جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

المعلول. فنمنع اشتراك معنى واحد بين حقائق مختلفة إلاّ تبعا لمشترك ذاتي بينهما ؛ وهذا ما يقال : « انّ ما به الاشتراك العرضي تابع ومستند إلى ما به الاشتراك الذاتي ».

وإن شئت بيانا أوضح من ذلك فنقول : قد عرفت أنّ حقيقة الوجود ـ أعني : ما هو منشأ انتزاع الوجود العامّ ـ كما هو عين ذات الواجب في الخارج فكذلك ماهية الواجب عين مفهوم وجوده في الذهن ، ومفهوم وجوب الوجود معنى واحد غير مختلف ، فلو كان هذا المفهوم منتزعا من حقيقتين مختلفين لزم أن يكون لحقيقتين مختلفين ماهية واحدة غير مختلفة وهو محال ، إذ حقيقته ـ كما عرفت ـ ليست إلاّ الماهية باعتبار وجودها في الخارج ، بل الحقيقة ليست في الحقيقة إلاّ / ٢٣٩ DA / منشأ انتزاع الماهيّة ، فلو كان مفهوم واجب الوجود معنى واحد غير مختلف منتزعا من حقيقتين مختلفين لزم أن يكون معنى واحد غير مختلف تمام ماهية حقيقتين مختلفتين ، وبطلانه من أجلى البديهيات ؛ هذا.

وما قاله جماعة في جواب الشبهة المذكورة على الدليل المذكور يرد عليه اشكال قوي ، وهو : انّه إذا كان ما به الاشتراك العرضي تابعا لما به الاشتراك يلزم أن لا يكون مفهوم الوجود عين الوجود العامّ المنتزع مشتركا معنويا بين الواجب والممكنات ، لأنّه إذا كان مشتركا معنويا بينهما يلزم أن يكون مستندا إلى ما به الاشتراك ذاتي بينهما ـ بناء علي المقدّمة المذكورة ـ ، فيلزم التركّب في الواجب ـ سبحانه ـ. ولأجل ذلك ذهب جماعة إلى القول بالاشتراك اللفظي ؛ وفساد هذا القول أظهر من أن يخفى على أحد.

وأنكر الأكثر المقدّمة المذكورة وقالوا : لا مانع من انتزاع أمر وحدانى من أمور متخالفة بأنفسها ؛

وأجابوا عن الشبهة الكمونية بما ذكرناه سابقا من أنّ وجوب الوجود ليس عرضيا ، إذ وجود الواجب ـ سبحانه ـ عين ذاته والوجوب ليس إلاّ تأكّد الوجود ـ أي : كون الشيء موجودا في حدّ ذاته من غير افتقار إلى شيء ـ ، فهو أيضا عين الذات ؛ وإذا كان عين الذات فلا يمكن أن يكون عرضيا. والحقّ إنّ وجوب الوجود ليس عرضا وهو تأكّد الوجود ـ أي : صرف الوجود ومحضه ـ ، فلا يمكن أن يكون متعدّدا ـ كما

٥٦١

تقدّم ـ ، فجواب الأكثر مطابق للواقع ونفس الأمر. والتزام كون وجوب الوجود عرضيا خلاف التحقيق ، إلاّ أنّ التحقيق إنّ المقدمة المذكورة لا يمكن انكارها ، إذ لو لم يكن ما به الاشتراك العرضي مستندا إلى ما به الاشتراك الذاتي لزم ارتفاع المناسبة بين العلّة والمعلول وجواز صدور الواحد الشخصي عن العلل المتخالفة ؛ وهو بعيد عن الحقّ والصواب.

وربما يجاب عن الاشكال المذكور الوارد على انتزاع مفهوم الوجود مع كونه واحدا عن الواجب والممكن بأنّ هذا الوجود المنتزع وإن كان مشتركا معنويا إلاّ أنّه مقول على افراده بالتشكيك ، فالوجود المنتزع من الوجود الخاصّ الواجبي القائم بذاته الغير المحتاج إلى علّة أقوى وأشدّ من المنتزع عن الوجودات الخاصّة الامكانية القائمة بالواجب المحتاجة إليه ، فانّ الوجود الخاصّ / ٢٣٧ MA / الواجبي الّذي هو صرف الوجود القائم بذاته وإن كان مخالفا لنفسه للوجودات الامكانية المعلولة له إلاّ أنّ الوجودات الامكانية بعد صدورها يكون منشئا للآثار الخارجية ولانتزاع مفهوم الوجود عنها كالوجود الواجبى ، إلاّ أنّ منشئية الآثار وانتزاع مفهوم الوجود الّتي للوجود الحقّ القائم بذاته ممتازة عن منشئية الآثار وانتزاع الوجود العامّ الّتي للوجودات المعلولة الامكانية بالكمال والنقص والشدّة والضعف ، وإن كان الآثار بالحقيقة صادرة عنهما ومفهوم الوجود بالحقيقة منتزعا عنهما وكان صدور الآثار ومفهوم الوجود مشتركين معنويين إلاّ أنّ الآثار الصادرة والواردة المنتزع من الوجود الخاصّ الواجبى مغاير بالكمال والتمامية عن الآثار الصادرة والوجود المنتزع عن الوجودات الخاصة الامكانية. والاختلاف بالكمال أو النقص لا يخالف الاشتراك المعنوي ، وصدور الأمر الواحداني العامّ الاعتباري الّذي كان افراده الذهنية الاعتبارية مختلفة بالكمال عن الأشياء المخالفة بأنفسها لا مانع فيه ، لأنّه حينئذ لا يوجب ارتفاع المناسبة بين العلّة والمعلول ، فانّ الفرد الصادر عن كلّ منها مغاير بالكمال أو النقص عن الفرد الآخر.

ولا يخفى عدم تمامية هذا الجواب ، لأنّ مفهوم الوجود الّذي هو مقول بالتشكيك وإن كان بالنسبة إلى افراد مختلفة بالكمال والنقص إلاّ أنّ كلّ مقول بالتشكيك يكون

٥٦٢

افراده الممتازة بالكمال والنقص مشتركة في أمر ذاتي ، فيكون افراد الوجود العامّ الذهنية مشتركة في أمر ذاتي. وإذا كان مشتركا في أمر ذاتي فيجب أن يستند ذلك الأمر المشترك ـ لعرضيته بالنسبة إلى الوجود الواجبي والوجودات الامكانية ـ إلى أمر مشترك ذاتي بينهما ، وعلى هذا فيلزم أن يكون الامتياز بين الوجود الخاصّ للواجب والوجودات / ٢٣٩ DB / الخاصة الممكنة بنفس الكمال والنقص مع اشتراكهما في أمر ذاتي مشترك. وحينئذ إن كان نفس الكمالية والنقص شيئا على حدة أو كان بينهما ما به الامتياز يلزم التركب في وجود الواجب ، وإن لم يتحقّق ما به الامتياز أصلا لزم اتحاد وجود الواجب والممكن.

ويمكن أن يقال : لا مانع من اشتراك الوجود الخاصّ الواجبي مع الوجودات الخاصّة الامكانية مع امتياز الوجود الواجبى بالكمال الّذي هو فوق التمام ، فانّ الوجودات تترتّب وتتصاعد كمالا إلى أن ينتهى إلى ما هو أكمل ولا يتصوّر أكمل منه ويكون فوق التمام ، وهو الوجود الصرف القائم بنفسه والامتياز بنفس الكمالية والنقصان مع الاشتراك في ذاتي لا يوجب تركّبا ولا نقصا ولا اتحاد وجود الواجب مع وجود الممكنات ، لأنّ الأكملية التامّة والأتمية الكاملة المترتّبة على محوضة الوجود والقيام بالذات من دون افتقار إلى علّة خارجة كافية للامتياز التامّ وحصول الاثنينية ، فلا يتحقّق اتحاد بوجه ؛ وحينئذ فيجوز أن يكون مفهوم الوجود منتزعا عن وجود الواجب والممكنات ومشتركا معنويا بين الجميع مع امتياز افراده الذهنية بالكمال والنقص كالوجودات الخاصّة بعينها من دون فرق.

والاظهر أن يقال في الجواب : إنّ المفهوم الواحد لا يجوز أن ينتزع من الامور المتخالفة المتباينة بانفسها إذا لم تكن تلك الأمور مشتملة على أمر واحد مشترك أو لم تكن تلك الأمور مرتبطة ومنتسبة إلى واحد حقيقي ، والوجود العامّ وإن كان معنى واحدا منتزعا عن الأشياء المتخالفة بانفسها ـ أعني : الواجب والوجودات الخاصة الامكانية المتخالفة بانفسها ـ إلاّ أنّ جميعها لمّا كانت مرتبطة منتسبة إلى الواجب معلولة له ومترشّحة عنه فلا مانع من انتزاعه مع وحدته عن الواجب وعن الوجودات المترشّحة

٥٦٣

عنه الفائضة منه وإن كانت متخالفة بانفسها ؛ فتأمّل.

ومنها : إنّه لو كان واجب الوجود ماهية نوعية متحقّقة في ضمن اثنين وإن كان وجوب الوجود تمام ماهية الفردين وكان امتيازهما بعوارض مشخّصة فلا ريب في أنّ تلك العوارض المشخّصة لا يمكن أن تكون واجبة لأنّ العارض محتاج إلى المعروض والاحتياج ينافي الوجوب ، فتعيّن أن تكون ممكنة ، والممكن محتاج إلى العلّة وعلّته إن كانت ذات الفردين ـ والمفروض إنّ ذات الفردين واحدة هي وجوب الوجود وانّما امتيازهما بعوارض ـ لزم. / ٢٣٧ MB / أن يكون العارض في الفردين واحدا ، فلا يتحقّق الاثنينية ، وإن كانت علّته خارجة عن ذات الفردين لزم عدم تعيّن الفردين في حدّ ذاتهما مع قطع النظر عن الأمر الخارج ، فلا يكون الفردان مع قطع النظر عن الغير موجودين ، فلا يكونان واجبي الوجود ، فلو كانت ماهية الواجب متكثّرة الافراد بالعوارض المعلولة لغير الذات لزم أن لا يكون الواجب موجودا في حدّ ذاته.

ويمكن أن يورد الشبهة الكمونية على هذا الدليل أيضا ، فيجاب أيضا بما تقدّم.

ومنها : إنّه لا يمكن تعدّد الواجب وإلاّ فالتعين الّذي به الامتياز إن كان نفس الماهيّة الواجبية أو معلّلا بها أو بلازمها فلا تعدّد ، وإن كان معلّلا بأمر منفصل عن الذات ـ فلا وجوب بالذات لامتناع احتياج الواجب في تعينه إلى أمر منفصل ، لأنّ الاحتياج في التعيّن يقتضي الاحتياج في الوجود ، إذ الشيء ما لم يتعيّن لم يوجد ـ.

واعترض عليه : بأنّ هذا من قبيل اشتباه المفهوم بما صدق عليه ، فانّ الماهيّة الواجبة أريد بها في أوّل شقي الترديد مفهومها ، وفي الآخر ما صدقت هي عليه ، ليستقيم الكلام ، فانّ قوله : « إن كان نفس الماهية الواجبية فلا تعدّد » ، إن أريد بالواجب ما صدق هو عليه ورد المنع على اللزوم ، فانّه يجوز أن يوجد واجبان تعيّن كلّ واحد منهما نفس ذاته بلا محذور ؛ وكذا قوله : « وإن كان معلّلا بأمر منفصل عن الواجب فلا وجوب بالذات » ؛ وإن أريد به المفهوم ورد المنع على اللزوم ، فانّه يجوز أن يكون تعيّن كلّ واجب معلّلا بأمر منفصل عن مفهوم الواجب ـ أعني : ذات الواجب ـ بلا محذور.

٥٦٤

لا يقال : الانفصال بين ذات الواجب ومفهومه فلا يمكن أن يقال : إنّ الأمر المنفصل عن مفهوم الواجب هو ذات الواجب ، إذ / ٢٤٠ DA / الظاهر أنّ المراد من الأمر المنفصل هو أن لا يكون بينهما اتصال ويمكن الافتراق بينهما ، وليس المفهوم بالنسب إلى الذات كذلك ؛ لانّا نقول : فحينئذ يتحقّق شقّ خامس في الجواب نختاره ، وهو أن يكون التعيّن معلّلا بذات الواجب. والحاصل : انّا لا نقول حينئذ : أنّ ذات الواجب أمر منفصل عن المفهوم ، بل نقول : انّكم قلتم : انّ التعيّن إمّا نفس الماهية الواجبة ، أو معلّلا بها ، أو بلازمها ، أو بأمر منفصل عن مفهوم الذات. ويرد على كلّ واحدة منها مفسدة. وأنا أقول : بقي قسم خامس هو أن يكون التعلّل معلّلا بذات الواجب ، وهذا على تقدير أن يكون المراد من الواجب المفهوم ، فانّ ذات الواجب هو ما صدق عليه لا المفهوم ، فيكون قسما خامسا. وحاصل هذا الاعتراض : إنّ لكلّ من وجوب الوجود والموجود والوجود مفهوما ومصداقا ، والكلام انّما هو في المصداق لا في المفهوم ، لأنّ من قال : إنّ وجوب الوجود والوجود والموجود عين ذاته ـ سبحانه ـ ليس مراده أنّ مفهوم هذه الأمور عين له ـ تعالى ـ ؛ مع أنّ ما ذكر في الدليل المذكور ـ من أنّ ما به الامتياز إن كان نفس الماهية الواجبة ... إلى آخره ـ انّما يستقيم في المفهوم ، إذ لو أريد بالماهية الواجبة المصداق لورد أنّه يجوز أن يكون واجبان تعيّن كلّ منهما عين ذاته ووجوب الوجود عرضي لهما ؛ وهذا الاعتراض هي الشبهة الكمونية.

وأجاب بعض المشاهير من هذا الاعتراض : بأنّ المراد بالماهية الواجبة في الدليل حقيقة محض الوجود ، فانّ الوجوب هو تأكّد الوجود. وذلك لأنّه قد سبق أنّ الوجود الحقيقي ليس زائدا على حقيقة الواجب ، لا في التعقّل ولا في الخارج. وأيضا : قد مرّ الشبهات على أنّ الوجود الانتزاعي واحد والغرض منها التنبيه على أنّ الوجود الحقيقي واحد ـ على ما مرّ تفصيله ـ. والحاصل : أنّ الوجود الحقيقي الّذي هو أمر واحد وعين حقيقة الواجب لا يخلوا عن الاقسام الاربعة المذكورة الّتي رابعها محال بالبديهة ، والأقسام الباقية مستلزمة للمطلوب ، لأنّ التعيّن الّذي به الامتياز إذا كان عين محض الوجود الّذي هو حقيقة الواجب أو معلّلا بها أو بلازمها كان الواجب واحدا ولم يتصوّر

٥٦٥

التعدّد. وبالجملة : إنّ مراد القوم بالماهية الواجبة ليس مفهوم الوجود الانتزاعي الّذي هو أمر عرضي غير موجود في الخارج ، بل المراد منها حقيقة محض الوجود بلا ممازجة شيء من الأمور الخارجة عن حقيقة الوجود من الماهية والكمّ والكيف والوضع وغيرها ، فانّ الوجوب هو تأكّد الوجود ، فيكون نفس حقيقة الوجود المبرّى عن كلّ مداخل ، وإلاّ يلزم الاحتياج المنافي لوجوب الوجود. وإذا كان الوجوب نفس حقيقة الوجود الّذي هو غير زائد على ذات الواجب ـ تعالى ـ لا في العقل ولا في الخارج فيجب أن يكون حقيقة الواجب وماهيتها نفس ذاته ـ تعالى ـ لا أمرا عرضيا انتزاعيا ـ كما فهمه المعترض وبنى الاعتراض عليه بقوله بافتخار الشياطين / ٢٣٨ MA /.

وبما ذكر يندفع ما فهمه ، ووجه الاندفاع : إنّه قد مرّ انّ الوجود الّذي قد حكم بانّه عين حقيقة الواجب وذاته انّما هو الوجود الحقيقي الّذي تصوّره بالوجه الممكن بديهي ، وقد مرّ أنّ الحكم بكونه واحدا بديهي حدسي يتحدّس بوحدته بملاحظة الموجودات وما توجد باعتباره وملاحظة وحدة الوجود الانتزاعي ، فانّ الموجودات كلّها بحيث يمكن انتزاع مفهوم الوجود المصدري الانتزاعي منها ، والموجودات الممكنة لا يمكن أن يكون منشأ الانتزاع إلاّ بسبب مدخلية الوجود الحقيقي الّذي غير محتاج في كونه منشئا لانتزاع هذا المفهوم إلى أمر آخر من فاعل أو قابل أو ارتباط بشيء من الأشياء ، وعلى هذا فمراد المستدلّ من قوله : الماهيّة الواجبة الوجود الحقيقي الّذي قد مرّ الاشارة إلى وحدته وإلى كونه عين حقيقة الواجب ، وهو لا يخلوا عن الأقسام الاربعة الّتي رابعها باطل بالبديهة والثلاثة الباقية مستلزمة للمطلوب.

وقال بعض الأفاضل في بيان التحدّس من الموجودات بالوجود الحقيقي ووحدته : إنّ مفهوم الوجود المنتزع من الموجودات لمّا كان مشتركا معنويا بين الموجودات فيكون مفهوم الوجود معنى واحدا مشتركا بين الموجودات ، والمفهوم الواحد لا يجوز أن يكون بإزائه / ٢٤٠ DB / معان مختلفة ، لأنّه لا يكون المفهوم الواحد إلاّ بإزاء معنى واحد ، لأنّ العقل يحكم بديهة بأنّ الأمور المتخالفة المتباينة من حيث انّها متخالفة متباينة وباعتبار محض ذواتها المتباينة لا يكون منشئا ومبدأ ومستلزما لحصول معنى واحد بعينه منها

٥٦٦

في العقل ، بل المفهوم الواحد لا يمكن أن ينتزع من المخالفات إلاّ إذا كانت مشتملة على أمر واحد يكون مشتركا بينها أو تكون تلك الأمور المتخالفة منتسبة ومرتبطة إلى أمر واحد أو أمور متشابهة. ثمّ إنّ الوجودات الامكانية الّتي ينتزع منها مفهوم الوجود متخالفة بانفسها ، فليس بينها أمر مشترك ، فيجب أن يكون منتسبة ومرتبطة إلى واحد قائم بذاته ، وهو الوجود الحقيقي الّذي هو عين الواجب ـ تعالى ـ.

فان قيل : الامكان والشيئية وكذا سائر الأمور العامّة يكون انتزاعها من الحقائق المتباينة الّتي ليس بينها قدر مشترك مثل الجوهر والعرض ؛

قلت : الامكان والشيئية من المعقولات الثانية. وبيان انتزاع المعقولات الثانية عن الحقائق المتباينة من أدقّ مسائل الحكمة ؛ وقد بيّنا ذلك في بعض الحواشي.

ويمكن أن يقال : إنّ الوجود وكذا الموجود لمّا كان مشتركا معنويا فيكون معنى واحدا منتزعا من الموجودات ولا يصحّ أن يكون خصوصية شيء من الممكنات لها مدخل في انتزاع هذا المفهوم وإلاّ لما صحّ انتزاعه من غيرها ، وإذا لم يكن لشيء من الخصوصيات مدخل فلا بدّ أن يكون ما بإزاء ذلك المعنى أمرا آخر خارجا عن الموجودات الممكنة واحدا ، لأنّه لا يجوز استناد أمر واحد إلى أمور متكثّرة ؛ لأنّه إذا فرض أنّ أمرا واحدا يكون مستندا إلى أمرين فنقول : لا يخلوا من أن يكون خصوصية شيء من ذينك الأمرين لها مدخل في ذلك الأمر المستند أو لا ، فان كان لها مدخل فكيف يتصوّر وجود ذلك الأمر المستند بدونها؟! ؛ وإن لم يكن لشيء من الخصوصيّتين مدخل فلا يكون شيء منهما علّة لذلك الأمر المستند ، بل العلّة هي القدر المشترك بينهما ، فاذا لم يكن بينهما قدر مشترك فيجب أن يكون هذا المعنى مستندا إلى أمر خارج عنها ، ويكون هذا المعنى منتزعا من الموجودات المتخالفة الممكنة لأجل انتسابها وارتباطها إلى ذلك الأمر الخارج ـ وهو الوجود الحقيقي القائم بذاته ـ ، فثبت من انتزاع مفهوم الوجود من الموجودات وجود حقيقة الوجود ووحدته ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل في توجيه الدليل المذكور : إنّ غرض المستدلّ هو أنّ المعبّر عنه بمفهوم وجوب الوجود معنى واحد ـ بناء على نفي الاشتراك اللفظي ـ ، فذلك المعنى

٥٦٧

الواحد لا يخلوا من أن يكون حقيقة شخصية مشخّصة بذاتها ويكون تشخّصها عينها ، أو يكون حقيقة كلّية يكون لها افراد وتشخّصات زائدة ؛ فعلى الأوّل يمتنع التعدّد ؛ وعلى الثاني فلا يخلوا إمّا أن يكون طبيعة نوعية أو جنسية ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل تكون طبيعة عرضية. فعلى تقدير كونها طبيعة نوعية أو جنسية يكون لها تشخّص زائد وتعيّن زائد ، فذلك التعيّن الّذي به امتاز أحد الفردين عن الآخر لا يخلوا من أن تكون معلّلة بتلك الطبيعة أو بلازمها ، فلا تعدّد ، لأنّ اقتضاء الطبيعة أو لازمها ليس إلاّ واحدا ، وإن كان معلّلا بأمر منفصل فلا وجوب بالذات ، وعلى تقدير كونها طبيعة عرضية يلزم أن لا يكون الواجب بالذات واجبا في مرتبة الذات.

فان قيل : للمعترض أن يقول إنّ طبيعة وجوب الوجود طبيعة نوعية أو جنسية ويكون لها افراد متعينة ويكون تعيّن كلّ فرد نفس ذات ذلك الفرد وزائدا بالنظر إلى الطبيعة الكلّية ، فلا يلزم المحذور أصلا ،

قلت : بناء على ذلك الفرض يكون كلّ فرد منها له ماهية كلّية وكلّ شيء يكون له ماهية كلية وتعيّن يكون تعيّنه عارضا بالنسبة إلى تلك الطبيعة الكلّية ، فلا بدّ له من علّة ، وتلك العلّة لا يجوز أن تكون ذات ذلك الفرد المتعيّن ، لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون علّة لتعينه وتشخّصه ، فبقى أن تكون العلّة إمّا الطبيعة المعروضة لذلك التعيّن أو أمر آخر ؛ فعلى الأوّل يلزم الانحصار ؛ وعلى الثاني يلزم أن لا يكون ما فرض / ٢٣٨ MB / واجبا بالذات واجبا بالذات. وبالجملة الشيء الّذي له ماهية كلّية وتعيّن وتشخّص لا يجوز أن يكون تعينه نفس ذاته ، بل المتعيّن يكون جزء له ولا يصحّ أن يكون الشيء علّة لجزئه.

وأنت خبير بأنّ هذا التوجيه وإن كان صحيحا في نفسه / ٢٤١ DA / إلاّ أنّ الدليل المذكور غير منطبق عليه ظاهرا ، فالصحيح في توجيهه ما نقلناه عن بعض المشاهير.

ثمّ إنّه يرد على ما ذكره المعترض أخيرا بقوله : « لا يقال : لا انفصال بين ذات الواجب ومفهومه ، لانّا نقول : فحينئذ بتحقّق شقّ الخامس نختاره في الجواب ـ ... إلى آخره » : إن أريد بالواجب في الترديد الوجوب الحقيقي الّذي هو عين حقيقته لا يتصوّر

٥٦٨

قسم خامس ، لأنّه لا يتصوّر انفصال أصلا بين الذات وبين مفهوم الواجب المراد هنا ـ وهو الوجود الحقيقي الّذي هو باعتبار ذاته موجود ـ ، كيف والبرهان قد حكم بأن فرد الواجب لا يكون إلاّ صرف طبيعة الواجب ، لا أنّ هناك طبيعة الواجب أوّلا ثمّ يلحق بها العوارض الخارجة عن تلك الطبيعة ويحصل الفرد؟! ، والقسم الخامس انّما يتصوّر إذا أريد بالواجب مفهوم الواجب الانتزاعي الّذي هو مغاير للذات في التعقّل ؛ مع أنّ المستدلّ لم يرد ذلك ، بل أراد منه ـ أي : من الواجب ـ ما يعبّر عنه بالمفهوم الانتزاعي ـ وهو عين الذات ـ ، فلا يتصوّر انفصال بينه وبين الذات ، فلا يتصوّر قسم خامس.

ومنها : إنّه لو كان الواجب اكثر من واحد لكان لكلّ منهما تعيّن ضرورة ، وحينئذ إمّا أن يكون بين الوجوب والتعيّن لزوم أو لا ، فان لم يكن بل جاز انفكاكهما لزم جواز الوجوب بدون التعيّن ، وهو محال ـ لأنّ كلّ موجود متعيّن ـ ، أو جواز التعيّن بدون الوجوب وهو ينافي كون الوجوب ذاتيا ، بل يستلزم كون الواجب ممكنا حيث يتعين بلا وجوب ؛ وإن كان بين التعيّن والوجوب لزوم ، فان كان الوجوب بالتعين لزم تقدّم الوجوب على نفسه ضرورة تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب. بيان ذلك : انّه إذا كان الوجوب بالتعين يكون الوجوب معلولا للتعيّن والتعين علّة له ، والعقل يحكم بتقدّم العلّة على المعلول بحسب الوجوب ـ لأنّ العلّة يجب أوّلا ثمّ يجب المعلول بها ـ ، ولا فرق في ذلك بين كون العلّة والمعلول موجودين في الخارج أو في نفس الأمر. غاية ما في الباب إنّه لو كان المعلول موجودا في الخارج يكون تقدّم العلّة على المعلول بالوجوب بحسب وجوده الخارجى ولو كان موجودا في نفس الأمر دون الخارج يكون تقدّم العلّة على المعلول بحسب ذلك النحو من الوجود لا الوجود الخارجي أيضا. وبالجملة : إذا كان التعيّن متقدّما بالوجود على الوجوب نظرا إلى علّته له فالوجوب المتقدّم إن كان عين الوجوب المتأخّر يلزم تقدّم الشيء على نفسه وإن كان غيره فننقل الكلام إليه ونقول : لا يخلو من أن يكون بينهما لزوم أم لا ـ ... إلى آخر الكلام ـ وهكذا ، فيلزم التسلسل ، فان التعين بالوجوب أو كلاهما بالذات لزم خلاف المفروض ـ وهو تعدّد الواجب ـ ، لأنّ تعيّن المعلول لازم غير متخلّف ، فلا يوجد الواجب بدونه. قيل : لمّا

٥٦٩

كان المراد من التعيّن الّذي وقع الترديدان بينه وبين الوجوب لزوما أم لا هو / ٢٣٩ MA / التعيّن المتعيّن لا تعيّن ما فلا ريب في أنّه لو كان مستندا إلى الوجوب لزم نفي الكثير ، لأنّه لو كان التعيّن التعيّن مستندا إلى الوجوب لكان الوجوب لا يتحقّق بدون ذلك التعيّن فلا يتحقّق فرد آخر للوجوب غير ذلك الفرد ، لأنّه لو تحقّق فرد آخر يلزم اجتماع ذلك التعيّن بعينه في الفرد الآخر فيلزم كون الشخص الواحد شخصين ، وهو محال ؛ ولو كان المراد من التعيّن في دليل المستدلّ تعيّنا ما لا التعيّن المعيّن لم يلزم من استناده إلى الوجوب نفي التكثّر ، لأنّ كون تعيّن ما مستندا إلى الوجوب لا يوجب نفي التكثّر ، لأنّه لا مانع من وجود واجبين يكون وجوب أحدهما مقتضيا لتعيّن ما ووجوب الآخر مقتضيا لتعيّن آخر ـ وسيجيء لذلك زيادة بيان ـ ؛ وإن كان التعيّن والوجوب لأمر منفصل لم يكن الواجب واجبا بالذات ـ لاستحالة احتياجه في الوجوب والتعين ، بل في أحدهما إلى أمر منفصل ، وهو ظاهر ـ.

ثمّ إنّه قد اعترض على هذا الدليل بوجوه لا بدّ لنا من ذكرها والاشارة إلى دفعها :

أوّلها : إنّ قول المستدلّ : « لزم تقدّم الوجوب على نفسه ضرورة تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب » ، فيه : إنّ تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب انّما هو على تقدير كون المعلول موجودا خارجيا ، والمعلول هنا ليس كذلك ، لما سبق من أنّ الوجوب من الأمور الاعتبارية انتهى.

والجواب عنه : أمّا أوّلا فيما تقدّم من أنّه لا فرق في لزوم تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب بين كون العلّة والمعلول موجودين في الخارج / ٢٤١ DB / ونفس الأمر ، غاية ما في الباب إنّ العلّة والمعلول لو كانا موجودين في نفس الأمر يكون تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب بحسب نفس الأمر ، ولا ريب في أنّ الوجوب لو كان من الأمور الاعتبارية يكون من الاعتبارات النفس الامرية ـ فيكون الفساد المذكور ـ أعني : تقدّم الشيء على نفسه ـ ، أو التسلسل.

وأمّا ثانيا : فبانّ خلاصة الدليل المذكور إنّه على تقدير تعدّد الواجب امّا أن يكون بين الوجوب الّذي هو الوجود الحقيقي الّذي هو الوجود المتأكّد الّذي يكون

٥٧٠

الواجب به موجودا والتعيّن الّذي يتشخّص به الواجب الواحد لزوم أم لا ؛ وعلى الثاني جاز انفكاك كلّ من الوجود المتأكّد والتعيّن عن الآخر ولزم جواز تحقّق التعيّن بدون وجوب الوجود ، وهذا مستلزم لكون الواجب ممكنا ، وعلى الأوّل يلزم أحد من الأقسام المذكورة الّتي بعضها مستلزم للمطلوب وبعضها محال.

وعلى هذا يندفع الاعتراض المذكور ، لأنّ المراد بوجوب الوجود إذا كان هو الوجود الحقيقي المتأكّد الّذي تحقّق الواجب باختياره فلا تبقى شبهة في تحقّقه في الخارج ـ لكونه عين حقيقة الواجب ، كما مرّ سابقا ـ.

وثانيها : إنّ الوجوب الموقوف مغاير للوجوب الموقف عليه ، لأنّ أحدهما وجوب الذات والآخر وجوب التعيّن ؛ وحاصله : أنّه لا يلزم من تقدّم وجوب التعيّن على وجوب الذات تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّ هاهنا وجوبين : أحدهما : وجوب التعيّن ؛ والآخر : وجوب الذات ، فالمتقدّم هو وجوب التعيّن والمتأخّر هو وجوب الذات ، فلا يلزم تقدّم الشيء على نفسه.

والجواب عنه : أمّا أوّلا : فبانّه لو نقل الكلام إلى وجوب التعيّن ـ كما ذكرنا ـ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، أو التسلسل ؛

وأمّا ثانيا : فبأنّ وجوب الذات ليس إلاّ وجوب مجرّد الذات ـ إذ بدون الوجود الحقيقي يتحقّق انعدام الذات ـ ، فيلزم تقدّم وجوب الوجود على نفسه على تقدير كون التعيّن علّة لوجوب الوجود. والحاصل إنّ وجوب الذات ليس إلاّ عين وجوب وجود الذات ـ لأنّ معنى وجوب الذات هو أنّ وجودها واجب بالذات ، لأنّه بدون وجوب وجود الذات يتحقّق انعدام الذات ـ ، ووجوب وجود الذات عبارة عن الوجود المتأكّد الّذي هو الوجود الحقيقي ، فوجود وجوب الذات هو الوجود الحقيقي وكونه معلولا يستلزم تقدّم الشيء على نفسه بالضرورة.

وثالثها : إنّ قوله : « إمّا أن يكون بين الوجوب والتعيّن لزوم ، أو لا » إن اراد بالتعيّن الواحد المعيّن من التعيّنين اللّذين للواجبين ، نختار أنّه لا لزوم بينه وبين الوجوب ؛

٥٧١

قوله : « إن جاز انفكاكهما لزم جواز وجود الوجوب بدون التعيّن » ؛

قلنا : ممنوع ، وانّما يلزم لو لم يكن هناك تعيّن آخر ؛

وإن أراد بالتعيّن أحد التعيّنين المذكورين لا على التعيين فقوله : « إن كان التعيّن بالوجوب أو كلاهما بالذات لزم خلاف المفروض وهو تعدّد الواجب » ممنوع.

قوله : « لأنّ التعيّن المعلول لازم غير متخلّف » ؛ قلنا : مسلّم ، لكن لزوم أحد التعيّنين لا على التعيين لا ينافي التعدّد ؛ انتهى.

وأجاب عنه بعض المشاهير : بأنّ المراد هو الشقّ الأوّل ـ وهو أن يراد بالتعيّن الواحد المعيّن من التعيّنين ـ ، ولا خفاء في أنّه إذا لم يتحقّق بينه وبين وجوب الوجود لزوم جاز انفكاك كلّ منهما عن الآخر ، فجاز انفكاك التعيّن ، وهو باطل ـ للزوم تحقّق التعيّن بدون الوجوب وهو يستلزم الامكان ـ ؛ وذلك يكفي في اتمام الدليل.

ولعلّ اللزوم اشتبه بالتلازم عند المعترض ولا حاجة إلى اعتبار التلازم في اتمام الدليل المذكور ، بل اعتبار اللزوم كاف.

وحاصل هذا الجواب : إنّ الاستدلال المذكور ليس مبنيّا على وجوب تحقّق التلازم بين الوجوب والتعيّن ـ أي : ليس مبنيّا على أنّه لا يجوز وجود التعيّن بدون الوجوب ولا وجود الوجوب بدون التعين ـ حتّى يرد ما أورد عليه المعترض ، لأنّه إذا جاز الانفكاك بين الوجوب والتعيّن المعيّن لا يلزم جواز وجود الواجب بدون التعيّن لوجود تعيّن آخر ، بل الاستدلال انّما هو مبني على وجوب اللزوم بين الوجوب والتعيّن المعيّن ؛ ولا ريب في أنّه لو لم يكن بين الوجوب والتعيّن لزوم فيصحّ وجود أحدهما بدون الآخر فيجوز وجود التعيّن بدون الوجوب ، وهو يستلزم امكان ما فرض أنّه واجب ، فيلزم أن يكون بينهما لزوم. وعلى فرض نفي اللزوم يعلم جواز وجود التعيّن بدون الوجوب للتسلسل ، وهو يكفي للزوم الفساد المثبت للمطلوب. / ٢٤٢ DA / فلا يحتاج إلى التعرض ـ لجواز تحقّق الوجوب / ٢٣٩ MB / بدون التعيّن ـ حتّى يرد عليه : بأنّ جواز تعقّله بدون تعيّن لا يستلزم جواز تحققه بدون التعيّن مطلقا ـ لوجود تعيّن آخر ـ. ثمّ السرّ في عدم ورود الايراد المذكور في الصورة الأولى ووروده في الصورة الثانية

٥٧٢

إنّ التعيّن لما كان اثنين فاذا أخذنا واحدا معينا منهما وقلنا بجواز انفكاكه عن وجوب الوجود ـ أي : وجوده بذاته ـ لزم امكان الواجب ، فمن مجرّد جواز انفكاك التعيّن عن الوجوب يلزم المطلوب ؛ وامّا وجوب الوجود فلمّا كان أمرا واحدا كلّيا مشتركا بين الواجبين فاذا جاز انفكاكه عن أحد التعيّنين ـ أي : وجوده بدونه ـ فيمكن أن يكون متعينا بتعين آخر ؛ فلا يلزم الفساد المذكور ـ أعني : وجود الشيء بدون التعيّن ـ.

وتوضيح المقام : إنّ التلازم نسبة بين شيئين موجبة لاستصحاب أحدهما الآخر ، ومقتضى هذا الاستصحاب إمّا كون أحد الشيئين المتلازمين علّة للآخر ، أو كونهما معلولين لثالث ؛ وإذا كان التلازم عبارة عن شبه بين شيئين يستصحب أحدهما الآخر فأحدهما لا على التعيين أيضا لازم ، فنفي التلازم انّما يعلم بجواز انفكاك كلّ منهما عن الآخر بأن يجوز وجود كلّ منهما بدون الآخر ، ولا يكفى في نفيه جواز انفكاك واحد معين منهما عن الآخر بدون العكس ـ أي : يجوز وجود هذا الواحد المعيّن بدون الآخر بأن يكون هذا الواحد لازما أعمّ ، بخلاف العكس بأن لا يجوز وجود الآخر لكونه ملزوما بدون اللازم المذكور ـ ، فاذا كان بين الواجب والتعين المعيّن تلازم ولا يعلم أيّهما ملزوم وأيّهما لازم فنفيه انّما يعلم بجواز انفكاك كلّ منهما عن الآخر ، ولا يكفي مجرّد جواز انفكاك أحدهما عن الاخر. وحينئذ كما أنّه لا بدّ في فرض نفيه من القول بانّه يجوز انفكاك التعيّن عن الوجوب لا بدّ أيضا من القول بانّه يجوز انفكاك الوجوب عن التعيّن. وحينئذ ـ إذا بيّن فساد ذلك بانّه مستلزم لجواز وجود الواجب بدون التعيّن ثبت منه التلازم بينهما ـ يرد عليه الإيراد المذكور.

وأمّا اللزوم فلمّا كان عبارة عن تحقّق المصاحبة بين شيئين بايّ نحو كان ، فنفيه انّما يعلم بارتفاعها بالكلّية ، وهو انّما يعلم بجواز انفكاك كلّ منهما عن الآخر ، فاذا كان بين وجوب الوجود والتعيّن المعيّن لزوم فنفيه انّما يعلم إذا علم جواز انفكاك كلّ منهما عن الآخر ، فاذا فرض نفيه يعلم منه جواز انفكاك التعيّن عن الوجوب البتة. وبذلك يتمّ المطلوب ؛ ولا يحتاج إلى التعرّض لجواز انفكاك الوجوب عن التعيّن حتّى يرد عليه الايراد المذكور ، وإن كان هذا الجواز أيضا حاصلا ؛ هذا.

٥٧٣

وقيل : إنّ المعترض لم يشتبه عنده اللزوم بالتلازم ، لأنّ المستدلّ أخذ في دليله جواز تحقّق التعيّن بدون الوجوب ، وكذا جواز تحقّق الوجوب بدون التعيّن ، وبحث المعترض انّما هو على دليل المستدلّ وما ذكره المجيب دليل آخر ، لأنّه أسقط المقدّمة الّتي هي مناط البحث ـ أعني : جواز تحقّق الوجوب بدون التعيّن ـ. وقول المستدلّ : « وإن كان بين التعيّن والوجوب لزوم فان كان الوجوب بالتعين لزم كذا وإن كان التعيّن بالوجوب أو كلاهما بالذات لزم كذا » صريح في أنّ المستدلّ أخذ اللزوم بمعنى التلازم.

وغير خفيّ بانّه لمّا كان الدليل المذكور ممّا يمكن تصحيحه بحيث يندفع عنه الاعتراض المذكور بنحو ما ذكره المجيب فلا ضير لو كان قصور في التقرير الّذي ذكره المستدلّ ، فانّ أصل الدليل حينئذ يكون تامّا ناهضا باثبات المطلوب.

ثمّ لا يخفى بأن الفرق بين اللزوم والتلازم بنحو ما مرّ ليس كلّيا ، لأنّه في الغالب يستعملان بمعنى واحد ؛ هذا.

وقال المجيب المذكور : نعم يرد على الدليل المذكور إنّه لا حاجة في تتميمه إلى اثبات محالية جواز الوجوب بدون التعيّن بالدليل المذكور ، وهو قوله : لأنّ كلّ موجود متعيّن ؛ بل يمكن اثبات محالية ذلك الجواز بأن يقال : لمّا جاز تحقّق الوجوب بدون المعين فلا بدّ من علّة لمقارنته له ، فامّا أن تكون تلك العلّة هي ذلك المعيّن ، فلزم المحذور المذكور ـ وهو تقدّم الوجوب على نفسه ، ضرورة / ٢٤٢ DB / تقدّم العلّة على المعلول بالوجوب والوجود ـ ، وإمّا ان تكون تلك العلّة أمرا منفصلا لزم امكان الواجب ، فعلى هذا التقدير يمكن اعتبار كلّ من اللزوم والتلازم بين الوجوب والتعيّن المعيّن بما ذكر بأن يقال : يجب أن يكون بينهما لزوم ، لأنّه لو لم يكن بينهما لزوم لزم جواز وجود أحدهما بدون الآخر ، فلا بدّ من علّة لمقارنة أحدهما للآخر ، فامّا أن تكون تلك العلّة ـ ... إلى آخره ـ ؛ وأن يقال : يجب أن يكون بينهما تلازم وإلاّ يلزم جواز وجود كلّ منهما بدون الآخر ، فلا بدّ من علّة لمقارنة كلّ منهما للآخر ، وتلك العلّة إمّا أن تكون ـ ... إلى آخر ـ ؛ فعلى هذا التقدير لا يرد الايراد المذكور ، أي : لا يمكن أن يقال : إن أريد بالتعين واحد معين من التعيّنين نختار إنّه لا لزوم بينه وبين الوجوب ولا يلزم جواز وجود الوجوب

٥٧٤

بدون التعيّن لوجود تعيّن آخر هناك ، لأنّه لا ريب في مقارنة تعيّن معين للوجوب ، فلا بدّ من علّة لمقارنته له ، وتلك العلّة امّا نفس ذلك التعيّن ـ فيلزم المحذور المذكور ـ ، أو أمر منفصل ـ فيلزم امكان الواجب ـ ؛ هذا.

ولا خفاء في توجيه نظير الايراد الّذي أورد على الدليل السابق ـ أعني : الشبهة الكمونية ـ على هذا الدليل أيضا بأن يقال : إن أريد بالتعين التعيّن الخاصّ فهو لا يكون بالوجوب ، بل يكون بالذات ولا ينفكّ عن الذات أصلا ؛ وإن أريد به تعيّن ما فهو لطبيعة الوجوب ولا ينفكّ عنهما ؛ وحينئذ لا يتمّ الدليل لجواز أن يكون في الوجود واجبان بالذات يكون كنههما مجهولين ويكون المعيّن والخاصّ / ٢٤٠ MB / لكلّ منهما بذاته ومطلق التعيّن لطبيعة الوجوب. ودفعه ما مرّ من أنّ المراد بوجوب الوجود حقيقة محض الوجود المنزّه عن الماهيّة ، وانّ اتحاد حقيقة محض الوجود بديهي حدسي.

قيل : ويمكن دفعه بوجه آخر ، وهو : إنّه لو تعدّد الواجب بالذات فلا بدّ أن يكون هناك لكلّ واحد منهما وجوب وتعيّن ، لأنّ الوجوب معنى واحد ـ بناء على ثبوت الاشتراك المعنوي ـ ولا يتصوّر في معنى واحد تكثّر إلاّ بانضمام أمر إليه ، فلا بدّ من انضمام التعين إلى الوجوب ليحصل بانضمام كلّ تعيّن فرد من الواجب ، فالمتعين يكون جزء للفرد الواجب ، فلا يكون التعيّن مستندا إلى الفرد ـ أعني : الذات ـ ، وإلاّ يلزم كون الشيء علّة لجزئه ؛ وهو باطل.

وبهذا يظهر بطلان ما ذكره المعترض المذكور بقوله : « فانّه يجوز أن يكون تعيّن كلّ واجب معلّلا بأمر منفصل عن مفهوم الواجب ـ أعني : ذات الواجب ـ ». ووجه البطلان إنّه : إذا كان تعيّن ذات الواجب معلّلا بذات الواجب يلزم أن يكون الشخص علّة لتشخّصه ، وذلك باطل ؛ لأنّ كلّ تشخّص إمّا أن يكون عين الشخص ـ كما في الواجب بالذات ـ أو جزئه ـ كما في الممكن ـ ، وعلى أيّ تقدير لا يصحّ كون الشخص علّة لتشخّصه. وأيضا نقول : إنّ المنضمّ إلى الوجوب يكون أمرا خارجيا عن الوجوب والأمر الخارج عن الوجوب إمّا ممكن أو ممتنع ، والممتنع لا يجوز أن يكون جزء لموجود خارجي ، فبقى أن يكون ممكنا ، فيلزم أن يكون الواجب مركّبا من الواجب والممكن ،

٥٧٥

فلا يكون ما فرض أنّه واجب بالذات واجبا بتمامه ، بل ببعضه ؛ فالواجب بالذات هو ذلك البعض لا المركّب ، فلا يلزم تكثّر الواجب بالذات ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّه إذا كان في الوجود واجبان تعيّن كلّ منهما بذاته ، بمعنى أن يكون تعيّن كلّ منهما عين ذاته كما نقول نحن ذلك في الواجب لا يلزم أن يكون الشخص علّة لتشخّصه ، لأنّ تشخّصه حينئذ ليس إلاّ ذاته ، فالصحيح في الجواب ما ذكر أوّلا.

ومنها : برهان أورده بعض الأزكياء ، وهو يتوقّف على تمهيد مقدّمتين :

الأولى : إنّ الوجود وكذا الوجوب من المشتركات المعنوية دون اللفظية ـ كما ثبت في محلّه ـ ؛

والثانية : إنّ كلاّ منهما عين في الواجب ـ سبحانه ـ وليس شيء منهما زائدا عليه ـ كما قرّرناه ـ.

وبعد تمهيد هاتين المقدّمتين نقول : لو كان في الوجود واجبان بالذات لكان وجوب الوجود مشتركا معنويا بينهما لا لفظيا ـ لما عرفت ـ ، فلا يخلوا إمّا أن يكون ذاتيا لهما أو عرضيا ، والثاني باطل ـ للزوم الاحتياج إلى حيثية تقييدية أو تعليلية ، والبرهان الدالّ على عينية الصفات دلّ على أنّه سبحانه لا يحتاج في حمل واجب أو عالم أو قادر وغيرها من الصفات الكمالية عليه تعالى إلى حيثية تقييدية أو تعليلية ، بل ذاته تعالى بذاته مصداق حمل تلك المحمولات. وبالجملة قد حكم البرهان بأنّ نسبة تلك الصفات / ٢٤٣ DA / الكمالية إلى ذاته تعالى كنسبة الانسانية إلى الانسان من حيث عدم الاحتياج إلى حيثية تقييدية أو تعليلية ـ ، فبقي أن يكون وجوب الوجوب قدرا مشتركا ذاتيا ؛ فحينئذ إمّا أن يكون جنسا أو نوعا أو فصلا ، والأوّل ـ أعني : كونه جنسا ـ باطل ، لأنّه لو كان جنسا لكان حقيقته ووجوب الوجود مبهمة في مرتبة الذات ولا يكون متعينة في مرتبته بذاتها ، فلا بدّ لها من التعيّن ومن رافع لابهامها ، والرافع لابهامها هو الفصل ، والفصل خارج عن حقيقة الجنس ، فيلزم أن يكون ما يرفع الابهام عن حقيقة وجوب الوجود خارجا عنها ، والخارج عن حقيقة وجوب الوجود ممكن أو ممتنع ، والممتنع لا يصلح لذلك ـ وهو ظاهر ـ ، فبقي أن يكون ممكنا ، وهو ظاهر البطلان!.

٥٧٦

والثاني ـ أعني : كونه نوعا ـ أيضا باطل ، لأنّه لو كان نوعا لكان له تشخّص خارج عنه ، والخارج عن حقيقة وجوب الوجود إمّا ممكن أو ممتنع ، وشيء منهما لا يصلح أن يكون الامتياز ، فيكون كلّ منهما مركبا من حقيقة وجوب الوجود ومن غيرها فيلزم أن لا يكون فصلا ـ لأنّ الفصل يكون مميزا اذا كان ما بين الواجبين مشترك ذاتي ـ ، فيكون كلّ منهما مركّبا من حقيقة وجوب الوجود ومن غيرها ، فليزم أن لا يكون ما فرض واجبا بالذات بتمامه ، بل ببعضه ، فيلزم خلاف الفرض. وهذه المفسدة آتية على تقدير كون حقيقة وجوب الوجود جنسا أو نوعا أيضا ، لانّها إذا كانت جنسا أو نوعا لكان فردها النوعي أو الشخصي مركّبا من الجنس وغيره ، أو من النوع وغيره ، وذلك الغير يكون ممكنا لا ممتنعا ، فيلزم أن لا يكون الواجب واجبا بتمامه ، بل ببعضه ؛ فظهر أنّ مفهوم وجوب الوجود يجب أن يكون بإزاء الذات والهوية جميعا والمفهوم الّذي بإزاء ذات الشيء وهويته جميعا يمتنع أن يتصوّر له فردان فضلا عن جواز وقوعهما ـ وإلاّ لزم أن يكون الشخص كلّيا ـ. ونعم ما قيل : إنّه كما أنّ تعدّد الواجب بالذات ممتنع كذلك تصوّر التعدّد في وجوب الوجود ممتنع.

ثمّ لا يخفى بانّه بعد اثبات أنّ وجوب الوجود لا يمكن أن يكون عرضيا بين الواجبين بل لو اشترك بينهما لكان ذاتيا يمكن أن يقال في تتميم البرهان : إنّه يلزم حينئذ التركيب لاحتياجهما إلى ما به الامتياز ، إلاّ أنّ هذا طريق آخر سوى ما نقلناه عن بعض الأذكياء.

ومنها : ما ذكره الشيخ في الشفا ، وهو : إنّ وجوب الوجود إذا كان صفة لشيء وموجودا له فامّا أن يعيّن وجوب الوجود على سبيل الوجوب كونه صفة لهذا الشيء ، فلا يوجد في غيره ؛ وإمّا أن يكون كونه صفة لهذا الشيء المعيّن معلّلا بأمر غير وجوب الوجود ، فيكون ممكنا. ثمّ قال : وبعبارة أخرى نقول : إنّ كون الواحد واجب الوجود وكونه هو إمّا أن يكون واحدا ، فيكون كلّ ما هو واجب الوجود ، فهو هذا الواحد بعينه ولا يكون غيره واجبا ، لأنّه لمّا كان وجوب الوجود بمعنى واحدا فاذا كان التعيّن والهوية عند ذلك المعنى فلا يتصوّر أن يكون لذلك المعنى شخصان وإلاّ يلزم أن يكون

٥٧٧

الشخص الواحد شخصين ؛ وإن كان كونه واجب الوجود غير كونه هو بعينه فمقارنة واجب الوجود لما هو بعنيه إمّا أن يكون أمرا لذاته من حيث هو واجب الوجود أو لعلّة وسبب غيره ، فان كان لذاته ـ أي : لأنّه / ٢٤١ MA / واجب الوجود ـ فيكون كلّ ما هو واجب الوجود هذا المعيّن بعينه ، فلا يكون غيره واجب الوجود ؛ وإن كان بسبب وموجب غير الذات من حيث هو واجب الوجود فيكون لكون واجب الوجود هذا بعينه سبب ، فيكون هذا ممكنا معلولا ، وقد فرضناه فردا لواجب الوجود بالذات.

وقريب ، من هذا الدليل ما ذكره أيضا في الشفا بأنّ الواحد بما هو واجب الوجود يكون ما هو به هو وهو ذاته ومعناه ، أمّا مقصور عليه لذات ذلك المعنى لا لعلّة ، فان كانت حقيقة الواجب الوجود لأجل نفسها هي هذا المعيّن استحال أن يكون تلك الحقيقة ليست هذا ، فلا يمكن أن يوجد / ٢٤٣ DB / لغيره ؛ وإن كان تحقّق هذه الحقيقة لهذا المعيّن لا عن ذاتها بل عن غيرها فيكون وجود الخاصّ له مستفادا من غيره ، فلا يكون واجب الوجود هذا خلف ؛ فاذن حقيقة واجب الوجود واحد فقط. وكيف يكون الماهيّة المجرّدة ـ أي الماهية الصرفة ـ بلا لحوق أمر آخر إليه للذاتين والشيئان انّما يكون اثنين امّا بسبب المعنى ـ أي : بسبب نفس الماهيّة وأصل المعنى ـ أو بسبب الخاصّ للمعنى ، فالوضع للعرض أو العلّة للمعلول ؛ وإمّا بسبب الوضع والمكان ؛ أو بسبب الوقت والزمان ، وبالجملة لعلّة من العلل ؛ لأنّ كلّ اثنين لا يختلفان بالمعنى فانّما يختلفان لشيء عارض للمعنى مقارن له ، وكلّ ما ليس له وجود إلاّ وجود معيّن ولا يتعلّق بسبب خارج أو حالة خارجية فبما ذا يخالف مثله؟.

ومنها : ما ذكره الشيخ أيضا في الشفا بقوله : وبالجملة إنّ الفصول وما يجري مجريها لا يتحقّق بها حقيقة المعنى الجنسى من حيث معناه ـ أي : ليس متمّما وداخلا في معناه ـ ، بل انّما كانت علّة لتقديم الحقيقة موجودة والوجود امر خارج عن حقيقة المعنى الجنسي في غير الواجب ، فانّ الناطق ليس شرطا يتعلّق به الحيوان في أنّ له معنى الحيوان وحقيقته ، بل في أن يكون موجودا معينا ، وإذا كان المعنى العامّ ـ أي : الّذي فرض أنّه جنس ـ وما يوجب التعيّن فصله أو نوع وما يوجب التعيّن بشخصه نفس

٥٧٨

واجب الوجود وكان الفصل يحتاج إليه في أن يكون واجب الوجود موجودا فقد دخل ما هو كالفصل في ماهية ما هو كالجنس لأنّه يحصل به الوجود الّذي هو نفس الجنس على الفرض المذكور ، فيلزم أن يكون للفصل دخل في أصل حقيقة الجنس. والحاصل : انّ حقيقة واجب الوجود هو الوجود ، فاذا فرض أنّه جنس والفصل لتقويم الحقيقة الموجودة فيدخل الفصل في حقيقة الجنس وهو خلاف سائر الفصول بالنسبة إلى الأجناس. والحال فيما يقع به اختلاف غير فصلي في جميع هذا أظهر ـ أي : حال ما يوجب الاختلاف والتعدّد في الماهيّة غير الفصل ممّا ذكر من الموضوع والزمان والمكان وغيرها اظهر في جميع ما ذكرنا من الاحكام من أنّه لا بدّ أن لا يكون لهذه الأمور دخل في أصل المعنى الجنسي أو النوعي ـ. وإذا كان هذه الأمور موجبة لتعيّن الواجب يلزم أن يكون لها دخل في أصل المعنى العامّ بناء على أنّه هو الوجود ولهذه الأمور دخل في الوجود قطعا. وإلى هذا الدليل اشار بهمنيار في التحصيل حيث قال : اعلم! أنّ كلّ معنى عامّ فامّا أن يتحصّل بالفصل أو بالعرض ، والفصل والعرض لا يفيدان ماهية الجنس ولكنهما يفيدان قوام وجود الجنس بالفعل ، والعرض لا يفيد ماهية النوع بل يفيد قوام وجودها. وحيث ماهية الجنس أو النوع عين الوجود وفرض دخول فصل أو عرض عليه لزم أن يكون الفصل يفيد ماهية الجنس والعرض يفيد ماهية النوع ، فالموجود الّذي لا سبب له إن فرض له جنس وفصل أو ماهيّة نوعية والفصل يفيد وجود الجنس والعرض يفيد وجود النوع يلزم أن يكون ما لا علّة له معلولا ؛ فتبيّن من هذا أنّ الموجود الّذي لا سبب له والموجود الّذي مهيته إنّيته لا يتكثّر بالفصول والعوارض ، فلا شركة لواجب الوجود بالذات.

وقريب من هذا الدليل ما ذكره أيضا في الشفا : بأنّ الواحد بما هو واجب الوجود يكون ما هو به هو وهو ذاته ومعناه ، أمّا مقصور عليه لذات ذلك المعنى لا لعلّة ، فان كانت حقيقة الواجب الوجود لأجل نفسها هي هذا المعيّن استحال أن يكون تلك الحقيقة ليست هذا ، فلا يمكن أن يوجد / ٢٤٣ DB / لغيره ؛ وإن كان تحقّق هذه الحقيقة لهذا المعيّن لا عن ذاتها بل عن غيرها فيكون وجود الخاصّ له مستفادا من

٥٧٩

غيره ، فلا يكون واجب الوجود ، هذا خلف ؛ فاذن حقيقة واجب الوجود واحد فقط. وكيف يكون الماهيّة المجرّدة ـ أي : الماهية الصرفة ـ بلا لحوق أمر آخر إليه للذاتين والشيئان انّما يكون اثنين امّا بسبب المعنى ـ أي : بسبب نفس الماهيّة وأصل المعنى ـ أو بسبب الخاصّ للمعنى ، فالوضع للعرض أو العلّة للمعلول ؛ وإمّا بسبب الوضع والمكان ؛ أو بسبب الوقت والزمان وبالجملة لعلّة من العلل ، لأنّ كلّ اثنين لا يختلفان بالمعنى فانّما يختلفان لشيء عارض للمعنى مقارن له ، وكلّ ما ليس له وجود إلاّ وجود معيّن ولا يتعلّق بسبب خارج أو حالة خارجية فبما ذا يخالف مثله؟ ؛ فاذن لا يكون لله مشارك في معناه ، فالأوّل لا ندّ له.

ومنها : ما ذكره الشيخ أيضا في الشفا بقوله : وبالجملة إنّ الفصول وما يجري مجريها لا يتحقق بها حقيقة المعنى الجنسى من حيث معناه ـ أي : ليس متمّما وداخلا في معناه ـ ، بل انّما كانت علّة لتقديم الحقيقة موجودة والوجود امر خارج عن حقيقة المعنى الجنسي في غير الواجب ، فانّ الناطق ليس شرطا يتعلّق به الحيوان في أنّ له معنى الحيوان وحقيقته ، بل في أن يكون موجودا معينا ، وإذا كان المعنى العامّ ـ أي : الّذي فرض أنّه جنس ـ وما يوجب التعيّن فصله أو نوع وما يوجب التعيّن بشخصه نفس واجب الوجود وكان الفصل يحتاج إليه في أن يكون واجب الوجود موجودا فقد دخل ما هو كالفصل في ماهية ما هو كالجنس ، لأنّه يحصل به الوجود الّذي هو نفس الجنس على الفرض المذكور ، فيلزم أن يكون للفصل دخل في أصل حقيقة الجنس. والحاصل : انّ حقيقة واجب الوجود هو الوجود ، فاذا فرض أنّه جنس والفصل لتقويم الحقيقة الموجودة فيدخل الفصل في حقيقة الجنس ، وهو خلاف سائر الفصول بالنسبة إلى الاجناس ، والحال فيما يقع به اختلاف غير فصلي في جميع هذا اظهر ـ أي : حال ما يوجب الاختلاف والتعدّد في الماهيّة غير الفصل ممّا ذكر من الموضوع والزمان والمكان وغيرها أظهر في جميع ما ذكرنا من الأحكام ، من أنّه لا بدّ أن لا يكون لهذه الأمور دخل في أصل المعنى الجنسى أو النوعي ـ ، وإذا كان هذه الأمور موجبة لتعين الواجب يلزم أن يكون لها دخل في أصل المعنى العامّ بناء على أنّه هو الوجود ولهذه الامور دخل في الوجود قطعا. وإلى هذا الدليل اشار بهمنيار في التحصيل حيث قال : اعلم! ، أنّ كلّ

٥٨٠