جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

معنى عامّ فامّا أن يتحصّل بالفصل أو بالعرض ، والفصل والعرض لا يفيدان ماهية الجنس ولكنّهما يفيدان قوام وجود الجنس أمرا بالفعل ، والعرض لا يفيد ماهية النوع بل يفيد قوام وجودها ، وحيث ماهية الجنس أو النوع عين الوجود وفرض دخول فصل أو عرض عليه لزم أن يكون الفصل يفيد ماهية الجنس والعرض يفيد ماهية النوع ، فالموجود الّذي لا سبب له ان فرض له جنس وفصل أو ماهيّة نوعية والفصل يفيد وجود الجنس والعرض يفيد وجود النوع يلزم أن يكون ما لا علّة له معلولا ، فتبيّن من هذا أنّ الموجود الّذي لا سبب له والموجود الّذي مهيته انيته لا يتكثّر بالفصول والعوارض ، فلا شركة لواجب الوجود بالذات.

ومنها : ما ذكره الشيخ أيضا في إلهيات الشفا بقوله : إنّ واجب الوجود بذاته لا يصحّ أن يكون فيه كثرة ؛ ولنورد ما مرّ على وجه مختصر ، وهو : أنّه إن كان واجب الوجود يقتضي لذاته ولأنّه واجب الوجود بذاته وكان شرطا فيه أن يكون مثلا « آ » لم يصحّ أن يكون غير « آ » ، فلا يكون واجب الوجود بذاته إلاّ « آ » ؛ وإن كان بسبب ما صار « آ » كان واجب الوجود بذاته واجب الوجود بغيره.

والظاهر إلى هذا الدليل المختصر اشار بهمنيار بقوله : « فالموجود الّذي لا سبب له لا يصحّ أن يتكثّر ، لأنّه لو كان كثيرا لكان لوجود تلك الكثرة سبب ».

ومنها : إنّه لو تعدّد الواجب لكان كلّ واحد منهما بحيث / ٢٤١ MB / يمكن انتزاع مفهوم واجب الوجود منه ، وهذا المفهوم وإن كان عرضيا لذات الواجب ـ سبحانه ـ ولكن لا ريب في أنّه ليس مصحّح عروضه إلاّ ذاته المقدّسة ـ كسائر العوارض بالنسبة إلى معروضاتها ـ ، فهو من الأعراض اللازمة لذاته ـ تعالى ـ الحاكية عن حاقّ ذاته ـ كالانسانية العرضية المنتزعة عن نفس / ٢٤٤ DA / حقيقة الانسان ، لأنّ ايجاد الجاعل بالجعل البسيط نفس حقيقة ما هو الانسان بحسب الواقع كافيا في انتزاع الانسانية المصدرية ـ. وكون كلّ واحد من الواجبين بهذا الوجه ـ أعني : كونه بنفس ذاته من غير مدخلية الغير وتأثيره فيه ـ منشئا لانتزاع هذا المفهوم يقتضي اشتراكهما في أمر حقيقي يكون منتزعا منه لهذا المفهوم ، وإلاّ يلزم كون انتزاعه من أحدهما بمجرّد

٥٨١

الانتزاع والحال أنّه ليس كذلك ـ لانّهما متساويان في كونهما منشأين لانتزاع مفهوم وجوب الوجود في نفس الأمر ـ.

وتوضيحه : انّ الانسانية المصدرية الحاكية عن كون الشيء انسانا في الواقع من زيد وعمرو مثلا لو لم يكن بسب تحقّق الجهة الجامعة الذاتية لهما لكان ينبغي أن يكون نسبة هذا المعنى المصدري الانتزاعي إليهما عند العقل كنسبته إلى ما هو فرد للانسان وما لا يكون فردا منه ـ كزيد والحجر ـ ، وبطلان التالي مستلزم لبطلان المقدّم ، فيجب تحقّق جهة الجامعة بينهما بحسب نفس الحقيقة والطبيعة الّتي بها يكون الشيء في الوقع انسانا ، فظهر منها أنّ احد الواجبين لو كان بنفس ذاته من غير مدخلية تأثير الغير فيه مصداقا لمفهوم الوجوب الانتزاعي ؛ ولا شك أنّه يجب أن يكون له محكى عنه بحسب نفس الأمر وإلاّ يلزم انتزاعه بمجرد اختراع العقل ـ كانتزاع الانسانية من الجدار ـ ؛ وهو باطل. فان لم يكن الواجب الآخر أيضا بهذا الوجه ـ أعني : كونه مصداقا بنفس ذاته بهذا المفهوم ـ لم يكن واجبا ، هذا خلف ؛ وإن كان ولم يشترك مع الآخر في جهة جامعة ذاتية بينهما لزم أن يكون انتزاع هذا المفهوم بينهما كانتزاع مفهوم الانسانية الحاكية عن حقيقة الانسان والفرسية الحاكية عن حقيقة الفرس من الفرس بأن يكون للوجوب الانتزاعي معنيين في الواجب على الاشتراك اللفظي وهذا باطل ، لأنّ الوجوب الانتزاعي الّذي هو يؤكّد الوجود الانتزاعي ليس مشتركا لفظيا ، بل مفهوما. فظهر من هذا التحقيق إنّ تعدد الواجبين يستلزم اشتراكهما في أمر ذاتي بينهما وجهة الامتياز فيهما ، فلا يخلوا حينئذ من أن يكون هذا الأمر المائز بينهما نفس جهة الاشتراك أو لازمها أو معلول لازمها ، فيلزم رفع التعدّد المفروض ؛ هذا خلف ؛ أو بسبب أمر آخر غير الواجب ـ تعالى ـ ، فيلزم الاحتياج المنافي للوجوب ؛ فثبت أنّ الواجب واحد لا شريك له ، وهو المتفرّد في السلطنة وانفاذ نور الوجود وبسطه في هياكل المهيات.

ومنها : ما ذكره بعض أعاظم العرفاء ، وهو : إنّ الواجب لمّا كان منتهى سلسلة الحاجات والتعلّقات فليس متوقّفا على شيء ، فيكون بسيط الحقيقة من جميع الوجوه ، فذاته واجب الوجود من جميع الجهات كما أنّه واجب الوجود بالذات ،

٥٨٢

فليست فيه جهة امكانية ، أو امتناعية وإلاّ لزم التركيب الموجب للامكان ، وذلك محال. وإذا تمهّدت هذه المقدّمة الّتي مفادها أنّ كلّ وجود وكلّ كمال لوجود يجب أن يكون حاصلا لذاته ـ تعالى ـ فائضا عنه مترشّحا من لدنه على غيره ، وهما ـ أي : الوجود وكلّ كمال الوجود ـ عين ذاته ـ تعالى ـ فلو كان في الوجود واجب غيره فيكون لا محالة منفصل الذات عنه ـ لاستحالة أن تكون بين الواجبين علاقة ذاتية موجبة لتعلّق أحدهما بالآخر ، وإلاّ لزم معلولية أحدهما أو كليهما وهو خلاف الفرض ـ ، فلكلّ منهما إذا مرتبة من الكمال الوجودي ليس للآخر ولا منبعثا منه فائضا عنه ، فيكون كلّ منهما عاريا لكمال وجودي ، فذات كلّ منهما لا يكون محض حيثية الفعل والوجوب ، بل يكون ذاته بحسب ذاته مصداقا لحصول شيء وفقدان شيء آخر كلاهما من طبيعة الوجود بما هو وجود ، فلا يكون ذاته وجودا محضا ولا واحدا حقيقيا والتركيب ينافي الوجوب الذاتي ، فواجب الوجود بالذات يجب أن يكون من فرط العلّية وكمال التحصيل جامعا لجميع النشئات الوجودية ؛ فلا مكافى له في الوجود ولا ندّ ولا شبيه له ، بل ذاته من / ٢٤٢ MA / تمام الفعلية بحيث يكون مستند جميع الكمالات ومنبع كلّ الخيرات ، فيكون بهذا المعنى تامّا وفوق التمام.

ومنها : برهان أورده بعض أعاظم العرفاء أيضا وهو يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي : انّك كما قد تعقل المتصل مثلا نفس المتصل ـ كالجزء الصوري للجسم من حيث / ٢٤٤ DB / هو جسم ـ وقد تعقل شيئا ذلك الشيء هو المتصل ـ وذلك كالهيولى للجسم ، فانّها متّصفة بكونها متّصلة ، لأنّها ليست نفس المتصل ـ ، فكذلك قد تعقل واجب الوجود بما هو واجب الوجود وقد تعقل شيئا ذلك الشيء هو واجب الوجود ، وكلّ واجب الوجود لم يكن نفس واجب الوجود ، بل له حقيقة تلك الحقيقة متصفة بكونها واجب الوجود ، ففي اتصافها به يحتاج إلى عروضه لها وإلى جاعل يجعلها كذلك أو يجعلها ، وبنفس الجعل يتصف به ـ على اختلاف القولين ـ ، فهي في حدّ ذاتها ممكنة الوجود وبذلك الجعل لكانت واجبة الوجود. وكلّ ما كان كذلك لا يكون واجب الوجود لذاته ، فكلّ واجب الوجود بذاته فهو نفس واجب الوجود بذاته.

٥٨٣

وأمّا ما قال بعضهم من : « أنّ ماهية الأوّل ـ تعالى ـ أعلى من واجب الوجود ، بل هي ماهية للاسم لها وإذا عقلت يلزمها في التعقّل انّها واجبة الوجود » ، فيجب أن يؤوّل بأنّ معنى قوله : « اعلى من وجوب الوجود ويلزمها في العقل وجوب الوجود » هو أنّه لا يمكن أن يتصوّر وجوب الوجود إلاّ مع تركيب ، فيكون للوجود مفهوم وللوجوب مفهوم آخر. وأمّا الوجود الّذي وجوبه تأكّده وكماليته وهو بسيط فلا يمكن تعقّله ولا اسم له يدلّ عليه على ما يليق بكماليته وبساطته. وهذا التركيب المأخوذ بحسب مفهوم اللفظ انّما هو لازم من لوازمه. فقد ثبت وتحقّق أنّ واجب الوجود بذاته واجب الوجود بحسب الحقيقة ـ أي : حقيقة الوجود المتحقّق ـ ؛ وثبت أيضا أنّ مطلق الوجود شيء واحد بحسب المفهوم.

وإذا ثبت هذه المقدّمة نقول : لو تعدّد الواجب بالذات فكان اثنين مثلا ـ تعالى عن ذلك ـ ، فلا يخلوا إمّا أن يتحدا في الحقيقة ، أو لا ؛ فعلى الأوّل علّة اختلافهما يكون أمرا غير الوجود المتأكّد وغير حقيقتهما ، فيلزم امكانهما جميعا أو امكان واحد منهما ؛ وعلى الثاني يكون وجوب الوجود عارضا لهما جميعا أو لأحدهما ، وقد ثبت أنّ واجب الوجود لا حقيقة له سوى نفس الوجود.

ومنها : إنّه لو تعدّد الواجب لأمكن أن يكون أثر احدهما بعينه أثرا للآخر لاتفاقهما في وجوب الوجود الّذي هو معنى واحد وهو عين كلّ منهما ، وهو المناط في التأثير في كلّ ما هو ممكن. وحينئذ استناد كلّ أثر إلى أحدهما دون الآخر يوجب الترجيح بلا مرجّح ، وصدوره عنهما جميعا يوجب صدور أمر واحد بالشخص عن متعدّد ، وكلاهما محال ؛ فتعدّد الواجب محال.

ومنها : إنّه لا يمكن أن يكون في الوجود واجبان بالذات ، إذ لو كان الواجب اثنين لكان الوجود حينئذ نفس الماهية لهما وكان لازم النوع متفقا بينهما ، والعارض الغريب محتاج إلى مخصّص خارجي. ولا يصحّ أن يخصّص كلّ واحد منهما نفسه بشيء وإلاّ لتقدّم تخصيصه على تخصّصه ؛ ولا أن يخصّص كلّ منهما الآخر بشيء فيتقدّم تخصيص كلّ واحد منهما للآخر على تخصّصه ـ أي : تخصّص هذا المخصّص ـ ، فيتقدّم تعينه على تعيّن نفسه ؛ وهو محال.

٥٨٤

ومنها : برهان أورده بعض الأعاظم وهو يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، هي : أنّ مصداق حمل مفهوم واحد ومطابق صدقه بالذات مع قطع النظر عن أيّة حيثية كانت لا يمكن أن تكون حقائق متخالفة متباينة بالذات غير مشتركة في ذاتي أصلا ، وظنّي انّ كلّ سليم الفطرة يحكم بأنّ الأمور المتخالفة من حيث كونه متخالفة بلا حيثية جامعة لا تكون مصداقا لحكم واحد ومحكيا عنها به. نعم! ، يجوز ذلك إذا كانت الأمور متماثلة من جهة كونها متماثلة ـ كالحكم على زيد وعمرو بالانسانية من جهة اشتراكهما في تمام الماهية لا من حيث اختلافهما بالعوارض المشخّصة ـ ، أو كانت مشتركة في ذاتى من جهة كونها كذلك ـ كالحكم على الانسان والفرس بالحيوانية من جهة اشتمالها عليها ـ ، أو في عرضي ـ كالحكم على الثلج والعاج بالابيضية من جهة / ٢٤٢ MB / اتصافهما معا بالبياض ـ ؛ أو كانت تلك الامور المتباينة منتسبة إلى أمر واحد ـ كالحكم على مقولة الممكنات بالوجود من حيث انتسابها إلى الوجود الحقّ ـ تعالى ـ ، أو كانت متّفقة في أمر سلبي كالحكم عليها بالامكان لأجل كونها مسلوبة عنها ضرورة الوجود وامّا ما سوى تلك الوجوه المذكورة فلا يتصوّر فيها ذلك ضرورة.

وبعد تمهيد هذه المقدّمة نقول : لو تعدّد مفهوم الواجب بالذات لكان كلّ واحد منهما من حيث ذاته بذاته ممّا ينتزع مفهوم الوجود والوجوب عنه ويحكم بالموجودية / ٢٤٥ DA / والواجبية عليه ، فلا بدّ أن يتحقّق بينهما أمر مشترك ذاتي ـ سواء كان عين حقيقتهما أو جزء منهما ـ ؛ وكلّ واحد منهما باطل.

وهذا قريب من البرهان المشهور ، ولكنّه قد قرّر بوجه لا ترد عليه الشبهة الكمونية.

وقد قرّره بعض المحقّقين بوجه أوضح ؛ وحاصله : إنّ الواجب لو كان متعدّدا فتجب لها جهة جامعة ذاتية حتّى يستند إليها معنى العرضي المشترك بينهما ـ أعني : الوجوب ـ وإلاّ يلزم توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد ، وهو باطل عند التحقيق. والاشتراك في الجهة الجامعة الذاتية يستلزم الجهة المميزة ـ أعني : التعيّن ـ وما يجري مجراه ـ أعني : الفصول ـ إن كان المشترك فيه جنسا. فبعد تحقّق الجهة المشتركة والمميزة يلزم

٥٨٥

التركّب المنافي للوجوب ـ لوجود احتياج كلّ مركّب إلى اجزائه ـ ، فالواجب لا يمكن أن يحتاج في تحقّقه وتقوّمه إلى الغير.

وأيضا : المحتاج من حيث هو محتاج معدوم في مرتبة المحتاج إليه ، والواجب ـ تعالى ـ ما انسد جميع انحاء العدم عنه.

وأيضا : لا يخلوا إمّا أن يكون ما به الامتياز من لوازم ما به الاشتراك ـ فيلزم اشتراك الجهة المميزة ، أي : كونها مشتركة فيها ـ فلا يكون المميز مميّزا ، هذا خلف ؛ أو مستندا إلى أمر منفصل ـ فيلزم احتياج الواجب بالذات إلى الغير في الوجود ـ ، فيكون الواجب بالذات واجبا بالغير ؛ هذا خلف.

وأورد عليه : بانّه يجري في صورة وحدة الواجب أيضا ، لأنّ اشتراكه مع الممكن في الشيئية يوجب وجود جهة جامعة ذاتية بينهما بعين ما ذكرتم ، فلا نسلّم!.

والجواب بأنّ الشيئية والوجود المشتركين من الأمور الانتزاعية فلا يحتاج إلى سبب حتّى يحتاج في الاستناد إلى أمر ذاتي بخلاف وجوب الوجود فانّه أمر محقّق في الخارج لأنّه محقّق الحقيقة ومحصّل الموجود ومحقّق الشيء أحقّ بالتحقيق ؛ لا يجدي نفعا ولا ينقلع به مادّة الاشكال ، لأنّ ما يجب تحقّقه وتأصّله فهو الوجوب الخاصّ لكلّ واحد من الواجبين لا العامّ الانتزاعي المشترك بينهما.

وأيضا : محالية توارد العلّتين على المعلول الواحد انّما هي بالقياس إلى الواحد الشخصى لا النوعى ، لأنّ الواحد بالوحدة العمومية كثيرة بحسب الواقع ، فبازاء تعدّد العلّة يتحقّق تعدّد المعلول ، فجاز على تقدير تعدّد الواجب استناد الوجوب العرضي إلى المتعدّد من الواجبين من غير استناده إلى أمر ذاتي مشترك بينهما.

أقول : الاشكال الوارد على انتزاع وجود العامّ من الواجب والممكنات قد تقدّم الجواب عنه ؛

وأمّا انتزاع الخصوصيات الثابتة ـ من الشيئية وغيرها ـ من الحقائق المتباينة فقد تقرّر جوازه في كتب الحكمة ، وهو من أدقّ مسائلها.

ومنها : برهان التمانع. وتقريره : إنّه لو كان الواجب اثنين فان أراد أحدهما وجود

٥٨٦

ممكن فالآخر إمّا أن يقدر على إرادة عدمه أو لا ؛ فان لم يقدر على ذلك لزم عجزه ـ لأنّ عدمه ممكن في حدّ ذاته ـ ؛ وإن كان قادرا على إرادة عدمه فيفرض أنّه أراد ذلك ، وحينئذ فيحصل التخالف بينهما في اختيار وجود الممكن وعدمه ، وحينئذ إمّا أن يحصل مرادهما معا ، أو لا يحصل مراد شيء منهما ، أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر ؛ والأوّل مستلزم لاجتماع النقيضين ؛ والثاني موجب لارتفاعهما ، مع عجز الواجبين ؛ والثالث مقتض لعجز أحدهما. والأمور الثلاثة باطلة ؛ فتعدّد الآلهة مستلزم لامكان التخالف ، وامكان التخالف مستلزم لامكان أحد المحالات الثلاثة.

واعترض عليه المحقّق الدواني : بأنّه لقائل أن يقول : إنّا نختار أنّه مع إرادة أحدهما وجود ممكن لا يقدر الآخر على إرادة عدمه ولا يلزم عجزه ، لأنّ العجز عبارة عن عدم القدرة على الشيء ، واستحالة تعلّق الإرادة بشيء / ٢٤٣ MA / لا يستلزم انتفاء القدرة.

فان قيل : يلزم العجز من الإرادة لكون الطرف الآخر ـ أعني : طرف العدم ـ ممكنا في حدّ ذاته ، والمفروض أنّ الواجب الاخر لا يقدر على إرادة هذا الطرف ؛

قلنا : هذا الطرف وإن كان ممكنا بالذات إلاّ أنّه صار ممتنعا بسبب إرادة أحد الواجبين الطرف المقابل ـ أعني : طرف الوجود في فرضنا ـ ، وامتناع تعلّق الإرادة بشيء ممتنع بالغير لا يستلزم العجز ، فانّه يستحيل أن يتعلّق إرادة الباري ـ سبحانه ـ بوجود شيء بشرط عدمه ، مع أنّه لا يلزم عجز من ذلك.

ثمّ قرّر هذا البرهان بوجه لا يرد عليه هذه الخدشة ، / ٢٥٤ DB / وحاصل ما قرّره : إنّه إمّا أن يكون في قدرة أحدهما وارادته ضعف ، أم لا ؛ فان كان ضعف في قدرة أحدهما لزم نقصه ؛ وإن لم يكن ضعف في قدرة أحدهما وارادته فيمكن أن تتعلّق إرادة أحدهما بطرف من طرفي الممكن وإرادة الآخر بالطرف الآخر في آن واحد من غير تقدّم لارادة أحدهما ؛ وحينئذ إمّا أن يحصل مرادهما ، أو لا يحصل مراد شيء منهما ، أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر ؛ والأوّل مستلزم لاجتماع النقيضين ؛ والثاني مستلزم لارتفاعهما ؛ والثالث موجب لعجز أحدهما ، مع لزوم الترجيح بلا مرجّح ـ لأنّ المفروض عدم النقصان والضعف في قدرة كلّ منهما ـ.

٥٨٧

ويمكن أن يقرّر هذا البرهان بوجهين آخرين :

أحدهما : إنّه لمّا كان كلّ منهما قادرا على جميع الممكنات فان لم يكن تعلّق إرادة أحدهما بأحد الطرفين مانعا من تعلّق إرادة الآخر بالطرف الآخر لكان تعلّق إرادة الآخر بالطرف الآخر ممكنا ، فيلزم أحد المحالات الثلاثة ؛ وان كان مانعا لزم الترجيح بلا مرجّح ، إذ ليس إرادة أحدهما بمنع إرادة الآخر أولى من العكس.

وثانيهما : إنّه لا يخلو إمّا أن يكون كلّ منهما قادرا على جميع الممكنات ، أو لا ؛ والثاني باطل ، فتعين الأوّل ، وحينئذ يلزم أن لا يوجد ممكن أصلا ، إذ لو وجد ممكن من الممكنات لزم الترجيح بلا مرجّح ، أو توارد علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، أو عجزهما. بيان الملازمة : إنّ الممكن الّذي يصير موجودا إمّا أن يصير موجودا من أحدهما ، أو من كليهما ، أو لا يكون موجودا بشيء منهما ، والأوّل يوجب الترجيح بلا مرجّح ـ لأنّ نسبة الممكنات إليهما على السواء ، فصيرورته موجودا من أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ـ ، وعلى الثاني يلزم توارد علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، وعلى الثالث يلزم عجزهما ، لعدم استقلال كلّ منهما بالايجاد.

وقد اشير إلى هذا البرهان ـ أعني : برهان التمانع ـ في الكتاب الالهي بقوله ـ سبحانه ـ : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا ) (١). قال بعض العرفاء : البرهان المستفاد من هذه الآية أقوى البراهين وأتمّها ، وبيان ذلك : إنّ لفظ الجلالة موضوع في الجاهلية والاسلام لصانع العالم المستجمع لجميع الصفات الكمالية والسمات الجلالية الجمالية المنفرد بايجاد كلّ فرد فرد من الممكنات الكلّية والجزئية العالم بجميع الكلّيات والجزئيات بحيث لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ولا اصغر من ذلك ؛ ويدلّ على ذلك قوله ـ سبحانه ـ : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) (٢) ، وعلى هذا فلو كان الآلهة متعدّدة لكان كلّ واحد منها بهذه الصفة ـ وإلاّ لم يكن إلها ـ ، فيكون تأثير كلّ واحد منها في كلّ فرد من اجزاء النظام الجملي بحيث لو لم يكن غيره من الآلهة موجودا لكان العالم على ما هو عليه منتظما من غير افتقاره في جزء

__________________

(١) كريمة ٢٢ ، الأنبياء.

(٢) كريمة ٢٥ ، لقمان.

٥٨٨

من اجزائه إلى شيء ، وكان التدبير تماما ؛ وعلى هذا نقول : لو كان الإله اثنين مثلا لكان كلّ واحد منهما كافيا في التأثير في جميع الحقائق الوجودية مستقلاّ بايجاد هذا النظام الكلّي على ما هو عليه من غير افتقار إلى الآخر ، وحينئذ لو كان للواحد الحقّ والغنيّ المطلق الّذي هو كاف في ايجاد عالم الامكان ومستقل في التأثير في كلّ فرد من أفراد العالم شريك في الالهية لكان مثله في جميع الكمالات والاستقلال في التأثير في كلّ فرد من اجزاء العالم ؛ وحينئذ إن أوجد الثاني من كلّ فرد من افراد العالم ما أوجد الأوّل بعينه لزم أن يكون كلّ شخص من أشخاص العالم شخصين وكلّ شيء من اجزائه شيئين ، ولزوم الفساد منه ظاهر ؛ وإن اوجد من كلّ شيء ازيد ممّا أوجده الأوّل ـ أعني : القدر الّذي يقتضيه مرتبة هذا الشيء واستحقاق وجوده ـ لكان فساده أظهر ، لأنّ ايجاد الشيء / ٢٤٣ MB / أزيد على قدر وسعه مفسد له كما أنّ ايجاده انقص من ما تقتضيه مرتبته مضيع له ؛ وإن كان تأثير الثاني على خلاف تأثير الأوّل ، ولا ريب في أنّ تأثير الأوّل هو الايجاد واعطاء الوجود ، فيكون تاثير الثاني الاعدام والابقاء على العدم ، وفساده أوضح من فساد الأوّلين.

تحقيق

مشتمل على تقسيم يظهر منه نفي

الشركة عنه ـ سبحانه ـ في أيّ مفهوم كان

اعلم! ، أنّ الوحدة قد تكون ذات الواحد بما هو واحد ـ وهي الوحدة الحقّة والبساطة الصرفة ـ ؛ وقد تكون غيرها ، وهي انّما تكون بحسب شركة ما إمّا في المحمول أو في الموضوع ؛ والأولى تنقسم إلى الوحدة / ٢٤٦ DA / النوعية كما تقول : زيد وعمرو واحد ، أي : محمولها واحد وهو الانسان ، فهما موضوع شيء واحد ، ويسمّى هذه الوحدة ـ أي : الاتحاد في الموضوع ـ « مماثلة » ؛ وإلى الوحدة الجنسية ويسمّى « مجانسة » ؛ والوحدة الكيفية ويسمّى « مشابهة » ؛ والوحدة الكمية ويسمّى :

٥٨٩

« المساواة » ؛ والوحدة الوضعية ويسمّى « مطابقة » ؛ والوحدة الاضافية ويسمّى « مناسبة » ؛ والثانية ـ أعني : الوحدة في الموضوع ـ كما تقول الحلو والأبيض واحد ، أي : هما محمولا شيء واحد وموضوعهما واحد هو السكّر مثلا.

ثمّ لا ريب في أنّ شرف كلّ موجود بغلبة الوحدة فيه ، وكلّ ما هو أبعد من الكثرة فهو أشرف وأكمل ، فالأحقّ بالوحدة الحقيقية ـ أي : الوحدة الحقّة الصرفة الّتي هي ذات الواحد بما هو واحد ـ موجد الكلّ وقيّوم العالم ، فهو لا ينقسم أصلا لا في الكمّ ولا في الحدّ لا بالقوّة ولا بالفعل ، ولا ينفصل وجوده عن مهيته. وسائر الأشياء يستفيد الوحدة منه ، إذ له الوحدة بالذات ولسائر الأشياء الوحدة بالغير ؛ بل هو الوحدة فقط ووحدة سائر الأشياء بالارتباط إلى وحدته الحقّة. فواجب الوجود لا يوصف بشيء من انحاء الوحدة الغير الحقيقية ، فلا شريك له في شيء من المعاني والمفهومات بالحقيقة ، فاذ لا جنس له فلا مجانس له ، وإذ لا نوع له فلا مشاكل له ، ولا يوصف بكيف فيشابه ولا بكم فيساوى ولا بوضع فيطابق ، واضافته إلى الأشياء ليس إلاّ قيوميته الايجابية لها الّتي لا توجد في غيره ـ تعالى ـ ، فلا يناسبه شيء أصلا.

تذنيب

اعلم! ، أنّ للقوم في اثبات التوحيد مسلكين :

أحدهما : اثبات وحدة الواجب بالذات ، ووحدة إله من دون التقييد بالعالم ؛

وثانيهما : اثبات وحدة إله العالم.

وجميع البراهين المتقدّمة انّما دلّت على اثبات وحدة الواجب بالذات ولا يثبت منه وحدة إله العالم ، إذ مجرّد وحدة الواجب بالذات لا يوجب كون الإله المؤثّر في العالم واحدا ، فلا بدّ لنا من اثبات وحدة الإله الخالق للعالم.

فنقول : القوم استدلّوا على ذلك بوحدة العالم ؛ وتقرير هذا الاستدلال : إنّ اجزاء العالم يرتبط بعضها ببعض وينتفع بعضها من بعض بحيث لا ينظم حال بعض بدون آخر ـ كما في اعضاء حيوان واحد ـ فانّ من لاحظ العالم بجميع اجزائه يجد أنّ فيما بين اجزائه

٥٩٠

افتقارا بحيث يكون جميعها في سلسلة واحدة ـ ولهذا قال بعضهم : « إنّ مجموع العالم بمنزلة حيوان واحد واجزائه بمنزلة اعضائه » ـ وإذا كان أجزاء العالم مرتبطا بعضها ببعض على الوصف الحقيقي والنظم الحكمي بحيث كانت جميع اجزائه في سلسلة النظام كثيرة الفوائد والمصالح لدلّت على أنّ مبدعها واحد محض وصانعها فرد صرف. وكما أنّ كون اعضاء شخص واحد من الانسان مؤتلفة تأليفا طبيعيا مرتبطة بعضها ببعض منتفعة بعضها عن بعض في رباط واحد وإن وجد كلّ واحد منّا ممتازا عن غيره بحيث الطبيعة يدلّ على أنّ مدبّرها وممسكها عن الانحلال قوّة واحدة ومبدأ واحد فكذلك الحال في اجسام العالم وقواها حال كونها مع انفصال بعضها عن بعض وتفرد كلّ منها بطبيعة خاصّة وفعل خاصّ يمتاز به عن غيره مرتبطة منتظمة في رباط واحد مؤتلفة ائتلافا طبيعيا يدلّ على أنّ مبدعها ومدبرها وممسكها عن أن ينفصم واحد حقيقي ، إذ لو كان في العالم خالقان لتميز صنع كلّ واحد منهما عن صنع غيره ، فكان ينقطع الارتباط ويختلّ النظام ـ كما دلّ عليه قوله سبحانه : ( لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ) (١) ـ ، ولمّا كان العالم واقعا على هذا الانتظام ، بل كان فيه خلل وفساد ـ كما دلّ عليه قوله ـ تعالى ـ : / ٢٤٤ MA / ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا ) (٢) ـ ، وبالجملة كون جملة العالم مع تفنّن حركاتها وتخالف اشكالها وتغيّر آثارها المتولدة من تاثير الاباء العلوية في الأمهات السفلية مؤسّسة على الاختلاف الطبيعي والرصف الحكمي دالّة بوحدتها الطبيعية الاجتماعية على الوحدة الحقّة الحقيقية.

وممّا يدلّ على وحدة إله العالم إنّه قد ثبت أنّ واجب الوجود بذاته واحد لا شريك له في الوجوب الذاتي ـ بل في حقيقة الوجود ـ ، وكلّ موجود سواه ممكن بذاته وبه صار واجبا وموجودا ، فمن وجوب استناد كلّ الموجودات / ٢٤٦ DB / وارتقائها إليه ـ تعالى ـ يلزم أن يكون وجودات الأشياء كلّها من واحد هو الواجب الوجود بذاته ؛ بل نقول : قد تحقّق أنّ الواجب بذاته هو الوجود الحقيقي والموجود في حدّ ذاته وغيره ليس موجودا في نفسها وإنّما يكون موجوديته باعتبار انتسابه إليه ـ تعالى ـ ، وإنّ

__________________

(١) كريمة ٩١ ، المؤمنون.

(٢) كريمة ٢٢ ، الأنبياء.

٥٩١

التأثير والايجاد حقيقة انّما هو افادة الفاعل نفس ذات المعلول متعلّقة ومرتبطة بنفسه بحيث يصير بارتباطها به مبدأ لانتزاع الوجود عنها ومصداقا لحمل الموجود عليها ـ إذ الشيء ما لم يكن وجودا وموجودا في نفس حقيقته لا يصير شيء آخر لأجل ارتباطه به موجودا ـ. وبذلك ثبت أنّ التأثير والايجاد الحقيقي والفاعلية الحقيقية يختصّ بواجب الوجود بالذات ، كما أنّ الوجود الحقيقي يختصّ به ـ تعالى ـ ، وهو واحد ـ كما بيّناه بالبراهين القاطعة ـ ، فلا مؤثّر في الوجود إلاّ الله.

٥٩٢

الفصل الثالث

في نفي الجوهرية عنه ـ سبحانه ـ

٥٩٣

( الفصل الثالث )

( في نفي الجوهرية عنه ـ سبحانه ـ )

اعلم! ، أنّ عدم كونه ـ تعالى ـ جوهرا على قواعد الحكماء ظاهر ، لأنّ الجوهر عندهم ماهية إذا وجدت في الخارج كائن لا في موضوع.

وأيضا : الجوهر عندهم جنس لما تحته ، ولمّا ثبت أنّ الواجب صرف الوجود وأنّ وجوده عين ذاته وليس له ماهية سوى الوجود وأنّه ليس جنسا يثبت منه عدم كونه جوهرا.

وأمّا المتكلّمون فلمّا لم يعتبروا الماهية في حدّ الجوهر وقالوا : إنّه موجود لا في موضوع سواء كانت له ماهية أم لا ، فلا يقبح عقلا عندهم اطلاق الجوهر عليه ـ سبحانه ـ ؛ إلاّ أنّهم قالوا : إنّ أسماء الله ـ سبحانه ـ توقيفية ولم يطلق في الشريعة « الجوهر » على الله ـ سبحانه ـ ، فاطلاقه عليه ـ سبحانه ـ ممتنع شرعا.

٥٩٤

( الفصل الرابع )

( في اثبات عدم كونه محلاّ للحوادث )

٥٩٥

( الفصل الرابع )

( في اثبات عدم كونه محلاّ للحوادث )

اعلم! ، أنّ كافّة العقلاء اتّفقوا على أنّ الواجب يمتنع أن يتصف بالحادث ـ أي : الموجود بعد العدم ـ ؛ وخالف في ذلك الكرامية حيث قالوا بحلول الكلام فيه ـ سبحانه ـ ، وهو حادث.

ويدلّ على نفي محلّيته للحوادث وجوه :

منها : إنّ الاتصاف بالحادث الّذي يتصف به ـ سبحانه ـ إن كان من صفات الكمال كان الخلوّ عنه مع جواز الاتصاف به نقصا ، وقد خلا عنه ـ سبحانه ـ قبل حدوثه ؛ وإن لم يكن من صفات الكمال امتنع اتصاف الواجب به ، لأنّ كلّ ما لم يتّصف به يلزم أن يكون من صفات الكمال.

واعترض عليه : بمنع كون الخلوّ عن صفة الكمال نقصا على الاطلاق ، لأنّ لزوم النقص مسلّم إذا لم يكن حال الخلوّ متصفا بكمال يكون زواله شرطا لحدوث هذا الكمال ، وذلك بأن يتصف دائما بنوع كمال يتعاقب افراده لا إلى نهاية ويكون حصول كلّ لاحق مشروطا بزوال السابق ؛ فالخلوّ عن كلّ فرد يكون شرطا لحصول كمال آخر ، بل لاستمرار كمالات غير متناهية ، فلا يكون نقصا.

والجواب عنه : إنّه يلزم حينئذ أن لا يخلوا ذات الواجب عن الحوادث دائما ،

٥٩٦

فيلزم إمّا حدوث الواجب أو ازلية بعض الحوادث ، ومنع ذلك مكابرة صرفة.

ومنها : إنّه قد ثبت فيما تقدّم أنّ الواجب ـ سبحانه ـ متعال عن الزمان والزمانيات ـ لاحاطته بهما وارتفاعه عنهما ـ ، فلا تغيّر فيه أصلا ، ولو كان بمجرّد معنى الانتقال من حال إلى حال لا بمعنى التغيّر في الواجبية أو التأثير والانفعال عن الغير ، لأنّ مطلق التغيّر من لوازم الزمان فلا يتّصف به إلاّ الزمانيات ، والباري ـ سبحانه ـ / ٢٤٤ MB / متقدّس عنه محيط به. ولا ريب في كون الاتصاف بالحوادث تغيرا وكونه من صفات الزمانيات ، فالواجب الحقّ والقيوم المطلق متعال عنه.

فان قيل : إنّه ـ سبحانه ـ صار موجودا وخالقا للعالم بعد ما لم يكن وصار عالما بانّه وجد بعد أن كان عالما بانّه سيوجد ، فقد حدث فيه الخالقية وصفة العلم ؛ وكذا انّه ـ تعالى ـ متكلّم سميع بصير ولا يتصوّر هذه الأمور إلاّ بوجود المخاطب والمسموع والمبصر ، وهي حادثة توجب حدوث هذه الصفات ؛

قلنا : قد بيّنا في كيفية علمه ـ سبحانه ـ بالأشياء المتغيرة بانّها على وجه لا يلزم التغيّر فيه أصلا ، ولا ريب في أنّ السمع والبصر أيضا راجعان إلى العلم ؛ وأمّا الخالقية والتكلّم فالخلق والتكلّم اللذان هما عين ذاته ـ أعني : القدرة على ايجاد الأشياء بالفعل وعلى ايجاد الكلام اللفظي ـ فلا تغير ولا حدوث فيهما أصلا ؛ وأمّا الخلق بمعنى الايجاد الفعلي والتكلّم بمعنى ايجاد الكلام بالفعل فليسا من الصفات القائمة بذاته ، بل هما من الاضافات المحضة والتغيّر فيهما جائز. وبالجملة التغيّر والحدوث اللذان يتوهّمان في بعض الصفات إنّما هو تغير في الاضافة بالنسبة إلى الأشياء ، والحادث انّما هو تعلّق تلك الصفات ، والتغيّر والتجدّد والحدوث في التعلّقات والاضافات لا منع فيه ، لأنّه يلزم منه محلّيته ـ تعالى ـ لحادث ، وهو / ٢٤٧ DA / باطل.

وبعد ما ثبت أنّ الواجب ـ سبحانه ـ صرف الوجود ومحض الموجود وليس فيه نقص وافتقار وانّه ليس جسما وجسمانيا يثبت منه نفي التحيّز والحلول والاتحاد والألم واللذّة المزاجية عنه ـ سبحانه ـ.

٥٩٧

* * *

وبذلك يتمّ مباحث الصفات السلبية ، وهو آخر ما أردنا ايراده في هذا الكتاب.

والحمد لله على تأييده على الإتمام والصلاة والسلام على سيّد الأنام وعلى عترته أمناء الإسلام. وقد وقع اتمامه في أوّل يوم من شهر الربيع الأوّل من شهور سنة ١١٩٣ ـ ثلاث وتسعين ومائة بعد الألف ـ من الهجرة المباركة النبوية وقد كان ذلك عند تراكم الهموم والأحزان وتفاقم الغموم والأشجان وفرط الملال وضيق البال من هجوم المصائب والمحن وتواتر النوائب والفتن من ابتلائنا أوّلا في بلدة كاشان ـ حماها الله عن طوارق الحدثان ـ بالزلازل الهائلة المفزعة والزحفات المزعزعة المزعجة وانهدام جميع الأبنية والمساكن وجلّ البيوت والمواطن وهلاك كثير من الأصدقاء والأحباب وذهاب غير واحد من الأحبّة والأصحاب ، ثمّ ابتلائنا بالأمراض الشديدة الغريبة والأسقام الوبائية العجيبة بعد ارتحالنا ـ لعدم السكنى وغيره من اختلال الأمور ـ إلى بعض القرى ، واحتراق فؤادي بذهاب بعض أولادي الّذي تقرّ به عيني في ظلمات الأحزان والهموم وتسكن إليه قلبي عند اضطرابه من هجوم الأشجان والغموم ، ثمّ وقوعنا في الداهية العظمى والفتنة الكبرى ـ أعني : موت السلطان ـ ووقوع الاضطراب والوحشة بين أهل إيران. فاحمد الله على السرّاء والضرّاء وفي الشدّة والرخاء على العافية والبلاء ، ونسأله أن يكون ذلك آخر الرزايا والمصائب لي وخاتمة البلايا والنوائب بي ، وأن يصلح جميع أمور المسلمين بمحمّد وآله سادات الخلق أجمعين.

قد تمّ تسويد هذا الكتاب المستطاب المسمّى بـ « جامع الأفكار وناقد الأنظار » بعون الله الملك الوهّاب وبنصرة رسوله الّذي أوتى له فصل الخطاب ـ صلوات الله عليه وعلى آله إلى يوم الحساب ـ من مصنّفات أستادي بل استاد الكلّ في الكلّ أفضل

٥٩٨

أعاظم المدقّقين وأكمل أفاخم المحقّقين الفائق على الأوائل والأواخر في الأوّلين والآخرين الوحيد في عصره والفريد في دهره جامع المعقول والمنقول حاوي الفروع والأصول الجامع بين مرتبتي العلم والعمل الحافظ نفسه الشريف من الخطأ والزلل خاتم الحكماء والمجتهدين في أوانه وزبدة الفضلاء المتبحّرين في زمانه محمّد مهديا أيّده الله وأبقاه ومن حلاوة التوفيق لا أخلاه وأدام الله ظلّه على رءوس المتنعّمين بمنهجه منهج الرشاد إلى يوم التناد بمحمّد وآله الهادين إلى سبيل السداد.

ولعمري إنّ هذا الكتاب أحسن ما كتب من الكتب والمصنّفات وأنفس ما جمع من الزبر والمؤلّفات ، لا يعرف قدره إلاّ من أيّد من عند الله ولا ينتفع به إلاّ من هو أوتي من فضل الله ؛ وقد جمع في هذا الكتاب جواهر عزيزة وفرائد نفيسة ، لم يجمع إلى الآن في كتاب ولا رسالة ، فالمدح الّذي املأ المصنّفون كتبهم منه بهذا الكتاب أوجب وحفظه عن الجاهلين المتفلسفين المتحصّلين أولى وأنسب ، وينبغي منعه عن الأغبياء من الطلاّب لئلاّ يكون كحصى الدّرّ في أعناق الكلاب. فاستمع أيّها الطالب المنصف هو المقال ليوزع عنك ما قيل أو يقال. سوّده بيمناه الخاسرة الخاطئة الفانية المفتاق إلى رحمته الشاملة الكاملة من النسخة الّتي كانت بخطّه ـ زيد احترامه ـ أقلّ تلامذته الفقير إلى الله الهادي ابن الحاج طالب محمّد الطاهرآبادي ـ أصلح الله حاله في الأولى والآخرة ـ مع تشتّت البال وتفرّق الحال في اليوم الثلثاء السابع عشر من شهر محرّم الحرام من شهور سنة ١١٩٤ الهجرية ـ أربع وتسعين ومائة بعد الألف من الهجرة النبوية ، على هاجرها ألف سلام وصلاة وتحيّة ـ. والمرجوّ من الناظرين أن يدعوا له ولي ولوالدينا بصالح الدعاء.

كتاب فيه ما فيه! ، بديع في معانيه!

إذا عاينت ما فيه رأيت النور يحويه!

٥٩٩
٦٠٠