دور العقيدة في بناء الإنسان

عباس ذهبيات

دور العقيدة في بناء الإنسان

المؤلف:

عباس ذهبيات


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-58-7
الصفحات: ١٠٠

وعليه فالعلم بحاجة إلى الايمان كحاجة الجسد إلى روح ، لأنّ العلم لوحده عاجز بطبيعته عن بناء الإنسان الكامل ، فالتربية العلمية الخالصة تبني نصف إنسان لا إنسانا كاملاً ، وتصنع إنسانا قد يكون قويا وقادرا ولكنّه ليس فاضلاً بالضرورة ، هي تصنع إنسانا ذا بعد واحد ، هو البعد المادي ، أما الإيمان فإنّه يصوغ الشخصية في مختلف الأبعاد.

ولقد بلغ اغترار الأُوربيين بالعلم حدا وصل إلى حد التأليه والعبادة ، وإن لم يقيموا شعائره العبادية في كنائسهم ، ولمّا كان الدين يرتكز على قواعد غيبية ، خارج نطاق المادة ، اعتبروه ظاهرة غير علمية.

وعلى هذا الأساس ظهر بينهم داء الفصل بين الدين والعلم ، وهو توجّه غريب عن منهج الإسلام ، « وليس أدل على هذا التماسك بين الايمان والعلم من هذه الدعوة الملحّة ، في الدين إلى طلب العلم والاستزادة منه في كل مراحل العمر ، وفي كلِّ الحالات .. ومن هذه القيمة الكبيرة التي يعطيها الدين للعلم والعلماء.

وإذا كان هناك صراع بين العلم والدين في بعض فترات التأريخ ، كما حدث ذلك في تأريخ المسيحية ، فإنّ ذلك لا علاقة له بالدين ، وإنّما هو لون من ألوان الانحراف عن الدين ، ولا يكون الدين مسؤولاً عما يرتكب الناس بحقه من انحراف » (١).

ومما يؤسف له ، أنّ بعض الأصوات ترتفع هنا وهناك تنادي بالفصل بين العلم والدين ، بدعوى أنّ أُوربا تنكّرت للدين فتقدمت علميا وحضاريا ، ونحن تمسكنا بالدين فتخلّفنا ، إنّ عقول هؤلاء إما قاصرة عن

__________________

(١) دور الدين في حياة الانسان ، للشيخ الاصفي : ٦٩ ـ دار التعارف ط٢.

٤١

إدراك وظيفة العلم الذي هو أداة لكشف الحقائق الموضوعية ، وتفسير الواقع تفسيرا محايدا بأعلى درجة من الدقة والعمق. أو أنّ هذه العقول جاهلة بمنهج الإسلام الذي ما انفك يدعو إلى العلم ، وأغلب الظن أنها عقول مأجورة تُردد مزاعم الأعداء والحاقدين على الإسلام ، وتغضّ الطرف عن العواقب الروحية الجسيمة ، التي حصلت من جرّاء فصل العلم عن الدين : « وأوضح الأمثلة على ذلك ، هذا العصر الذي نعيش فيه ، العصر الذي وصل فيه التقدم العلمي والمادي ذروته ، ووصلت الإنسانية إلى حضيضها من التقاتل الوحشي والتخاصم الذي يقطع أواصر الإنسانية ، ويجعلها تعيش في رعب دائم وخوف من الدمار ، كما وصلت إلى الحضيض في تصورها لأهداف الحياة وغاية الوجود الإنساني وحصرها في اللَّذة والمتاع ، وانحطاطها ـ تبعا لهذا التصور ـ إلى أحطّ دركات الانحلال الخلقي والفوضى الجنسية التي يعف عنها الحيوان » (١).

وعليه فإنّ العقيدة الإسلامية لها فضل كبير على مناهج التربية التي تسعى لبناء الإنسان ، لتأكيدها على دور الايمان والعلم معا في بناء شخصية الإنسان ، وبفصل العلم عن الايمان يغدو الإنسان كإبرة مغناطيس تتأرجح بين الشمال والجنوب ، وعليه فهو بحاجةٍ ماسة إلى قوة تتمكن من إيجاد ثورة في ضميره ، وتمنحه اتجاها أخلاقيا يحقق إنسانيته ، وهذا عمل لا يتمكن منه العلم بمعزل عن الدين.

__________________

(١) منهج التربية الاسلامية ، محمد قطب : ١١٥.

٤٢

الفصل الثاني

البناء الاجتماعي والتربوي

قامت العقيدة بدور تغييري كبير على صعيد البناء الاجتماعي والتربوي ، يمكن الإشارة إليه من خلال النقاط التالية :

أولاً : إثارة الشعور الاجتماعي

لقد كان إنسان ما قبل الإسلام يتمحور في سلوكه الاجتماعي حول ذاته ، وينطلق في تعامله مع الآخرين من منظار مصالحه وأهوائه ، وينساق بعيدا مع أنانيته. ولقد هبط في القاع الاجتماعي إلى درجة « الوأد » لأبنائه ، خشية الفقر والمجاعة ، الأمر الذي استدعى التدخل الإلهي ، لإنقاذ النفوس البريئة من هذه العادة الاجتماعية القبيحة ، قال تعالى : (ولا تَقتُلُوا أولادَكُم خَشيةَ إملاقٍ ) (١).

على أنّ أشد ما يسترعي الانتباه ، أنّ ذلك الإنسان الجاهلي ، الدائر حول ذاته ومنافعها ، قد غدا بتفاعله مع إكسير العقيدة ، يضحي بالنفس والنفيس في سبيل دينه ومجتمعه ، وبلغت آفاق التحول في نفسه إلى المستوى الذي يُؤثِر فيه مصالح أبناء جنسه على منافع نفسه.

__________________

(١) الاسراء ١٧ : ٣١.

٤٣

وليس بخفيّ على أحد مستوى الإيثار الذي أبداه الأنصار مع المهاجرين ، إذ شاطروهم في كلِّ ما يملكون ، وحتى في بيوتهم وأمتعتهم ، ولم ينحصر هذا المستوى من الايثار بأفراد ، بل شكّل ظاهرة اجتماعية عامّة لم يشهد لها تاريخ الإنسانية نظيرا ـ وفي هذه الظاهرة نزل قرآن كريم يبارك هذه الروح ، ويخلّد ذكر مجتمع تحلّى بها ، كنموذج من نماذج التلاحم الاجتماعي والمؤاخاة .. قال تعالى : ( لِلفُقَرَآءِ المُهَاجِرينَ الَّذِينَ أُخرِجوا مِن دِيارهِم وأموَالِهِم يَبتَغُونَ فَضلاً مِّنِ اللّه وَرِضوانا وَيَنصُرُونَ اللّه وَرَسُولَهُ أُولئكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمانَ مِن قَبلِهِم يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إليهِم وَلا يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُوا وَيُؤثرُونَ عَلى أنفُسِهِم ولَو كانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئكَ هُمُ المُفلِحُونَ ) (١).

وينقض الإسلام أُسسا في البناء الاجتماعي الجاهلي قوامها تعزيز التقسيم الطبقي والقَبَلي للمجتمع ، الذي كان يتشكل من طبقتين أساسيتين ؛ طبقة الأشراف ، وطبقة العبيد ، ولا بدَّ لأبناء طبقة الأشراف أن يبقوا هكذا ، تجتمع لديهم الثروات ويحتكرون الشأن والوجاهة ، ولا بدَّ لأبناء طبقة العبيد أن يبقوا هكذا يدورون في فلك الأسياد .. فقوّض الإسلام هذه الاُسس وأقام محلّها أُسسا جديدة تساوي بين الناس في حق الحياة وحق الكرامة ، قال تعالى : ( يا أيُّها الناسُ إنّا خَلقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وأُنثى وجَعَلنَاكُم شُعُوبا وقَبَائلَ لِتَعارفُوا إنَّ أكرَمَكُم عِندَ اللّه أتقاكُم ) (٢) ، فتحرر أبناء طبقة العبيد ومارسوا حقهم في الحياة ، وارتفع عمار وسلمان وبلال عاليا فوق طبقة أشراف قريش التي ما زالت تتخبط في ضلالات الجاهلية ،

__________________

(١) الحشر ٥٩ : ٨ ـ ٩.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١٣.

٤٤

كالوليد بن المغيرة وهشام بن الحكم وأبي سفيان وأمثالهم ..

وحتى الأموال لم تعد حكرا على الأغنياء ليزدادوا ثراءً ، قال تعالى : ( مَّآ أفَآءَ اللّه عَلى رَسُولِهِ مِن أهلِ القُرى فللّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذي القُربى وَاليتامى والمساكِينِ وَابنِ السَّبِيلِ كَي لا يَكُونَ دُولَةٌ بَينَ الأغنِيآءِ مِنكُم وَمَآ آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللّه إنَّ اللّه شَدِيدُ العِقَابِ ) (١).

أساليب تنمية الشعور الاجتماعي :

لقد نمّت العقيدة الشعور الاجتماعي لدى الفرد بوسائل عديدة ، منها :

أ ـ إيقاظ الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين :

من خلال تأكيد القرآن الكريم على مسؤولية الإنسان تجاه نفسه وغيره ، كقوله تعالى : ( وقِفُوهُم إنَّهُم مسؤولُونَ ) (٢) ، وقوله تعالى : ( يا أيُّها الَّذِين آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارا .. ) (٣).

وقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون » (٤).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا : « ألا كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته ، فالأمير الذي على النّاس راع ، وهو مسؤول عن رعيته ، والرَّجُلُ راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم ، والمرأةُ راعية على بيتِ بعلها وولده ، وهي مسؤولة

__________________

(١) الحشر ٥٩ : ٧.

(٢) الصافات ٣٧ : ٢٤.

(٣) التحريم ٦٦ : ٦.

(٤) كنز العمال ٥ : ٢٨٩.

٤٥

عنهم .. » (١).

ويقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « اتّقوا اللّه في عباده وبلاده ، فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم .. » (٢).

وكنظرة مقارنة ، نجد أنّ المذاهب الاجتماعية الوضعية ، بُنيت على أساس المسؤولية الفردية في هذه الحياة فحسب ، وتأييدها بمؤيدات قانونية كحجز الحرية ، أو التعذيب ، أو التغريم المالي أو العزل عن الوظيفة ، أو التسريح عن العمل ، أو المكافأة بالمال أو الترقية في الوظيفة .. وما إلى ذلك ، وبمؤيدات اجتماعية كالثقة أو حجبها والتقدير أو التحقير.

أما المذهب الإسلامي ، فلا يقتصر على مسؤولية الفرد أمام المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه في هذه الحياة ، وإنّما يُنمّي في الفرد المسؤولية العظمى أمام الخالق العظيم في حياة أُخرى ، وحينئذ يدفعه إلى التحديد الذاتي أو الطوعي لرغباته ، والشعور الاجتماعي نحو غيره ، بغض النظر عن القانون أو العرف أو الضمير ، لأنّ الضمير قد يعجز عن مواجهة الغرائز عند فقدان العقيدة الدينية ، كما أنّه ليس من الميسور توفير الرقابة الاجتماعية في كلِّ مكان ، وبصورة دائمة ، وعليه فإنّ هذه الرقابة الداخلية لا توجد في غير العقيدة الدينية.

ب ـ تنمية روح التضحية والايثار :

لقد حثَّ القرآن الكريم على الايثار ، وأشاد بروح التضحية التي اتّصف

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ : ١٤٥٩ كتاب الامارة ـ دار احياء التراث ط١.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ١٦٧.

٤٦

بها المسلمون ، فلمّا بات علي بن أبي طالب عليه‌السلام على فراش الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفديه بنفسه ، فيؤثره بالحياة ، أشاد اللّه تعالى بهذا الموقف التضحوي الفريد ، فأنزل : « ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَشرِي نَفسهُ ابتغاءَ مرضاتِ اللّه واللّه رؤوفٌ بالعبادِ » (١).

يقول الفخر الرازي : « ... نزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، بات على فراش رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة خروجه إلى الغار ، ويروى أنّه لمّا نام على فراشه قام جبريل عليه‌السلام عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبريل ينادي : بخٍ بخٍ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي اللّه بك الملائكة ، ونزلت الآية » (٢).

وقدّمت السيرة المطهّرة القدوة الحسنة في هذا المقام ، فقد روي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه ما شبع ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا ، ولو شاء لشبع ، ولكنه كان يؤثرُ على نفسه (٣).

وهذا السلوك النبوي ، ظهرت بصماته واضحة في سلوك أهل بيته عليهم‌السلام ، الذين يسيرون على نهجه ، ويترسمون خطاه ، ويترجمون أقواله إلى واقع عملي ملموس : « .. عن محمد بن كعب القرظي ، قال : سمعت علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : لقد رأيتني وإنّي لأربط الحجر على بطني من الجوع ، وإنّ صدقتي لتبلغ اليوم أربعة آلاف دينار (٤) » ، كلّ ذلك لأنّه كان يؤثر على نفسه ، ويفضّل مصلحة غيره على مصلحته.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ١ : ١٧٤. والآية من سورة البقرة ٢ : ٢٠٧.

(٢) التفسير الكبير ، للفخر الرازي ٥ : ٢٢٣.

(٣) تنبيه الخواطر ، للامير ورّام ١ : ١٧٢ باب الايثار.

(٤) أُسد الغابة ، لابن الاثير ٤ : ١٠٢ / ٣٧٨٣ ـ دار احياء التراث العربي.

٤٧

قال أبو النوار ـ بياع الكرابيس ـ : أتاني علي بن أبي طالب عليه‌السلام : ومعه غلام له ، فاشترى مني قميصَيّ كرابيس ، فقال لغلامه : اختر أيُّهما شئت ، فأخذ أحدهما ، وأخذ علي الآخر فلبسه (١).

ومن الشواهد التأريخية ، التي تدل على ذلك التحوّل الاجتماعي الكبير الذي أحدثته العقيدة ، في فترة وجيزة ، أنّه أُهدي لرجل من أصحاب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأس شاة ، فقال : إنّ أخي فلانا أحوج إلى هذا منّا ، فبعث به إليه ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله سبعة أهل أبيات حتى رجعت إلى الأول (٢).

هكذا تربي العقيدة الإنسان المسلم على الشعور الاجتماعي ، شعور الفرد نحو غيره ، فيتجاوز دائرة الذات إلى دائرة أرحب هي دائرة العائلة ، ثم تتسع اهتماماته لتشمل دائرة الجوار ، ثم أبناء بلدته ، وبعدها أبناء أمته ، وفي نهاية المطاف تتسع لدائرة أكبر فتشمل الإنسانية جمعاء.

ج ـ تنمية الشعور الجماعي :

وفي هذا الصدد ، نجد فيض من الأحاديث التي تحثُّ الفرد على الانضمام للجماعة والانسجام معها ، والانصباب في قالبها ، بعد أن ثبت عند العقلاء بأنّ في الاجتماع قوة ومنعة ، وبعد أن أكد النقل على أنّ اللّه تعالى قد جعل فيه الخير والبركة ، يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يدُ اللّه مع

__________________

(١) أُسد الغابة ، لابن الأثير ٤ : ١٠٣.

(٢) أسباب النزول ، لابي الحسن النيسابوري : ٢٨١ ـ انتشارات الرضي. وفي طبعة عالم الكتب : ٢٣٥.

٤٨

الجماعة ، والشيطان مع من خالف الجماعة يركُضُ » (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من خرج من الجماعة قيد شبر ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه » (٢).

وفي كلِّ ذلك دليل قاطع على أنّ الإسلام دين اجتماعي ، يحاول ربط الفرد بالجماعة ، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

وهنا لا بدَّ من التنبيه على أنّ الحكام الظلمة ، قد استغلوا مفهوم « الجماعة » أبشع استغلال لتثبيت سلطانهم والمحافظة على عروشهم ، فاخذوا يصبّون جام غضبهم على كلِّ من يجهر بكلمة الحق ويقوم بمعارضة تسلطهم اللامشروع ، ويفضح أساليبهم غير الإسلامية ، وكان الأمويون ـ الذين اتّخذوا مال اللّه دولاً وعباده خولاً ـ يقتلون كل من خرج عليهم بحجة أنّه مفارق للجماعة ، وكذلك سار العباسيون على ذلك النهج ، بل وتفوّقوا على الأمويين في ابتكار أساليب القتل والتعذيب.

ومن يتصفّح كتب التأريخ ، يجد أنّه ينقل صورا بشعة لأساليب التنكيل والقتل التي مارسها الأمويون والعباسيون ضد العلويين بحجة واهية هي الخروج عن الاجماع والجماعة.

على أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أوضح بجلاء مفهوم الجماعة الذي لا يعني ـ بالضرورة ـ الكثرة ، كما يتصوره السطحيون وكما يُحرِّفه السلطويون ، بل يعني جماعة أهل الحقّ وإن قلّوا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من فارق جماعة

__________________

(١) كنز العمال ١ : ٢٠٦.

(٢) كنز العمال ١ : ٢٠٦ / ١٠٣٥.

٤٩

المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه قيل : يا رسول اللّه ما جماعة المسلمين؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : جماعة أهل الحق وإن قلّوا » (١).

وعودة إلى أصل المطلب ، فقد تبيّن لنا بأنّ العقيدة تدعو الإنسان المسلم إلى الانضمام إلى الجماعة ، وهنا ثمة تساؤل يفرض نفسه ، وهو وجود أحاديث كثيرة في مصادرنا ، تدعو الإنسان المسلم إلى إيثار العزلة ، وبالتالي الابتعاد عن الناس ، يُجيب مؤلف جامع السعادات ، الشيخ النراقي عن ذلك بقوله : (نظر الأولون إلى إطلاق ما ورد في مدح العزلة ، وإلى فوائدها وما ورد في مدحها ، كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ اللّه يحب العبد التقي الخفي » ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل اللّه ، ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب ».

وقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « فسد الزمان ، وتغيّر الاخوان ، وصار الانفراد أسكن للفؤاد » ، وقوله عليه‌السلام : « أقلل معارفك ، وأنكر من تعرف منهم ».

إلى أن قال : فالصحيح أن يقال : إنَّ الأفضلية منهما ـ أي المخالطة والعزلة ـ تختلف بالنظر إلى الأشخاص والأحوال والأزمان والأمكنة ، فينبغي أن ينظر إلى كلِّ شخص وحاله .. أنَّ الأفضل لبعض الخلق العزلة التامة ، ولبعضهم المخالطة ، ولبعضهم الاعتدال في العزلة والمخالطة) (٢).

ويمكننا التوفيق بين الطائفتين بالقول : إنّ الاتجاه الداعي إلى العزلة ، يمكن حمله على عدّة وجوه ، منها : أنّ التوجه للعبادة يتطلب ـ عادةً ـ

__________________

(١) روضة الواعضين ، للفتّال النيسابوري : ٣٣٤ ـ منشورات الرضي ـ قم.

(٢) جامع السعادات ، للنراقي ٣ : ١٩٥ ـ ١٩٧ ـ مطبعة النجف الاشرف ١٣٨٣ ه ط٣.

٥٠

الابتعاد عن الناس آنا ما ، بغية الانقطاع إلى اللّه تعالى.

وهذا الأمر ـ بطبيعة الحال ـ لا ينطبق على جميع العبادات ، فالحج الذي هو عبادة ذات صبغة اجتماعية ، يجتمع خلاله الناس من كلِّ حدب وصوب في مكان واحد ، وزمان محدد ، لأداء شعائر واحدة.

من جانب آخر يمكن حمل العزلة على تجنّب مخالطة الأشرار ، فقد ورد في وصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر الغفاري رضي‌الله‌عنه : ...« يا أبا ذر ، الجليس الصالح خيرٌ من الوحدة ، والوحدة خيرٌ من جليس السوء .. » (١).

أما الاختلاط بالأخيار ، فهو أمر مرغوب فيه ، والإسلام ـ كما أسلفنا ـ يحثُ عليه ، وعلى العموم فهناك حالات استثنائية تستدعي العزلة عن الناس ، أما القاعدة العامة في الإسلام ، فتؤكد على مخالطة الناس ، والصبر على أذاهم.

يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم » (٢).

والإسلام يبغض العزلة التامة عن الناس مهما كانت مبرراتها ، عبادية أو غيرها ، فلا رهبانية في الإسلام كما هو معروف ، ومن الشواهد النقلية على ذلك أن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد رجلاً ، فسأل عنه فجاء ، فقال : يا رسول اللّه إنّي أردتُ أن آتي هذا الجبل فأخلو فيه فأتعبّد ، فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لصبر أحدكم ساعةٍ على ما يكره في بعض مواطن الإسلام خير من

__________________

(١) مكارم الاخلاق ، للطبرسي : ٤٦٦ ـ مؤسسة الاعلمي ـ ط٦.

(٢) كنز العمال ١ : ١٥٤ / ٧٦٩.

٥١

عبادته خاليا أربعين سنة » (١).

وعلى ضوء ذلك فهناك مواطن تتطلب من الفرد أن ينظم إلى الجماعة وأن ينصهر بها ، كمواطن الجهاد ، وحضور الجماعة في المساجد ، والدراسة في مراكز التعليم المختلفة وغيرها.

ثانيا : تغيير نظم الروابط الاجتماعية

كان المجتمع الجاهلي يعتبر رابطة الدم والرحم أساس الروابط الاجتماعية ، فيضع مبدأ القرابة فوق مبادئ الحق والعدالة في حال التعارض بينهما ، والقرآن الكريم قد ذمَّ هذه الحمَّية الجاهلية صراحة : ( إذ جعلَ الَّذِينَ كَفرُوا في قُلُوبِهِم الحَمِيَّةَ حِميَّةَ الجَاهِلِيَّةِ .. ) (٢).

وقد عملت العقيدة على إزالة غيوم العصبية عن القلوب ، ولم تقرَّ بالتفاضل بين الناس القائم على القرابة والقومية أو اللّون والمال والجنس ، وبدلاً من ذلك أقامت روابط جديدة على أسس معنوية هي التقوى والفضيلة.

وعليه فالعقيدة تنبذ كل أشكال العصبية ، إذ لا يمكن التوفيق بين الإيمان والتعصّب.

عن أبي عبداللّه عليه‌السلام قال : « قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من تعصّب أو تُعصّبَ له ، فقد خلع ربقة الإيمان من عُنقه » (٣).

__________________

(١) كنز العمال ٤ : ٤٥٤ / ١١٣٥٤.

(٢) الفتح ٤٨ : ٢٦.

(٣) أُصول الكافي ٢ : ٣٠٨ / ٢ باب العصبية.

٥٢

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا : « ليس منّا من دعا إلى عصبية ، وليس منّا من قاتل [ على ] عصبيّة ، وليس منّا من مات على عصبيّة » (١).

وفي هذا المجال ، يُقدم أمير المؤمنين عليه‌السلام رؤيته العلاجية لمرض العصبية البغيض ، ففي خطبته المعروفة بالقاصعة يقول عليه‌السلام : « ولقد نظرتُ فما وجدت أحدا من العالمين يتعصّب لشيء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء ، أو حجّة تليط بعقول السفهاء غيركم ، فإنّكم تتعصّبون لأمر ما يُعرف له سبب ولا علة ، أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله ، وطعن عليه في خلقته ، فقال : أنا ناريٌّ وأنت طينيٌّ ، وأما الأغنياء من مترفة الاُمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم ، فقالوا : ( نحنُ أكثر أموالاً وأولادا وما نحن بمعذّبين ) فإن كان لا بدَّ من العصبيّة فليكُن تعصّبكُم لمكارم الخصال ، ومحامد الأفعال ومحاسن الاُمور ... فتعصّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار ، والوفاء بالذِّمام ، والطَّاعة للبرِّ ، والمعصية للكبر ، والأخذ بالفضلِ ، والكفِّ عن البغي ، والإعظام للقتل ، والإنصاف للخلقِ ، والكظم للغيظ ، واجتناب الفسادِ في الأرض » (٢).

ضمن هذا السياق قام حفيده علي بن الحسين عليه‌السلام بإيضاح مفهوم العصبيّة ، وما هو المذموم منها ، عندما سُئل عنها ، فقال عليه‌السلام : « العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرّجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين ، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه ، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظّلم » (٣).

__________________

(١) سُنن أبي داود ٢ : ٣٣٢ / ٤ باب في العصبية.

(٢) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ١٣ : ١٦٦ ـ دار احياء التراث العربي ط٢.

(٣) اُصول الكافي ٢ : ٣٠٨ / ٧ باب العصبية كتاب الايمان والكفر.

٥٣

وهكذا نجد أنّ العقيدة قد عملت على قشع غيوم العصبية السوداء من القلوب ، وقامت بتشكيل هوية اجتماعية جديدة للناس تقوم على الإيمان باللّه ورسوله ، وإشاعت مشاعر الحب والرّحمة بدلاً من مشاعر التعصّب والكراهية ، فالعصبية التي تعني : « مناصرة المرء قومه ، أو أسرته ، أو وطنه ، فيما يخالف الشرع ، وينافي الحق والعدل. وهي : من أخطر النزعات وأفتكها في تسيّب المسلمين ، وتفريق شملهم ، وإضعاف طاقاتهم ، الروحية والمادية ، وقد حاربها الإسلام ، وحذّر المسلمين من شرورها » (١).

ولعل من أبرز مظاهر التغيير الاجتماعي ، الذي صنعته العقيدة أنّ هناك أفرادا كانوا في أسفل السلَّم الاجتماعي في فترة ما قبل الإسلام ، فإذا هم بعد إشراق شمس الإسلام ، يتصدرون قمة الهرم الاجتماعي ، فبلال الحبشي رضي‌الله‌عنه يصبح مؤذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسلمان الفارسي رضي‌الله‌عنه هو رجل من بلاد فارس ، تنقّل من رقّ إلى رقّ ، أصبح في عصر الإسلام صحابيا جليلاً ، وحاكما عاما على بلاد كبيرة ، وفوق كل ذلك غدا من أهل البيت عليهم‌السلام ، سأل رجلٌ عليا عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين أخبرني عن سلمان الفارسي قال عليه‌السلام : « بخٍ بخء سلمان منّا أهل البيت ، ومن لكم بمثل لقمان الحكيم .. » (٢).

وكان زيد بن حارثة وابنه أُسامة ممن ينبغي ـ وفق التقسيم الجاهلي ـ أن يكونا في طبقة العبيد ، فإذا بهما يقودان جيوش المسلمين في اثنتين من أكبر الحملات الإسلامية عدّة وعددا.

__________________

(١) أخلاق أهل البيت عليهم‌السلام ، للسيد مهدي الصدر : ٧٠.

(٢) الاحتجاج ، للطبرسي ١ : ٢٦٠.

٥٤

ولم يكن من اليسير أن يتم هذا التحوّل الكبير في أفكار الناس وعلاقاتهم ، في هذه الفترة القصيرة من عمر الرسالة ، لولا الدور التغييري الكبير الذي اضطلعت به العقيدة الإسلامية.

ثالثا : الحث على التعاون والتعارف

نقلت العقيدة أفراد المجتمع من حالة التنافس والصراع إلى حالة التعارف والتعاون.

والقرآن مصدر العقيدة الأول ، يحث الناس على الاجتماع والتعارف ، يقول تعالى : ( يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خلقناكم مِن ذَكرٍ وأُنثى وجَعلنكُم شُعوبا وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمَكُم عند اللّه أتقكُم ... ) (١).

كما حثَّ الناس على التعاون : ( وتعاونُوا على البرِّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثمِ والعُدوانِ .. ) (٢).

وقد أثبتت تجارب البشرية أنّ في التعاون قوة ، وأنّه يؤدي إلى التقدم ، وكان المجتمع الجاهلي متخلفا ، يعيش حالة الصراع بدافع العصبية القبلية ، أو طغيان الأهواء والمصالح الشخصية ، أو بسبب احتكار البعض لمصادر الكلأ والماء ، فانتقل ذلك المجتمع ـ بفضل الإسلام ـ إلى مدار جديد بعد أن تكرّست فيه قيم التعاون والتكافل الاجتماعي.

وفي سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الذي كان مصدرا لحضارة ، وباعثا لنهضة ـ نجد شواهد عديدة على حبه للتعاون والتكافل وحثه المتواصل عليهما ، منها : ـ

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ١٣.

(٢) المائدة ٥ : ٢.

٥٥

أنّه أمر أصحابه بذبح شاة في سفر ، فقال رجل من القوم : عليَّ ذبحها ، وقال الآخر : عليَّ سلخها ، وقال آخر : عليَّ قطعها ، وقال آخر : عليَّ طبخها ، فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليَّ أن ألقط لكم الحطب » فقالوا : يا رسول اللّه ، لا تتعبنَّ ـ بآبائنا وأُمهاتنا ـ أنت ، نحن نكفيك؟!.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عرفتُ أنّكم تكفوني ، ولكن اللّه عزَّ وجلَّ يكره من عبده إذا كان مع أصحابه أن ينفرد من بينهم » فقام يلقط الحطب لهم (١).

وكما كرّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الموقف السابق أن ينفرد الإنسان عن سربه الاجتماعي ، ويكتفي بموقف المتفرج لا يقوم بشيء من المشاركة معهم ، كذلك كرّه أن يصبح الإنسان كلاًّ على جماعته ، يعتمد على غيره في عيشه وشؤونه ، بدون مبرر معقول : ذُكر عند النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل .. قالوا : يا رسول اللّه ، خرج معنا حاجّا ، فإذا نزلنا لم يزل يهلّل اللّه حتّى نرتحل ، فإذا ارتحلنا لم يزل يذكر اللّه حتى ننزل.

فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فمن كان يكفيه علف دابته ، ويصنع طعامه؟ قالوا : كلّنا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّكم خير منه » (٢).

وأسهمت مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام في ترسيخ مبدأ التعاون والتكافل في أذهان الناس وسلوكهم ، فعلى سبيل الاستشهاد ، كان علي بن الحسين عليه‌السلام إذا جنّه الليل ، وهدأت العيون ، قام إلى منزله ، فجمع ما تبقّى من قوت أهله ، وجعله في جراب ، ورمى به على عاتقه ، وخرج إلى دور الفقراء ، وهو متلثم ، حتى يفرقه عليهم ، وكثيرا ما كانوا قياما على أبوابهم

__________________

(١) مكارم الاخلاق ، للشيخ الطبرسي : ٢٥١ ـ ٢٥٢ ، مؤسسة الأعلمي ط٦.

(٢) بحار الانوار ٧٦ : ٢٧٤ عن كتاب المحاسن.

٥٦

ينتظرونه ، فإذا رأوه تباشروا به ، وقالوا جاء صاحب الجراب (١).

وكان الإمام الكاظم عليه‌السلام يتفقد فقراء المدينة في الليل ، فيحمل إليهم الزَّبيل فيه العين والورق والأدقّة والتمور ، فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو .. وكان إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرّة دنانير ، وكانت صراره مثلاً (٢).

وقد حثَّ الأئمة عليهم‌السلام شيعتهم خاصة على تحقيق درجة أعلى من المشاركة والتعاون فيما بينهم ، قد تصل إلى حدود المثالية ، فعن سعيد بن الحسن ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : أيجييء أحدكم الى أخيه فيدخل يده في كيسه ، فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلتُ : ما أعرف ذلك فينا ، فقال عليه‌السلام : فلا شيء إذا ، قلتُ : فالهلاك إذا ، فقال عليه‌السلام : إنّ القوم لم يُعطوا أحلامهم بعد (٣).

وكان الإمام الصادق عليه‌السلام قدوةً في مدِّ يد العون إلى الآخرين ، فعن الفضل بن قرّة ، قال كان أبو عبداللّه عليه‌السلام يبسط رداءه وفيه صرر الدنانير ، فيقول للرّسول : « إذهب بها إلى فلان وفلان من أهل بيته ، وقل لهم : هذه بعث إليكم بها من العراق ، قال : فيذهب بها الرّسول إليهم فيقول ما قال ، فيقولون : أما أنت فجزاك اللّه خيرا بصلتك قرابة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأما جعفر فحكم اللّه بيننا وبينه ، قال : فيخرُّ أبو عبداللّه ساجدا ويقول : اللّهم أذلَّ رقبتي لولد أبي » (٤).

__________________

(١) في رحاب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، للسيد محسن الأمين ٢ : ٢٠٢ دار التعارف.

(٢) المصدر السابق ٤ : ٨٤ ـ دار صعب.

(٣) اُصول الكافي ٢ : ١٧٣ ـ ١٧٤ / ١٣ باب حق المؤمن على أخيه وأداء حقه.

(٤) تنبيه الخواطر ، للأمير ورّام ٢ : ٢٦٦ ـ دار صعب.

٥٧

وقد حدد الإمام الصادق عليه‌السلام بدقة الملامح العبادية والاجتماعية للشيعة ، عندما خاطب أحد أصحابه بقوله : « يا جابر ، أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحّبنا أهل البيت ، فو اللّه ما شيعتنا إلاّ من اتّقى اللّه وأطاعه ، ما كانوا يُعرفون يا جابر إلاّ بالتواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر اللّه ، والصوم والصلاة ، والبر بالوالدين ، والتعهد للخيرات من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام ، وصدق الحديث ، وتلاوة القرآن ، وكف الألسن عن الناس إلاّ من خير ... » (١).

وعن محمد بن عجلان ، قال : كنتُ عند أبي عبداللّه عليه‌السلام ، فدخل رجل فسلّم ، فسأله عليه‌السلام : « كيف من خلّفت من إخوانك؟ قال : فأحسن الثّناء وزكّى وأطرى ، فقال له : كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم؟ فقال : قليلة ، قال عليه‌السلام : وكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال : قليلة ، قال : فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ فقال : إنّك لتذكر أخلاقا قلَّ ما هي فيمن عندنا ، قال : فقال عليه‌السلام : فكيف تزعم هؤلاء أنّهم شيعة؟! » (٢).

وهكذا نجد أنّ مسألة التعاون والتضامن ، تتصدر سلَّم الأولوية في اهتمامات الأئمة عليهم‌السلام الاجتماعية ، لكونها الضمان الوحيد والطريق الأمثل لإقامة بناء اجتماعي متماسك تغيب فيه عوامل الصراع والتناحر ، وتسود فيه عوامل الودّ والألفة.

والذي يثير الدهشة ويبعث على الاعجاب أنّ المجتمع العربي الجاهلي الذي كان ممزقا ، ولا تقيم له الاُمم وزنا ، غدا بفضل الرسالة الإسلامية موحّدا ، مهاب الجانب ، ذا عزّة ومنعة ، يقول الإمام علي عليه‌السلام :

__________________

(١) مجموعة ورّام ٢ : ١٨٥ دار صعب.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ١٧٣ / ١٠ كتاب الايمان والكفر.

٥٨

« .. والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام ، عزيزون بالاجتماع .. » (١).

رابعا : تغيير العادات والتقاليد الجاهلية

كان للعقيدة الأثر البالغ في تغيير الكثير من العادات والتقاليد ، التي تُمتهن فيها كرامة الإنسان ، وينتج عنها العنت والمشقة ، وقد قام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآل بيته الأطهار بدور حضاري هام ، في هذا المقام ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تقوموا كما يقوم الأعاجم بعضهم لبعض ، ولا بأس بأن يتخلل عن مكانه » (٢).

وسعى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإشاعة وترسيخ عادات تربوية جديدة ، روي عن أبي عبداللّه عليه‌السلام ، قال : « كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل .. » وروي أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إذا أتى أحدكم مجلسا فليجلس حيثُ انتهى مجلسه » (٣).

فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعمل على تغيير العادات في مختلف مجالات الحياة ، في القيام والجلوس ، وفي المطعم والمشرب والملبس وغير ذلك.

ولقد سار الإمام علي عليه‌السلام وفق السُنّة النبوية ، فجاهد لتغيير ما بقي من عادات جاهلية ، لا تنسجم مع سماحة دين الإسلام ، ودعوته إلى نبذ التكلّف والمظاهر الفارغة التي تشق على الناس ، وتضع الحواجز المصطنعة التي تحول دون التواصل فيما بينهم ، بين العالم والجاهل ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٢٠٣ / خطبة ١٤٦.

(٢) مكارم الاخلاق ، للطبرسي : ٢٦.

(٣) المصدر السابق.

٥٩

وبين الغني والفقير ، وبين الحاكم والمحكوم ، ويكفينا الاستشهاد على ذلك ، أنّ الإمام علي عليه‌السلام ، لما لقيه الدهّاقون ـ في الأنبار عند مسيره إلى الشام ـ فترجلوا له ، واشتدّوا بين يديه ، قال عليه‌السلام : « ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا : خلق منّا نعظّم به أمراءنا ، فقال عليه‌السلام : واللّه ما ينتفع بهذا أُمراؤكم! وإنّكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم ، وتشقون به في آخرتكم ، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب ، وأربح الدّعة معها الأمان من النار » (١).

وله عليه‌السلام توصيات قيّمة تسهم في بناء الإنسان ، وتغرس في سلوكه العادات الحسنة ، منها قوله عليه‌السلام : « أيُّها الناس ، تولّوا من أنفسكم تأديبها ، واعدلُوا بها عن ضراوة عاداتها » (٢).

كل ذلك من أجل إجراء التغيير الاجتماعي المنشود ، ولا يخفى بأنّ البناء الاجتماعي بدون إجراء التغيير الداخلي في نفوس وعادات الأفراد ، يصبح عبثيا كالبناء بدون قاعدة قال تعالى : « إنَّ اللّه لا يُغيِّرُ ما بِقومٍ حتى يُغيِّرُوا ما بأنفُسِهِم » (٣).

يقول العلاّمة السيد الشهيد محمدباقر الصدر قدس‌سره : « إنّ الدافع الذاتي هو مثار المشكلة الاجتماعية ، وأنَّ هذا الدافع أصيل في الإنسان ، لأنّه ينبع من حبه لذاته ، وهنا يجيء دور الدين ، بوضع الحل الوحيد للمشكلة ، فالحل يتوقف على التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية العامة » (٤).

__________________

(١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٤٧٥ / حكم ٣٧.

(٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٥٣٨ / حكم ٣٥٩.

(٣) الرعد ١٣ : ١١.

(٤) اقتصادنا ، للسيد الشهيد محمد باقر الصدر : ٣٢٤ ط١١ ـ دار التعارف للمطبوعات.

٦٠