دور العقيدة في بناء الإنسان

عباس ذهبيات

دور العقيدة في بناء الإنسان

المؤلف:

عباس ذهبيات


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-58-7
الصفحات: ١٠٠

ربّهم عما سلف من ذنوبهم ، وأن يتوبوا إليه بتصحيح مسيرتهم وتنظيم علاقاتهم مع اللّه تعالى ، وحينئذ سوف تنتظم علاقتهم مع الطبيعة فتجود بالمطر والخير ، قال لهم : ( يا قومِ استغفرُوا ربَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إليهِ يُرسِلِ السَّماءَ عليكُم مِدرارا ويَزِدكُم قُوَّةً إلى قوَّتِكُم ولا تَتولَّوا مُجرِمين ) (١).

وعليه فالعبادة الحقة ، يجب أن تكون للّه وحده ، والخوف يجب أن يكون من الذنوب ، التي تُثير سخط اللّه وتجلب انتقامه ، فيستخدم الطبيعة أداة للعقوبة ، كما أغرق اللّه فرعون باليّم ، وأرسل الريح العقيم التي أهلكت قوم عاد ، وهكذا نجد أنّ أكثر العقوبات التي حلّت بالكافرين قد نُفّذت بواسطة قوى الطبيعة ، مما يكشف لنا العلاقة الترابطية بين الإنسان والطبيعة ، وفي هذا الصدد يقول الإمام الباقر عليه‌السلام : « وجدنا في كتاب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. إذا منعوا الزّكاة منعت الأرض بركتها من الزّرع والثمار والمعادن كلّها » (٢). ويقول ولده الإمام الصادق عليه‌السلام : « إذا فشا الزِّنا ظهرت الزلازل ، وإذا أمسكت الزكاة هلكت الماشية ، وإذا جار الحكام في القضاء أمسك القطر من السماء .. » (٣).

وجملة القول أنّ الخوف الإنساني يجب أن يتركز على الذنوب والخطايا التي تسبب تدمير المجتمعات ورفع البركات ، أما الخوف من الطبيعة والاعتقاد بأنّ بعض ظواهرها شرور لا تجتمع مع النظام السائد على العالم أولاً وحكمته وعدله ثانيا ، فإنّما هو ناشيء من نظراتهم الضيّقة

__________________

(١) هود ١١ : ٥٢.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ٣٧٤ / ٢ كتاب الايمان والكفر ـ دار صعب ط٤.

(٣) الخصال ، للشيخ الصدوق ١ ـ ٢ : ٢٤٢ / باب الاربعة ـ منشورات جماعة المدرسين عام ١٤٠٣ ه.

٢١

المحدودة إلى هذه الامور ، ولو نظروا الى هذه الحوادث في إطار النظام الكوني العام لأذعنوا بانها خيرٌ برمتها ، فللوهلة الاولى تتجلى تلك الحوادث شرا وبلية ، ولكن المتعمّق بها يرى أنّها مدعاة إلى الخير والصلاح ، وأنها تكتسي لباس الحكمة والعدل والنظم ، وتفصيل فلسفة البلايا والشرور في العالم موكول إلى علم الكلام ، ولكن فيما يتعلق ببحثنا نعود ونؤكد بان العقيدة الإسلامية أعادت صياغة عقل الإنسان تجاه الطبيعة المحيطة به ، بشكل يجعله أكثر حريةً وتفاعلاً وتسالما معها.

رابعا : تحرير الإنسان من الأساطير ومن الخرافة في الاعتقاد أو السلوك ، من أجل رفع الحواجز الوهميّة التي تحول دون استخدام طاقة العقل على نحو سليم ، وكان الإنسان الجاهلي على سبيل المثال يتفاءل ويتشائم بحركات الطير ، فينطلق نحو العمل إذا اتجه الطير يمينا ، ويتراجع عن العمل إذا اتجه الطير شمالاً ، وكانت طبقة الكهّان والمنجمين تحتل موقع الصدارة في السلّم الاجتماعي وتخدع الناس بادعائها علم الغيب ، وكان التطيّر يقيد الناس بحبال الوّهم عن السعي والسفر ، وكذا كان الاستقسام بالازلام ، إذ يأخذ من قصد عملاً ـ ثلاثة سهام ـ ، يكتب على أحدها : « إفعل » وعلى الآخر : « لا تفعل » ويترك الثالث هملاً ، ويمد يده ليأخذ أحدها ، فإن خرج الأول أقبل على عمله ، وإن أصاب الثاني توقّف ، وإن خرج الثالث أعاد الكرّة! وكان السحر متفشيا بين الناس ينذر بشرّ مستطير ، فعملت العقيدة على محاربة هذه المظاهر ، وكانت سببا لتفتح العقول والسمو بالنفوس ، وإخراج الناس من ظلمات الوهم والخرافة إلى نور العلم والحقيقة ..

قال الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليس منّا من تطيّر ولا من تُطيّر له ، أو تكهّن

٢٢

أو تكُهّن له ، أو سحر أو سُحر له (١) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا : من ردّته الطِيَرة عن حاجته فقد أشرك » (٢).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « الطِيَرة على ما تجعلها ، إن هوّنتها تهونت ، وإن شددتها تشدّدت ، وإن لم تجعلها شيئا لم يكن شيئا » (٣).

من جانب آخر حرَّرت العقيدة عقل المسلم من استنتاجات المنجّم ، فاعتبرت المنجّم كالكاهن ، كلاهما يسعيان إلى تقييد حركة الإنسان في الحياة والتلبيس على عقله ..

عن عبدالملك بن أعين ، قال : قلتُ لأبي عبداللّه عليه‌السلام : إنّي قد ابتليت بهذا العلم ـ ويقصد التنجيم ـ فإذا نظرت إلى الطالع ورأيت طالع الشرّ جلست ولم أذهب ، وإذا رأيت طالع الخير ذهبت في الحاجة؟ فقال لي : « تقضي؟ قلتُ : نعم. قال عليه‌السلام : أحرق كتبك » (٤).

ولا بدَّ من التنويه إلى أنّ مدرسة آل البيت عليهم‌السلام الإلهية لا تعيب على النجوم كعلم طبيعي يتطلّع الإنسان من خلاله على معالم السماء التي تظلّه ليصل من خلال ذلك إلى عظمة الخالق ، ولكن تعيب على البعض ادعاءه التوصل من خلالها إلى علم الغيب.

ومن الشواهد ذات الدلالة لسعي آل البيت عليهم‌السلام على تحرير الإنسان المسلم من عادة التنجيم المستحكمة التي أمتدّت إلى عصور متأخرة ،

__________________

(١) كنز العمال ١٠ : ١١٣.

(٢) كنز العمال ١٠ : ١١٣.

(٣) وسائل الشيعة ٨ : ٢٦٢.

(٤) وسائل الشيعة ٨ : ٢٦٨.

٢٣

ما قاله أمير المؤمنين عليه‌السلام لبعض أصحابه لمّا عزم على المسير إلى الخوارج ، وقد قيل له : إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا الوقت ، خشيت ألا تظفر بمرادك ، من طريق علم النجوم.

فقال عليه‌السلام : « أتزعم أنَّك تهدي إلى السَّاعة التي من سار فيها صُرف عنه السوء؟ وتخوِّف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضرُّ؟ فمن صدَّقك بهذا فقد كذّب القرآن ، واستغنى عن الاستعانة باللّه في نيل المحبوب ودفع المكروه .. ثم أقبل عليه‌السلام على الناس فقال : أيُّها الناس ، إيّاكم وتعلّم النُّجوم إلاّ ما يُهتدى به في برٍّ أو بحر ـ إلى أن قال لهم ـ سيروا على اسم اللّه » (١).

__________________

(١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ١٠٥.

٢٤

المبحث الثاني : بناء فكر الإنسان.

للعقل مكانة كبيرة في الدين الإسلامي ، فهو أصل في التوصّل إلى الاعتقاد الصحيح ، وهو دليل من أدلة الاجتهاد ، قال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : .. « ولكلِّ شيء دعامة ، ودعامة الدين العقل » (١).

ومن جانب آخر يشكّل العقل دعامة الإنسان المؤمن ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من كان له عقل كان له دين ، ومن كان له دين دخل الجنة » (٢).

وقد بلغت النصوص التي تتناول التنبيه إلى دور العقل المئات ، ومن خلال نظرة عامّة إلى هذه النصوص نكتشف أن مشروع الإسلام في إعطاء العقل دوره الحقيقي قد جاء على مرحلتين ؛ فهو يبتدئ بتحرير العقل ، ثم ينتقل إلى توجيه طاقاته.

تحرير العقل :

هذه الخطوة الاُولى من خطوات المشروع الإسلامي المذكور نكتشفها في النصوص التي توجهت إلى نبذ القيود التي تقيّد العقل وتمدُّ من نشاطه الحقيقي ، وتقوده إلى أخطاء خطيرة بسبب ذلك .. وهذا ما نجده في نموذجين بارزين :

الأول : نبذ التقليد الأعمى : وأمثلته في القرآن الكريم كثيرة جدا ، نقرؤها في سور متعددة ومشاهد متعدّدة :

__________________

(١) المحجة البيضاء ، المحقق الكاشاني ١ : ١٧٢ كتاب العلم مؤسسة الاعلمي ط٢.

(٢) اُصول الكافي ١ : ١١ كتاب العقل والجهل.

٢٥

فبينما كان يؤكد افتقارهم إلى أدنى حجّة ذات قيمة في ما يعتقدون من عبادة الأوثان والعقائد الزائفة ، ركّز على أنَّ كلّ ما يمتلكونه من حجّة هو أنّهم وجدوا آباءهم على ذلك ، فتمسّكوا به .. « بَل قالُوا إنّا وجَدَنا آباءَنا على أُمّةٍ وإنَّا على آثارِهِم مُهتَدُون » (١).

ثم يؤكد أنّ هذا هو ديدن هذا الصنف من الناس الذي أغلق على ذهنه المنافذ .. ( وكذَلِكَ ما أرسلنَا مِنْ قَبلِكَ في قَرَيةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلاّ قالَ مُترفُوها إنّا وجدَنا آباءَنا على أُمّةٍ وإنّا على آثارِهِم مُقتَدُون ) (٢). وهكذا يسوق مقولتهم هذه مرتين في آيتين متتابعتين ليجسّد ما تنطوي عليه هذه المقولة من تهافت ، وما يغيب فيه هؤلاء من جهل متجذّر موروث لا يصغي لدعوة حق ولا لبرهان ساطع بل ليس لديهم أكثر من ترديد مقولتهم تلك ( أجِئتَنا لتَلفِتنا عمّا وجَدنا عليهِ آباءَنَا ) (٣)؟! حتى لو جاءهم متحديا لما وجدوا عليه آباءهم مبيّنا فساده .. ( قال أوَلو جِئتُكُم بأهدى ممَّا وجدتُم عليهِ آباءَكُم )؟ حتى مع مثل هذه الاستثارة لا يبحثون عن برهان ، ولا يفتحون نافذة للنظرة ، بل وقفوا دائما بتحجرّهم الأوّل ، و ( قالُوا إنّا بِما أُرسِلتُم بهِ كافِرُونَ ) (٤) ، و ( قَالُوا حَسبُنَا ما وَجَدنَا عَليه آباءَنا ) (٥)!! ويكرّر القرآن النكير على هؤلاء في مواضع آخر ، لأنّه إنما يواجه في مشروعه المعرفي نظريات استحكمت وترسخت لدى أُمم متتابعة ، لا يستبعد أن يكون لها

__________________

(١) الزخرف ٤٣ : ٢٢.

(٢) الزخرف ٤٣ : ٢٣.

(٣) يونس ١٠ : ٧٨.

(٤) الزخرف ٤٣ : ٢٤.

(٥) المائدة ٥ : ١٠٤.

٢٦

امتداد في مستقبل الأُمم أيضا .. فلقد تجاوزت هذه النظرية حدود المعارف والمعتقدات إلى السلوك والمعاملات .. ( وإذا فَعلُوا فَاحِشةً قالُوا وجَدنا عَليها آباءَنا ) (١). و ( قالُوا بَل وَجَدنَا آباءَنا كذلِك يَفعَلُونَ ) (٢)!!

بعد هذا يبيّن القرآن الكريم الجزاء الذي ينتظر قوما مضوا على هذا النهج ، مثيرا الاذهان إلى ضرورة الحذر من نهجٍ كهذا .. ( فانتَقمنا مِنهُم فانظُر كيفَ كانَ عاقبةُ المُكذِّبينَ ) (٣).

توجيه طاقة العقل

بعد أن حرّرت العقيدة الإسلامية العقل من القيود التي تأسره ، أطلقته إلى أمام وهي توجه طاقاته من خلال الالفات والتدبر في الكون والحياة ، من أجل بناء متكامل دينا ودنيا .. ويمكننا أن نشير إلى مجموعات من آيات الذكر الحكيم توجه العقل إلى آفاق رحيبة متعددة ، منها :

أولاً : التدبر في آيات اللّه تعالى في الآفاق وفي الأنفس :

قال تعالى : ( إنَّ في خَلق السَّمواتِ والأرضِ واختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لأياتٍ لأُولي الألبابِ * الَّذينَ يَذكُرُونَ اللّه قِياما وقُعودا وعلى جُنُوبِهِم ويتفكَّرُونَ في خَلقِ السمواتِ والأرض ربَّنا ما خلقتَ هَذا باطلاً سُبحانَكَ فَقِنَا عذابَ النَّارِ ) (٤).

__________________

(١) الاعراف ٧ : ٢٨.

(٢) الشعراء ٢٦ : ٧٤.

(٣) الزخرف ٤٣ : ٢٥.

(٤) آل عمران ٣ : ١٩٠ ـ ١٩١.

٢٧

( وفي الأرض آيتٌ للمُوقِنينَ * وفي أنفُسِكُم أفلا تُبصِرُونَ ) (١).

( قُلِ انظرُوا ماذا في السَّمواتِ والأرضِ .. ) (٢).

( فلينظُر الإنسانُ ممَّ خُلِقَ ) (٣).

( فلينظُر الإنسانُ إلى طَعَامِهِ ) (٤).

( أفلا يَنظُرُونَ إلى الإبل كيفَ خُلِقَت * وإلى السمآءِ كيفَ رُفِعَت * وإلى الجبال كيفَ نُصِبَت * وإلى الأرض كيفَ سُطِحَت * فذَكِّر إنَّمآ أنتَ مُذَكِّرٌ ) (٥).

ومما يلفت النظر عناية القرآن بذكر مشاهد الكون عناية كبيرة من خلال تكرار عرضها في أكثر من سورة ، عرضا متنوعا ، ودعوته الإنسان بإلحاح إلى النظر والتأمل فيها ، والتفكر في مجرى حوادثها ، والأهم من ذلك كلّه جعل هذا الكون منطلقا للوصول إلى اللّه تعالى خالقه ومبدعه.

وقد ورد عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يقرأ : ( إنَّ في خلق السَّمواتِ والأرضِ واختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لأياتٍ لأُولي الألبابِ * الَّذينَ يَذكُرُونَ اللّه قِيامَا وقُعودا وعلى جُنُوبِهِم ويتفكَّرُونَ في خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ ربَّنا ما خلقتَ هذا بَاطِلاً سُبحانَكَ فَقِنَا عذابَ النَّارِ ) (٦) ، ويقول : « ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها » وفي رواية أُخرى : « ويلٌ لمن لاكها بين فكيه

__________________

(١) الذاريات ٥١ : ٢١ ـ ٢٢.

(٢) يونس ١٠ : ١٠١.

(٣) الطارق ٨٦ : ٥ ـ ٦.

(٤) عبس ٨٠ : ٢٤.

(٥) الغاشية ٨٨ : ١٧ ـ ٢١.

(٦) آل عمران ٣ : ١٩٠ ـ ١٩١.

٢٨

ولم يتأملها »

وعن الإمام علي عليه‌السلام : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : ( إنَّ في خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ واختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لأياتٍ لأُولي الألبابَ * الَّذينَ يَذكُرون اللّه قياما وقُعودا وعلى جُنُوبِهِم ويتفكَّرُونَ في خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ ربَّنا ما خَلقتَ هذا باطِلاً سُبحانَكَ فَقِنَا عذابَ النَّارِ ) (١).

وقد سلك الأئمة الأطهار عليهم‌السلام طريق الاستدلال على وجود اللّه تعالى من خلال التأمل العقلي في الكون وما فيه من نظم دقيق وتناسق بديع ، وهو الدليل الذي أطلق عليه المتكلمون « دليل النَّظم ».

قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « ولو فكَّروا في عظيم القُدرة ، وجسيم النعمة ، لرجعوا إلى الطريق ، وخافوا عذاب الحريق ، ولكن القلوب عليلة ، والبصائر مدخولة ، ألا ينظرون إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السّمع والبصر ، وسوّى له العظم والبشر!

انظروا إلى النملة في صغر جثتها ، ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبّت على أرضها وضنّت على رزقها ... ولو فكّرت في مجاري أكلها ، وفي علوها وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها وأُذنها ، لقضيت من خلقها عجبا ، ولقيت من وصفها تعبا ...

فانظر إلى الشمس والقمر ، ... وتفجّر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ،

__________________

(١) راجع الكشاف ، للزمخشري ١ : ٤٥٣.

٢٩

وطول هذه القلال ، وتفرّق هذه اللغات والألسن المختلفات ..

فالويل لمن أنكر المقدِّر ، وجحد المدبّر ، زعموا أنّهم كالنّبات ما لهم زارعٌ ، ولا لاختلاف صُورهم صانع ، ولم يلجؤوا إلى حُجّةٍ فيما ادّعوا ، ولا تحقيق لما أوعوا ..

وهل يكونُ بناءٌ من غير بانٍ ، أو جنايةٌ من غير جانٍ! » (١).

ومن ناحية أُخرى يثير القرآن الكريم في الاذهان دواعي التفكر الجاد والمثمر في ما يعرضه من معارف ، فمرّة بصيغة الاستفهام الاستنكاري ، كقوله تعالى : ( أفحَسبتُم أنّما خلقنَاكُم عَبَثا ) (٢).

ومرّة بصيغة النفي للتصورات الساذجة ، كقوله تعالى : ( وما خَلقَنا السَّمواتِ والأرضَ وما بَينهُما لاعِبِين * ما خَلقَناهُمآ إلاّ بِالحَقِّ وَلكِنَّ أكثَرهُم لا يَعلَمُونَ ) (٣).

والمعروف أنّ مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام تجعل التفكّر في ملكوت السماوات والأرض عبادة ، بل أفضل عبادة ، يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « أفضل العبادة إدمان التفكّر في اللّه وفي قدرته » (٤).

وكان أتباع هذه المدرسة العالية وتلامذتها يكثرون من هذه العبادة الفكرية التي تُسهم بصورة فعّالة في بناء الإنسان وإيصاله إلى مراتب عرّفانية عالية. فعلى سبيل المثال ، كانت أكثر عبادة أبي ذرّ رحمه‌الله التفكر

__________________

(١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٢) المؤمنون ٢٣ : ١١٥.

(٣) الدخان ٤٤ : ٣٨ ـ ٣٩.

(٤) اُصول الكافي ٢ : ٥٥ / ٣ كتاب الإيمان والكفر.

٣٠

والاعتبار وقد سئلتُ أمّ أبي ذرّ عن عبادة أبي ذرّ فقالت : « كان نهاره أجمع يتفكر في ناحية من الناس » (١).

وينبغي معرفة أنّ النظرة العامة الى الوجود التي يرشد إليها الثقلان ـ القرآن والعترة ـ هي الأصل الذي تنبثق منه جميع نظرات الإنسان الفكرية واتّجاهاته السلوكية ، وهي الأساس في اختلاف الحضارات والثقافات.

ثانيا : النظر في سنن التاريخ : حيثُ دعتنا العقيدة إلى تأمل أحداث التاريخ بنظر ثاقب ، وفكر فاحص ، وصولاً إلى العوامل التي كانت سببا في تدهور المجتمعات ، وسقوط الحضارات ، أو نموّها ، قال تعالى : ( قد خلت من قبلكم سُنن فسيروا في الأرضِ فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) (٢).

وقال تعالى : ( ألمَ يروا كم أهلَكنَا مِن قَبلِهِم مِن قَرنٍ مَّكّنهُم في الأرضِ ما لم نُمكّن لَكُم وأرسلنا السَّمآء عَليهِم مِدرَارا وجعلنا الأنهر تجري من تَحتِهم فأهلكنهُم بذُنوبِهم وأنشأنا مِن بعدِهم قَرنا ءآخرينَ ) (٣).

وقال تعالى : ( ولَقد أهلَكنَا القُرونَ مِن قَبلِكُم لما ظَلمُوا وجاءَتهُم رُسُلُهم بالبيناتِ وما كانُوا ليؤمنُوا كذلِكَ نجزي القومَ المجرمينَ ) (٤).

إنّها دعوة تلح على الناس أن يحركوا عجلة عقولهم ، وينظروا في تاريخ من قبلهم ، حتى لا يكونوا كالقطيع التائه يسير بلا راع نحو المجهول ، وهي

__________________

(١) تنبيه الخواطر ، الامير ورّام بن أبي فراس ١ : ٢٥٠ باب التفكر ـ دار صعب.

(٢) آل عمران ٣ : ١٣٧.

(٣) الانعام ٦ : ٦.

(٤) يونس ١٠ : ١٣.

٣١

دعوة ذات منهج مرسوم من أجل الاستفادة من تجارب الحضارات السابقة ودراسة أسباب سقوطها ، لا سيّما وأنّ التاريخ يعيد نفسه قال تعالى : ( سُنَّةَ اللّه في الذِينَ خلوا من قَبلُ ولن تَجِدَ لسُنَّةِ اللّه تبديلاً ) (١). ولا بدَّ من التنويه على « أنّ دور الدين ومسؤوليته في حياة الإنسان هو إيجاد جوّ من الملائمة والانسجام بين سلوك وتفكير الإنسان وبين سنن اللّه تعالى في الحياة ، وتحويل مجرى حياة الإنسان إلى تيار هذه السنن الإلهية التي جعلها اللّه نظاما لخلقه وتكوينه في هذا الكون » (٢).

فالدين يوجّه فكر الإنسان إلى النظرة العميقة والهادفة ، وبطبيعة الحال هناك فرق كبير بين النَّظرة السطحية الساذجة للحياة والتاريخ ، وبين النظرة العميقة والمتفحصة التي لا تقتصر على ملاحظة الشيء أو الحدث ، وإنّما تنفذ إلى أعماقه ، وترصد لوازمه ودلالاته بغية استنباط السُنّة التاريخية التي تنطبق عليه ، فعلى سبيل المثال يمر السائح على أهرامات مصر ، فينبهر لروعة بنائها ، وشدة ارتفاعها ، ويتمتع بمنظرها وينتهي كل شيء. أما المفكّر الواعي المتسلح بالعقيدة ، فعندما يمر عليها ، ترتسم في ذهنه عدَّة تساؤلات : عن قدرات الإنسان ، وعن الظلم الذي كان سائدا آنذاك من خلال تسخير الفراعنة لأعداد كبيرة من الناس للعمل في بناء هذه الاهرامات ، وما لاقوه من العناء والتعب وصنوف التعذيب ، كما يستنتج ما تنطوي عليه فكرة الفراعنة الخاطئة عن الموت والبعث ، بل يتزود المؤمن الوعي بعد تلك المعارف بالعبرة النافعة وهو يشاهد خرائبها فيتسائل في نفسه ، أين ساكنيها وما مصيرهم؟!

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٦٢.

(٢) دور الدين في حياة الإنسان ، للشيخ الآصفي : ١٢١ ـ ١٢٢ ـ دار التعارف ط٢.

٣٢

من أجل ذلك يرشد آل البيت عليهم‌السلام إلى أهمية الملاحظة الواعية والنَّظرة العميقة التي لا تقتصر على ظواهر الأمور ، بل تنفذ إلى الأعماق ، وما تنطوي عليه من أبعاد ، ودلالات تضمنية أو التزامية. فعن الحسن الصيقل ، قال : قلتُ لابي عبداللّه عليه‌السلام : تفكّر ساعة خير من قيام ليلة؟ قال عليه‌السلام : « نعم ، قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تفكّر ساعة خير من قيام ليلة » (١).

ولمّا مرَّ أمير المؤمنين عليه‌السلام بخرائب المدائن ، أعطى لأصحابه درسا حول العبرة من التأريخ ، قال عليه‌السلام : « إنّ هؤلاء القوم كانوا وارثين ، فأصبحوا مورثين ، وإنّ هؤلاء القوم استحلّوا الحُرم فحلّت فيهم النّقم ، فلا تستحلوا الحُرم فتحلَّ بكم النقم » (٢).

وقال عليه‌السلام : « فاعتبروا بما أصاب الاُمم المستكبرين من قبلكُم من بأس اللّه وصولاته ، ووقائعه ومثلاته .. » (٣).

وذهب الإمام علي عليه‌السلام إلى أبعد من ذلك ، عندما أشار إلى أن السُنّة التأريخية تنطبق على الجميع ، في كلِّ مكان وزمان ، ولا تقتصر على تدمير الكافرين والمستكبرين ، بل تطال المؤمنين أيضا ، إذا لم يلتزموا ـ عمليا ـ بالمنهج الإلهي في الحياة ، وإذا حادوا عن جادّة الصواب وذلك حين تختلف الكلمة وتسود الفرقة ، وفي هذا الصدد يقول عليه‌السلام : « وتدبَّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم ، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء .. فانظروا كيف كانوا حيثُ كانت الأملاء مجتمعةً والأهواءُ مؤتلفة ..

__________________

(١) بحار الانوار ٧١ : ٣٢٥ ، عن المحاسن : ٢٦.

(٢) كنز العمال ١٦ : ٢٠٥.

(٣) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٢٩٠.

٣٣

فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أُمورهم حين وقعت الفرقة ، وتشتَّتت الاُلفة ، واختلفت الكلمة والأفئدة ، وتشعّبوا مختلفين ، وتفرّقوا متحاربين ، قد خلع اللّه عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته ، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين » (١).

وكان من جملة وصيته الذهبية لابنه الحسن عليه‌السلام يحثه على التفكر في أحوال الاُمم الماضية ، وهو ما يسمى اليوم بـ « فلسفة التأريخ » : « أيْ بُنيَّ إنّي وإن لم أكُن عُمِّرتُ عمر من كان قبلي ، فقد نظرتُ في أعمالهم ، وفكرت في أخبارهم ، وسرتُ في آثارهم ، حتى عُدتُ كأحدهم ، بل كأني بما انتهى إليَّ من أمورهم قد عُمِّرت مع أوّلهم إلى آخرهم .. » (٢).

ثالثا : النظر في حكمة التشريع : والغرض من ذلك ترسيخ قناعة المسلم بتشريعه وصوابيته وبيان صلاحيته للتطبيق في كلِّ زمان ومكان ، من أجل أن تنقشع عن فكر المسلم غيوم الشبهات التي يثيرها أعداء العقيدة من حوله. وإذا كانت بعض أحكام الدين الإسلامي توقيفية ، تدعو المسلم نحو التسليم بها ، ولا يجدي معها إعمال العقل ، كالأُمور العبادية ، إلاّ أن هناك تشريعات في الإسلام ذات أبعاد اجتماعية كشف القرآن لنا عن الحكمة الكامنة من وراء تشريعها لمصالح تعود إلى الفرد والمجتمع ، من قبيل قوله تعالى : ( ولكُم في القِصَاصِ حياةٌ يأُولي الألبابِ لعلَّكُم تتَّقون ) (٣).

__________________

(١) نهج البلاغة : ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

(٢) نهج البلاغة : ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

(٣) البقرة ٢ : ١٧٩.

٣٤

وقوله تعالى : ( ما يُريدُ اللّه لِيَجَعَلَ عليكُم مِن حَرَجٍ ولكِن يُرِيدُ لِيُطهّركُم ولِيُتمَّ نِعمَتَهُ عَليكُم ) (١).

كما كشفت لنا السُنّة عن جوانب كثيرة من حكمة التشريع ، وعلى سبيل المثال : كتب الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام إلى محمد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله : « حرّم اللّه قتل النفس لعلّة فساد الخلق في تحليله لو أحلَّ وفنائهم وفساد التدّبير .. وحرّم اللّه تعالى الزّنا لما فيه من الفساد من قتل الأنفس وذهاب الأنساب وترك التربية للأطفال وفساد المواريث وما أشبه ذلك من وجوه الفساد .. » (٢).

رابعا : توجيه العقل إلى النظر ، والتثبت في الرأي ، واستقلالية التفكير والقرار :

قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تكونوا إمّعة ، تقولون : إنْ أحسنَ الناس أحسنّا ، وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسنَ الناس أن تحسنوا ، وإن أساؤوا أن لا تظلموا » (٣).

قال تعالى : ( أفلا يَتَدبّرونَ القُرآنَ أم على قُلُوبٍ أقفالُها ) (٤).

نداء بليغ إلى النظر وإعمال الفكر ، من خلال الاستنكار على السطحيين والمغفّلين المعاندين ، أولاً ، ثم من خلال التقريع العنيف لهذه الأصناف من الناس ، ثانيا.

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٦٩.

(٣) ميزان الحكمة ٨ : ٢٥٤ ، عن الترغيب والترهيب ٣ : ٣٤١.

(٤) محمد ٤٧ : ٢٤.

٣٥

وقال تعالى : ( قُلْ هَاتُوا بُرهَانَكُم إن كُنتُم صادِقِينَ ) (١).

فلا قيمة لدعوى لا تستند إلى برهان صحيح ، وإذا كان الزمخشري قد رأى أنَّ هذا النصّ هو « أهدمُ شيء لمذهب المقلّدين » (٢). فإنَّ فيه ما يفيد أكثر من ذلك ، إذ قد ينصرف لفظ المقلّدين إلى من غلب عليهم التقليد ، لكنَّ هذا النصَّ حاكم على دائرة الفكر البشري بكامل أجزائها ونواحيها ، فقد يقع المفكرون ـ وكثيرا ما وقعوا ـ بأغلاط كبيرة نتيجة اعتمادهم بعض الكليات العامّة التي استقر في أذهانهم أنها بديهيات لا تحتاج إلى برهان ، بينما لم تكن هذه الكليات في حقيقة أمرها إلاّ تصوّرات صادرة عن أوهام أو قصور في العقل. وهذا كثير في أغلاط أهل الجدل ، بل قد يقع أحيانا حتى في العلوم التطبيقية ، حين يُنظر إلى بعض الاستنتاجات على أنّها قوانين علمية ثابتة ، في حين أنّها استنتاجات قائمة على ملاحظات ناقصة ، وهكذا نلمس مدى أكبر لدعوة القرآن الكريم إلى تقديم البرهان التام على كلِّ مقولة ودعوى وسواء كانت في العلوم العقلية ، أو في العلوم التطبيقية.

ولا شك أنّ مساحة النظر والتدبّر واسعة ، سعة المعارف والمواقف ، وسنشير هنا إلى أثرين مهمّين :

أحدهما عام عموم النص القرآني المذكور ، وإن استهدف في ظاهره العقل المقلّد والمتابع ، شأن طوائف الناس الذين يغلب عليهم التقليد في عقائدهم ومواقفهم.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١١١ ، النمل ٢٧ : ٦٤.

(٢) الكشاف ١ : ١٧٨.

٣٦

والأثر الثاني ، مما جاء في لون خاص من ألوان المتابعة والتقليد ، وهو التقليد الأعمى لأشخاص استقرَّ لهم في النفوس موقع كبير ، تلاشى إلى جنبه دور العقل وأثره في النظر والتفكير والنقد ، وكأن هؤلاء الاشخاص قد أصبحوا في أنفسهم ميزانا للحقّ ، فلا يصحّ أن توزن أقوالهم وأعمالهم أو تعرض للنقد والنظر ، هذا النوع من التقليد الذي كان ولا يزال مصدرا للكثير من الأخطار في العقائد والمواقف .. وقف إزاءه أمير المؤمنين عليه‌السلام موقف الكاشف عن سرِّ الخطأ فيه والمعلّم للطريق الصحيح في التماس المعارف ، ذلك حين جاءه بعض من ذهله وقوف طلحة والزبير وعائشة في صف واحد إزاء أمير المؤمنين عليه‌السلام فاستنكر أن يجتمع هؤلاء على خطأ ، وذكر ذلك لأمير المؤمنين عليه‌السلام فأجابه عليه‌السلام مبتدءا جوابه بالتنبيه إلى مصدر الوهم ، منتقلاً بعد ذلك إلى اعطائه المنهج السليم في المعرفة ، فقال له عليه‌السلام : « إنّك ملبُوس عليك ، إن دين اللّه لا يعرف بالرجال ، بل بآية الحق ، فاعرف الحق تعرف أهله » (١).

خامسا : توجيه الإنسان إلى كسب العلم والمعرفة :

من المسلّمات التي لا تحتمل جدلاً ، أنّ الدين الإسلامي يحث بقوة على كسب العلم والمعرفة ، ومن يتأمل سور القرآن الكريم يجد ذلك يتكرر كثيرا تصريحا أو تلميحا :

( .. قُل هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعلمُونَ إنَّما يَتَذَكَرُ أُولُوا الألبابِ ) (٢).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٦٢٥ / ١٢٩٢ مؤسسة البعثة. بحار الأنوار ٣٩ : ٢٣٩ / ٢٨.

(٢) الزمر ٣٩ : ٩.

٣٧

( .. يَرفَعِ اللّه الَّذينَ ءامنُوا مِنكُم والَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجاتٍ واللّه بِما تَعمَلُونَ خَبِيرٌ ) (١).

( وقُلْ ربِّ زِدني عِلما ) (٢).

( إنّما يَخشى اللّه مِن عِبادِهِ العُلمَاءُ ) (٣).

ولأهمية العلم فقد أخذ اللّه تعالى الميثاق على أهل الكتاب من أجل تبيينه ، وعدم احتكاره : ( وإذ أخَذَ اللّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لتُبيّنُنَّهُ للنَّاسِ ولا تكتُمونهُ .. ) (٤).

وبعد آيات القرآن تأتي أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآل بيته الأطهار عليهم‌السلام حيثُ تصبُّ في هذا الاتجاه ، وتقرُّ بأنّ العلم يشكِّل عماد الدين وفيه حياة الإسلام ، وتحثُّ على طلبه ، وتكشف عن فضيلته ، فمداد العلماء ـ في نظر الإسلام ـ أفضل من دماء الشهداء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ، وفي هذا الصدد : يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « طلبُ العلم أفضل عند اللّه من الصلاة والصيام والحجّ والجهاد في سبيل اللّه » (٥) ويكفي الاستشهاد بكلمة الإمام علي عليه‌السلام العميقة المغزى : قيمة كلِّ أمرءٍ ما يُحسنه (٦). في الدلالة على حثِّ أهل البيت عليهم‌السلام على كسب العلم

__________________

(١) المجادلة ٥٨ : ١١.

(٢) طه ٢٠ : ١١٤.

(٣) فاطر ٣٥ : ٢٨.

(٤) آل عمران ٣ : ١٨٧.

(٥) كنز العمال ١٠ : ١٣١ / ٢٨٦٥٥.

(٦) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٤٨٢ / حكم ٨١.

٣٨

والمعرفة.

إمعن النظر في هذه المقارنة البديعة التي يعقدها الإمام علي عليه‌السلام لكميل بن زياد النخعي حول تفضيل العلم على المال ، قال عليه‌السلام : « يا كُميل العلمُ خيرٌ من المال ، العلمُ يَحرُسك وأنت تحرسُ المال ، والمالُ تنقُصُهُ النفقة والعلم يزكو على الانفاق ، وصنيعُ المال يزول بزواله.

يا كميل بن زياد ، معرفةُ العلم دينٌ يُدانُ به ، به يكسبُ الإنسانُ الطاعة في حياته ، وجميل الأُحدوثة بعد وفاته ، والعلم حاكمٌ ، والمالُ محكوم عليه.

يا كميل ، هلك خُزَّانُ الاموال وهُمْ أحياء ، والعلماءُ باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة » (١).

ونتيجة لهذا الزاد المعرفي الغني ، انطلق الإنسان المسلم من أسر الجهل والتخلف إلى آفاق العلم الواسعة ، فأخذ يتأمل الظواهر الكونية ، ويكتشف أسرار الطبيعة ، من خلال المنهج التجريبي الذي وجهته عقيدته إليه ، وهو المنهج الذي قام عليه العلم الحديث.

يقول : (جِب) في كتابه : الاتجاهات الحديثة في الإسلام : « أعتقد أنّه من المتفق عليه أنّ الملاحظة التفصيلية الدقيقة التي قام بها الباحثون المسلمون ، قد ساعدت على تقدّم المعرفة العلمية مساعدة مادية ملموسة ، وأنّه عن طريق هذه الملاحظات وصل المنهج التجريبي إلى

__________________

(١) نهج البلاغة : ٤٩٦ / حكم ١٤٧.

٣٩

أوروبا في العصور الوسطى » (١).

وللإنسان أن يقف مبهورا أمام عظمة العقيدة الإسلامية ، التي أحدثت ذلك الانقلاب الحضاري في نفوس أبناء الصحراء حتى صاروا طليعة العالم كلّه في العلم والمعرفة وسائر جوانب الحضارة والمدنية.

العلم والإيمان :

وتجدر الاشارة إلى أنّ العقيدة تربط العلم بالايمان ، فالعلم بدون إيمان كغرس بلا ثمر ، العلم يدعو إلى الايمان ، والايمان بدوره يحث على العلم ، والفصل بينهما يؤدي إلى عواقب لا تحمد عقباها .. يقول الشهيد مرتضى المطهري : « قد أثبتت التجارب التأريخية ، أنّ فصل العلم عن الايمان قد أدى إلى أضرار لا يمكن تعويضها ، يجب معرفة الايمان على ضوء العلم ، والايمان يبتعد عن الخرافات في نور العلم ، وبفصل العلم عن الايمان يتحول الايمان الى الجمود والتعصب الأعمى والدوران بشدة حول نفسه ، وعدم الوصول إلى مكان ، والمكان الفارغ من العلم والمعرفة ينقلب فيه المؤمنون الجهلة إلى آلة بيد كبار المنافقين ، والذي رأينا ونرى نماذج منهم في خوارج صدر الإسلام ، والادوار التي تلت بصور مختلفة .. والعلم بلا إيمان سراج في منتصف الليل بيد لص لسرقة أفضل البضائع ، ولهذا فإنّ الإنسان العالم بلا إيمان اليوم ، لا يختلف عن الجاهل بلا إيمان في الأمس أقل الاختلاف ، من حيث طبيعة الأساليب والأفعال وماهيتها » (٢).

__________________

(١) راجع كتاب منهج التربية الاسلامية ، محمد قطب : ١١٩ ـ دار دمشق ط٢.

(٢) الانسان والايمان ، للشهيد المطهري ١ : ١٥ طبع وزارة الارشاد الاسلامي.

٤٠