جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

الاعتبار موجودا لشيء آخر ووجودا ذهنيا لذاته ، فلا جرم صارت معقولة لذلك الشيء الآخر لا لذاته. وإذا لم يكن له بهذا الاعتبار ـ أي : باعتبار وجودها في ذلك العاقل عاقلة لذاتها ـ فكيف عقلها ذلك العاقل عاقلة لذاته بهذا الاعتبار؟. ومحصّل القول : انّ عالمية الجواهر المجرّدة لذاتها هي عين وجودها لا عين ماهيتها ، وإذا كان كذلك فلا يلزم من عقل ماهية الجواهر المجرّدة عقلها عاقلة لذاتها ؛ اللهم إلاّ فيما يكون وجوده عين مهيته ـ كالواجب ـ. ولما استحال ارتسام حقيقته ـ تعالى ـ في ذهن من الأذهان بالكنه بل ينحصر تعقّلنا له بالتعقّل بوجه من الوجوه ـ ككونه واجب الوجود بحسب المفهوم العامّ ـ لا يلزم من تعقّلنا له تعقّلنا عقله لذاته ، بل يحتاج إلى استيناف بيان وبرهان. ومن توهّم أنّ في كون الشيء عالما بنفسه يكون موضوع العالمية مغايرا لموضوع المعلوميّة بالاعتبار وقايسه إلى معالجة الشخص نفسه ـ إذ هو من حيث انّه معالج غيره من حيث انّه مستعلج ، فالمؤثّر النفس من حيث حصول ملكة المعالجة لها والمتأثّر من حيث قبوله للعلاج ـ ، لزمه القول بتكثّر الحيثيات التقييدية في ذاته ـ تعالى ـ من حيث كونه عالما بذاته ومعلوما لذاته. ولقد صرّح الشيخ الرئيس في الشفا والتعليقات بأنّ نفس كون الشيء عاقلا ومعقولا لا يوجب أن يكون هناك اثنينية في الذات ولا في الاعتبار ، فالذات واحدة والاعتبار واحد ، فانّه ليس تحصّل الأمرين / ١٢٤ BM / إلاّ اعتبار أنّ له ماهية مجرّدة هي ذاته / ١١٩ DB / وانّه ماهية مجرّدة لذاته ذاته له. لكن في الاعتبار تقديم وتأخير في ترتيب المعاني ، والغرض المحصّل شيء واحد. ولا يجوز أن يحصّل حقيقة الشيء مرّتين ؛ انتهى كلامه بانتهاء كلام الشيخ.

اقول : حاصل كلامه في الجواب عن اعتراض الامام : انّ من تعقّل الجواهر المجرّدة فانّما تعقّل ماهيتها دون وجودها الخارجي ، وماهيتها ليست عين عالميتها بذواتها حتّى يلزم من تعقل ماهيتها تعقّل عالميتها بذواتها ، بل وجودها الخارجي عين عالميتها بذواتها وهو غير معقول لمن تعقّلها حتّى يعقل عالميتها بذواتها ، لانّ الوجود الخارجي حقيقته انّه في الخارج فلا يحصل في الذهن ، إذ لو حصل فيه لزم قلب الحقيقة. وجميع ما يعقل من الاشياء انّما هو ماهيتها وما وجوده عين مهيته ـ كالواجب ـ لا يحصل في الأذهان مطلقا ؛

٦١

اللهم إلاّ بوجه من الوجوه ـ ككونه واجب الوجود بحسب المفهوم العامّ ـ.

وأنت خبير بانّه إذا لم يعقل الوجود الخارجي للجواهر المجرّدة فمن أين يحكم بأنّ وجودها عين عالميتها بذواتها مع انّ العالمية بمعنى الانكشاف أمر معقول لنا؟ ؛ فكيف يحكم باتحاد ما يعقل مع ما لا يعقل أصلا؟. فالمراد بوجودها الّذي حكم بعينيته لعالميتها ان كان هو الوجود العامّ فالحكم بعدم كونه معقولا ممنوع ، إذ هو معقول. مع أنّ تعقّله لا يوجب تعقّل عالميتها لبداهة تغايرهما ؛

وإن كان هو وجودها الخاصّ الّذي هو عين الذات في الواجب وغيره في غيره فان كان ممكن التعقّل فاعتراض الامام وارد ، وإلاّ فالحكم بالعينية ولو بالدليل والبرهان باطل. وهذا ممّا يدلّ على حقّية ما اخترناه وبطلان ما ذهبوا إليه في العينية ، لانّه معلوم بالضرورة انّ الوجود العامّ ليس عين الانكشاف ولا عين غيره من الصفات بمعنى كونه فردا لها والوجود الخاصّ الّذي هو منشأ انتزاع العامّ إن كان حقيقته ما هو المعقول لنا ، فهو ليس عين شيء من الصفات وإن كان حقيقته غير ما هو المعقول لنا ، بل كانت مجهولة الكنه ؛ فلا معنى للحكم بالعينية والاتحاد ؛

وإن اريد بالاتحاد اتحاد المبدأ في الكلّ فهو الحقّ المنصور الّذي اخترناه.

ثمّ ما ذكره من أنّ في كون الشيء عالما بنفسه لا يكون موضوع العالمية مغايرا لموضوع المعلومية بمعنى انّ حيثية عالميته ليست مغايرة لحيثية معلوميته وإلاّ لزم تكثّر الحيثيات التقديرية في ذاته ـ تعالى ـ إن اراد : انّ العالم فيه بعينه هو المعلوم من غير تحقّق صورة زائدة في ذاته وأنّ عالمية الذات ـ أي : كونها بحيث منكشفة ذاتها عندها ـ هي بعينها معلوميتها ـ أي : كونها بحيث منكشفة عند ذاتها ـ فهو حق ، وصريح كلام الشيخ أيضا ذلك حيث قال : « فالذات واحدة والاعتبار واحد » ؛

وإن اراد : انّ العالمية ـ أعني : الانكشاف ـ نفس الذات وعينها وليس أمرا اعتباريا منتزعا عنه ، بل اعتبار العالمية والمعلومية هو بعينه اعتبار تحقّق الذات حتّى يكون العالمية ـ أعني : الانكشاف ـ عين الذات المحصّلة في الخارج ، فهو ممنوع ، وكلام الشيخ أيضا يدلّ على خلاف ذلك ؛ فانّ قوله : « فالذات واحدة والاعتبار واحد » يدلّ على أنّ

٦٢

اعتبار العالمية والمعلومية الّذي هو اعتبار واحد غير الذات.

ثمّ هذا الاعتبار ـ أعني : الانكشاف ـ كغيره من الاعتبارات الانتزاعية من مجرّد الذات مع كونها منشأ لزيادة الوحدة والبساطة لا يوجب تكثّرا وتعدّدا في الذات الحقّة ـ كما أشير إليه مرارا ـ.

وبما ذكرناه يظهر لك ما في كلام بعض الأعلام الإلهيين حيث قال في تصحيح الطريقة المبتنية على كون التعقّل عين الوجود : انّ ما هو بريء الذات عن علائق الموادّ وله وجود صوري ذاته له للمادة ولا لغيرها فذاته غير محتجبة عن ذاته ، بل نفس وجوده نفس كونه معقولا وذاته بعينها هي الصورة العقلية من ذاته لذاته فكما أنّ الحرارة القائمة بالنار حرارة لها وإذا فرضت قائمة بذاتها كانت حارّة بنفسها وحرارة لذاتها لا لشيء آخر والضوء القائم بالشمس إذا تجرّد وقام بذاته كان مضيئا بنفسه وضوء لذاته لا لشيء آخر ، كذلك الصورة المجرّدة ما دامت قائمة بالجوهر المفارق كانت معقولة المحلّ وعقله ، وإذا صارت مجرّدة بنفسها قائمة بذاتها لم تنسلخ عن المعقولية ، بل كانت معقولة بنفسه وعقل ذاته. وكما انّ المعلوم العيني يعلم بالصورة العلمية والصورة تعلم بنفسها ـ لا بصورة علمية أخرى ـ ، فكذلك الأشياء الّتي هي / ١٢٠ DA / غير القوّة العقلية انّما يتعقّل بقوّة عقلية والقوّة العقلية يتعقّل بنفسها لا بقوّة عقلية أخرى. وقد تبيّن بذلك / ١٢٥ MA / انّ العلم انّما هو حصول الشيء معرّى عمّا يلابسه لأمر مجرّد مستقلّ في الوجود بنفسه أو بصورته حصولا حقيقيا أو حكميا. فواجب الوجود لمّا كان في أعلى غايات التجرّد عن الموادّ والتقدّس عن الغواشي الهيولانية وسائر ما يجعل الماهية بحال زائدة كان عاقلا لذاته. ولمّا كان إنّيته حقيقته ـ أي : وجوده مهيته ـ فكما لا يزيد علمه بذاته على وجوده فكذلك لا يزيد على حقيقته ، بخلاف الجواهر المفارقة الذوات فعلومها بذواتها وان لم تزد على وجوداتها ـ لما ذكرنا من المساوقة بين العلم والوجود المفارقي سواء كان بالذات أو بتجريد مجرّد ـ لكن يزيد على ماهيتها ، إذ ليست الإنّية فيها عين الماهية. فعلم واجب الوجود الحقّ بذاته اتمّ العلوم وأشدّها صورة ، بل لا يشبه علمه بذاته إلى علوم ما سواه من المجرّدات بذواتها ، كما لا يشبه بين وجوده ووجودات الاشياء حيث هو ما وراء ما

٦٣

لا يتناهى بما لا يتناهى. وكما انّ مناط الموجودية ومصداق حمل الوجود على الممكنات إنّما هو ارتباطها بالوجود الحقّ وهي مع قطع النظر عن ذلك الارتباط هالكات الذوات والحقائق ، فكذلك مناط عالميتها بنفسها أو بغيرها ارتباطها إلى نور الأنوار واستضاءتها به ، نسبتها إليه ـ تعالى ـ نسبة الاجسام الكثيفة إلى نور الشمس لو كان قائما بنفسه فهي مظلمة بذواتها مستضيئة بلمعان نوره الغير المتناهى شدّة وقوّة. ولشدّة نوريته وقوّة اشراقه وافراط ظهوره يتجافى عنه الحواسّ ولا يدركه العقول والأبصار ؛ انتهى.

وحاصل ما ذكره أوّلا : هو التصريح بكون وجود المجرّد عين عاقليته ومعقوليته ، والاستشهاد بالحرارة والضوء إذا فرض قيامها بذاتها. وأنت تعلم انّ هذا الاستشهاد لا يفيد المطلوب ، بل قياس مع الفارق! ؛ لأنّ كلّ واحد من الحرارة والضوء إذا قام بذاته فلا ريب في كونه حرارة وضوء لذاته وحارّا ومضيئا لنفسه ، إلاّ أنّه لا يكون وجود كلّ منهما عين الحرارة والضوء ، فانّ وجودهما مغاير لهما عند العقل ، كما إذا كانا قائمين بالمحلّ أيضا. فكذلك الصورة المجرّدة إذا قامت بذاتها تكون معقولة لنفسها إلاّ أنّ عاقليتها ومعقوليتها ليست عين وجودها بمعنى كون وجودها العيني فردا لها ، بل تعقّلها لذاتها أمر لازم لذاتها منتزع عنها ، بل الصورة المجردة إذا قامت بالجوهر المفارق يكون وجودها غير معقوليتها ، لانّ المراد بمعقوليتها هو انكشافها عند المحلّ ولا ريب أنّ وجودها للمحلّ وقيامها به غير هذا الانكشاف ، فانّه لازم وجوده له وقيامه به.

ثمّ قوله : « وكما أنّ مناط الموجودية ومصداق حمل الوجود ـ ... إلى اخر ـ » اشارة إلى طريقة المتصوّفة في وحدة الوجود والصفات ، فانّهم قالوا : كان الوجود واحدا هو الوجود الواجبي ، وموجودية الممكنات انّما هو لمجرّد الارتباط والتعلّق بالموجود الواجبي ، فكذلك قالوا : انّ العلم واحد وهو حقيقة الوجود الواجبي وعالمية الممكنات لأجل ارتباطها وانتسابها إليه ، وكذلك الحال في القدرة ـ كما اشرنا إليه ـ ، وكذا في سائر الصفات. وقد اشرنا إلى انّ درك ذلك والاذعان به غير ممكن لنا.

وقد يأتي لذلك ولكيفية عينية صفاته ـ تعالى ـ وما قيل فيها زيادة بيان في موضعه ؛ وانّما تعرّضنا لذلك هنا بحيث أدّى إلى الاطناب وأوجب ملالة الاحباب وسآمة

٦٤

الأصحاب تطفّلا لما كنّا في صدد بيانه ، لشدّة الاحتياج إليه وتوقّف إيضاح المطلوب عليه.

وقد ظهر وتحقّق من التطويل المذكور انّ التجرّد مصحّح للانكشاف ، وإذا حصل أحد العلاقات المذكورة يحصل الانكشاف بالعقل فكلّ مجرّد قائم بذاته لوجود علاقة حضوره عند ذاته عاقل لذاته إلاّ انّ تعقّله ليس عين وجوده ، بل هو شأن من شئونه ومنتزع عنه انتزاعا لا يوجب التعدّد والتكثّر. وبهذا يثبت ما كنّا بصدد بيانه ـ أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته ـ. وقد علمت انّ الطريق الّذي سلكناها لاثبات ذلك ـ أي : كون كلّ مجرّد عاقلا ـ غير الطريق المنقولة عن القوم في ذلك ، فانّ لهم ثلاثة مسالك في ذلك :

أولها : ما نقلناه عن بهمنيار ، وقد عرفت حاله ؛

وثانيها : الاستدلال بحال النفوس الناطقة للانسان ، / ١٢٠ DB / فانّه لا ريب في انّ النفوس الانسانية المجرّدة عالمة ومنشأ عالميتها ليس الاّ تجرّدها ، قال بعض المشاهير : حكم الحكماء بأنّ كلّ مجرّد عاقل وكلّ معقول مجرّد انّما نشأ من تفتيش عن احوال النفوس المجرّدة الانسانية وادراكاتها ، وليس منشأ عالميتها الاّ تجرّدها.

وأنت تعلم انّ هذا وان كان حقّا إلاّ انّه يحتاج إلى البيان ، ومجرّد جعل ذلك دليلا مصادرة على المطلوب ، فلا بدّ من بيانه إمّا بدليل يتمّ عند أهل النظر ـ كما ذكرناه ـ أو بالحوالة إلى الكشف أو الحدس ؛

وثالثها : ما سلكه المحقّق الطوسي في مبحث الاعراض من التجريد ، وهو : انّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون معقولا ، لانّه بريء عن الشوائب المادية وكلّ ما هو كذلك فشأن ماهيّته / ١٢٥ MB / أن تكون معقولة ، لانه لا يحتاج إلى عمل يعمل بها من التجريد والتقشير حتّى يصير معقولة. فان لم يعقل فانّما ذلك من جهة عدم تحقّق العاقل لها. وإذا صحّ كونه معقولا فيصحّ أن يكون معقولا مع غيره ، لانّ كلّما يصحّ أن يعقل فتعقّله يمتنع ان ينفكّ عن صحّة الحكم عليه بالوجود والوحدة وما يحكم مجريها من الأمور العامّة المعقولة ـ كالعلّية والمعلولية والشيئية ونحوها ـ. والحكم بشيء على شيء يقتضي تصوّرهما معا ، فاذن كلّما يصحّ أن يكون معقولا يصحّ أن يعقل مع غيره ، وكلّما يصحّ أن يكون معقولا مع غيره يصحّ أن يكون منها بالمعقول الآخر ، لانّها لمعيته في المعقولية هو

٦٥

نوع من المقارنة. وكلّما يصحّ أن يكون مقارنا لغيره من المعقولات يصحّ أن يكون عاقلا إذا كان مجرّدا قائما بذاته ، لأنّ كلّما يصحّ أن يكون مقارنا لغيره ـ ولو في المعقولية ـ فاذا وجد في الخارج يصحّ مقارنته لذلك الغير الّذي يصح مقارنته له في المعقولية لأنّ صحّة المقارنة المطلقة لم يتوقّف على المقارنة في العقل ، لأنّ صحّة المقارنة المطلقة هي استعداد المقارنة المطلقة واستعداد المقارنة المطلقة التي هي أعمّ من المقارنة في العقل متقدّم على نفس المقارنة المطلقة المتقدّمة على المقارنة في العقل ، والمتقدّم على المتقدّم على الشيء متقدّم على ذلك الشيء. فصحّة المقارنة المطلقة متقدّمة على المقارنة في العقل. فلا تتوقّف صحّة المقارنة المطلقة على المقارنة في العقول وإلاّ لزم الدور ، وإذا لم يتوقّف عليه فاذا وجد في الخارج مجرّد قائم بذاته يكون صحّة مقارنته المطلقة الّتي لا يتوقف على المقارنة في العقل بأن يحصل فيه المعقول حصول الحالّ في المحل ، وذلك لانّه إذا كان قائما بذاته امتنع أن يكون مقارنته للغير بحلوله في ذلك الغير أو بحلولها في ثالث ، والمقارنة المطلقة منحصرة في هذه الثلاثة. فاذا امتنع اثنان منها تعيّن أن يكون الصحّة بالنسبة إلى الثالث ، وهو صحّة مقارنة هذا المجرّد القائم بذاته للمعقول مقارنة المحل للحالّ ـ أي : يكون المجرّد محلاّ للمعقول ـ. فيثبت انّ كلّ ما يصحّ أن يعقل فاذا وجد في الخارج وكان مجرّدا قائما بذاته يصحّ أن يقارنه معقول آخر مقارنة الحالّ لمحله. ولا نعني بالتعقّل الاّ مقارنة المعقول للموجود المجرّد القائم بذاته مقارنة الحالّ لمحلّه ؛ فكلّ مجرّد يصحّ أن يكون عاقلا لغيره وكلّ ما يصحّ أن يكون عاقلا لغيره يصحّ أن يكون عاقلا لذاته ، لانّ صحة تعقّله لذلك الغير يستلزم صحة تعقل انّه تعقّل ذلك الغير. وصحّة تعقّل انّه تعقّل ذلك الغير مستلزم لصحّة تعقّل ذاته ، لانّ تعقّل القضية مستلزم لتعقّل المحكوم عليه ، فثبت انّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون عاقلا لذاته. وإذا صح أن يكون عاقلا لذاته وجب أن يكون عاقلا لذاته بالفعل ، لأنّ تعقّله بذاته إمّا بحصول نفسه أو بحصول مثاله ، والثاني باطل ـ لاستلزامه اجتماع المثلين ـ فتعيّن أن يكون تعقّله بحصول نفسه ونفسه دائما حاصل له لا تغيب عنه أصلا ، فيكون التعقّل دائما حاصلا له ، فثبت أنّ كلّ مجرّد عاقل.

ولا يخفى انّ هذا الدليل غير تامّ ، والاعتراض عليه بوجوه :

٦٦

منها : انّا لا نسلّم انّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون معقولا ، لم لا يجوز أن تكون خصوصية ذات بعض المجرّدات مانعة من أن يعقل كما صرّحوا بأنّ كنه ذاته ـ تعالى ـ يمتنع ان يكون معقولا لغيره؟! ، فيجوز أن يكون بعض المجرّدات بحيث يمتنع أن يكون معقولا لغيره مطلقا.

ومنها : انّ تقدم المقارنة المطلقة على المقارنة الخاصّة ـ أعني : المقارنة في العقل ـ انّما يتمّ إذا كانت المقارنة / ١٢١ DA / المطلقة ذاتية لها ، وهو غير ممنوع.

ومنها : ـ وهو العمدة ـ : انّا نسلّم انّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون مقارنا لغيره في التعقّل ولكنّا لا نسلّم انّ ذلك يوجب صحّة مقارنته له في الخارج. وما قيل في بيان استلزام صحّة المقارنة في العقل لصحّة المقارنة في الخارج ظاهر الفساد ، لأنّ حاصل البيان : انّه إذا ثبت صحّة المقارنة في العقل يكون ذلك كاشفا عن صحّة المقارنة المطلقة ، وهي لتقدّمها على المقارنة الخاصّة ـ بالبيان المذكور ـ لا يتوقّف عليها حتّى يلزم أن يكون تحقّقها منحصرا بحصولها في ضمنها ، فيصحّ تحقّقها لا في ضمنها أيضا ، فاذا وجد المجرّد في الخارج يصحّ مقارنته بالمقارنة المطلقة لغيره ، واقسامها منحصرة بالثلاثة المذكورة ، ويمتنع اثنان منها ، فتعيّن الثالث ـ وهو أن يكون الغير حالاّ فيه ـ.

ويرد عليه : انّ القدر المسلّم انّ صحّة المقارنة في العقل انّما يكشف عن صحّة المقارنة المطلقة الحاصلة في ضمن / ١٢٦ MA / هذه المقارنة الخاصّة لا الحاصلة في ضمن مقارنة خاصّة أخرى ، فيجوز أن يصحّ لذات المجرّد المقارنة المطلقة في ضمن هذا الخاصّ فقط ـ أعني : المقارنة في العقل ـ ، لا لانّ صحّة المقارنة المطلقة موقوفة على هذه المقارنة الخاصّة حتّى لا يجوز حصولها في ضمن مقارنة خاصّة اخرى ويقال حينئذ انّه خلاف الواقع ، بل لانّ ذات المجرّد يجب أن لا تقبل الاّ هذه المقارنة الخاصّة ـ أعني : المقارنة في العقل ـ ، فالمقارنة المطلقة هنا انّما توجد في ضمن هذه المقارنة الخاصّة فقط وان وجدت في مواضع أخر في ضمن المقارنات الخاصّة الأخر.

ثمّ على ما ذكرنا ـ وعلى ما ذكره بهمنيار وغيره أيضا ـ فلا ريب في أنّ المنشأ للتعقّل هو التجرّد بشرط كون المجرّد موجودا بالفعل قائما بذاته ، فبالتجرّد تخرج الصور الجمادية

٦٧

وغيرها ممّا يتعلّق بالموادّ عن العاقلية وبالموجودية بالفعل ؛ والقيام بالذات يخرج الهيولى عن العاقلية ، لانّ الهيولى ليست موجودة بالفعل ، بل هي جهة القوّة دائما في الموجودات المادّية. فكما أنّها جهة قوّة الوجود فكذا جهة قوّة العالمية فيما يتعلّق بها من الأشياء كالنفوس الّتي هي عاقلة ومعقولة بالقوّة ثمّ تصير عاقلة ومعقولة بالفعل ، ولا يبعد أن يدّعى خروجها عن العاقلية بالتجرّد ، لانّ التجرّد المستلزم للتعقّل إنّما هو البراءة عن المادّية ، وعين المادّة كيف يكون عرية عن المادّية؟. وبالجملة ما ذكرنا في دليل انحصار التعقّل في المجرّد من التحليل ومن لزوم كون محلّ المجرّد المعقول مجرّدا انّما يتأتى في المجرّد الموجود بالفعل القائم بذاته المنحصر بالواجب ، والجواهر المجرّدة من العقول والنفوس والصور الجمادية والهيولى وغيرهما من المادّيات ليست كذلك.

وعلى ما ذكره الحكماء في دليله من أنّ التعقّل عين حصول الشيء للمجرّد القائم بذاته والمجرّد نفسه حاصل لنفسه فيكون متعقّلا لنفسه يخرج الأمور المذكورة أيضا ؛ امّا الصور الجمادية فلأنّ أنفسها وماهيتها لم تحصل لها ، بل هي حاصلة للموادّ ولم تحصل ماهيتها لها أصلا ، بل لا يحصل لها شيء أصلا فانّ القائم بالغير الحاصل له يكون انيته بعينها انيته للمحلّ ، فلو حصل له شيء يكون حصوله في الحقيقة لمحلّ الصورة والعرض لا لهما ، فانّ ما ليس له حصول في نفسه كيف يحصل له شيء؟!. وعلى هذا فالصور الجمادية وغيرها لا يحصل لها شيء أصلا فضلا عن حصول ماهياتها لها ، فلا يتحقّق لها التعقّل ؛

وامّا الهيولى فانّها وإن لم تحصل وجودها لشيء آخر إلاّ أنّها ليست موجودة بالفعل حتّى يدّعى حصول وجودها لذاتها ويلزم كونها عالمة بذاتها ، لكون العلم عبارة عن نحو الوجود للشيء ، قال بهمنيار في التحصيل : « واقوى الموجودات هو الوجود المستغني من الماهية وأضعف الموجودات ما حقيقته القوّة ، وهذا هو الهيولى ، فما وجوده اقوى الموجودات فهو اقوى في باب المعقول » ؛ انتهى. وقال بعض المشاهير : انّ قوله : « اضعف الموجودات ما حقيقته القوة » اشارة إلى لمية كون الهيولى غير عالمة بذاتها ، فانّ العلم ليس الاّ الظهور والانكشاف ، وليس للهيولى وجود بالفعل في حدّ ذاتها فليس لها ظهور وانكشاف لذاتها ، إذ الظهور والانكشاف ليس الاّ للوجود بالفعل.

٦٨

وبذلك يندفع اعتراض الاشراقيين على قول المشائين من انّ التعقّل حضور الماهية المجرّدة عن العلائق المادّية للشيء المجرّد القائم بذاته ، وهو حاصل في شأن المجرّد لانّ ذاته غير غائبة عن / ١٢١ DB / ذاته ، فيكون عالما بذاته. وحاصل اعتراضهم انّه لو كفى في كون الشيء شاعرا بنفسه تجرّده عن الهيولى لكانت الهيولى الّتي أثبتوها شاعرة بنفسها ، إذ ليست هي ماهية لغيرها بل ماهيتها لها ، وهي مجرّدة عن الهيولى الأخرى إذ لا هيولى للهيولى ، وهي لا تغيب عن نفسها ـ إن عنى بالغيبة الواقعة في تفسيرهم للادراك بانّه عدم الغيبة عن الذات المجرّدة عن المادّة مجرّد البعد عن الذات ـ ، لامتناع بعد الشيء عن نفسه ـ وان عنى بعدم الغيبة الشعور كان قولهم : كلّ مجرّد غير غائب عن ذاته ممنوعا ولم يصحّ جعله دليلا على كون المجرّد عالما بنفسه ، لانّه تعليل الشيء بنفسه ـ.

ودفع هذا الاعتراض بان يقال : لم يجعل مجرّد التجرّد عن الهيولى دليلا على العلم ، بل جعل تجرّد الموجود بالفعل في حدّ ذاته عن الهيولى دليلا على العلم ، فاندفع النقض بالهيولى. فانّ الوجود هو الظهور أو مستلزم له ، فالموجود بالفعل الّذي هو موجود / ١٢٦ MB / لنفسه ـ أي : غير قائم بالغير ـ ظاهر لنفسه. ونظير هذا ما قال الاشراقيون من انّ النور المجرّد عالم بذاته لانه نور لنفسه وظاهر لنفسه ، وكلّ ما هو عالم بذاته فهو نور مجرّد ، فهاتان القضيتان نازلتان منزلة قول المشائين من انّ كلّ عالم بذاته فهو مجرّد وكلّ مجرد فهو عالم بذاته » ؛ انتهى.

ولا بد من نقل مذهب الاشراقيين ومذهب المشائين فيما هو منشأ العلم عند كلّ منهم والاشارة إلى أنّ أيّ فرق بين المذهبين صار سببا لاعتراض الاشراقيين على المشائين ، ثمّ الاشارة إلى انّ هذا الفرق غير موجب للاعتراض.

فنقول : مذهب المشائين انّ المانع عن العاقلية هو مجرّد كون الشيء موجودا لغيره ، فما ليس موجودا لغيره يكون عاقلا ، وما ليس موجودا لغيره انّما هو الوجود لذاته والوجود لذاته ليس الاّ المجرّد القائم بذاته ؛ ومذهب الاشراقيين انّ مناط العاقلية كون الشيء نورا في ذاته قائما بذاته ، فانّ الأشياء عندهم على أربعة اقسام :

الأوّل : ما هو نور في ذاته وقائم بذاته ، ويسمّونه : « نورا في ذاته لذاته » ؛

٦٩

والثاني : ما هو نور في ذاته ولكنّه ليس قائما بذاته ، بل هو قائم بمحلّ ، ويسمّونه : « النور العارض » ؛

والثالث : ما ليس بنور في ذاته ولكنّه قائم بذاته ، ويسمّونه : « الجوهر الغاسق » ـ كالجسم ـ ؛

والرابع : ما ليس نورا في ذاته وليس قائما بذاته ، بل قائم بالمحلّ ، ويسمّونه : « الهيئة الظلمانية ».

وقالوا : العاقل لذاته من هذه الاقسام الاربعة منحصر بالقسم الأوّل ـ أعني : ما هو نور في ذاته لذاته ـ ، والبواقي غير عاقلة وليس من شأنها العاقلية ، فالجسم واجزائها ـ من الهيولى والصورة ـ لكونها غاسقة ليست بأنوار في ذواتها ، فلا تكون شاعرة ، والنور العارض ـ كضوء الشمس ـ والصور المعقولة المجرّدة وإن كانت نورا في ذاتها لكن لكونها غير قائمة بذاتها لا تكون شاعرة أيضا ، فعندهم كلّ نور في ذاته لذاته هو شاعر وكلّ شاعر هو نور في ذاته لذاته. وهذا النور ليس الاّ المجرّد القائم بذاته البري عن شوائب الجسمانيات ، فينحصر بالواجب والعقول والنفوس.

ثمّ لمّا رأوا انّ المشائين حصروا المانع من العاقلية في كون الشيء موجودا لغيره غير قائم بذاته فظنّوا أنّهم يقولون انّ ما هو موجود لذاته غير قائم بغيره يكون عاقلا ولو كان غاسقا ، فأوردوا عليهم النقض بالهيولى لكونها موجودة لذاتها غير قائمة بغيرها ؛ وقالوا : يلزم عليكم أن تكون الهيولى شاعرة بنفسها ، بل بالصور والهيئات الحالّة فيها أيضا لكونها موجودة لها حاضرة عندها غير غائبة عنها ـ كما صرّح به الشيخ الألهي في حكمة الاشراق حيث قال ردّا على المشائين : « واعترفوا بأنّ الهيولى ليس لها تخصّص إلاّ بالهيئات الّتي سمّوها صورا. والصور إذا حصلت فينا ادركناها وليست الهيولى في نفسها إلاّ شيئا ما مطلقا أو جوهرا ما عند قطع النظر عن المقادير وجميع الهيئات كما زعموا ، ولا شيء في نفسه أتمّ بساطة من الهيولى سيّما جوهريتها الّتي هي سلب الموضوع عنها ـ كما اعترفوا به ـ ، فلم ما ادركت ذاتها لهذا التجرّد وما ادركت الصور الّتي فيها؟! » (١).

__________________

(١) راجع : حكمة الاشراق ، ص ١١٥ ؛ ويوجد اختلاف يسير بين ما في المتن وما في المطبوع

٧٠

والوجه في عدم ورود اعتراضاتهم غفلتهم عن انّ المشائين لم يجعلوا مجرّد كون الشيء موجودا لذاته ومجرّد التجرّد سببا للعاقلية ، بل جعلوا تجرّد الموجود بالفعل في حدّ ذاته سببا لها ، فالموجود بالفعل القائم بذاته منشأ للعلم عندهم ، والهيولى ليس كذلك ؛ فكون الشيء موجودا بالفعل قائما بذاته عند المشائين بمنزلة كون الشيء في ذاته لذاته عند الاشراقيين. فكما أنّ الشيء إذا كان نورا في نفسه قائما بذاته كان نورا لنفسه وظاهرا لذاته / ١٢٢ DA / وعالما بها وبالعكس ، فكذلك إذا كان الشيء موجودا بالفعل وقائما بذاته كان ظاهر الدلالة وعالما بذاته ، وبالعكس. وكما أنّ الشيء إذا لم يكن نورا في نفسه أو كان ولم يكن قائما بذاته لم يكن عالما بذاته كذلك إذا لم يكن الشيء موجودا بالفعل ولم يكن قائما بذاته لم يكن عالما بذاته ، وقد ظهر بما ذكر انّ التجرّد والبساطة ـ اللّذين هما منشأ التعقّل ـ انّما هو التجرّد والبساطة بشرط الوجود بالفعل ، والهيولى بعد وجودها ليس لها تجرّد ولا بساطة ، بل البساطة الّتي نتصور لها انّما هو البساطة بالنسبة إلى ماهيتها لا بالنسبة إلى وجودها. ولذا اعترض بعض الأعلام المحقّقين على قول صاحب الاشراق في اعتراضه على المشائين : « لا شيء في / ١٢٧ MA / حدّ نفسه اتمّ بساطة من الهيولى » : بأنّ هذا من باب الاشتباه بين الماهية والوجود ، فانّ الهيولى أبعد الأشياء من التجرّد والبساطة لانّها متكثّرة بحسب تكثّر الصور في الواقع لانّها ليست بمتحصّل الوجود في الواقع الاّ بالصور ، والتجرّد الّذي يعتبر في كون الشيء عاقلا هو تجرّد الوجود لا تجرّد الماهية والمفهوم ؛ ولو كانت الصور أعراضا متأخّرة الوجود عن وجود الهيولى ـ كتأخّر السواد والكتابة عن وجود الانسان ـ لكان لما ذكره وجه. فبساطتها عبارة عن بساطة معنى جنسي كالجوهرية ، ومناط العاقلية هو بساطة الوجود لا بساطة المعنى. ومعنى بساطة الهيولى أنّها إذا لوحظت بحسب نفس ذاتها وقطع النظر عن الصور الّتي تحصّلت وتقوّمت هي منها في الواقع كان حالها في اعتبار نفسها أنّها جوهر فقط والصور خارجة عن ماهيتها داخلة في وجوداتها المتعدّدة ، فذاتها في غاية ضعف الوجود وضعف الوحدة شبيهة بالكلّيات الجنسية في الوجود والوحدة ، لأنّ الوجود هو الظهور.

__________________

المطبوع من هذا الكتاب.

٧١

ثمّ انّه ربما يورد هاهنا شبهتان لا بدّ لنا من ايرادهما ودفعهما :

الشبهة الأولى : انّ الوجود إذا كان هو الظهور ـ الّذي هو التعقّل ـ أو مستلزما له لزم كون الهيولى شاعرة بنفسها ، لأنّها ليست معدومة بل هي موجودة بوجود ضعيف. ومعنى كونها بالقوّة ليس أنّها معدومة صرفة ، فاذا كان الوجود هو الظهور أو مستلزما له وللهيولى وجود لا محالة وإن كان ضعيفا ولكن ذلك الوجود الضعيف قائم بذاته لزم كونها ظاهرة لذاتها. غاية ما في الباب أن يكون ظهورها لذاتها ظهورا ضعيفا بإزاء وجودها الّذي في غاية الضعف ، فيكون لها شعور ضعيف بذاتها. وقد ظنّ ذلك جماعة وذهبوا إلى ذلك ، ولذا حكموا بتحقّق عشق الهيولى وسراية نور العشق ـ الّذي هو فرع الشعور ـ في جميع الموجودات ، وقالوا : لو لا عشق الهيولى لم يظهر سراية نور العشق في جميع الموجودات.

الشبهة الثانية : انّه لو سلّم انّ الهيولى ليس لها وجودا بالفعل من ذاتها أصلا ولكن لا ريب في أنّها بعد ضمّ الصورة إليها تصير موجودا بالفعل بمقارنتها لها ، فمعنى قولهم : انّ الهيولى ليس لها وجود بالفعل انّها بمحض ذاتها لا يمكن صيرورتها بالفعل ، لا انّها ليست موجودة في نفس الأمر لا يصير بالفعل في نفس الامر فكما انّ قولهم : « الممكن في حدّ ذاته ليس بموجود بل عدم محض » ليس معناه انّه ليس بموجود في نفس الأمر ولم يتصف بالوجود بالفعل ـ لانّ خلافه ظاهر ـ ، بل المراد انّه ليس الوجود من مقتضى ذاته ، فكذا الحال في قولهم : « الهيولى ليس لها وجود بالفعل » ، وإذا كان كذلك فتكون الهيولى موجودة بالفعل في نفس الأمر بعد ضمّ الصورة وان لم يكن حصول هذا المعنى من مقتضى ذاته. وظاهر انّ هذا يكفي لظهورها وكونها عالمة بنفسها لو كان مناط العالمية هو ما ذكروه ـ أعني : كون الشيء مجرّدا موجودا بالفعل قائما بذاته ـ ، اذ لا يجب في العالم أن يكون وجوده من ذاته وإلاّ لخرج جميع الممكنات عن العالمية ، لانّ وجودها من عللها.

والجواب عن الشبهة الاولى : انّ الظهور أو المستلزم له انما هو الوجود بالفعل ـ كما عرفت ـ ، والهيولى ليس موجودا بالفعل أصلا ، لانها قبل ضمّ الصورة إليها لا وجود لها

٧٢

أصلا ـ لا قويا ولا ضعيفا ـ وانّما تصير موجودة بالوجود الّذي يليق به بعد ضمّ الصورة ؛ ويرشدك الى ذلك قول الشيخ في التعليقات : « الهيولى معدومة بالذات موجودة بالعرض ».

على أنّا نقول : انّ المنشأ للتعقّل انّما هو الوجود بالفعل المجرّد عن المادّية ونفس المادّة ليست مجرّدة عنها.

والجواب عن الشبهة الثانية : انّ الهيولى بعد ضمّ الصورة لو كانت / ١٢٢ DB / موجودة بالفعل ولم تكن هي والصورة موجودتين بوجود واحد ـ كما هو رأي جماعة ـ فلا ريب في أنها حينئذ ليست مجرّدة عن المادّية وعلائقها من الوضع وغيره ، وقد ذكرنا انّ المنشأ للتعقّل انما هو الموجود المجرّد عن المادية وعلائقها.

وقيل في الجواب عنها أيضا : انّ الظاهر من كلماتهم انّ الهيولى لمّا اعتبر في جوهرها القوّة والاستعداد فحقيقتها انّها جوهر مستعدّ لكلّ شيء ، فهي في ذاتها لا تقبل الظهور والانكشاف ، فلهذا لا تصير عالمة بذاتها وان صارت بعد ضمّ الصورة موجودة بالفعل ، فكانّه اعتبر في كون شيء عالما بنفسه أن يكون في ذاته ـ مع قطع النظر عن جميع ما عداه ـ / ١٢٧ MB / شيئا معينا لا يخالطه قوّة واستعداد ، بل يكون موجودا بالفعل ومتعيّنا بالتعيّن الحاصل له بالفعل قائما بذاته غير قائم بأمر آخر ؛ والهيولى ليست كذلك ، لأنّها ليست أمرا موجودا بالفعل متعيّنا بالتعيّن الحاصل في حدّ ذاته من دون اعتبار الصورة الجاعلة ايّاها بالفعل ، فانّ حقيقتها ليست إلاّ شيء ما وأمر ما مستعدّ للصورة والشيء لا يصير لمجرّد كونه شيئا ما أو أمرا ما مع عمومه وابهامه موجودا بالفعل ما لم يتحصّل بنحو من التحصّل. وعلى هذا فتكون الهيولى من الموجودات الضعيفة الّتي تكون فعليتها قوّة ووجودها نفس كونها مستعدّة وتحصّلها عين القوّة والاستعداد فهي بحسب ضعف الوجود مثل معنى الجنس إلاّ انّ الهيولى شخص بهذه الصفة من القوّة والابهام وعدم التحصّل والفعلية ولا تحصّل إلاّ بالصور ، والجنس معنى مبهم غير محصّل وتحصيله بالفصول. وليست محض العدم حتّى يرد أنّ الهيولى إذا كانت محض القوّة الّتي هي العدم كيف يكون جزء خارجيا للجسم ـ كما هو عند المشائين ـ. قال الشيخ في الشفاء : « جوهر الهيولى وفعليتها عين كونها مستعدّة لكذا والجوهرية الّتي لها ليست تجعلها

٧٣

بالفعل شيئا من الأشياء ، بل تعدّها لأن تكون بالفعل شيئا بالصورة. وليس معنى جوهريتها إلاّ أنّها أمر ليس في موضوع ، والاثبات هاهنا هو انّه أمر. وأمّا انّه ليس في موضوع فهو سلب ، و « انّه أمر » ليس يلزم منه أن يكون شيئا معينا بالفعل ، لأنّ هذا عامّ ولا يصير الشيء بالفعل شيئا بالامر العامّ ما لم يكن له فصل يحصّله ، وفصله انّه مستعدّ لكلّ شيء ، فصورته الّتي تظن له هي انّه مستعدّ قابل » (١) ؛ انتهى.

ويمكن الجواب عنها أيضا بانّه يعتبر في كون الشيء عاقلا لذاته ـ مع ما ذكروه من كونه مجرّدا قائما بذاته ـ أن لا يكون مخلوطا بشيء آخر بحيث لا يمكن تعيينه بدونه ، والهيولى ليست كذلك ـ لأنّها مخالطة بالصورة ولا يمكن تجرّدها عنها وتعينها بدونها في ذاتها ـ ؛ فلا يمكن أن تصير عاقلة ومعقولة. قال الشيخ : « انّ معقولية الشيء هو تجريده عن المادّة وعلائقها ، والشيء إذا كان يخالطه شيء غريب لا يكون مجرّدا البتّة ، فلا يكون عاقلا ولا معقولا لذاته ». وعلى هذا فالتجرّد الّذي هو شرط التعقّل انّما هو التجرّد بحسب الخارج عن الصورة وغيرها من اللواحق لا التجرّد بحسب مرتبة ذاته ، والهيولى وإن كانت مجرّدة عن الصور وغيرها بحسب مرتبة ذاته إلاّ أنّها ليست مجرّدة عنها بحسب الخارج والواقع ، وهذا كما أنّ الطبائع بحسب مرتبة ذاتها ـ أي : كونها طبائع من غير اعتبار اختلاطها بالمشخّصات والعوارض ـ تكون مجرّدة مع أنها بحسب الواقع والخارج غير مجرّدة عنها ، فكما انّ تجرّدها بحسب مرتبة ذاتها لا يوجب كونها عاقلة فكذا تجرّد الهيولى في مرتبة ذاتها لا يستلزم كونها عاقلة.

فحاصل الجواب الأوّل : انّ التجرّد عن المادّية وعلائقها شرط في التعقّل ونفس المادّة ليست مجرّدة عنها.

وحاصل الجواب الثاني : انّ التجرّد عن القوة والاستعداد شرط في التعقّل والهيولى عين القوّة والاستعداد.

وحاصل الجواب الثالث : انّ التجرّد عن الأمور الغريبة والتعيّن بدونها شرط في التعقّل والهيولى مخالطة بالصورة ولا يتعيّن بدونها.

__________________

(١) راجع : الشفا / الإلهيات ، ص ٦٧.

٧٤

ثمّ انّه قيل : قد ظهر هنا من كلام الشيخ انّ حقيقة الهيولى هي القوّة والاستعداد ، وهو مناف لمّا حققه في رسالة الهيولى من أنّ لها وحدة شخصية محفوظة مع تبدّل الصور ؛

واجيب عنه : بأنّ كون حقيقتها محض القوّة والاستعداد لا ينافي لأن تحصل لها وحدة شخصية بعد ضمّ الصورة ؛ وأمّا أنّه كيف يمكن بقاء تلك الوحدة مع تبدل الصورة الّتي هي علّة لها فليس هاهنا موضع تحقيقه.

وأيضا : لو جوّز تحقّق الشخص بدون الوجود فيمكن أن يقال : انّ كون حقيقتها القوّة لا ينافي / ١٢٣ DA / الوحدة الشخصية ، إذ يمكن أن يكون معنى شخصيّا يستعدّ لكلّ صورة ويبقى بحاله مع كلّ منها ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ تحقّق الشخص بدون الوجود أمر بديهي البطلان! ، لأنّ التشخّص إمّا نحو الوجود أو ما يلزمه ، والهيولى مع قطع النظر عن الصورة لا وجود لها ، فكون الهيولى معنى شخصيّا بدون الوجود يستعدّ لكلّ صورة ويبقى بحاله مع تبدّل الصور أمر غير معقول. فالمسلّم تحقّق الوحدة الشخصية لها بعد ضمّ الصورة إليها ، ومع زوالها يزول هذا التشخّص. وإذا انضمت إليها صورة أخرى يحصل لها تشخّص آخر ، فقول الشيخ في رسالة الهيولى : « انّ لها وحدة شخصية محفوظة مع تبدّل الصور » غير مسلّمة.

وقد تلخّص ممّا ذكر انّ منشأ العالمية ومصحّحه ليس الاّ الموجود بالفعل القائم بذاته من / ١٢٨ AM / غير أن يوجد فيه شائبة من القوة ، فيخرج الهيولى والهيولانيات عن العالمية لكونها منضمّة للقوّة ، فينحصر منشئية العالمية بالواجب والجواهر المجرّدة القائمة بذاتها وعين العقول والنفوس. فالموجود بالفعل القائم بذاته من الممكنات ليس إلاّ العقول أو النفوس ، فالعالم منها منحصر بهما.

فان قيل : إذا لم تكن المادّة والمادّيات موجودة بالفعل فكما لا يصحّ أن تكون عالمة لم يصحّ أن تكون معلومة ، لانّ العلم لمّا كان عبارة عن وجود المعلوم للعالم بمعنى عدم غيبته عنه أو لازما له وعلى التقديرين يجب أن يكون المعلوم موجودا بالفعل حتّى يمكن وجوده لغيره ليعقله ؛

قلت : ليس موجودا بالفعل بل متضمّنا للقوة يمكن أن يحصل وجوده للغير ، فانّه

٧٥

لا مانع من تحقّق الوجود الرابطي بما هو متضمّن القوّة بالنسبة إلى موجود بالفعل ، فالمادّة والمادّيات لا تأبى عن ذلك. بخلاف العالمية ، فانّ مناطها كون العالم موجودا بالفعل. والحاصل : انّ مناط المعلومية امكان الوجود الرابطي وهو يتأتى في الفعلية المنضمّة للقوّة ، ومناط العالمية هو الفعلية الصرفة الغير المنضمّة للقوّة أصلا.

فان قيل : على هذا يلزم أن لا يكون شيء من الممكنات عالما ، لانّ كلّ فرد من الممكنات باعتبار ذاتها بالقوّة ، فالقوّة متضمّنة في فعليتها وقد قلتم انّ الفعلية المتضمّنة للقوّة لا يمكن أن تصير مناطا للعالمية ؛

قلت : القوّة الّتي للمجرّدات الممكنة إنّما هو بالنظر إلى ذاتها لافتقارها إلى العلّة وبعد وجودها عنها وصيرورتها بالفعل لا تبقى فيها قوّة أصلا ؛ وأمّا الهيولى والهيولانيات فلا تخرج عن القوّة أصلا ، بل بعد وجودها تبقى فيه القوّة أيضا. فمناط العالمية هو الفعلية بعد الوجود ، وهي متحقّقة في المجرّدات دون الماديات. وأمّا الفعلية بالنظر إلى الذات بحيث يكون دائما بالفعل في وجوده وصفاته فاشتراطها غير لازم.

وقيل في الجواب : انّ المراد بالقوّة الّتي هي مانعة من التعقّل إنّما هي القوّة المتقاربة عن الفعل لا القوّة المخلوطة بالفعل. والحاصل : انّ القوّة والفعل قد يكونان متقاربين ـ كما في الهيولى والهيولانيات ـ ، وقد يكونان غير متقارنين ـ كما في المجرّدات ـ ، وكلامنا هنا في الأوّل دون الثاني.

ثمّ لا يخفى انّ النقض انّما هو بناء على ما ذهب إليه المشّاءون من أنّ الجسم مركّب من الجزءين : أحدهما الهيولى ، وثانيهما : الصورة. وأمّا على ما ذهب إليه الرواقيون من أنّ الجسمية حقيقة واحدة قائمة بذاتها واطلاق الهيولى في عرفهم انّما هو على تلك الجسمية فالظاهر عدم ورود النقض بها ، لانّها مع تضمّنها القوّة كالهيولى ليست أمرا بسيطا مجرّدا. ولقائل أن يدّعى عدم الفرق في توهّم ورود النقض بينها وبين هيولى المشائين ، لكونها قائمة بذاتها وأقرب الى الفعلية من الهيولى وإن كانت الهيولى أبسط منها.

وقد تحقق مما ذكر بطوله أنّ العالمية مختصّة بالمجرّد ليس لمادّي تعقّل بوجه.

وقد بقي الكلام في أنّ المراد من العالمية المختصّة بالمجرّد هل هو مطلق الادراك الشامل

٧٦

للادراكات الحسية ـ من الابصار والسمع والتخيل وغير ذلك ـ حتّى يكون المدرك في جميعها هو النفس ، أو المراد منها هو التعقّل الحصولي الكلّي والتعقّل الحضوري الانكشافى ، لا الادراك الحصولي الجزئى بأن يجوز أن يدرك بعض القوى الجسمانية بعض الصور والمعاني الجزئية بحصول بعض المناسبات المادية والارتباطات الجسمانية من الوضع والمحاذات وغير ذلك.

فنقول : بعض العقلاء على أنّ ما هو المختصّ بالمجرّد من الادراك هو / ١٢٣ DB / التعقّل الشامل للقسمين ـ أعني : العلم الحصولي التجريدي والحضوري الانكشافى ـ ؛ وأمّا الاحساس الّذي هو عبارة عن ادراك جزئي غير منفكّ عن اللواحق المادّية فيمكن حصوله لبعض القوى الجسمية ، ولذا يحصل هذا القسم من الادراك للحيوانات العجم مع عدم كون نفوس مجرّدة لها. وذهب جماعة من الحكماء ـ منهم المعلم الثاني ـ إلى انّ مطلق الادراك مختصّ بالمجرّد ولا يكون غير مجرّد مدركا ؛ وقالوا : المدرك في جميع الاحساسات الحاصلة للانسان هو النفس ، فانّه إذا اجتمع شرائط الابصار يحصل للنفس علم جزئي بالمبصر على سبيل الحضور والمشاهدة من طريق البصر ، والصوت إذا وجد في الهواء بسبب التموّج يدركه النفس من طريق السمع ؛ وقس عليها سائر الاحساسات. والحاصل : إنّ شأن الحواسّ ليس إلاّ الانفعال ، وأمّا اصل الادراك فانّما هو من النفس. والدليل على ذلك انّه قد ينفعل الحاسّة عن الشيء المحسوس ويكون النفس لاهية ، فلا يقع الادراك مع انّه لو كان المدرك هو الحاسّة فلمّا حصل الانفعال لكان الواجب ان يحصل الادراك أيضا. قال المعلم الثاني في تعليقاته : « الادراك انّما هو للنفس وليس للحاسّة إلاّ الاحساس بالشيء / ١٢٨ MB / المحسوس والانفعال. والدليل على ذلك : انّ الحاسّة قد تنفعل عن المحسوس وتكون النفس لاهية ، فتكون الشيء غير محسوس ولا مدرك ، فالنفس يدرك الصور المحسوسة بالحواسّ ويدرك الصور المعقولة بتوسّط صورها إذ يستفيد معقولية تلك الصور من محسوسيتها ويكون معقول الصور لها مطابقة لمحسوسها ولم يكن معقولها. وذلك لنقصان ذاتها واحتياجها في ادراك الصور المعقولية إلى توسّط الصور المحسوسة ، بخلاف المجرّدات الصرفة فانّها تدرك الصور المعقولة من اسبابها

٧٧

وعللها الّتي لا تتغيّر. وحصول المعارف للانسان تكون من جهة الحواس وادراكه للكلّيات من جهة احساسه بالجزئيات ونفسه عالمة بالقوّة. فالطفل يصير مستعدّة يحصل له الاوائل والمبادي وهي تحصل له من غير استعانة عليها بالحواسّ بل تحصل له من غير قصد ومن حيث لا يشعر ؛ والسبب في حصولها له استعداده لها. وإذا فارقت النفس البدن ولها الاستعداد لادراك المعقولات فلعلّها يحصل لها من غير حاجة إلى القوى الجسمية الّتي فاتته ، بل يحصل لها من غير قصد ومن حيث لا يشعر ـ كالحال في حصول الاوائل للطفل ـ ؛ والحواسّ هي الطرق الّتي تستفيد منها النفس الانسانية المعارف » (١) ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ التأمّل في كلام هذا المعلّم يعطى انّه قائل بثبوت الاحساس للحواسّ وانّما خصّ الادراك بالنفس الناطقة والظاهر انّ مراده بالادراك هو التعقّل.

ثمّ على المذهب الأوّل يكون كلّ شعور متحقّق لإحدى الحواسّ ادراكا حصوليا جزئيا غير منفكّ عن اللواحق المادّية ـ كالكمّ والوضع وغير ذلك ـ.

ثمّ الادراك الحصولي للحواسّ إمّا أن يكون المدرك فيه صورة شيء خارج أو معنى منتزعا عنه ، والأوّل كادراك القوة الباصرة للمبصرات ـ على القول بالانطباع ـ ، وادراك القوّة الخيالية للصور الأشياء إذ هذا الادراك انما يكون بانطباع صورها الجزئية المقارنة لبعض اللواحق المادّية وارتسامها فيها وان حصل لتلك الصور نوع تجريد مع كون التجريد الحاصل للصور الخيالية أشدّ من التجريد الحاصل للصور المدركة بالبصر ، لانّ التجريد للمدرك على حسب التجرّد للمدرك. فكلّما كان المدرك أبعد عن المادّية وأقرب إلى التجرّد كان مدركه أيضا كذلك ، فلما كان القوّة الخيالية أبعد عن المادّة بالنسبة إلى القوّة الباصرة فمدركها أيضا تكون كذلك. وممّا يؤكّد ذلك انّ الأثر من الشيء الخارجي يصل إلى القوّة الباصرة ومنها يصل الأثر إلى القوّة الخيالية ، فالبصر يدرك ما في الخارج بعد تجريده نوع تجريد ، ثمّ القوّة الخيالية تدرك ما يدركه البصر أيضا مع تجريد آخر ، ثمّ النفس الناطقة يدرك ما أدركه الخيال بعد التجريد التامّ والنزع المحكم و

__________________

(١) راجع : التعليقات ، الفقرة ٣ ، ص ٣٨.

٧٨

يأخذ صفوه الخالص الّذي هو المجرّد الصرف أو يشاهده فيه بالعلم الحضوري ؛ وهذا في الادراك الجزئى الحصولي الّذي يكون بانطباع الصور وارتسامها. ولا يلزم منه قدح في الكلّية الّتي ذكرناها من اختصاص التعقّل بالمجرّد ، لانّ التعقّل في العلم الحصولي انّما هو ادراك الصور الكلّية المجرّدة ولا ريب في / ١٢٤ DA / اختصاصه بالقوّة العاقلة ، لأنّ ادراكات الحواسّ ـ كما عرفت ـ ليس بتجريد تامّ ، بل مدركاتها مقارنة للواحق المادّية.

وأمّا الثاني ـ أي : الادراك الحصولي الّذي يكون المدرك فيه معنى جزئيا منتزعا عن الأشياء الخارجة مع بعض اللواحق المادية والغواشي الجسمانية ـ : فكادراك الواهمة للمعاني الجزئية ، فانّ تلك المعاني ليست صورا لأصل خارجي ، لكنّها أمور جزئية منتزعة عن بعض الأشياء العينية مرتسمة في تلك القوّة ، فيكون مدركه بادراك حصولى جزئي. ثمّ النفس الناطقة تجرّد تلك المعاني الجزئية وتقشّرها عن اللواحق الجزئية وتدركها على سبيل الكلّية أو تشاهدها في القوّة الواهمة بالمشاهدة الحضورية للربط الحاصل بينهما. وعلى التقديرين لا يلزم أيضا نقض في القاعدة الكلّية ـ أعني : اختصاص التعقّل الحصولي والحضوري بالمجرّد ـ.

وتلك المعاني الجزئية المدركة للواهمة ليست على سبيل التجريد التامّ حتّى يكون علما حصوليا كلّيا ، ولا على سبيل المشاهدة الحضورية حتّى يكون علما حضوريا ، فينحصر العلمان بالمجرّد ، وشأن الحواسّ انّما هو الاحساس الّذي هو انتزاع الصور أو المعاني من الأشياء الخارجية مع اللواحق المادية والغواشي الجسمانية. وهذا لا ضير فيه ، لأنّه لمّا حصلت لتلك القوى بعد ما عن المادّية وقرب ما إلى التجرّد فاستعدّت للادراك بهذا الوجه. هذا هو ما يتعلّق بالمذهب الأوّل من التوضيح والتحقيق.

وامّا على المذهب الثاني فلا يكون لشيء من الحواسّ ادراك أصلا ، وانّما هي شروط لادراك القوّة العاقلة ، وعلى هذا يلزم أن يكون للحيوانات العجم نفوس ناطقة ـ كما ذهب إليه جماعة ـ.

وربما يورد على هذا المذهب بانّه لا ريب في انّ الصور والمعاني الجزئية مدركة لنا مع قطع النظر عن القوّة الباصرة وغيرها من الحواسّ الظاهرة ، فان كان مدركها منحصرا

٧٩

بالنفس / ١٢٩ MA / الناطقة ولم يكن مدركة للخيال والواهمة أصلا لزم تعطّل هاتين القوّتين رأسا ؛ وإن كانت مدركة لهما ولو بوجه لزم تحقّق الادراك لغير القوّة العاقلة. ويمكن أن يقال : انّهما مثل القوّة الباصرة في كونهما من الشرائط لادراك النفس بمعنى انّ ادراك النفس لتلك الصور والمعاني يتوقّف على انطباعها وارتسامها في الخيال والواهمة ، ولم تكن مدركة لهما حتّى تدركها النفس بالعلم الحصولي الكلّى أو الحضوري الجزئى. ومجرّد انطباع الصورة في الباصرة لا يكفى لادراك النفس لها ، بل يتوقّف على وصول الأثر منها إلى الخيال وانطباعه فيه حتّى تدركه النفس. وعلى هذا يكون فعل هذه القوى منحصرا بكونها محلّ الارتسام والانتقاش للصور والمعاني لتدركها النفس منها ويشاهدها فيها ولا يحصل لها ادراك شعوري أصلا ؛ وحينئذ لا يلزم تعطّل تلك القوى.

نعم ؛ يلزم ما اشير إليه من تحقّق نفوس مجرّدة للحيوانات ، والتزامه على قواعد الملّة مشكلة.

ثمّ الأمر في ادراك سائر القوى ـ من اللامسة والسامعة والذائقة وغيرها مما يشابه الادراك الّذي هو غير الشعور والظهور ـ على المذهب الأوّل ظاهر ، لانّ تلك القوى حينئذ مدرك محسوساتها وبعد ادراكها يشعر بها النفس بالعلم الحضوري ويحصل بها التذاذ أو تألّم من هذه الجهة ـ أي : من جهة علمها بها ـ. وأمّا على المذهب الثاني فيمكن أن يقال : انّ المدرك لهما أيضا هو النفس ، ويمكن ان يكون الأمر فيها كما في المذهب الأوّل.

ثمّ على المذهبين انّما يتوقّف ادراك النفس على هذه القوى لقصور في تجرّدها ، وإلاّ فشأن المجرّدات الصرفة ادراك الأشياء من عللها واسبابها من غير افتقار إلى آلة أصلا ، ولذا إذا اشتدّ تجرّدها يدرك الأشياء من غير افتقار إلى آلة أصلا.

ثمّ على أيّ مذهب من المذهبين لا ريب في اختصاص التعقّل بالمجرّد وحصول فعليته بوجود أحد العلاقات الموجبة له وكون حضور الذات عند الذات أقوى العلاقات وكون كلّ مجرّد حاضرا عند ذاته لذاته غير غائب عنها.

وبذلك يظهر كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته ، وبه يتمّ ما كنّا بصدد بيانه من المقدّمة الثانية ـ أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا لذاته ـ.

٨٠