقيقة واضحة كالشمس في رابعة النهار ، وهي أنّ مقادير الرزق بيد اللّه تعالى ، وقد ضمنها لعباده ، وعليه فلا مبرّر لهذه المخاوف ، ومن يقرأ القرآن يجد آيات كثيرة ، تحثَّ على إزالة أسباب الخوف من الفقر التي أدّت بالجاهلي

__________________

(١) تنبيه الخواطر ١ : ٢٦٩.

(٢) الخصال ، للصدوق ٢ : ٦١٦ حديث الاربعمائة.

(٣) نهج البلاغة : ٤٠٠ كتاب ٣١.

(٤) روضة الواعظين : ٤٩٠.

٧١

إلى قتل أبنائه قال تعالى : ( إنَّ اللّه هوَ الرّزَّاقُ ذو القوّةِ المتينُ ) (١). وقال تعالى : ( ولا تقتُلُوا أولادَكُم خَشيةَ إملاقٍ نحنُ نرزُقُهُم وإياكُم ) (٢).

وجاءت أحاديث الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآل بيته الأطهار عليهم‌السلام على هذا المنوال ، قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أبواب الجنة مفتَّحة على الفقراء والمساكين ، والرحمة نازلة على الرحماء ، واللّه راضٍ عن الأسخياء » (٣).

ويقول وصيه الإمام علي عليه‌السلام : « .. عياله الخلائق ، ضمن أرزاقهم ، وقدّر أقواتهم .. » (٤).

من جهة أُخرى ، قاموا بتصحيح مفهوم الناس عن الرّزق ، صحيح أنّ اللّه تعالى قد ضمن أرزاق عباده ، ولكن لا يعني ذلك أنّه يشجعهم على التواكل والكسل ، والقعود والابتعاد عن العمل ، وإنّما ربط تعالى تحصيل الرزق بشرط السعي والطلب ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « اطلبوا الرّزق فإنّه مضمون لطالبه » (٥).

وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يضرب بالمرّ ـ أي المسحاة ـ ويستخرج الأرضين ، وأنّه أعتق ألف مملوك من كدِّ يده (٦).

وكان عليه‌السلام يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى كلّت يده ،

__________________

(١) الذاريات ٥١ : ٥٨.

(٢) الإسراء ١٧ : ٣١.

(٣) روضة الواعظين ، للفتال النيسابوري ٢ : ٤٥٤.

(٤) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ١٢٤ / خطبة ٩١.

(٥) الارشاد ، للشيخ المفيد : ١٦٠ ـ منشورات مكتبة بصيرتي ـ قم.

(٦) الكافي ٥ : ٧٤ / ٢.

٧٢

ويتصدّق بالأجر ، ويشدّ على بطنه حجرا (١).

فلم يكن من عمله الشاق هذا ، حريصا على جمع المال لذاته ، فالإمام علي عليه‌السلام لا تغرّه بيضاء ولا صفراء ، بل كان يطلب الرّزق الحلال من حِلِّه وينفقه في محله.

« ولما كانت النفوس مشغوفة بالمال ، مولعة بجمعه واكتنازه ، فحريٌّ بالمؤمن الواعي المستنير ، أن لا ينخدع ببريقه ، ويغتر بمفاتنه ، وأن يتعظ بحرمان المغرورين به ، والحريصين عليه ، من كسب المثوبة في الآخرة ، وإفلاسهم مما زاد عن حاجاتهم وكفافهم في الدنيا ، فإنّهم خزّان أمناء ، يكدحون ويشقون في ادّخاره ثم يخلّفونه طعمة سائغة للوارثين ، فيكون عليهم الوزر ولأبنائهم المهنى والاغتباط » (٢).

هكذا تستأصل العقيدة من النفوس جذور الخوف من الفقر ، وتجعله يسعى بكلِّ اطمئنان لضمان متطلبات عيشه الكريم.

المرض يمحو الذنب .. ويستدعي الثواب!

من جانب آخر لطّفت العقيدة من مخاوف الإنسان الدائمة من المرض من خلال التأكيد على حقيقة بديهية ، هي إنّ كلَّ جسم معرّض للسقم ، يقول الإمام علي عليه‌السلام : « لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين : العافية والغنى. بينما تراهُ معافى إذ سقم ، وبينما تراهُ غنيا إذْ افتقر » (٣).

__________________

(١) شرح النهج ١ : ٧.

(٢) أخلاق أهل البيت ، للسيد مهدي الصدر : ١٤٣ ـ دار الكتاب الاسلامي.

(٣) نهج البلاغة : ٥٥١ حكم ٤٢٦.

٧٣

كما أكدت على أنّ المرض يسقط الذنب ، يقول الإمام السجاد عليه‌السلام : « إنَّ المؤمن إذا حمَّ حمى واحدة ، تناثرت الذُّنوب منه كورق الشجر .. » (١). وعن أبي عبداللّه عليه‌السلام قال : « صداع ليلة يحطُّ كلُّ خطيئة إلاّ الكبائر » (٢).

وإضافة لذلك فإنّ فيه الثواب الجزيل ما يخفّف من وطأته على النفوس ، يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عجبتُ من المؤمن وجزعه من السقم ، ولو يعلم ما له في السُقم من الثواب ، لأحبّ أن لا يزال سقيما حتى يلقى ربّه عزَّ وجل » (٣).

ويحدّد الإمام الرضا عليه‌السلام فلسفة المرض بقوله : « المرض للمؤمن تطهير ورحمة ، وللكافر تعذيب ولعنة ، وإنَّ المرض لا يزال بالمؤمن حتى لا يكون عليه ذنب » (٤).

ونعود لنقول بأنَّ اللّه لم يجعل المرض عبثا ، بل جعله وسيلةً لامتحان الإنسان ومعرفة صبره على النوازل ، لذلك امتحن به أنبياءه والصالحين من عباده ، فأيوب عليه‌السلام ـ كما هو معروف ـ كان ابتلاؤه في جسده : (ولم يبقَ منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر اللّه عزَّ وجل بهما ، وهو في ذلك كله صابر محتسب ، ذاكر للّه في ليله ونهاره وصباحه ومسائه ، وطال مرضه حتى عافه الجليس ، وأوحش منه الأنيس ، وأُخرج من بلده ، وانقطع عنه الناس ، ولم يبقَ أحد يحنو عليه سوى زوجته التي كانت ترعى له حقه

__________________

(١) ثواب الأعمال ، للشيخ الصدوق : ٢٢٨ ـ مكتبة الصدوق ـ طهران.

(٢) ثواب الأعمال ، للشيخ الصدوق : ٢٣٠.

(٣) كتاب التوحيد ، للصدوق : ٤٠٠ ـ مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.

(٤) ثواب الأعمال ، للصدوق : ٢٢٩ باب ثواب المرض.

٧٤

وتعرف قديم إحسانه إليها .. ولم يزد هذا كله أيوب عليه‌السلام إلاّ صبرا واحتسابا وحمدا وشكرا ، حتى إنّ المثل ليضرب بصبره) (١). فكان نتيجة هذا الصبر والاحتساب أن ردَّ اللّه تعالى إليه كلّ ما أخذ منه كرما وإحسانا.

والعقيدة في الوقت الذي تأمر المسلم بالتزام الصبر ، تنصحه بعدم الشكوى من المرض ، فالشكوى تعني ضمن ما تعنيه ، اتّهام اللّه تعالى في قضائه ، كما أنّها تحطّ من قدر الإنسان في نظر الناس ، وتبعث على الشماتة به أو التهكم عليه ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « كان لي فيما مضى أخ في اللّه ، وكان يعظّمه في عيني صغر الدّنيا في عينه .. وكان لا يشكو وجعا إلاّ عند بُرئه .. » (٢).

ولا بدَّ من الإشارة إلى أنّ العقيدة في الوقت الذي تبدّد غيوم المخاوف في نفس الإنسان ، تنمّي فيه شعور الخوف من اللّه تعالى وحده باعتباره السبيل للتحرّز من جميع المخاوف ، وتحذّر من عصيانه ، وتلوّح بشدّة انتقامه ، والقرآن الكريم في آيات كثيرة يعمّق من شعور النفس بالخوف من اللّه تعالى ، منها : ( قُل إنّي أخافُ إن عصَيتُ ربي عذابَ يومٍ عظيمٍ ) (٣). وقال تعالى : ( وأمّا من خافَ مقامَ ربِّهِ ونهى النَّفسَ عَنِ الهوى * فإنَّ الجنَّة هي المأوى ) (٤).

وقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما سلط اللّه على ابن آدم إلاّ من خافه ابن آدم ،

__________________

(١) البداية والنهاية ، لابن الأثيرالدمشقي ١ : ٢٥٤ / ١ ـ دار احياء التراث العربي ١٤٠٨ ط ١.

(٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٥٢٦.

(٣) الانعام ٦ : ١٥.

(٤) النازعات ٧٩ : ٤٠ ـ ٤١.

٧٥

ولو أنّ ابن آدم لم يخف إلاّ اللّه ما سلّط اللّه عليه غيره .. » (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا : « طوبى لمن شغله خوف اللّه عن خوف الناس » (٢).

وبطبيعة الحال إنّ لهذا النوع من الخوف آثارا تربوية مهمة تعود لصالح الفرد ، وفي هذا الصدد ، يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « من عرف اللّه خاف اللّه ، ومن خاف اللّه سخت نفسه عن الدنيا » (٣).

وتترتب عليه آثار اجتماعية أيضا حيثُ إنّه يدفع الفرد إلى مدِّ يدِّ العون إلى الآخرين ، قال تعالى : « ويُطعمونَ الطعامَ على حُبّهِ مسكِينا ويتِيما وأسيرا * إنَّما نُطعمكُم لوجهِ اللّه لا نُريدُ منكُم جزآءً ولا شُكورا * إنّا نخافُ مِنْ ربّنا يوما عبُوسا قمطريرا » (٤).

وصفوة القول ، لقد غيرت العقيدة النفوس ، وفتحت لها آفاقا واسعة بتحريرها من مخاوفها ، كما أوصلت حبلها بخالقها ، وأشعرتها بنعمائه ، وخوفتها من أليم عقابه.

ثالثا : معرفة النفس

من معطيات العقيدة ، أنها تدفع الإنسان المسلم إلى معرفة نفسه ، فلا يمكن السمو بالنفس دون معرفة طبيعتها ، وهذه المعرفة هي خطوة أولية للسيطرة عليها وكبح جماحها ، يقول الإمام الباقر عليه‌السلام : « .. لا معرفة

__________________

(١) كنز العمال ٣ : ١٤٨ / ٥٩٠٩.

(٢) تحف العقول ، لابن شعبة الحرّاني : ٢٨ ـ مؤسسة الاعلمي ط٥.

(٣) اُصول الكافي ٢ : ٦٨ / ٤ باب الخوف والرجاء.

(٤) الإنسان ٧٦ : ٨ ـ ١٠.

٧٦

كمعرفتك بنفسك .. » (١).

ثم إنَّ هناك علاقة ترابطية وثيقة بين معرفة اللّه ومعرفة النفس ، فمن خلال معرفة الإنسان لنفسه وطبيعتها وقواها ، يستطيع التعرف على خالقها ويُقدّر عظمته ، ففي الحديث الشريف : « من عرف نفسه فقد عرف ربه وبالمقابل فإنّ نسيان اللّه تعالى يؤول إلى نسيان النفس : « ولا تكُونُوا كالَّذينَ نسُوا اللّه فأنساهُم أنفُسَهُم .. » (٢).

دور العقيدة في تعريف الإنسان بنفسه :

مما لا شكّ فيه أنّ العقيدة ـ عبر مصادرها المعرفية ورموزها ـ قامت بدور كبير في الكشف عن طبيعة النفس ، وشخّصت بدّقة متناهية أمراضها والآثار الناجمة عنها.

فالقرآن الكريم يقرُّ صراحة بأنّ النفس أمارة بالسوء : ( وما أُبرّئُ نفسي إنَّ النفسَ لأمَّارةٌ بالسُّوءِ إلاَّ ما رحمَ ربي .. ) (٣).

كما يقرُّ القرآن أيضا ، بأنّ النفس شحيحة قال تعالى : ( .. وأُحضرتِ الأنفسُ الشُّحّ .. ) (٤) ، وقال : ( .. من يُوقَ شُحَّ نفسهِ فأُولئكَ هُمُ المُفلحُون ) (٥).

وهناك طائفة من الأحاديث تسلط الضوء على طبيعة النفس ، وتقدّم

__________________

(١) تحف العقول : ٢٠٨ من وصية الإمام الباقر عليه‌السلام لجابر الجعفي.

(٢) الحشر ٥٩ : ١٩.

(٣) يوسف ١٢ : ٥٣.

(٤) النساء ٤ : ١٢٨.

(٥) الحشر ٥٩ : ٩.

٧٧

الرؤية العلاجية لأمراضها ، منها : ما كتبه الإمام علي عليه‌السلام إلى الاشتر النخعي لمّا ولاّه مصر ، وجاء فيه : « .. وأمرهُ أن يكسر نفسهُ من الشهوات ، ويزعها عند الجمحات ، فإنَّ النفس أمّارة بالسَّوءِ ، إلاّ ما رحم اللّه .. » (١).

ومن خطبة له عليه‌السلام ضمّنها مواعظ للناس ، جاء فيها : « .. نستعينه من هذه النّفوس البطاء عمَّا أُمرت به ، السِّراع إلى ما نُهيت عنه .. » (٢).

ويقول عليه‌السلام أيضا : « النفس مجبولة على سوء الأدب ، والعبدُ مأمور بملازمة حسن الأدب ، والنّفس تجري بطبعها في ميدان المخالفة ، والعبدُ يجهد بردّها عن سوء المطالبة ، فمتى أطلق عنانها فهو شريك في فسادها ، ومن أعان نفسه في هوى نفسه فقد أشرك نفسه في قتل نفسه » (٣).

على هذا الصعيد لا بدَّ من الاشارة إلى أنّ الأمراض النفسية إذا لم تُعالج ، فإنّها قد تؤدي إلى عواقب وخيمة ، فعلى سبيل الاستشهاد نجد أنّ الفتنة الكبرى التي حصلت للمسلمين في السقيفة ، عندما أُقصيت القيادة الشرعية عن مركز القرار ، كانت جذورها نفسية ، ويكفينا الاستدلال على ذلك بكلام أمير المؤمنين عليه‌السلام لبعض أصحابه وقد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحقُّ به؟ فقال عليه‌السلام : « ... أمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا ، والأشدّون برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نوطا ، فإنها كانت أثَرَة شحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، والحَكَم اللّه » (٤).

__________________

(١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٤٢٧ كتاب ٥٣.

(٢) نهج البلاغة : ١٦٩ / خطبة ١١٤.

(٣) ميزان الحكمة ١ : ١٦ عن مشكاة الأنوار.

(٤) نهج البلاغة : ٢٣١.

٧٨

فالشحُّ الكامن في نفوس البعض كان السبب الأساس في أول وأعظم انحراف شهدته المسيرة الإسلامية بعد ساعات قليلة من رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. لذلك كان أئمة أهل البيت عليهم‌السلام مع عصمتهم المحققة ، يلجؤون إلى اللّه تعالى بالدعاء لكي يقيهم هذا المرض النفسي الخطير ، فعن الفضل بن أبي قرة قال : رأيت أبا عبداللّه عليه‌السلام يطوف من أول الليل إلى الصباح وهو يقول : « اللهمَّ قني شحَّ نفسي ، فقلتُ : جعلتُ فداك ما سمعتك تدعو بغير هذا الدعاء؟ قال عليه‌السلام : وأيُّ شيءٍ أشدُّ من شُح النفس ، إن اللّه يقول : « ومن يوقَ شُحَّ نفسهِ فاُولئكَ هُمُ المُفلِحُونَ » (١).

رابعا : السيطرة على النفس

منهج العقيدة في تربية النَّفس ، أنّها تدعو إلى عدم كبت رغباتها لأنّ الكبت يقتُل حيويتها ، ويُبدد طاقتها ، فلا تعمل ولا تنتج ، وفي الوقت ذاته لا تشجع العقيدة على إطلاق رغباتها بلا ضوابط ، بل تحثُّ على اتّباع سياسة حكيمة معها ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « سياسة النفس أفضل سياسة » (٢).

وعملية السيطرة على النفس تتحقق من خلال ضبط رغباتها وتوجيه نزواتها نحو الاعتدال ، وتتحقق أيضا من خلال محاسبتها ، قال الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : « ليس مِنَّا من لم يحاسب نفسه في كلِّ يوم ، فإن عمل حسنة استزاد اللّه تعالى ، وإن عمل سيئة استغفر اللّه تعالى منها وتاب إليه » (٣).

__________________

(١) ميزان الحكمة ٥ : ٣٣ عن نور الثقلين ٥ : ٢٩١.

(٢) ميزان الحكمة ١٠ : ١٣٤ عن غرر الحكم.

(٣) أخلاق أهل البيت ، للسيد مهدي الصدر : ٣٥١. والحديث في الوافي ٣ : ٦٢ عن الكافي.

٧٩

ولا بدَّ من الإشارة إلى أنّ العقيدة لا تحبذ اتّباع الوسائل الملتوية من أجل السيطرة على النفس ، فعن طلحة قال : انطلق رجل ذات يوم فنزع ثيابه وتمرّغ في الرمضاء ، وكان يقول لنفسه : ذوقي ، وعذاب جهنّم أشد حرّا ، أجيفة باللّيل بطّالة بالنّهار؟!

قال : فبينا هو كذلك إذ أبصره النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ظل شجرة فأتاه ، فقال : غلبتني نفسي ، فقال له النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ألم يكن لك بدٌّ من الذي صنعته؟ » (١).

من هذا التوجه النبوي ، نجد أنّه في الوقت الذي تشجّع فيه العقيدة كلّ محاولة صادقة من الإنسان للسيطرة على نفسه ، نجد أيضا أنّها لا تُحبّذ اتّباع الأساليب غير العقلانية للسيطرة على النفس ، فالنفس تحتاج إلى صبر وسياسة طويلة ورياضة خاصة لتقلع عن ضراوة عاداتها ، كتلك الرياضة التي أقسم أمير المؤمنين عليه‌السلام على اتّباعها مع نفسه : « ... وأيم اللّه ـ يمينا أستثني فيها بمشئية اللّه ـ لأروضنَّ نفسي رياضة تَهشُ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما ، وتقنع بالملح مأدوما ... » (٢).

وإنّ الإنسان ليقف مبهورا أمام قدرة الإمام عليه‌السلام في السيطرة على نفسه ، رغم أنّ الأموال كانت تجبى إليه من مختلف بلدان الخلافة الإسلامية أيام خلافته ، ولقد أبرَّ بقسمه الذي قطعه على نفسه ، عن حبة العرني قال : أُتي أمير المؤمنين عليه‌السلام بخوان فالوذج فوضع بين يديه ونظر إلى صفائه وحسنه فوجى باصبعه فيه حتى بلغ أسفله ثمَّ سلّها ولم يأخذ منه شيئا ، وتلمّظ اصبعه وقال : « إنَّ الحلال طيّب ، وما هو بحرام ، ولكنّي أكره أن أعوّد

__________________

(١) المحجة البيضاء ، للمحقق الكاشاني ٨ : ٦٨ ـ مؤسسة الاعلمي ط٢.

(٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٤١٩.

٨٠