أبعاد النهضة الحسينية

عبّاس الذهبي

أبعاد النهضة الحسينية

المؤلف:

عبّاس الذهبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-8629-09-9
الصفحات: ١٨١

فيهم ، فودع حبيب الحسين عليه‌السلام ، وهو لم يكمل صلاته بعد ، فقال للحسين عليه‌السلام : يا مولاي اني اُحب ان أُتم صلاتي في الجنة. فاستشهد رضى الله عنه. ولما قُتل حبيب قال الحسين عليه‌السلام بحقّه مقولة خالدة : « يرحمك اللّه يا حبيب ، لقد كنت تختم القرآن في ليلة واحدة وأنت فاضل » (١).

وينبغي الإشارة هنا إلى أن أول قوة قتالية أُرسلت من قبل القيادة العامة اليزيدية التي كانت مؤلفة من ألف فارس بقيادة الحر الرياحي الذي التحق في صفوف قوات الحسين عليه‌السلام فيما بعد ، قد صلى أفرادها وراء الإمام الحسين عليه‌السلام في منطقة ذي حسم. فقد قال الحسين عليه‌السلام للحر الرياحي : « أتريد أن تصلي بأصحابك؟ » قال : لا ، بل تصلِّي أنت ونُصلِّي بصلاتك. فصلّى بهم الحسين بن علي عليهما‌السلام ثمّ دخل فاجتمع إليه أصحابه وانصرف الحُرُّ إلى مكانه الذي كان فيه ، فدخل خيمةً قد ضُربَتْ له واجتمع إليه جماعةٌ من أصحابه (٢).

وهنا نتساءل فنقول : أليس الائتمام بالإمام الحسين عليه‌السلام من قبل تلك الجموع ـ التي جاءت أساسا من أجل صدّه ومحاصرته ـ يدلُّ دلالة واضحة على كون الحسين عليه‌السلام إمام حق وعدل تجوز الصلاة خلفه وتُقبل صلاة من اقتدى به؟

فهذا الموقف ـ إذا ـ يكشف زيف وتفاهة تلك المزاعم ووهن ذلك

__________________

(١) ينابيع المودّة ٢ : ١٦٧ ، الباب الحادي والستون ، طبع مؤسّسة الأعلمي ـ بيروت.

(٢) الإرشاد ٢ : ٧٩.

٤١

الاتهام الذي تفوّه به الحصين بن نمير ومن شاركه في الرأي ، كما يكشف عن تلك الازدواجية في تصرفاتهم ، فهم يصلون وراء الإمام تارة ، ثم يزعمون تارةً اُخرى بأن صلاته لا تُقبل! ثم يهدّدونه بالقتل ، وينفذون تهديدهم.

علَّق العقاد ـ الأديب المصري المعروف ـ على تلك الازدواجية أو المفارقة العجيبة ، بقوله : « مجمل ما يقال على التحقيق أنّه لم يكن في معسكر يزيد رجل يعينه على الحسين إلاّ وهو طامع في مال ، مستميت في طمعه استماتة من يهدر الحرمات ولا يبالي بشيء منها في سبيل الحطام ... وكان أعوان يزيد جلاّدين وكلاب طراد في صيد كبير. وكانوا في خلائقهم البدنية على المثال الذي يعهد في هذه الطغمة من الناس ، ونعني به مثال المسخاء المشوّهين ، أولئك الذين تمتلى ء صدورهم بالحقد على أبناء آدم ولا سيّما من كان منهم على سواء الخلق وحسن الأحدوثة ، فإذا بهم يفرغون حقدهم في عِدائه وإن لم ينتفعوا بأجر أو غنيمة ، فإذا انتفعوا بالأجر والغنيمة فذلك هو حقد الضراوة الذي لا تعرف له حدود » (١).

الثاني : أسلوب التخويف

بلغ هذا الأسلوب أقسى أشكاله ، عندما انهالت السهام على الإمام وصحبه وهم منهمكون في أداء شعيرة الصلاة ، علما بأن الحسين عليه‌السلام ومن معه قد ألقوا السلاح ، وأظهروا السلام واستسلموا للصلاة ، واستأمنوهم

__________________

(١) المجموعة الكاملة لأعمال العقّاد ـ الحسين عليه‌السلام أبو الشهداء ٢ : ٤٤٢.

٤٢

لذكر اللّه.

يتساءل الشهرستاني ، فيقول : « فهل ترى مظهرا للدين والحق أصدق من هذا؟ أفلا تُحترم الصلاة وهي حرم اللّه؟! أو لم يسمعوا كلام اللّه : ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُوءْمِنًا ) (١) » (٢).

ويُستنتج من كل ذلك بأن أعداء الحسين عليه‌السلام قد قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، فلم تعد تؤثر فيهم مظاهر إسلامية أو عواطف بشرية. لكن مع ذلك استمر الإمام عليه‌السلام بصلاته تحت مطر السهام ولم يستسلم للتهديدات المبطّنة أو المكشوفة التي حاولوا من خلالها قطع صلاته بربّه ، والحيلولة دون تأجيجه لمعنويات جنده وجذب الآخرين إلى صفه. وكما تمكنوا من قبل من اغتيال أبيه وهو في محراب الصلاة ، حاولوا اغتياله ضمن خطة ماكرة وغادرة وهو في أثناء الصلاة خصوصا بعد أن غدا هدفا مكشوفا ومجرّدا من وسائل الدفاع ، ولكن روح الفداء التي تحلّى بها أصحابه في كربلاء عملت على إفشال تلك الخطة واحباطها ، فقد جعلوا من أجسادهم دروعا تحول دون وصول سهام الغدر إلى قائدهم الحسين عليه‌السلام.

وقد أشرنا إلى موقف الصحابي سعيد بن عبداللّه الحنفي الذي صدَّ السهام التي انطلقت باتجاه الحسين عليه‌السلام وهو في أثناء الصلاة ، وبعد أن قضى نحبه وجدوا في جسده ثلاثة عشر سهما!

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٩٤.

(٢) نهضة الحسين / الشهرستاني : ١٢٥.

٤٣

وهذا صحابي آخر هو عمرو بن قرظة الأنصاري قد بالغ في نصرة الحسين عليه‌السلام وكان لا يأتي إلى قائده سهم إلاّ اتقاه بيده ، ولا سيف إلاّ تلقّاه بمهجته ، فلم يصل إلى الحسين عليه‌السلام سوء حتى اُثخن بالجراح فالتفت إلى الحسين عليه‌السلام وقال : يا ابن رسول اللّه أوفيت؟ فقال عليه‌السلام : « نعم أنت أمامي في الجنة ، فاقرأ رسول اللّه عني السلام ، وأعلمه أني في الأثر » (١).

بهؤلاء الأبطال تمكن الحسين عليه‌السلام من إفشال خطة الاغتيال التي كانت تستهدف تصفيته وهو منكب على الصلاة.

الصلاة الخاصة

لم تقتصر صلاة الحسين عليه‌السلام على الصلاة المعروفة بزمن محدد وشرائط مقرّرة ، والمشتملة على الركوع والسجود وما إلى ذلك ، بل كانت له صلاة خاصة ـ إن صحَّ التعبير ـ تستغرق جلّ وقته ، ويسهم فيها كل كيانه ، وهي مناجاته الدائمة والمستمرة لربّه ، التي لم تنقطع في الرّخاء والشدة. فقبل خروج آخر أنفاسه الزّكية من بدنه الطاهر ، جمع التراب ووضع جبهته عليه ، واستغرق في مناجاة ربّه ، ولم يشغله ألم الجراح ولا نزع الروح عن الكلام مع معبوده الذي يخاطبه ولا يغفل لحظة واحدة عن التطلّع إليه ، يناجيه وهو قرير العين ، مطمئن النفس بكلمات تفيض بالمعاني السامية : « اللّهم أنت ثقتي في كلّ كربٍ ، ورجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقةٌ وعدّة ، كم من همٍّ يضعُفُ فيه الفؤاد ، وتقلُّ فيه الحيلةُ ،

__________________

(١) اللهوف : ٦٤.

٤٤

ويخذُلُ فيه الصديقُ ، ويشمتُ فيه العدوّ ، أنزلته بك وشكوته إليك رغبةً منِّي إليك عمّن سواك ، ففرّجته وكشفته ، وأنت وليُّ كلّ نعمةٍ ، وصاحبُ كلِّ حسنةٍ ، ومنتهى كلّ رغبةٍ » (١).

وتعدّ الصلاة أحد الدوافع الأساسية للنهضة الحسينية المباركة ، من أجل القضاء على عوامل الظلم وعناصر الفساد ، التي استشرت في المجتمع بسبب سلوك سلاطين بني أمية ، إذن كانت صلاة الحسين عليه‌السلام هي تجسيد كامل لقوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ) (٢).

هكذا كان اهتمام الحسين عليه‌السلام وأهل بيته بالصلاة ، يستخدمونها كمعراج يومي لسموّ نفوسهم ، وطاقة فذّة وقوّة خلاّقة لمواجهة مظالم أعدائهم ، وهي عندهم رأسمال معنوي ثمين وخير موضوع ، لذلك كانوا يحافظون عليها ويقيمونها في مختلف الظروف والأحوال ، وقد قيل لعلي بن الحسين عليه‌السلام : ما أقلّ ولد أبيك؟ فقال : « العجب كيف ولدت له ، كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ، فمتى كان يتفرّغ للنساء؟ » (٣).

من هنا يشهد الزائر للحسين عليه‌السلام عند زيارته عن قرب أو بُعد ، فيقول : « أشهد أنك قد أقمت الصلاة ، وآتيت الزكاة ، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، وأطعت اللّه ورسوله .. » وهي شهادة صادقة ستبقى تردّدها الملايين على مرّ السنين.

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٩٦.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٥.

(٣) اللهوف : ٥٧.

٤٥

العبادة الفاعلة

يمكننا تقسيم العبادة إلى نوعين : عبادة مستكنة تبعث الفرد المسلم إلى الانزواء والاستكانة ، والانشغال بالنفس والابتعاد عن المحيط الاجتماعي وتبعاته. وهناك عبادة فاعلة تبعث المسلم نحو الجهاد ومقاومة الظلم في المجتمع ، وتدفع الفرد نحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا الشكل من العبادة ينطبق تماما على عبادة الإمام الحسين عليه‌السلام ، فليس خافيا بأن الحسين عليه‌السلام كان « يملك القدرة على الانزواء للعبادة ومكانه من الجنة مضمون ، ولكنه لم يكن من طينة أولئك الذين اختاروا العبادة طريقا إلى الجنة بدلاً عن الجهاد والتضحيات ، لأنه يدرك أن الطريق الأكمل إلى اللّه هو طريق الحق وطريق الحق ، هو الجهاد والنضال والالتزام بمبادئ الثورة الاسلامية وتعاليمها ، وإذا جاز على غيره من صلحاء المسلمين أن ينزوي في المساجد للعبادة ويتخلّى عن النضال والجهاد فلا يجوز ذلك على الحسين عليه‌السلام وارث الرسول وعلي عليهما‌السلام بأن يتخلّى عن وعيه النضالي ويلجأ الى زوايا المعابد تاركاً للجاهلية الجديدة المتمثلة في حكم يزيد أن تستفحل في بطشها بقيم الحق والعدل وكرامة الانسان ، فلم يبق أمامه إلاّ الثورة ، وبدونها لا يكون سبطا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وابناً لعلي عليه‌السلام ووارثا لهما ، وقدره أن يكون شهيدا ، وابنا لأكرم الشهداء ، وأبا لآلاف الشهداء ، وأن يكون المثل الأعلى لجميع الأحرار الذين يناضلون من أجل

٤٦

الحق والعدل » (١).

قرآن ناطق

كان تعلّق الحسين عليه‌السلام بالقرآن شديدا ، يتلوه في حلّه وترحاله ، ويجادل ويحاجج به أعداءه ، فمثلاً : « لما وجد الحسين عليه‌السلام مروان بن الحكم في طريقه ذات يوم ، فأراد منه مروان أن يبايع يزيد ، ولما كشف له الإمام عن معايب يزيد ، غضب مروان من كلام الحسين ثم قال : واللّه لا تفارقني حتى تبايع ليزيد صاغرا ، فإنكم آل أبي تراب قد ملئتم شحناء ، واُشربتم بغض آل بني سفيان ، وحقيق عليهم أن يبغضوكم ، فقال الحسين : إليك عني فإنك رجس ، وإني من أهل بيت الطهارة ، وقد أنزل اللّه فينا ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ، (٢) ) فنكس مروان رأسه ولم ينطق » (٣).

والتحق الحسين عليه‌السلام بقبر جده صلى‌الله‌عليه‌وآله يبكي ، تماما كما فعل أبوه علي بن أبي طالب عندما هددته زعامة بطون قريش بالقتل إن لم يبايع ، فالتحق بقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يبكي ويتلو الآية الكريمة : ( قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الاْءَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. (٤) )

فلما خرج من المدينة ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة ستين

__________________

(١) من وحي الثورة الحسينية / هاشم معروف الحسني : ٢٣.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٣.

(٣) مقتل الخوارزمي ١ : ١٨٥ / الفصل التاسع.

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٠.

٤٧

ببنيه واُخوته وبني أخيه وجلَّ أهل بيته إلاّ محمّد بن الحنفية أخذ يتلو هذه الآية : ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، (١) ) وتابع الحسين عليه‌السلام حالة التمثّل بموسى ، فلما وصل إلى مكّة قرأ آية : ( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ. (٢) )

وكانت اجاباته انتزاعات قرآنية ، فلما خرج من مكة واعترضه عمرو بن سعيد أمير الحجاز ليرده ويمنعه من المسير الى العراق ، ردّه ردّا قرآنيا حاسما ، بقوله عليه‌السلام : ( فَقُل لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. (٣) )

ولما انتهى الى قصر مقاتل (٤) نزل ورأى فسطاطا مضروبا لعبيداللّه بن الحرّ الجعفي ، فدعاه الى نصرته لكنه امتنع ، عندها أعرض الإمام عليه‌السلام عنه قائلاً : ( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً. (٥) )

وقد حذر الجيش الأموي من الخسران وسوء العاقبة ، فلما طلب منه قيس بن الأشعث أن ينزل على حكم يزيد ، قال له الحسين عليه‌السلام ولمن معه : « عباد اللّه ( إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (٦) )».

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٢١.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٢٢.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ٤١.

(٤) قصر مقاتل : اسم أحد المنازل التي مرّ بها الإمام الحسين عليه‌السلام في مسيره من مكة الى كربلاء.

(٥) سورة الكهف : ١٨ / ٥١.

(٦) سورة غافر : ٤٠ / ٢٧.

٤٨

ومع ذلك لم يستجيبوا لدعوته الحقة بعدما غشيت الأطماع أبصارهم ، وغشي الجهل بصائرهم.

ولما تناهى إليه وهو في طريقه الى الكوفة خبر مقتل سفيره قيس بن مسهّر الصيداوي ، تلا الآية الشريفة : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ، (١) ) وأثنى على وفاته ، وترحّم عليه.

وردّد نفس هذه الآية عندما تناهى إلى سمعه مصرع مسلم بن عوسجة ، فمشى إليه ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال له الإمام عليه‌السلام : « رحمك اللّه يا مسلم » ، ثم قرأ : ( فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً. (٢) )

وعن الضحّاك بن عبداللّه المشرقي ، قال : « فلمّا أمسى حُسين وأصحابه قاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون ، قال : فتمرّ بنا خيل لهم تحرسنا ، وإنّ حسينا ليقرأ : ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مَا كَانَ اللّه لِيَذَرَ المُؤْمِنِيْنَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَى يَمِيْزَ الْخَبِيْثَ مِنَ الطَّيِّبِ (٣) ). فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا ، فقال : نحن وربّ الكعبة الطيّبون ، مُيِّزْنا منكم. قال : فعرفته فقلت لبُرير بن خُضَير : تدري من هذا؟ قال : لا ، قلت : هذا أبو

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٢٣.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٢٣.

(٣) سورة آل عمران : ١٧٨ ، ١٧٩.

٤٩

حرب السَّبيعي عبداللّه بن شهر ، وكان مُضحاكا بطّالاً ... فقال له بُرير بن خُضَير : يا فاسق ، أنت يجعلك اللّه في الطيّبين! » (١). يبدو أنّ الحسين عليه‌السلام كان يتعمّد رفع صوته عند قراءة القرآن بغية التأثير في نفوس الأعداء ، ولكنّ المطامع قد سدّت منافذ السمع لديهم.

ولما لمح الإمام ابنه علي الأكبر عليه‌السلام وهو يصول ويجول في الميدان ، رفع شيبته نحو السماء قائلاً : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (٢) )

وعندما دنا الجيش من معسكر الإمام ، دعا الإمام براحلته فركبها ، ونادى بأعلى صوته : « أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحق لكم عليّ وحتى أعذر إليكم ، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد ، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم ( فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ ) » (٣) ، ثم قرأ : ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. (٤) )

وكان أصحابه كذلك يستشهدون بالقرآن ، فمثلاً : « أنّ حنظلة بن أسعد الشبامي قام بين يدي الإمام ونادى بأعلى صوته : يا قوم ( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوْحٍ وَعَادٍ وَثَمُوْدَ وَالَّذِيْنَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٢٢٦ ، حوادث سنة إحدى وستين.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٣٣ ـ ٣٤.

(٣) الإرشاد ٢ : ٩٧ ، والآية من سورة يونس : ١٠ / ٧١.

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ١٩٦.

٥٠

اللّه يُرِيْدُ ظُلْما لِلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التّنَاد يَوْمَ تُوَلُّوْنَ مُدْبِرِيْنَ مَا لَكُم مِنَ اللّه مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (١) ) يا قوم لا تقتلوا حسينا ( فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ، (٢) ) فقال الحسين : يا ابن أسعد رحمك اللّه ، إنهم قد استوجبوا العذاب حيث ردّوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق » (٣).

مما تقدم انكشف لنا طبيعة عبادة الحسين عليه‌السلام في كربلاء القائمة أساسا على الصلاة التي أقامها في أُتون هذه المأساة ، وقراءة القرآن الذي كان يكثر من قراءته ، والاحتجاج به ، وتشخيص مصاديق بشرية تنطبق عليها آياته ، وما تخلّل ذلك من دعاء واستغفار بقي الحسين عليه‌السلام يلهج به حتى لفظ آخر أنفاسه الكريمة.

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٣٠ ـ ٣٣.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ٦١.

(٣) اُنظر : تاريخ الطبري ٦ : ٢٤٠ ، حوادث سنة إحدى وستّين ، اللهوف : ٦٥.

٥١

ثالثا : البعد الأخلاقي

سلوك سيد الشهداء عليه‌السلام وسيرته الأخلاقية تعكس سمو نفسه وتربيته في حجر جدّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبيه علي عليه‌السلام ، وتجسيده للقرآن الكريم في عمله وأخلاقه.

وقد تجسدت خصاله الكريمة وسجاياه السامية في مختلف الميادين والمواقف في ثورة الطف ، منها رفضه القاطع مبايعة يزيد ، فخرج من المدينة وامتنع عن مبايعته حتّى في أقسى الظروف التي مرت به في كربلاء من حصار وعطش ومختلف التحدّيات ، بل استقبل الموت بعزّة وشموخ ، وسقى الحرّ وجيشه طوال الطريق ، وقَبِل يوم عاشوراء توبة الحرّ.

ورفع البيعة عن أنصاره لينصرف من يشاء منهم الانصراف ، وكان يعطف على أطفال مسلم بن عقيل بعد شهادة أبيهم ، كما صبر على كل المصائب والشدائد التي واجهته في ذلك اليوم ومنها مقتل أصحابه وأهل بيته.

وعلى الرغم من كل تلك المواقف العصيبة والوحدة القاتلة والعطش الشديد ، قاتل أعداءه كالليث ولم ترهبه كثرتهم. كان يرى أنّ نهضته قائمة على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأشار عدّة مرّات أثناء مسيره إلى كربلاء إلى هوان الدنيا وتصرّمها ، وبيّن زهده فيها ، وتحمّل في

٥٢

يوم الطفّ كل ما رآه من عدوّه من سوء الخلق ولؤم الطباع. وبعد استشهاده وجدوا على أكتافه آثار أكياس الطعام التي كان يحملها إلى الفقراء ، إلى غير ذلك من خصال نفسه الزكية وسمات نهضته الأخلاقية التي يمكن الإشارة إلى أهمها بالنقاط التالية :

١ ـ الإيثار :

وهو من أبرز المفاهيم والدروس المستقاة من واقعة الطف ، والايثار يعني الفداء وتقديم شخص آخر على النفس ، وبذل المال والنفس والنفيس فداءً لمن هو أفضل من ذاته. وفي كربلاء شوهد بذل النفس في سبيل الدين ، والفداء في سبيل الإمام الحسين عليه‌السلام ، والموت عطشا لأجل الحسين عليه‌السلام ، وأصحابه ما داموا على قيد الحياة لم يدعوا أحدا من بني هاشم يبرز إلى ميدان القتال ، إيثارا منهم على أنفسهم.

وفي ليلة عاشوراء لمّا رفع الإمام عليه‌السلام عنهم التكليف لينجوا بأنفسهم ، قاموا الواحد تلو الآخر ، وأعلنوا عن استعدادهم للبذل والتضحية. يروي الشيخ المفيد رحمه‌الله : « أنّ الحسين عليه‌السلام قال لأتباعه : ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حلٍّ ليس عليكم منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً. فقال له اخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبداللّه بن جعفر : لم نفعل ذلك لنبقى بعدك؟! لا أرانا اللّه ذلك أبدا. بدأهم بهذا القول العباس بن علي رضوان اللّه عليه واتّبعته الجماعة عليه فتكلّموا بمثله ونحوه.

فقال الحسين عليه‌السلام : يا بني عقيل ، حسبكم من القتل بمسلم ، فاذهبوا

٥٣

أنتم فقد أذنت لكم. قالوا : سبحان اللّه ، فما يقول الناس؟! يقولون إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا ـ خير الأعمام ـ ولم نرم معهم. بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا ، لا واللّه ما نفعل ذلك ، ولكن نفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ، ونقاتل معك حتى نرد موردك ، فقبّح اللّه العيش بعدك.

وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال : انخلّي عنك ولمّا نعذر إلى اللّه سبحانه في أداء حقّك؟ أما واللّه حتى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، واللّه لا نخليك حتى يعلم اللّه أن قد حفظنا غيبة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيك ، واللّه لو علمت أنّي أقتل ثمّ أحيا ثمّ أحرق ثمّ أحيا ثمّ أذرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ، ما فارقتك حتى ألقى حمامي » (١).

ووقف بعض أصحاب الإمام الحسين عليه‌السلام ظهيرة يوم عاشوراء ، عندما وقف لصلاة الظهر ، يقونه سهام العدو بصدورهم ، وخاض العباس نهر الفرات بشفاه عطشى ، ولما أراد تناول الماء تذكّر عطش الحسين والأطفال فلم يشرب منه ، وقال (٢) :

يا نفس من بعد الحسين هوني

وبعده لا كنت أن تكوني

هذا الحسين وارد المنون

وتشربين بارد المعين

تاللّه ما هذا فعال ديني

__________________

(١) الإرشاد٢ : ٩١ ـ ٩٢.

(٢) ينابيع المودّة ، القندوزي ٢ : ١٦٥ / الباب الحادي والستّون.

٥٤

ورمت زينب عليها‌السلام بنفسها في الخيمة المشتعلة بالنار لإنقاذ الإمام زين العابدين منها ، وحينما صدر الأمر في مجلس يزيد بقتل الإمام السجّاد عليه‌السلام فدته زينب عليها‌السلام بنفسها.

وهناك أيضا عشرات المشاهد الاُخرى التي يعتبر كل واحد منها أروع من الآخر ، وكل موقف منها يعطي درساً من دروس الايثار للأحرار ، فاذا كان المرء على استعداد للتضحية بنفسه في سبيل شخص آخر أو في سبيل العقيدة ، فهذا دليل على عمق إيمانه بالآخرة والجنّة وبالثواب الإلهي ، قال الإمام الحسين عليه‌السلام في بداية مسيره إلى كربلاء : « من كان باذلاً فينا مهجته ، وموطِّنا على لقاء اللّه نفسه ، فليرحل معنا ، فإنّي راحل مصبحا إن شاء اللّه تعالى » (١).

وهذه الثقافة نفسها ـ ثقافة الإيثار ـ هي التي دفعت بعمرو بن خالد الصيداوي لأن يخاطب الحسين عليه‌السلام في يوم عاشوراء قائلاً : « يا أبا عبداللّه جعلت فداك قد هممت أن ألحق بأصحابك وكرهت أن أتخلّف فأراك وحيدا بين أهلك قتيلاً. فقال له الحسين عليه‌السلام : تقدّم فإنّا لاحقون بك عن ساعة. فتقدّم فقاتل حتى قتل رضوان اللّه عليه » (٢).

كما أشارت زيارة عاشوراء إلى صفة الايثار التي يتحلّى بها أصحاب الحسين ، فوصفتهم بالقول : « الّذين بذلوا مُهجهم دون الحسين

__________________

(١) كشف الغمّة / الإربلي ٢ : ٣٣٩ ، دار الأضواء ، بيروت ، ط٢ ـ ١٤٠٥ ه ، اللهوف : ٣٨.

(٢) اللهوف : ٦٥.

٥٥

عليه‌السلام » (١).

٢ ـ الشجاعة :

وهي الاقدام عند منازلة الخصوم وعدم تهيّب المخاطر ، واقتحام الخطوب ، وتعتبر الشجاعة من الصفات المهمّة التي تميّزت بها شخصية الإمام الحسين عليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته ، اذ نقرأ عن الاندفاع والحماس المنقطعي النظير الذي جسدوه في سوح الوغى ، والتسابق على بذل الأرواح رخيصةً فداءً للدين والمبادى ء. ورسمت ملحمة كربلاء ـ منذ انطلاقها وحتى مراحلها الأخيرة ـ مشاهد تتجسد فيها معالم الشجاعة بشتى صورها ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، فالتصميم الذي أبداه الإمام الحسين عليه‌السلام في معارضة يزيد ورفض البيعة له ، وعزمه الراسخ على المسير نحو الكوفة والتصدّي لأنصار يزيد ، من أمثال ابن زياد ، وعدم انهيار معنوياته لسماع الأخبار والاوضاع التي كانت تجري في الكوفة ، واعلانه على الملأ عن الاستعداد لبذل دمه والتضحية بنفسه في سبيل إحياء الدين ، وعدم الخوف من كثرة الجيش المعادي على الرغم من كثرة عدده وعدته ، ومحاصرة هذا الجيش له في كربلاء ، مع عدم استسلامه ، والقتال العنيف الذي خاضه بعد ذلك مع جنوده واهل بيته ، وصور البطولة الفردية التي أبداها أخوه العباس ، وعلي الأكبر ، والقاسم ، وعامة أبناء علي وأبناء

__________________

(١) اللهوف : ٥ ، مصباح المتهجّد / الشيخ الطوسي : ٧٧٦ ، مؤسّسة فقه الشيعة ، بيروت ـ ط١ ـ ١٤١١ ه ، كامل الزيارات / ابن قولويه : ٣٢٢ ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، ط١ ـ ١٤١٧ ه.

٥٦

عقيل ، والخطب التي ألقاها الامام السجاد وزينب عليهما‌السلام في الكوفة والشام وغيرها من المواقف والمشاهد البطولية تعكس بأجمعها عنصر الشجاعة الذي يعدّ من أوّليات ثقافة عاشوراء.

وعلى وجه العموم كان آل الرسول أمثلة خالدة في الشجاعة والاقدام وثبات الجنان ، وكانت قلوبهم خالية من الخوف من مواجهة الحتوف ، وكانت ساحات القتال في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وحروب علي عليه‌السلام في الجمل وصفين والنهروان شاهدا يعكس شجاعة آل البيت عليهم‌السلام.

وقد اعتبر الامام السجاد عليه‌السلام الشجاعة من جملة الخصال البارزة التي منَّ اللّه بها على هذه الأسرة الكريمة ، وذلك لما قال في خطبته في قصر الطاغية يزيد : « فضلنا أهل البيت بستّ خصال : فضلنا بالعلم والحلم والشجاعة والسماحة والمحبّة والمحلّة في قلوب المؤمنين ، وآتانا ما لم يؤت أحدا من العالمين من قبلنا ، فينا مختلف الملائكة وتنزيل الكتب » (١).

وكان لهذه الشجاعة موارد مختلفة ، فهي في مجال القول واللسان ، وكذلك في تحمّل أهوال المنازلة ومقاتلة العدو ، والإغارة الفردية على صفوف جيشه ، وكذلك في تحمّل المصائب والشدائد ، وعدم الانهيار والقبول بالدنيّة. بدليل أنّه لما اشتدّ القتال ، قال : « أما واللّه لا أجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتى ألقى اللّه تعالى وأنا مخضّب بدمي » (٢). حتى أنّ

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب٤ : ١٦٨.

(٢) اللهوف : ٦١.

٥٧

العدو والصديق قد أثنى على شجاعة الحسين عليه‌السلام وصحبه وأهل بيته ، ألم يخاطب عمر بن سعد قومه بالقول : « الويل لكم ، أتدرون من تبارزون! هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتال العرب ، فاحملوا عليه من كلّ جانب » (١).

وما أمر المجرم عمر بن سعد بالهجوم الشامل على أفراد جيش الإمام ورميهم بالحجارة إلاّ دليلٌ على تلك الشجاعة الفريدة.

وكنتيجة لما يتحلّى الحسين عليه‌السلام وأسرته من شجاعة حصّلوا على أكبر عدد من أوسمة الشهادة ، يقول عباس محمود العقاد : « فليس في العالم أسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين عدّة وقدرة ... وحسبه أنّه وحده في تاريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السنين » (٢).

ومع أنّ الأرقام التي تذكرها المقاتل عن عدد قتلى العدو نتيجة لهجوم أصحاب الامام عليهم ، قد تكون مبالغاً فيها ، إلاّ أن الأمر الثابت الذي لا يمكن إنكاره هو الشجاعة المثيرة لهذه الثلّة المؤمنة ، التي بذلت نفسها في سبيل اللّه ، ولم تطاوعها نفسها بترك قائدها في الميدان وحده.

٣ ـ الشهامة والمروءة :

وتعتبر من المعالم الاخلاقية والنفسية البارزة لدى الحسين عليه‌السلام وأنصاره ، والتي تجسدت في ملحمة عاشوراء ، وهذه النفسية التي تجعل الانسان يشمئز من الطغاة ، ويرفض الانصياع لسلطان الظلم ، ويحب

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ١١٠.

(٢) المجموعة الكاملة ـ الحسين عليه‌السلام أبو الشهداء٢ : ٢٨٠.

٥٨

الحرية والفضيلة ، ويتجنّب الغدر ونقض العهد وظلم الضعفاء ، ويدافع عنهم ، ولا يتعرض للابرياء ، ويقبل العذر ، ويقيل العثرة ، ويعترف بالحق الانساني للآخرين. هذه الأمور كلها تعتبر من معالم الشهامة والمروءة التي تجسدت على أرض الطف.

لقد رفض سيد الشهداء عليه‌السلام عار البيعة ليزيد ، ولما واجه جيش الكوفة في طريق كربلاء ، رفض اقتراح زهير بن القين الذي أشار عليه بمحاربة هذه الفئة من قبل أن يجتمع إليهم سائر الجيش ، وقال عليه‌السلام : « وما كنت لأبدأهم بالقتال » (١) ، وهذا نموذج رائع من شهامة الحسين عليه‌السلام.

ولما لقي جيش الحر وقد أضرّ بهم العطش أمر بسقيهم الماء هم وخيلهم ، على الرغم من أنهم جاءوا لمجابهته واغلاق الطريق عليه ، وكان من بينهم علي بن الطعان المحاربي الذي ما كان قادرا على شرب الماء من فرط عطشه ، ويروي لنا القضية بنفسه ، قال : « كنت مع الحُرّ يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه ، فلما رأى الحسين عليه‌السلام ما بي وبفرسي من العطش ، قال : أنخ الراوية. ثم قال : يابن أخي أنخ الجمل. فأنخته فقال : اشرب ، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين عليه‌السلام : اخنث السقاء. أي اعطفه ، فلم أدر كيف أفعل ، فقام فخنثه فشربت ، وسقيت فرسي » (٢). وهذا مثال آخر على مروءته عليه‌السلام.

ولما عزم الحر الرياحي على مفارقة جيش عمر بن سعد والانضمام إلى

__________________

(١) الإرشاد٢ : ٨٤.

(٢) الإرشاد ٢ : ٧٨.

٥٩

معسكر الحسين عليه‌السلام ، وقف الحر بين يدي الحسين عليه‌السلام منكسرا معلنا توبته واستعداده للتضحية بنفسه قائلاً : هل لي من توبة؟ فقال له أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « نعم يتوب اللّه عليك ، فانزل » (١) ، وهذا نموذج آخر على مروءة الحسين عليه‌السلام ، فهو يقبل عذر المعتذر ، ولا يغلق باب التوبة في وجهه.

وفي قيظ يوم عاشوراء واشتداد حر الرَّمضاء ، لما رأى الحسين عليه‌السلام هجوم الجيش على خيام عياله صاح بهم يعنّفهم : « ويلكُم! إنْ لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا في أمر دُنياكم أحرارا ذوي أحساب ، امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهّالكم » (٢). وهذا أيضا شاهد آخر على مروءته وشهامته ، فهو ما دام حيّا لم يكن قادرا على رؤية العدو وهو يهجم على عياله ، وقد شوهدت هذه الغيرة والحمية من الامام الحسين عليه‌السلام وأنصاره في ساحة القتال يوم العاشر من المحرّم.

وهذه السجية قد استقاها من أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي غلب جيش الشام في صفين ، وانتزع منه شريعة الفرات ، ثم قال لجنده : « خلّوا بينهم وبينه » (٣) ، ولكن لؤم معاوية الذي ورثه يزيد دعاه إلى منع الماء عن جيش الحسين بن علي عليه‌السلام.

روى الشيخ الصدوق قدس‌سره أنّ عبيداللّه بن زياد كتب إلى عمر بن سعد : « إذا أتاك كتابي هذا ، فلا تمهلنّ الحسين بن علي ، وخذ بكظمه ، وحُلْ بين

__________________

(١) لواعج الأشجان : ٢١٩.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٢٤٤ ، حوادث سنة إحدى وستين.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٣١٩.

٦٠