خلافة الرسول صلّى الله عليه وآله بين الشورى والنصّ

الدكتور صائب عبد الحميد

خلافة الرسول صلّى الله عليه وآله بين الشورى والنصّ

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-50-1
الصفحات: ١٣٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

بالشام ، وعبد الله بن الزبير وهو بمكّة ، انطلق جماعة إلىٰ الصحابي أبي برزة الأسلمي رضي‌الله‌عنه فقالوا له : ياأبا برزة ، ألا ترىٰ ماوقع فيه الناس ؟! فقال : إنّي أحتسب عند الله أنّي أصبحتُ ساخطاً علىٰ أحياء قريش ، إنّ ذاك الذي بالشام والله إنْ يقاتل إلاّ علىٰ الدنيا ، وإنّ الذي بمكّة والله إنْ يقاتل إلاّ علىٰ الدنيا (١) !!.

٢ ـ وأهمّ من هذا أنّه ثمّة نصوص صحيحة توجب تضييق دائرة النصّ المتقدّم..

لقد حذّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاغترار بالنسب القرشي وحسب ، وأنذر بأنّ ذلك سيؤدّي إلىٰ هلاك الأُمّة وتشتّت أمرها !

ففي صحيح البخاري عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « هَلَكَةُ أُمّتي علىٰ يَدَي غلمةٍ من قريش » (٢).

كيف إذن سيتمّ التوفيق بين النصّين : « الأئمّة من قريش » و « هَلَكة أُمّتي علىٰ يدي غلمة من قريش » ؟!

أليس لقائل أن يقول : ماهو ذنب الأُمّة ؟! إنّها التزمت نصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) صحيح البخاري ـ الفتن ـ باب ٢٠ / ٦٦٩٥.

(٢) صحيح البخاري ـ الفتن ـ باب ٣ / ٦٦٤٩ ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ١٣ : ٧ ـ ٨. ومما يثير الدهشة أن تجد هذه الأحاديث وأكثر منها في آل أبي سفيان وآل مروان ، تجدها في كتاب ( البداية والنهاية ) لابن كثير تحت عنوان ( إخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما وقع من الفتن من بني هاشم بعد موته ) !! ٦ : ٢٥٥ ـ ط. دار التراث العربي ـ سنة ١٩٩٢ م ، و ٦ : ٢٢٧ ـ ط. مكتبة المعارف ـ سنة ١٩٨٨ م. علماً أنّه وضعها وفق ترتيبه التاريخي في أحداث العهد الأموي !! ولعل المتهم في هذا ناسخ أمويّ الهوىٰ غاضه ذكر بني أُمية في هذا العنوان فقلبه علىٰ بني هاشم !.

٦١

« الأئمّة من قريش » فقادها هذا النصّ إلىٰ هذا المصير حين ذُبح خيار الأُمّة بسيوف قريش أنفسهم !

أليس النصّ هو المسؤول ؟!

حاشا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يضع أُمّته علىٰ حافة هاوية ، وهو الذي كان قد استنقذها من الهاوية.

إنّهم أرادوا أن يحفظوا الرسول بحفظ جميع الصحابة وإضفاء الشرعية حتىٰ علىٰ المواقف المتناقضة تجاه القضيّة الواحدة ، فوقعوا في مافرّوا منه !

بل وقعوا في ماهو أكبر منه حين صار النصّ النبويّ هو المسؤول عمّا آل إليه أمر الأُمّة من فتن ، ثمّ هَلَكة !

فهؤلاء الغلمة إنّما يكون هلاك الأُمّة علىٰ أيديهم عندما يملكون أمر الأُمّة ، لكنّ الأُمّة إنْ رضيت بهم فإنّما كان اتّباعاً للنصّ الأوّل « الأئمّة من قريش » فهل يكون هذا إلاّ إغراء ؟!

حاشا لرسول الله أن يكون ذلك منه ، وإنّما هو من علامات التهافت في هذه النظرية التي أغضت عن كلّ ماورد في السُنّة ممّا يفيد تخصيص ماورد في حقّ قريش.

نوعان من التخصيص :

ورد في السُنّة نوعان من التخصيص في أمر قريش ؛ تخصيص سلب ، وتخصيص إيجاب.

٦٢

١ ـ تخصيص السلب : ثمّة نصوص صريحة تستثني قوما من قريش ، فتبعدهم عن دائرة التكريم ، ناهيك عن التقديم : قال ابن حجر الهيتمي : في الحديث المرويّ بسندٍ حَسَن أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « شرّ قبائل العرب : بنو أُميّة وبنو حنيفة وثقيف ».

قال : وفي الحديث الصحيح ـ قال الحاكم : علىٰ شرط الشيخين ـ عن أبي برزة رضي‌الله‌عنه أنّه قال : كان أبغض الأحياء ـ أو الناس ـ إلىٰ رسول الله بنو أُميّة (١).

والذي ورد في ذمّ آل الحَكَم ـ أبو مروان ـ خاصّة كثير ومشهور.

فهل يصحّ أن تُسند الإمامة إلىٰ شرّ قبائل العرب ، وأبغض الناس إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

ومن دقائق النصّ الأوّل إقرانه بني أُميّة ببني حنيفة ، وبنو حنيفة هم قوم مسيلمة الكذّاب !!

فإذا أصبح هؤلاء هم الحكّام في الواقع فعلينا أن نشهد أنّ هذا الواقع منحرف عن النصّ ، بدلاً من أن نسعىٰ لتبريره وإخضاعه للنصّ.

٢ ـ تخصيص الإيجاب : الحديث الذي ميّز قريشاً بالاصطفاء علىٰ سائر القبائل لم يقف عند دائرة قريش الكبرىٰ ، بل خصّ منها طائفةً بعينها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الله اصطفىٰ كنانة من وُلد إسماعيل ، واصطفىٰ قريشاً من كنانة ، واصطفىٰ من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم » (٢).

__________________

(١) تطهير الجنان واللسان : ٣٠.

(٢) صحيح مسلم ـ كتاب الفضائل ـ / ١.

٦٣

وهذا تقديم لبني هاشم علىٰ سائر قريش ..

ساق ابن تيميّة هذا الحديث الصحيح ، وأضاف قائلاً : وفي السنن أنّه شكا إليه العبّاسُ أنّ بعض قريش يحقّرونَهم ! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « والذي نفسي بيده لايدخلون الجنّة حتىٰ يحبّوكم لله ولقرابتي » وإذا كانوا أفضل الخلائق ، فلا ريب أنّ أعمالهم أفضل الأعمال.. ففاضلهم أفضل من كلّ فاضل من سائر قبائل قريش والعرب ، بل وبني إسرائيل وغيرهم (١).

وليس المقام مقام تفضيل وحسب ، بل إنّ قريشاً لا يصحّ لها إيمان مالم تحبّ بني هاشم حُبّين : لله ، ولقرابة الرسول !

فهل يصحّ أن تكون قريش كلّها سواء في حقّ التقدّم والإمامة ، وفيها بنو هاشم الّذين رفعهم النصّ إلىٰ أعلىٰ منزلة ، وفيها بنو أُميّة الّذين خفضهم النصّ إلىٰ أردىٰ الرتب ؟!

إذا كان الواقع قد آل إلىٰ هذه الحال ، فعلينا أن نشهد أنّه واقع منحرف عن النصّ ، لا أن نسعىٰ إلىٰ تبريره.

نتيجة البحث :

ممّا تقدّم يبدو بكّل وضوح أنّنا هنا قد أخفقنا في تحقيق نظرية منسجمة متماسكة في موضوع الإمامة ، وأنّ السبب الحقيقي لهذا الإخفاق هو متابعة الأمر الواقع والسعي لتبريره وجعله مصدراً رئيساً في وصف النظام السياسي.

وتلك الوجوه المتناقضة كلّها من المستحيل أن تجتمع في نظرية

__________________

(١) ابن تيميّة ، رأس الحسين : ٢٠٠ ـ ٢٠١ مطبوع مع استشهاد الحسين ـ للطبري ـ.

٦٤

واحدة ، فتكون نظرية منسجمة وذات تصوّر واضح ومحدّد ومفهوم.

هذا كلّه ، وبقدر مايثيره من شكوك حول صلاحية هذه النظرية ، فإنّه يرجّح الرأي الآخر الذي يذهب إلىٰ اعتماد النصّ الشرعي في تعيين خليفة الرسول.

إلىٰ هذه النتيجة أيضاً خلص الدكتور أحمد محمود صبحي وهو يدرس نظرية الإمامة ، إذ قال : ( أمّا من الناحية الفكرية فلم يقدّم أهل السُنّة نظرية متماسكة في السياسة تُحدّد مفاهيم البيعة والشورىٰ وأهل الحلّ والعقد ، فضلاً عن هوّة ساحقة تفصل بين النظر والتطبيق ، أو بين ماهو شرعي وبين مايجري في الواقع.

لقد ظهرت نظريات أهل السُنّة في السياسة في عصر متأخّر بعد أن استقرّ قيام الدولة الإسلامية علىٰ الغَلَبة.. كما جاء أكثرها لمجرّد الردّ علىٰ الشيعة.. والتمس بعضها استنباط حكم شرعي من أُسلوب تولّي الخلفاء الثلاثة الأوائل.

وإنّ الهوّة الساحقة بين تشريع الفقهاء وبين واقع الخلفاء ، فضلاً عن تهافت كثير من هذه الآراء وإخفاقها في استنباط قاعدة شرعية ، هو مامكّن للرأي المعارض ـ القول بالنصّ ـ ممثّلاً في حزب الشيعة ) (١).

__________________

(١) الزيدية : ٣٥ ـ ٣٧.

٦٥
٦٦



الرجوع

إلىٰ النصوص المباشرة في تعيين الخليفة

لقد أحسّ الكثير من المتكلّمين وأصحاب الحديث إذن بالحاجة إلىٰ النصّ في تعيين أوّل الخلفاء علىٰ الأقلّ ، لتتّخذ الأدوار اللاحقة له شرعيّتها من شرعيّته.

وليس غريباً أن تتعدّد أوجه الاستدلال بتعدّد المتكلّمين وتعدّد أساليبهم ، وتعدّد النصوص التي يعتمدونها ، وكثيرا مايتعلّق المتكلّمون بما يشفع لمذاهبهم وإنْ كانوا يلمحون فيه علامات الوضع !

وسوف يدور الحوار هنا في اتّجاهين توزّعت عليهما النصوص المطروحة في هذا الباب..

٦٧
٦٨

الاتجاه الأوّل : النصوص الدالّة علىٰ خلافة أبي بكر :

لقد عرض بعض المتكلّمين في تثبيت خلافة أبي بكر نصوصاً من القرآن ونصوصاً من السُنّة ، نستعرض أهمّها بتركيز وإيجاز مبتدئين بنصوص السُنّة لكونها أكثر تصريحاً ، ولأنّ النصوص القرآنية اعتُمِدت في تصحيح خلافته لا في إثبات النصّ عليه.

أوّلاً ـ نصوص من السُنّة :

النصّ الأوّل : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي توفّي فيه : « مُروا أبا بكر فليصلّ بالناس ».

فرأىٰ بعضهم في هذا الحديث نصّا علىٰ الخلافة وإن كان خفياً ؛ لعدم الفصل بين إمامة الصلاة والإمامة العامّة.

واستدلّوا لذلك بقول بعض الصحابة لأبي بكر : إرتضاك رسول الله لديننا ، أفلا نرضاك لدنيانا ؟! وأهمّ شيء في هذا القول الأخير أن ينسب إلىٰ عليّ بن أبي طالب (١) !!.

غير أنّ جملةً من الإثارات تحيط بهذا النصّ وبهذه الواقعة ، قد تبتلع كلّ مايُبنىٰ عليهما من استنتاجات :

الإثارة الأُولىٰ : إنّ القول بعدم الفصل بين إمامة الصلاة والإمامة العامة

__________________

(١) شرح المواقف ٨ : ٣٦٥.

٦٩

قول غريب ، وأغرب منه قول الجرجاني : ( لا قائل بالفصل ) (١) !.

فابن حزم يقطع بأنّ هذا قياساً باطلاً ، ويقول : ( أمّا من أدّعىٰ أنّه إنّما قُدِّم قياساً علىٰ تقديمه إلىٰ الصلاة ، فباطل بيقين ؛ لأنّه ليس كلّ من استحقّ الإمامة في الصلاة يستحقّ الإمامة في الخلافة ، إذ يستحقّ الإمامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً ، ولايستحقّ الخلافة إلاّ قرشيّ ، فكيف والقياس كلّه باطل ) (٢) ؟!.

والشيخ أبو زهرة ينتقد هذا النوع من القياس ووجه الاستدلال به ، فيقول : اتّخذ بعض الناس من هذا ـ النصّ ـ إشارة إلىٰ إمامة أبي بكر العامّة للمسلمين ، وقال قائلهم : ( لقد رضيه عليه‌السلام لديننا ، أفلا نرضاه لدنيانا ) ولكنّه لزوم ماليس بلازم ، لأنّ سياسة الدنيا غير شؤون العبادة ، فلا تكون الإشارة واضحة.. وفوق ذلك فإنّه لم يحدث في اجتماع السقيفة ، الذي تنافس فيه المهاجرون والأنصار في شأن القبيل الذي يكون منه الخليفة ، أن احتجّ أحد المجتمعين بهذه الحجّة ، ويظهر أنّهم لم يعقدوا تلازماً بين إمامة الصلاة وإمرة المسلمين (٣).

والذي يُستشفّ من كلامه استبعاد صحّة نسبة هذا الكلام إلىٰ الإمام عليّ عليه‌السلام ؛ فهذه النسبة لاتحتمل الصحّة ، لِما ثبت في الصحاح من أنّ عليّاً عليه‌السلام لم يبايع إلاّ بعد ستّة أشهر (٤) ، كما أنّ الصحيح المشهور عن

__________________

(١) شرح المواقف ٨ : ٣٦٥.

(٢) الفصل ٤ : ١٠٩.

(٣) المذاهب الإسلامية : ٣٧.

(٤) صحيح البخاري ـ باب غزوة خيبر / ٣٩٩٨ ، صحيح مسلم ـ كتاب الجهاد والسِيَر ٣ : ١٣٨٠ / ٥٢ ، السنن الكبرىٰ ـ للبيهقي ـ ٦ : ٣٠٠ ، تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٣٣١.

٧٠

عليّ عليه‌السلام خلاف ذلك ، فجوابه كان حين بلغه احتجاج المهاجرين بأنّ قريشاً هم قوم النبيّ وأوْلىٰ الناس به ، قال : « احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة » (١) !.

الإثارة الثانية : إنّ إمامة الصلاة وفقا لفقه هذه المدرسة لايترتّب عليها أيّ فائدة في التفضيل والتّقديم ، فالفقه هنا يُجيز مطلقاً إمامة المفضول علىٰ الفاضل ، بل يُجيز إمامة الفاسق والجائر لأهل التقوىٰ والصلاح ، ( صلّوا وراء كلّ برٍّ وفاجر ) !

الإثارة الثالثة : أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة والنسائي : أنّ عبد الرحمن ابن عوف قد صلّىٰ إماماً بالمسلمين وكان فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢). وهذه الرواية أثبت ممّا ورد في تقديم أبي بكر ـ كما سيأتي ـ فالحجّة فيها إذن لعبد الرحمن بن عوف أظهر ، فتقديمه أوْلىٰ وفقاً لذلك القياس (٣).

الإثارة الرابعة : في صحيح البخاري : كان سالم مولىٰ أبي حذيفة يؤمّ المهاجرين الأوّلين وأصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجد قباء ، وفيهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو سلمة ، وعامر بن ربيعة (٤).

وكان عمرو بن العاص أميراً علىٰ جيش ذات السلاسل ، وكان يؤمّهم

__________________

(١) نهج البلاغة : ٩٧ الخطبة ٦٧ ، واُنظر : الإمامة والسياسة ـ لابن قتيبة ـ : ١١.

(٢) مسند أحمد ٤ : ٢٤٨ ـ ٢٥١ ، صحيح مسلم : الطهارة ـ باب المسح علىٰ الناصية والعمامة ، سنن أبي داود : المسح علىٰ الخفّين / ١٤٩ و ١٥٢ ، سنن ابن ماجة : / ١٢٣٦ ، سنن النسائي : الطهارة / ١١٢.

(٣) أُنظر : ابن الجوزي ، آفة أصحاب الحديث : ٩٩.

(٤) صحيح البخاري : كتاب الأحكام / ٦٧٥٤.

٧١

في الصلاة حتّىٰ صلّىٰ بهم بعض صلواته وهو جنب ، وفيهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة (١).

فهل يُستدلّ من هذا أنّ سالماً وعمرو بن العاص أفضل من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ، وأوْلىٰ بالخلافة منهم ؟!

الإثارة الخامسة : نتابعها في النقاط التالية :

أ ـ ثبت في جميع طرق هذا الحديث بروايته التامّة أنّه بعد أن افتتح أبو بكر الصلاة ، خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتهادىٰ بين رجلين ـ عليّ والفضل ابن العبّاس ـ فصلّىٰ بهم إماما وتأخّر أبو بكر عن موضعه مؤتمّا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن يمينه.

أثبت ذلك تحقيقاً أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب صنّفه لهذا الغرض ، فقسّمه إلىٰ ثلاثة أبواب : فجعل الباب الأوّل في إثبات خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ تلك الصلاة وتأخيره أبا بكر عن إمامتها ، وخصّص الباب الثاني في بيان إجماع الفقهاء علىٰ ذلك ، فذكر منهم : أبا حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأثبت في الباب الثالث وَهَن الأخبار التي وردت بتقدّم أبي بكر في تلك الصلاة ، ووصف القائلين بها بالعناد واتّباع الهوىٰ (٢) !.

وقال العسقلاني : تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدلّ علىٰ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان هو الإمام في تلك الصلاة (٣).

__________________

(١) سيرة أبن هشام ٤ : ٢٧٢ ، البداية والنهاية ٤ : ٣١٢.

(٢) أبو الفرج ابن الجوزي ، آفة أصحاب الحديث ـ الباب الأوّل ، والثاني ، والثالث.

(٣) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٢ : ١٢٣.

٧٢

ومن هنا قال بعضهم : متىٰ نظرنا إلىٰ آخر الحديث احتجنا إلىٰ أن نطلب للحديث مخرجاً من النقص والتقصير ، وذلك أنّ آخره : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا وجد إفاقةً وأحسّ بقوّة خرج حتىٰ أتىٰ المسجد وتقدّم فنحّىٰ أبا بكر عن مقامه وقام في موضعه. فلو كانت إمامة أبي بكر بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لَتَركه علىٰ إمامته وصلّىٰ خلفه ، كما صلّىٰ خلف عبد الرحمن بن عوف (١).

ب ـ ممّا يعزّز القول المتقدّم ماورد عن ابن عبّاس من أنّه قبل أن يؤذّن بلال لتلك الصلاة قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أُدعوا عليّاً ». فقالت عائشة : لو دعوت أبا بكر ! وقالت حفصة : لو دعوت عمر ! وقالت أُمّ الفضل : لو دعوت العبّاس ! فلمّا اجتمعوا رفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأسه فلم ير عليّاً (٢) !!.

ج ـ ويشهد لذلك كلّه ماثبت عن عليّ عليه‌السلام من أنّه كان يقول : «إنّ عائشة هي التي أمرت بلالاً أن يأمر أباها لِيُصَلّ بالناس ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ليصلِّ بهم أحدهم » ولم يعيّن » !! وكان عليٌّ عليه‌السلام يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيراً ، ويقول عليه‌السلام : «إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقل : « إنّكنّ لَصُويحبات يوسف » إلاّ إنكاراً لهذه الحال ، وغضباً منها لأنّها وحفصة تبادرتا إلىٰ تعيين أبويهما ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب » (٣).

فهذه صور منسجمة ومتماسكة لاتُبقي أثرا للاستفادة من هذا النصّ أو تلك الواقعة ، ويمكن أن يضاف إليها ملاحظات أُخر ذات قيمة لايُستهان بها :

__________________

(١) ابن الإسكافي ، المعيار والموازنة : ٤١ ـ ٤٢.

(٢) مسند أحمد ١ : ٣٥٦ ، وأخرجه الطبري في تاريخه ٣ : ١٩٦ ولم يذكر فيه قول أُمّ الفضل.

(٣) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ٩ : ١٩٧.

٧٣

منها : الاختلاف الشديد والتعارض بين روايات هذه الواقعة ، وقد صرّح بهذا ابن حجر العسقلاني ، ثمّ حاول التوفيق بينها بعد جهد (١).

ومنها : ملاحظة بعض نقّاد الحديث أنّ هذا الحديث لم يصحّ إلاّ من طريق عائشة ، لذا لم تقم حجّته (٢).

ومنها : أنّ ابن عبّاس قد طعن هذا الحديث طعناً عبقريّاً لم يتنبّه له الرواة ، إذ كانت عائشة تقول في روايتها لهذا الحديث : ( خرج النبيّ يتهادىٰ بين رجلين ، أحدهما الفضل بن العبّاس ) ولاتذكر الرجل الآخر ، فلمّا عرض أحدهم حديثها علىٰ عبد الله بن عبّاس ، قال له ابن عبّاس : فهل تدري مَن الرجل الذي لم تُسَمِّ عائشة ؟

قال : لا.

قال ابن عبّاس : هو عليّ بن أبي طالب ، ولكن عائشة لاتطيبُ نفساً له بخير (٣) !.

الإثارة السادسة : أثبت جلُّ أصحاب التاريخ والسِيَر أنّ أبا بكر كان أيّام مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأخير هذا ، مأموراً بالخروج في جيش أُسامة ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشدّد كثيراً بين الآونة والأُخرىٰ علىٰ التعجيل في إنفاذ هذا الجيش.. فكيف ينسجم هذا مع الأمر بتقديمه في الصلاة ؟! ناهيك عن قصد الإشارة إلىٰ استخلافه !

__________________

(١) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٢ : ١٢٢ ـ ١٢٣.

(٢) المعيار والموازنة : ٤١.

(٣) عبد الرزّاق ، المصنّف ٥ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٢ : ١٢٣.

٧٤

لقد أدرك ابن تيميّة مابين الأمرين من منافاة وتعارض صريحين ، فنفىٰ نفياً قاطعاً كون أبي بكر ممّن سُمّي في بعثة أُسامة (١) !!

لكنّ مثل هذا النفي لاينقذ الموقف ، خصوصا وأنّ ابن تيميّة لم يقدّم برهاناً ولا شبهةً في إثبات دعواه ، فيما جاء ذِكر أبي بكر في مَن سُمّي في ذلك الجيش في مصادر عديدة وهامّة ، أصحابها جميعاً من القائلين بصحّة تقدّم أبي بكر (٢).

أمّا نفي ذلك ، أو تحرّج بعض المؤرّخين عن ذِكره ، فإنّما مرجعه إلىٰ الاختيار الشخصي في مساندة المذهب ، لاغير ، حين أدركوا بيقين أنّ شيئاً ممّا استدلّوا به علىٰ إمامته سوف لايتمّ لو كان أبو بكر في مَن سُمّي في جيش أُسامة ، إذ هو مأمور بمغادرة المدينة المنوّرة أيّام وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تحت إمرة أُسامة بن زيد الشابّ ابن الثماني عشرة سنة (٣) !.

نصوص أُخر :

لم يقف القائلون بالنصّ عند النصّ المتقدّم ، بل رجعوا إلىٰ مارأوا فيه نصّاً جليّاً علىٰ الخلافة ، لكنّها في الحقيقة نصوص تثير علىٰ نفسها بنفسها شكوكاً كثيرة لاتُبقي احتمالاً لصحّتها ، شكوكاً تثيرها الأسانيد والمتون معاً.. وأهمّ هذه النصوص :

__________________

(١) ابن تيميّة ، منهاج السُنّة ٣ : ٢١٣.

(٢) الطبقات الكبرىٰ ٤ : ٦٦ ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٨ : ١٢٤ ، تهذيب تاريخ دمشق ٢ : ٣٩٥ و ٣ : ٢١٨ ، مختصر تاريخ دمشق ٤ : ٢٤٨ رقم ٢٣٧ و ٥ : ١٢٩ رقم ٥٦ ترجمة أُسامة بن زيد وأيّوب بن هلال ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٧٧ ، تاريخ الخميس ٢ : ١٧٢ ، شرح نهج البلاغة ١ : ١٥٩ و ٢٢٠ و ٩ : ١٩٧.

(٣) الطبقات الكبرىٰ ٤ : ٦٦.

٧٥

١ ـ أنّ امرأة سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً ، فأمرها أن ترجع إليه ، فقالت : يارسول الله ، أرأيتَ إنْ جئتُ فلم أجدك ؟ ـ كأنّها تُريد الموت ـ فقال : « فإن لم تجديني فأتي أبا بكر » (١).

وهذا الحديث متّحد عند الشيخين في سلسلة واحدة ، وهي : إبراهيم ابن سعد ، عن أبيه ، عن محمّد بن جُبير بن مطعم ، عن أبيه جُبير بن مطعم : أنّ أمرأةً سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...

فلم يروه من الصحابة إلاّ جُبير بن مطعم ، ولم يروه عن جُبير إلاّ ولده محمّد ، ولم يروه عن محمّد غير سعد ( وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف ) ولم يروه عن سعد غير ولده إبراهيم ! ثمّ أخذه الرواة عن إبراهيم بن سعد !

مناقشة الإسناد : نظرة واحدة في هذا الإسناد ، بعيداً عن التقليد ، تُحبط الآمال التي يمكن أن تُعقد عليه :

فجبير بن مطعم : من الطلقاء ، وهو صاحب أبي بكر ، تعلّم منه الأنساب وأخبار قريش (٢) ، وكانت عائشة تُسمّىٰ له وتُذكر له قبل أن يتزوّجها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، وذكره بعضهم في المؤلّفة قلوبهم. وكان شريفاً في قومه بني نوفل وهم حلفاء بني أُميّة في الجاهلية والإسلام. وهو أحد الخمسة الّذين اقترحهم عمرو بن العاص علىٰ أبي موسى الأشعري

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم في باب فضائل أبي بكر ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٧ : ١٤ ـ ١٥ ، صحيح مسلم بشرح النووي ٨ : ١٥٤ ، وانظر : تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة : ٩٠ رقم ٥٦.

(٢) ترجمة جبير بن مطعم في : سير أعلام النبلاء ٣ : ٩٥ رقم ١٨ ، الإصابة ١ : ٢٢٦ رقم ١٠٩٢.

(٣) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ١٤ : ٢٢.

٧٦

للمشورة في التحكيم ـ وهم : جبير بن مطعم ، وعبدالله بن الزبير ، وعبدالله بن عمرو بن العاص ، وأبو الجهم بن حذيفة ، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام بن المغيرة ـ وكلّهم مائل عن عليّ عليه‌السلام ، فابن الزبير وعبد الرحمن بن الحرث كانا في أصحاب الجَمل الّذين قاتلوا عليّاً في البصرة ، وعبدالله بن عمرو مع أبيه عمرو بن العاص في أصحاب معاوية ، وجبير وأبو الجهم من مسلمة الفتح هواهما مع بني أُميّة (١) !.

محمّد بن جبير بن مطعم : وهو القائل لعبد الملك بن مروان وقد سأله : هل كنّا نحن وأنتم ـ يعني أُميّة ونوفل ـ في حلف الفضول (٢) ؟ فقال له محمّد بن جُبير بن مطعم : لا والله يا أمير المؤمنين ، لقد خرجنا نحن وأنتم منه ، ولم تكن يدنا ويدكم إلاّ جميعاً في الجاهلية والإسلام (٣) !.

وقد اعتزل محمّد عليّاً والحسن عليهما‌السلام في حربهما مع معاوية ، فلمّا تمّ الصلح كان محمّد ممثَّلاً في وفد المدينة إلىٰ معاوية للبيعة (٤).

وأمّا سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف : فقد كان قاضياً لبعض ملوك بني أُميّة علىٰ المدينة (٥).

وأمّا ولده إبراهيم بن سعد : فهو صاحب العُود والغناء ، كان يعزف

__________________

(١) راجع تراجمهم في : الاستيعاب ، وأُسد الغابة ، والإصابة ، ومختصر تاريخ دمشق ، وسير أعلام النبلاء.

(٢) حلف الفضول : حلف جمع بني هاشم وزُهرة وتَيم ، اجتمعوا عند عبد الرحمن بن جدعان فتحالفوا جميعاً علىٰ دفع الظلم واسترداد الحقّ من الظالم وإعادته إلىٰ صاحبه المظلوم.

(٣) الأغاني ١٧ : ٢٩٥.

(٤) أُنظر : فتح الباري بشرح صحيح البخاري ١٣ : ٩٨.

(٥) تاريخ بغداد ٦ : ٨٣ ، الأغاني ١٥ : ٣٢٩.

٧٧

ويغنّي ، جاءه أحد أصحاب الحديث ليأخذ عنه ، فوجده يغنّي ، فتركه وانصرف ، فأقسم إبراهيم ألاّ يحدّث بحديث إلاّ غنّىٰ قبله ! وعمل والياً علىٰ بيت المال ببغداد لهارون الرشيد (١).

هذا النصّ ، الذي جاء بهذه السلسلة الوحيدة ، هو الذي رأىٰ فيه ابن حزم وغيره نصّاً جليّاً علىٰ خلافة أبي بكر (٢) ! غير أنّ الجرجاني والتفتازاني لم يذكراه ، فيما ذكرا نصوصاً كثيرة أضعف منه سنداً ، وأقلّ منه دلالة (٣) !.

مناقشة المتن : وخطوة أُخرىٰ إلىٰ الأمام في التحقيق تضعنا أمام صورة أكثر وضوحاً حيث تُرينا كيف حلّ هذا الحديث محلّ الحديث الصحيح الوارد في عليّ عليه‌السلام بعين هذا المتن !

لمّا حضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت صفيّة أُمّ المؤمنين : يا رسول الله ، لكلّ امرأةٍ من نسائك أهل تلجأ إليهم ، وإنّك أجليت أهلي ، فإنْ حَدَثَ حَدَثٌ فإلىٰ مَن ؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إلىٰ عليّ بن أبي طالب ». أخرجه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح (٤).

إنّ الظروف السياسية الغالبة منذ وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتىٰ عصر

__________________

(١) تاريخ بغداد ٦ : ٨١ ـ ٨٦ ، الأعلام ١ : ٤٠.

(٢) الفصل ٤ : ١٠٨. واُنظر أيضاً : تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة : ٩٠ ـ ٩١ رقم ٥٦ ، نظام الخلافة بين أهل السُنّة والشيعة : ٣٩.

(٣) أُنظر : الجرجاني ، شرح المواقف ٨ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥ ، التفتازاني ، شرح المقاصد ٥ : ٢٦٣ ـ ٣٦٧.

(٤) مسند أحمد ٦ : ٣٠٠ ، مجمع الزوائد ٩ : ١١٣.

٧٨

تدوين جوامع الحديث ، هي السبب الوحيد في ظهور الحديث الأول ودخوله في كتب الشيخين وغيرهما دون الحديث الثاني !

٢ ـ قالت عائشة : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه : « ادعي لي أبا بكر أباك ، وأخاكِ ، حتّىٰ أكتب كتاباً ، فإنّي أخاف أن يتمنّىٰ متمنٍّ ويقول قائل : أنا أوْلىٰ ، ويأبىٰ الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر » (١).

أسند مسلم هذا الحديث كما يلي : عبيدالله بن سعيد ، عن يزيد بن هارون ، عن إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة.

فقد ظهر إبراهيم بن سعد في هذا الحديث أيضاً ، وهو صاحب الحديث المتقدّم ، صاحب العود والغناء ، صاحب هارون الرشيد.

أمّا الزهري وعروة وعائشة فهم من أشدّ الناس ميلاً وانحرافاً عن عليّ عليه‌السلام ، وموقفهم من الخلافة ومن عليّ عليه‌السلام خاصّة وبني هاشم عامّة معروف جدّاً !

وأورده البخاري من طريق آخر ينتهي أيضاً إلىٰ عائشة ، فهي وحدها رأس هذا الحديث في جميع طرقه !

ولعلّ أقوىٰ مايُثار هنا : أنّ هذه الأحاديث قد رواها الشيخان ، فكيف يمكن طعنها والشكّ فيها ؟!

وما أيسر الجواب لمن تجرّد للحقيقة دون سواها ، الحقيقة التي كشف

__________________

(١) صحيح البخاري ـ كتاب الأحكام ـ باب الاستخلاف ٦ / ٦٧٩١ ، صحيح مسلم ـ باب فضائل أبي بكر ٥ / ٢٣٨٧ والنصّ منه.

٧٩

عنها النقاب مؤرّخون وأئمّة لاشك في وثاقتهم وصدقهم :

ـ قال نفطويه في تاريخه : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة اختُلِقت في أيّام بني أُميّة تقرّباً إليهم في مايظنّون أنّهم يُرغِمون به أُنوف بني هاشم !

ـ وقال المدائني في كتابه في الأحداث : فرُوِيَتْ أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة ، لا حقيقة لها.. حتّىٰ انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلىٰ الديّانين الّذين لايستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة مارووها ولا تديّنوا بها !

ـ وقال الإمام الباقر عليه‌السلام : « حتّىٰ صار الرجل الذي يُذكر بالخير ، ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ، يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض مَن قد سلفَ من الولاة ، ولم يخلق الله تعالىٰ شيئاً منها ، ولا كانت وقعت ، وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من رواها ممّن لم يُعرف بالكذب ولابقلّة ورع » (١) !

فليس بمستنكَرٍ إذن أن تنفذ هذه الأخبار إلىٰ الصحيحين وغيرهما.. فمن أين يأتي الاستنكار وهم مارووها إلاّ وهم يعتقدون صحّتها ؟!

وهذا الحديث بالذات ممّا شهد المعتزلة بأنّ البكرية وضعته في مقابل الحديث المرويّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه : « ائتوني بدواةٍ وبياض أكتب لكم كتاباً لاتضلّوا بعده أبداً » فاختلفوا عنده ، وقال قوم منهم : لقد غلبه

__________________

(١) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٣ ـ ٤٦.

٨٠