جامع الافكار وناقد الانظار

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامع الافكار وناقد الانظار

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مجيد هاديزاده
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
المطبعة: نور حكمت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: ٦٨١
الجزء ١ الجزء ٢

باطل.

ومنها : إنّ الواجب صرف الوجود ـ كما بيّناه ـ ، فلو تركّب من الاجزاء فاجزائه إن كانت غير الوجود خرج الواجب عن كونه صرف الوجود ؛ وإن كان كلّ واحد منها أيضا صرف الوجود لزم التعدّد والتكثّر في صرف الوجود ، مع انّا نبيّن في بيان نفي الشريك في وجوب الوجود عنه ـ سبحانه ـ إنّ صرف الوجود لا يتعدّد ـ لا بالانفراد والاستقلال ولا بالتركيب ـ. وأيضا نحن بيّنا إنّ صرف الوجود هو القائم بذاته والمنشأ للآثار الخارجية ولانتزاع مفهوم الوجود بنفسه من غير احتياج إلى شيء آخر ، فلو كان اجزائه أيضا صرف الوجود فان كان كلّ واحد منها أيضا قائما بنفسه منشئا للآثار وانتزع مفهوم الوجود بنفسه فلا معنى لتركّبها والتيامها ؛ أمّا أوّلا فلأنّ كونه / ٢٣٤ DB / جزء وكونه قائما بذاته لا يجتمعان ؛ وأمّا ثانيا فلأنّ التركيب يكون حينئذ لغوا غير مرتّب عليه شيء وإن لم يكن كلّ منها كذلك ولم يكن صرف الوجود ، وقد فرضناه صرف الوجود ، هذا خلف ؛ هذا.

وقد استدلّ الشيخ في النجاة على المطلوب ـ أعني : بطلان تركّب الواجب بالذات من الأجزاء مطلقا ـ بما حاصله : إنّ الواجب لذاته لا جزء له وإلاّ لامكن الواجب لذاته ، لكن التالى باطل ؛ فكذا مقدّمه. أمّا بطلان التالي فهو ظاهر ؛ وأمّا الملازمة فلأنّ كلّ ما هذا شأنه وصفته كان ذات جزء منه ومفهومه ليس هو ذات الجزء الآخر ومفهومه ولا ذات المجتمع ومفهومه ؛ وحينئذ إمّا أن يصلح لكلّ واحد من اجزائه مثلا وجود منفرد ولا يصحّ للمجتمع ولا لبعضها الآخر وجود دونها ، فما لا يصحّ له هذا من المجتمع والاجزاء لا يكون واجب الوجود لذاته ، / ٢٣٢ MB / بل الواجب هو الّذي يصحّ له ذلك ؛ وإن كان لا يصحّ لتلك الاجزاء مفارقة الجملة في الوجود ولا للجملة مفارقة الأجزاء وكان وجود كلّ واحد متعلّقا بالآخر وليس واحد أقدم بالذات فليس شيء منها بواجب. على أنّ الأجزاء بالذات أقدم من الكلّ. وليس يمكننا أن نقول : إنّ الكلّ أقدم بالذات من الأجزاء ، فهو إمّا أن يكون متأخّرا ، وامّا يكون مقارنا ؛ فالأوّل باطل ـ لأنّ ما فرض أنّه واجب بالذات لا يكون شيء أقرب منه إلى الوجود ـ ؛ والثاني

٥٤١

أيضا باطل ، لأنّ العقل يحكم بأنّ الجزء الحقيقي والكلّ لا يكونان في مرتبة واحدة ؛ هذا.

وأمّا ما يدلّ على خصوص أنّ الواجب ـ سبحانه ـ ليس له اجزاء مقدارية فهو إنّه لا ريب في تشابه الجزء المقداري وكلّه في الحقيقة النوعية ـ كما قرّره الحكماء في ردّ مذهب ذيمقراطيس ـ. وحينئذ نقول : لو كان للواجب جزء مقداري فهو إمّا ممكن ـ فيلزم أن يخالف الجزء المقداري كلّه في الحقيقة ، وهو خلاف ما قرّروه ـ ؛ وإمّا واجب فيكون الواجب بالذات غير موجود بالفعل ، بل بالقوة ـ لأنّ الأجزاء المقدارية ليست موجودة بالفعل بل اجزاء تحليلية بالقوة ـ ، وهو ـ أعني : كون الواجب بالقوّة ـ بديهى البطلان.

ويقرب من هذا الاستدلال ما استدلّ به بعض الأفاضل حيث قال : إنّ الواجب لذاته لمّا كان هو الوجود المتأكّد فان كان له اجزاء مقدارية تحليلية فجزؤه المقداري التحليلي إمّا وجود متأكّد أو أمر آخر ، وعلى الأوّل يلزم كون ذلك الجزء واجبا لذاته ـ بناء على ما سبق من أنّ الوجود المتأكّد يكون واجبا لذاته ـ ؛ وعلى الثاني يكون ذلك الجزء ممكنا لذاته ـ لأنّ ما عدا الوجود المتأكّد لا يكون واجبا ـ ، فيلزم أن يخالف الجزء المقداري كلّه في الحقيقة ، مع أنّه قد تقرّر عندهم أنّ الجزء التحليلي لا يخالف الكلّ في الحقيقة. قال بهمنيار في التحصيل : اعلم! أنّ الماء والخمر مثلا لا يصلح أن يكون بينهما وحدة بالاتصال حقيقة ، فانّ الموضوع للمتصل بالحقيقة جسم بسيط متفق بالطبع ، والحكماء ردّوا مذهب ذيمقراطيس بأنّ الأجزاء الفرضية لتلك الأجسام يشارك الكلّ في الحقيقة ويشارك باقي الأجزاء فيها ، فكون الجزء ممكنا مع كون الكلّ واجبا باطل ـ بناء على ما قرّروه ـ.

فان قيل : توافق الأجزاء المقدارية للكلّ في الحقيقة ممنوع ، ولم لا يجوز أن تكون الحقائق المتباينة لها اتصال واحد؟! ، ونظير ذلك ما ذكره المشّاءون من أنّ ما فيه الحركة إذا كان كيفا فهناك كيفية بسيطة متصلة صالحة لأن ينقسم إلى كيفيات مختلفة الحقيقة ، وبالجملة العقل لا ينقبض في بادي الرأي من أن يكون للأجسام المختلفة الحقيقة اتصال واحد ، ولا بدّ لنفي ذلك من بيان.

٥٤٢

قلنا : قد أشرنا فيما سبق أنّ كلّ حقيقة نوعية أو جنسية لا بدّ أن يكون بين اجزائها علاقة لزومية وارتباط ايجابي وإلاّ لم يتصوّر تركّبها من تلك الأجزاء وحصول التأليف بينها ، ولا ريب في أنّ الأمور المتباينة المتفاصلة المستغنية بعضها عن بعض لا يتصوّر بينها علاقة لزومية ، وهذا مع بداهته وحكم الفطرة السليمة عليه قد تبيّن في العلم الإلهي بوجوه برهاني.

ثمّ الحق إنّ الأجزاء المقدارية التحليلية وإن لم تكن اجزاء موجودة بالفعل إلاّ أنّه لا ريب في انّها اجزاء نفس أمرية واقعية ، كيف وقد بيّنا أنّ الأجزاء العقلية اجزاء واقعية نفس امرية ، فكيف لا تكون الأجزاء المقدارية كذلك؟! ، / ٢٣٥ DA / فلو تركّب الواجب منها لزم افتقاره إلى غيرها ؛ ولزم تقدّم غير الواجب عليه بالوجود.

وبذلك يظهر تمامية ما استدلّ به المعلم الثاني في الفصوص على نفي تركّبه ـ سبحانه ـ من اجزاء القوام حيث قال : إنّ وجوب الوجود لا ينقسم باجزاء القوام ـ مقداريا كان أو معنويا ـ وإلاّ لكان كلّ جزء منه إمّا واجب الوجود ـ فيتكثّر واجب الوجود ـ ، وإمّا غير واجب الوجود وهو أقدم بالذات من الجملة ، فيكون الجملة ابعد من الوجود (١) ؛ انتهى.

ومراده من الشقّ الثاني إنّ كلّ ما هو جزء الشيء يجب أن يكون متقدّما بالوجود على ما هو جزء له ، فاذا فرض أنّ غير الواجب يكون جزء له فلا بدّ أن يكون ذلك الغير متقدّما عليه بالوجود ويكون أقرب إلى الوجود بالقياس إلى الواجب مع كون ذلك الغير ممكنا ، فيلزم أن يكون الممكن متقدّما على الواجب بالذات / ٢٣٣ MA / بالوجود ؛ وهو باطل.

وأيضا إذا فرض أنّ الشيء يكون واجب الوجود فلا معنى لكون شيء آخر اقرب منه إلى الوجود ، لأنّه ليس شيء أقرب إلى الوجود من الواجب بالذات ، لأنّ نسبة الوجود إلى الواجب بالذات نسبة الذاتي ـ بناء على عينية الوجود في الواجب بالذات ـ ، ونسبة الوجود إلى الممكن بالذات نسبة العرض الخارج عن الذات المعلّل لغير الذات ،

__________________

(١) راجع : فصوص الحكم ، الفص ٩ ؛ نصوص الحكم ، ص ٤٦.

٥٤٣

فيكون وجود الممكن بالذات أمرا غريبا مستفادا من الغير.

والوجه في تماميته ما ذكره المعلم الثاني : إنّ الأجزاء المقدارية كما عرفت اجزاء واقعية نفس أمرية ، فلو تركّب الواجب منها يلزم ما ذكره من الفساد.

والعجب أنّ المحقّق الدواني بعد نقل هذا الاستدلال من الفارابي قال : وهذا كلام مظلم! ، لأنّ الأجزاء التحليلية للشيء ليس لها تقدّم على الشيء ، لأنّ ذلك الشيء بسيط لا يسبقه وجود تلك الأجزاء ، فتلك الأجزاء اجزاء وهمية له ، فلا يلزم تقدّمها عليه بحسب الوجود الخارجى ؛ انتهى.

ودفعه ما ذكرناه من أنّ الأجزاء التحليلية اجزاء نفس أمرية واقعية ، فتقدّمها على الكلّ بديهي. على انّك قد عرفت أنّ الأجزاء الفرضية لتلك الأجسام يشارك الكلّ في الحقيقة ويشارك باقي الاجزاء فيها ، فيصحّ عليها من الافتراق والاتصال ما يصحّ على غيرها من الأجزاء الموجودة بالفعل ، فحينئذ ما يتصوّر أن يكون له جزء تحليلي يلزم أن يكون له جزء خارجي ، فيكون الواجب لذاته مفتقرا إلى الجزء الخارجي. وحينئذ نعود ونقول : إنّ ذلك الجزء إن كان وجودا متأكّدا كان واجبا لذاته ، فيكون موجودا بالفعل لا جزء تحليليا ، مع أنّه يلزم تعدّد الواجب بالذات ؛ وإن كان غير الوجود المتأكّد يكون ممكنا لذاته ، فتغاير الكلّ بالحقيقة ويكون جزء خارجيا أيضا لا تحليليا ، مع أنّه يلزم منه تركّب الواجب من الممكن.

ثمّ إنّه قد أجيب عن ايراد المحقّق الدواني أيضا : بأنّ ذات الجزء التحليلي مقدّم على البسيط بمعنى أنّ العقل إذا قاس الكلّ وذلك الجزء إلى الوجود يحكم بتقدّم ذات الجزء عليه ، وذلك لا ينافي تأخّر وصف الجزئية عنه ، فذات الجزء مقدّم ووصف الجزئية متأخّر.

وهذا الجواب عند التأمّل أيضا صحيح لا غبار عليه ، لأنّه لا ريب في تقدّم ذات الجزء على الكلّ ، وهو كاف للزوم الفساد.

وما قيل في دفعه ظاهر الضعف!.

وحاصل الدفع : إنّ ذات الجزء التحليلي أمر ينتزع العقل بمعونة الوهم من

٥٤٤

المتصل ؛ فان أريد بالذات هذا المعنى فهو ليس متقدّما على المتصل في الوجود الخارجي ؛ وإن أريد به مأخذ هذا الجزء وما انتزع هو منه فذلك هو المتصل نفسه ، فلا يتقدّم على نفسه. وبالجملة إنّ المتصل الواحد ما لم ينفصل إلى الأجزاء لم تكن هناك إلاّ ذات واحدة لا ذوات متعدّدة ، وإذا انفصل إلى الأجزاء فقد انعدمت الذات الواحدة وحدث ذوات متعدّدة ، فلم يتحقّق ذات واحدة مشتملة على الذوات المتعدّدة ؛ انتهى.

ووجه الضعف : إنّ ذات الجزء المقداري له تحقّق في الواقع ونفس الأمر مع قطع النظر عن انتزاع الوهم ، فله تقدّم بحسب الواقع ونفس الأمر.

ثمّ إنّه لمّا ثبت أنّ الواجب ليس له اجزاء مقدارية يظهر منه أنّه ـ سبحانه ـ ليس جسما ولا جسمانيا ـ لعدم انفكاك الجسم عن الأجزاء المقدارية ـ.

ثمّ / ٢٣٥ DB / لمّا كان تجرّد الباري ـ سبحانه ـ عن الجسمية ركنا عظيما في باب التوحيد واثباته من أهمّ المطالب الإلهية ، نظرا إلى مخالفة بعض الطباعية ـ خذلهم الله ، حيث ذهبوا إلى قدم الافلاك والعناصر وكونها موجودة بذاتها ومؤثّرات فيما بعدها من الموجودات واجبة بانفسها من دون احتياج إلى مؤثّر ـ ، فلا بدّ لنا من اقامة بعض آخر من البراهين على عدم كون الواجب جسمانيا ـ تقوية للاعتقاد وازالة للشبهات الوهمية ـ.

فنقول : من البراهين على ذلك إنّ الجسم مركّب من الأجزاء المقدارية ومن الهيولى والصورة ، وتلك الأجزاء متقدّمة عليه بالوجود وهو مفتقر في تحقّقه إليها ، فلو كان الواجب جسما لكان غيره متقدّما عليه بالوجود وكان محتاجا إلى الغير ؛ وهو باطل ؛ ولا يجوز أن يكون جسمانيا ـ أعني : قوّة لجسم أو صورة له ـ لتوقّف وجوده على الجسم. والقول بأنّه ليس كلّ قوّة أو صورة لجسم عرضا قائما به ـ إذ / ٢٣٣ MB / من القوى والصور ما لا يكون عرضا ولا قائما بالجسم من حيث ذاته ولا محتاجا إليه من كلّ وجه ، فيجوز أن يكون ذات الصورة أمرا مقوّما للجسم مقدّما عليه ، ثمّ يتوقّف في أفعاله ولوازمه وتعيناته على ذلك الجسم ـ ، ففيه : إنّ توقّف الصورة في أفعالها ولوازمها على الجسم يكفي لنفي كونها واجبة ، إذ الاحتياج بأيّ وجه كان ينافي وجوب الوجود.

على أنّه لا ريب في أنّ الصورة بنفسها من دون انضمامها إلى الهيولى لا يمكن أن تكون

٥٤٥

موجودة ، فهى في تحقّقها في الخارج ووجودها في الأعيان محتاجة إلى الغير ، وقد صرّحوا بأنّ الصورة محتاجة في وجودها إلى المادّة والاحتياج ينافي وجوب الوجود ، فلا يمكن أن تكون الصورة واجبة الوجود. وكذا لا يمكن أن تكون الهيولى واجبة الوجود ، إذ المادة انّما هي محض القوّة ولا يمكن أن يكون شيء في الواجب بالقوّة ، إذ لو وجد في الواجب ماهية القوّة لكانت ممكنة الحصول له وإلاّ لم يكن معنى لكونها بالقوّة ، فيكون للواجب قوة واستعداد بالنسبة إلى هذا الأمر الّذي له بالقوة مع أنّه ـ سبحانه ـ موجود بالفعل ، فيكون مشتملا على القوّة والفعل معا ، وكلّ مشتمل على القوّة والفعل يكون مركّبا ، فيكون الواجب مركّبا ؛ وهو باطل ـ كما تقدّم ـ.

وأيضا : لو كان للواجب شيء ممكنا فان لم يكن حصوله متوقّفا على شيء خارج عن الذات بل كان متوقّفا على مجرّد الذات لم يجز أن يكون ذلك الشيء بالقوّة ـ لأنّ الذات موجودة بالفعل وهو علّة مستقلّة له ، ووجود العلّة مستلزم لوجود المعلول ـ ؛ وإن كان متوقّفا على أمر آخر سوى الذات لزم احتياجه إلى الغير ؛ وهو باطل.

ومنها : إنّ تاثير كلّ جسم في غيره انّما هو بمشاركة الوضع ولا يتصوّر وضع بالنسبة إلى ما لم يوجد ـ ولذا حكموا بأنّ الجسم لا يوجد جسما آخر ـ ، فلو كان الواجب جسما لم يقدر على ايجاد شيء أصلا ، فلزم أن لا يكون غيره موجودا ـ لعدم تصوّر وضع له بالقياس إلى غيره ممّا لم يوجد من المجرّدات والمادّيات ـ.

ومنها : إنّ كلّ جسم مركّب من المادّة والصورة وكلّ مركّب من المادّة والصورة مفتقر إلى فاعل من خارج عن ذاته ، لأنّ الجزء المادّي في ذاته أمر مبهم لا يتحصّل إلاّ بالصورة ، والجزء الصوري لو كان فاعلا لمادّته مستغنية به في وجودها عن فاعل آخر ولم يكن قيامه بمادّة بل كلّ ذي مادّة كما يفتقر إلى تلك المادّة في وجوده وكذا يفتقر إلى المادّة في فعله وايجاده ، لأنّ الايجاد متقوّم بالوجود ، فالمفتقر إلى شيء في الوجود يلزمه أن يفتقر إليه في الايجاد أيضا ، فلا يمكن أن تكون الصورة فاعلة للمادّة ، فلو كان الواجب ـ تعالى ـ جسما يلزم افتقاره إلى خالق آخر في وجوده وفي صنعه جميعا ، واللازم باطل ، فكذا الملزوم ؛ هذا.

٥٤٦

وأمّا ما يدلّ على خصوص أنّ الواجب ليس له اجزاء عقلية فوجوه :

منها : إنّ احتياج الجنس إلى الفصل ليس في مفهومه من حيث هو هو ـ كما هو مقرّر عندهم ـ ، بل في أن يوجد ويحصل بالفعل ، فانّ الفصل كالعلّة المفيدة للجنس باعتبار بعض الملاحظات العقلية ، فلو كان للواجب جنس وفصل فجنسه إمّا يكون مفهوما غير الوجود / ٢٣٦ DA / المتأكّد ـ فيكون واجب الوجود ذا ماهية ، وقد تقدّم أنّه ليس له ماهية سوى الوجود ـ ؛ وإمّا عين الوجود المتأكّد ـ فلا يحتاج في أن يوجد إلى فصل ، فيكون ما فرضناه فصلا غير فصل ، وكذا ما فرضناه جنسا غير جنس ـ. وإذا انتفت عنه ـ سبحانه ـ الأجزاء العقلية يلزم منه انتفاء الأجزاء العينية ـ كالمادّة والصورة الخارجيتين ـ ، إذ كلّ بسيط في التصوّر بسيط في الخارج دون العكس. فجميع ما يدلّ على انتفاء الاجراء العقلية عنه ـ سبحانه ـ يدلّ على انتفاء الأجزاء الخارجية عنه ـ تعالى ـ أيضا.

ومنها : إنّه لو كان للواجب اجزاء عقلية فلا يخلوا : إمّا أن يكون جميعها أو بعض منها محض حقيقة الوجود ، أو لا يكون شيء منها كذلك ، وعلى التقادير يمتنع الحمل ، وهو خلاف الفرض.

ومنها : إنّ الواجب لو كان له اجزاء عقلية من الجنس والفصل لكان حقيقة نوعية ، وإذا كان حقيقة نوعية احتاج في وجوده الخارجي إلى تشخّص زائد على حقيقته ـ سواء كان محصورا في فرد كالعقل أو الشمس أو لا ، اذ الماهية النوعية لكونها كلّية لا يمكن أن يكون التشخّص عين ذاتها ـ. وإذا كان تشخّصه زائدا على ذاته نقول : إنّ التشخّص انّما هو سبب في كون الشيء موجودا بالفعل لا في تقويم معنى الذات وتقريره ، وكما أنّ النوع لا يحتاج إلى الفصل في كونه متصفا بالمعنى الجنسي ـ بل في كونه محصّلا / ٢٣٧ MA / بالفعل ـ فكذلك الشخص لا يحتاج إلى التشخّص في كونه متصلا بالمعنى الّذي هو النوع ، بل يحتاج إليه في كونه متصفا بالوجود.

ثمّ إنّه لمّا ثبت أنّ واجب الوجود مهيته عين وجوده فكلّ ما كان مقوّما لوجوده يكون مقوّما لسنخ حقيقته ، فلو كان حقيقته متشخّصة بتشخّص زائد على ذاته لكان

٥٤٧

التشخّص محتاجا إليه في تحقّق المعنى النوعى وتقويمه ، وهو باطل ـ كما أشير إليه ـ ، فيجب أن يكون الواجب بالذات متشخّصا بنفس حقيقته لا بأمر زائد عليه ـ أي : يكون حقيقته عبارة عن تشخّصه ، كما أنّه عبارة عن نفس وجوده ، بل الوجود والتشخّص أمر واحد فيه سبحانه ، كما أشير إليه قبل ذلك ـ ؛ وحينئذ فالواجب ـ سبحانه ـ هو الوجود البحت فلا يكون نوعا مركّبا من الجنس والفصل ولا جنسا ولا يوصف بأنّه كلّي وجزئي ـ أي : شخص لطبيعة مرسلة ـ ، بل هو متميز بذاته منفصل بنفسه عن سائر الموجودات لا بامر فصلي أو عرضي ؛ وإذ لا جنس له ولا فصل له فلا حدّ له واذ لا حدّ له فلا علّة له.

وأمّا ما يدلّ على أنّ الواجب ـ سبحانه ـ ليس من الأجزاء العقلية ـ أعني : الجنس والفصل ـ فهو أنّ الأجزاء العقلية اجزاء تحليلية غير مستقلّة في الوجود ، وعدم الاستقلال في الوجود ينافي وجوب الوجود. وأيضا لا يمكن أن يكون الواجب جنسا ، لأنّ الجنس جزء الذات لا تمامه ، فلا بدّ له من جزء آخر يكون فصلا له ، فيلزم التركيب ؛ وهو باطل.

٥٤٨

الفصل الثاني

في نفي الشريك عنه ـ سبحانه ـ

٥٤٩

( الفصل الثاني )

( في نفي الشريك عنه ـ سبحانه ـ )

وهو توحّده في وجوب وجوده.

والبراهين على هذا المطلب الأسنى أكثر من أن يحصى ، ونحن نكتفي هنا بذكر عدّة براهين هي اقوى البراهين وأتمّها.

فمنها : إنّه قد ثبت أنّ الواجب ـ سبحانه ـ صرف الوجود ومحض الموجود ولا تعدّد في صرف الشيء ومحوضته ، وهذا بديهي حدسي كشفي ، قال الشيخ الإلهي في التلويحات : « صرف الوجود الّذي لا أتمّ منه كلّ ما فرضته ثانيا فاذا نظرت فهو هو ، إذ لا ميز في صرف شيء » (١).

وتوضيح ذلك : انّ الواجب يجب أن يكون لمحوضة الوجود موجودا من غير ثبوت غير الوجود وممازجته معه ، لأنّ غير الوجود ليس إلاّ الماهية الفاقدة في مرتبة تقرّرها للفعلية ، وفقد الفعلية والوجود في أيّ مرتبة كانت ينافي كون الشيء واجبا ـ لتطرّق العدم حينئذ فيه ـ ، فلو كان الواجب متعدّدا فلا يوجد ـ لمحوضة الوجود ، لأنّ التعدّد والامتياز بعد زوال الجهة المشتركة الساذجة إلى مقام التعدّد والغيرية ـ. و

__________________

(١) راجع : التلويحات ، ص ٣٥.

٥٥٠

التالي ـ أعني : عدم كون الواجب موجودا يعرضه الوجود ـ باطل ، فكذا المقدّم ـ أعني : تعدّد الواجب ـ.

وإلى ما ذكرناه أشار بعض المشاهير حيث قال : صرف الوجود من حيث هو موجود لا يتوهّم كثرته وتعدّده ، فصرف الوجود موجود باعتبار ذاته ولا يتكثّر من حيث هو موجود ؛ وهو المطلوب ، إذ لا نعنى بوحدة واجب الوجود إلاّ كونه موجودا بدون الكثرة ، ولهذا قيل : إنّ الوحدة في واجب الوجود من لوازم نفي الكثرة وفي غيره نفي / ٢٣٦ DB / الكثرة من لوازم الوحدة ؛ انتهى.

والمراد من قوله : « ولهذا قيل : انّ الوحدة في واجب الوجود ـ ... إلى آخره ـ » الاستشهاد بكلام القوم على أنّ الواجب بمحض ذاته موجود من دون تصوّر الكثرة فيه. ولاقتضائه نفي الكثرة يكون واحدا ، فانّه ـ تعالى شأنه ـ لمّا كان موجودا بمحوضة الوجود والاطلاق من غير أن يكون له ماهية أو ارتباط بالسبب فهو بنفس ذاته بحيث ينتزع منه نفي الكثرة ، وهو مستلزم للوحدة ، فالوحدة في الواجب من لوازم نفي الكثرة ، فانّه ما لم يتحقّق سلب جميع وجوه الكثرة واقسامها لم يتحقّق الوحدة الصرفة الحقّة ، فالوحدة الصرفة الحقّة من لوازم سلب الكثرة. وأمّا الممكن لمّا لم يكن موجودا بصرافة الوجود واطلاقه بل بالماهية المشخّصة المرتبطة بالجاعل التامّ فهو بحسب مهيته يحتمل الكثرة ، لأنّ له جنسا وفصلا ولكن بحسب الجاعل يكون واحدا موجودا ، فوحدته ليست من لوازم نفي الكثرة ، بل نفي الكثرة من لوازم وحدته الحاصلة من الجاعل.

ثمّ اعترض على هذا الدليل بانّه انّما يتمّ لو كان معنى عينية الوجود في الواجب كونه عين معنى الوجود ـ لأنّ عين الوجود ومحضه لا يتكثّر ـ ، و/ ٢٣٤ MB / أمّا على التحقيق الصحيح في معنى العينية من كون الواجب لمحض ذاته موجودا فلا يتمّ ذلك الدليل ، لورود الشبهة بانه ربما كان ذاتان أو اكثر كذا ـ أي : كون الجميع لمحض ذاته موجودا ـ ؛ انتهى.

وفيه : انّا بيّنا بالبراهين القاطعة أنّ الواجب صرف الوجود وعينه ، فالاعتراض

٥٥١

مندفع.

ومنها : إنّه لا يمكن تعدّد الواجب بالذات ، إذ حقيقته محض الوجود من حيث هو وجود وكلّ شيء حقيقته محض الوجود يكون متشخّصا بنفس حقيقته ، إذ لا يمكن أن يكون تشخّص حقيقة الوجود بشيء آخر ، وإلاّ لزم الاحتياج المنافي للوجوب.

ومنها : إنّ الواجب ـ كما علم ـ صرف الوجود ومحض الموجود ، ولا يتصوّر في محوضة المعنى الواحد التعدّد ـ لتساوي محض الشيء بالنسبة إلى مراتب الأعداد الّتي فوق الواحد ـ. والحاصل : إنّ الواجب ـ سبحانه ـ يجب أن يكون موجودا بمحوضة الوجود في الخارج ، ونسبة محض الشيء إلى المراتب الكثيرة الّتي فوق الواحد في أن يوجد متساوية ، فلو كان الواجب متعدّدا فوجوده في مرتبة من مراتب الأعداد الّتي فوق الواحد دون سائر المراتب يوجب الترجيح بلا مرجّح.

والفرق بين هذا الدليل والّذي قبله : إنّه أخذ في هذا الدليل تساوي مراتب الاعداد إلى الواحد الصرف وجعل ذلك برهانا على عدم التعدّد في محوضة المعنى الواحد ؛ وفي الدليل السابق لم يؤخذ ذلك ، بل ثبت عدم التعدّد في صرف الوجود من طريق آخر ـ كما ذكرناه ـ.

وإلى هذا الدليل اشار بعض المشاهير حيث قال : حقيقة وجوب الوجود الّذي هو محض الوجود يجب أن يكون لصرافته ومحوضته موجودا ، ولا يتصوّر في محوضة المعنى الواحد التعدّد ـ لتساوي مراتب الاعداد فوق الواحد ـ ؛ فواجب الوجود موجود واحد لا شريك له في محوضة الوجود ، ووجوب الوجود ووحدته عبارة عن وجوده بلا شريك أو نظير ؛ انتهى.

وقوله : « وحدته عبارة ـ ... إلى آخره ـ » اشارة إلى دفع ما ربما يقال : إنّه يلزم على هذا الدليل أن يكون حقيقة وجوب الوجود مقتضية للوحدة ، وهذا غير موافق للتحقيق ، لأنّ المذهب الحقّ أنّ وحدة الواجب ـ تعالى ـ ووجوده وسائر صفاته الكمالية عين ذاته وليس ذات الواجب شيئا مغايرا مقتضيا لوحدته ، ووجوده وسائر صفاته الكمالية ؛

٥٥٢

وحاصل الدفع : إنّ المراد من اقتضاء الوحدة هو أنّه موجود بلا شريك ، لا أنّه يقتضي الوحدة أو غيرها.

واعترض على هذا الدليل : باحتمال وجود صرف الوجود في جميع المراتب بأن يكون وجود محوضة المعنى في جميع مراتب الاعداد الّتي فوق الواحد معنى يكون الواجب غير متناهي الافراد ، وعدم التناهي هنا لا يمكن ابطاله بأدلّة بطلان التسلسل ـ لعدم وقوع الترتيب بين الافراد ـ.

والجواب عنه : أمّا أوّلا إنّ وجود محوضة المعنى الواحد في جميع المراتب يوجب الترجيح بلا مرجّح أيضا ، لأنّ وقوعه في جميع المراتب مع امكان وجوده في سائر المراتب الّتي فوق الواحد تحكّم بحت وترجيح من غير مرجّح ؛

وامّا ثانيا : إنّا بيّنا بطلان عدم التناهي في الأمور الموجودة وإن لم يقع الترتيب بينها ؛ هذا.

والأكثر جعلوا هذا البرهان / ٢٣٧ DA / برهانين مستقلّين ، فانّهم جعلوا ما ذكر أوّلا من عدم تصوّر التعدّد في محوضة المعنى الواحد برهانا وجعلوا ما ذكروا ثانيا ـ أعني : تساوي نسبته إلى المراتب الّتي فوق الواحد ـ برهانا آخر. بيان الأوّل : انّه قد ثبت أنّ واجب الوجود يجب أن يكون صرف وجوب الوجود ، يعنى يكون واجب الوجود عين وجوب الوجود فقط لا وجوب الوجود مع أمر آخر ، فاذا كان الواجب صرف وجوب الوجود فلم يتصوّر التعدّد ، لأنّ كلّ معنى من المعاني باعتبار صرافته ومرتبة محوضته لا يتصوّر فيه تكثّر أصلا ، ولا خصوصية لهذا الحكم بوجوب الوجود ، فانّ الانسان أيضا باعتبار صرافته ومحوضته لا يتصوّر فيه تكثّر ، فاذا كان الأمر كذلك فلا يتصوّر تعدّد الواجب. وبهذا القدر يتمّ البرهان ولا يحتاج إلى ضمّ شيء آخر. وهذا البرهان قريب من سابقه.

وبيان الثاني : إنّ الحقائق إمّا مادّية يكون لها امكان استعدادي ؛ أو مجرّدة ، والحقائق المجرّدة يجب أن يكون كلّ منها منحصرا في الفرد ـ لأنّ مراتب الاعداد فوق الواحد متساوية بالنسبة إليه ـ ، فثبوت بعض من تلك المراتب دون بعض آخر ترجيح

٥٥٣

بلا مرجّح بخلاف الحقائق المادّية ـ أي : الحقائق الّتي لها امكان استعدادي ، فانّه لمّا كان لها امكان استعدادي يجوز أن يثبت لها بعض تلك المراتب دون بعض آخر منها بواسطة الامكان الاستعدادي ، فلا يلزم ترجيح بلا مرجّح ـ ؛ ووجوب الوجود بالذات من الحقائق الّتي ليس لها امكان استعدادي ، فمن ثبوت بعض مراتب الاعداد فوق الواحد له دون بعض يلزم الترجيح.

وقد ذكر ذلك الشيخ في مواقع من الشفا لاثبات انّ الطبائع الّتي ليس لها امكان استعدادي يجب أن يكون منحصرة في الفرد ؛ وإلى هذا البرهان أشار بعض المشاهير حيث قال : ومن براهين / ٢٣٥ MA / التوحيد إنّ الوجود الحقيقي الّذي هو عين ذات الوجود امّا أن يمتنع تعدّده أو لا ؛ فعلى الأوّل يلزم المطلوب ؛ وعلى الثاني يلزم الترجيح بلا مرجّح ، لأنّ نسبة جميع الاعداد إليه واحدة ، فترجيح الاثنى أو عدد آخر على باقي الأعداد ترجيح بلا مرجّح ، وهو محال ؛ فبقى الأوّل الّذي هو مستلزم للمطلوب.

ومنها : إنّ وجوب الوجود الّذي هو تأكّد الوجود ومحض حقيقة الوجود وهو الواجب ـ سبحانه ـ إمّا أن يقتضي الوحدة ؛ أو يقتضي التعدّد ؛ أو لا يقتضي شيئا منهما ؛ فعلى الأوّل يلزم المطلوب ـ إذ حقيقة وجوب الوجود إذا اقتضى وحدة لم يكن مشتركا وكان واحدا محضا ـ ، وعلى الثاني يلزم تحقّق الكثير بلا واحد ، لأنّ صرف الوجود حينئذ ليس مقتضاه الوحدة بل مقتضاه الكثرة ، فكلّ ما صدر عنه يكون كثيرا لا واحدا ، لأنّه مخصّص للكثرة. وأيضا كلّ فرد من تلك الحقيقة المقتضية للكثرة يكون مشتملا على تلك الطبيعة ، والمفروض انّها علّة تامّة للكثرة ، فيكون حكم الفرد والطبيعة واحدا ، فكيف يتصوّر وجود الواحد؟. قال المعلم الثاني : المعنى الوحداني لا يتكثّر بذاته وإلاّ لم يوجد الكثرة أيضا ، لأنّ الكثرة مركّبة من الآحاد ، فاذا فرضنا أنّ المعنى الواحد يتكثّر بذاته فقد ابطلنا الكثرة ؛ انتهى.

وبالجملة الكثرة لا يجوز أن يكون من لوازم حقيقة واحدة بمعنى أنّ الحقيقة الواحدة تصير متكثّرة بذاتها بلا مدخلية أمر آخر وانضمام شيء آخر إليها. وعلى الثالث يلزم الاحتياج إلى الممكن الّذي لا اقتضاء له أصلا ، لأنّ أحدهما ـ أعني :

٥٥٤

الوحدة والتعدّد ـ واقع قطعا ، فلا بدّ له من مقتض ، فلو لم يكن مقتضيه نفس حقيقة الوجود ـ على ما هو الفرض ـ لكان مقتضيه غيره من الممكنات ، فلزم الاحتياج إلى الممكن ، وهو باطل. وأيضا لا خفاء في أنّ ذلك الاحتياج ـ أي احتياج تحقّق الوحدة أو التعدّد إلى الممكن ـ يعود إلى اقتضاء حقيقة بعض الوجود ـ أي : إلى اقتضاء وجوب الوجود ـ ، لأنّ اقتضاء الممكن إلى الشيء ينجرّ إلى اقتضاء حقيقة الواجب ـ أي : يؤول إلى أنّ حقيقة الوجوب يقتضي التعدّد أو الوحدة ـ لوجوب انتهاء سلسلة الامكانيات إليه / ٢٣٧ DB / ـ تعالى ـ ، فرجع حينئذ الأمر إلى اقتضاء حقيقة الوجود الوحدة أو التعدّد ، والأوّل يستلزم المطلوب ، والثاني يوجب تحقّق الكثير بما هو واحد ، وهو باطل ـ كما مرّ ـ.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ كون غير الوجود المحض ـ أعني : الممكن ـ مقتضيا لأحدهما ـ أعني : التعدّد والوحدة ـ باطل بوجهين :

أحدهما : إنّ الممكن لا اقتضاء له أصلا ؛

وثانيهما : إنّه ينتهى اقتضاء الممكن إلى اقتضاء حقيقة الوجود. وإذ ابطل هذا الشقّ ـ أعني : الشقّ الثالث ـ بقي الشقّان الأوّلان ـ أعني : اقتضاء حقيقة الوجود الوحدة أو التعدّد ـ ، والأوّل يستلزم المطلوب والثاني باطل للزوم تحقّق الكثير بلا واحد.

ثمّ إنّه اعترض على هذا الدليل أمّا أوّلا : فبانّه إن أراد بحقيقة الوجود الّذي يقتضي الوحدة أو التعدّد الوجود الخاصّ الّذي ثبت كونه عين الواجب نختار إنّه يقتضي الوحدة ولا يثبت به الوحدة الّتي هي المطلوب ، لجواز أن يكون الوجود الخاصّ لكلّ من المتعدّد مغايرا بالذات للوجود الخاصّ للآخر ويكون عين كلّ منها ومقتضيا للوحدة ، وهو واحد ، إذ كلّ منهما واحد وما ثبت اشتراكه معنى انّما هو الوجود المطلق لا الخاصّ ؛ وإن أراد بحقيقة الوجود الوجود المطلق نختار الشقّ الثالث ـ أعني : عدم اقتضائه لأحدهما ـ. وما ذكر من أنّه يلزم حينئذ الاحتياج إلى الممكن ، فهو ممنوع ، إذ الوجود المطلق زائد على ذات الواجب ، فجاز أن يكون مقتضى تعدّد هذا الوجود الزائد

٥٥٥

أو وحدته هو ذات الواجب المغاير بالذات لذات الواجب الآخر ـ تعالى عن ذلك ـ ؛

وأمّا ثانيا : فبأنّا نختار الشقّ الثاني ـ أي : إنّ حقيقة الوجود يقتضي التعدّد ـ ، وما ذكر من أنّه يلزم حينئذ تحقّق الكثير بلا واحد فهو ممنوع ، لجواز أن يكون مقتضيا لتعدّد مخصوص لكونه اثنين أو ثلاثا مثلا ـ أي : مقتضيا لأن يكون نوعا منحصرا في ثلاثة أفراد أو اثنين مثلا ـ ، فيكون مقتضيا لأن يكون كلّ فرد من افراده موجودا مع فرد آخر منه أو / ٢٣٥ MB / مع اثنين آخرين ، ولا محذور فيه ؛ انتهى.

والجواب عن الاعتراض الأوّل : إنّ المراد بحقيقة الوجود الّذي ورد فيه بانّه يقتضي الوحدة أو التعدّد هو صرف الوجود البحت الموجود في الخارج المتحقّق في الأعيان ، وهو الوجود الواجبى الخاصّ الّذي هو عين ذاته دون المطلق الاعتباري الزائد على الذات. وما ذكر من أنّه يجوز أن يكون وجود الخاصّ متعدّدا ويكون كلّ من الوجود الخاصّ مغايرا بالذات للوجود الخاصّ الآخر ويكون كلّ وجود خاص واجبا وعينا للذات ومقتضيا لوحدة نفسه ، ففيه : إنّ الوجود الخاصّ الواجبي انّما هو بحت الوجود الخاصّ ـ كما تقدّم بيانه ـ ، وبحت الوجود ومحضه لا يتعدّد بنفسه حتّى يكون فردا منه مغايرا بالذات للفرد الآخر منه ـ لكونه حقيقة واحدة ومعنى واحدا ـ ؛ وحينئذ فامّا أن يقتضي الوحدة ، فيلزم المطلوب ؛ أو التعدّد ، فيلزم الفساد المذكور.

والجواب عن الاعتراض الثاني : انّه إذا اقتضى الوجود المحض التعدّد فلا معنى لتحقّق فرد واحد منه ، وإذا لم يتحقّق الواحد لم يتحقّق الكثير.

ومن تأمّل يعرف ما في هذا الاعتراض من الاختلال والاشتباه.

ومنها : إنّ حقيقة وجوب الوجود ـ أعني : محض الوجود ـ إمّا أن يكون مقتضيا لأن يكون عين الذات الموجود المتعيّن ، أو يكون شرط وجوب الوجود أن يكون متحقّقا في الموجود المتعيّن ، وعلى التقديرين لا يتحقّق بدون ذلك المتعيّن ، ولا يمكن أن لا يكون مقتضيا لأن يكون عين وجود متعين ولا مشروطا بتحقّقه فيه ، لأنّ المعنى الواحد والحقيقة الصرفة البسيطة لاثبات المختلفات ، فيجب أن يكون مقتضيا لعينية المتعيّن أو مشروطا بتحقّقه فيه وإن كان لغيره مدخل في تحقّقه فيه وذلك الغير ممكن

٥٥٦

لا محالة ، وليس للممكن اقتضاء باعتبار ذاته ، فيعود هذا القسم أيضا إلى اقتضاء حقيقة وجوب الوجود ، فحقيقته يقتضي الوحدة ونفي التشريك.

ومنها : إنّ حقيقة الوجود المحض لا يمكن أن لا يقتضي عدم كثرة الافراد ، وإلاّ لكان لغيره مدخل في ذلك الاقتضاء ، لأنّ الوحدة ما حصل فيه قطعا ـ وإلاّ لم يحصل الفرد أصلا ـ ، فعدم الكثرة حاصل في فرده البتة. فاذا لم يقتضيه الوجود المحض كان / ٢٣٨ DA / للغير مدخل في اقتضاء عدم الكثرة المذكورة ، وغير محض الوجود يحتاج في التحقّق إلى الوجود ، فيعود اقتضاء ذلك الغير بالحقيقة إلى اقتضاء الوجود ، فاذا كان الوجود المحض يقتضي عدم كثرة الافراد كان باعتبار ذاته واحدا لا شريك له ؛ وهو المطلوب.

والفرق بين هذا الدليل والدليل السابق عليه باعتبار تفاوت طريق عود مدخلية الغير إلى الاقتضاء المذكور ، فانّه في السابق باعتبار الامكان وفي هذا باعتبار الوجود.

فان قيل : قد أخذ في هذا الدليل عدم كثرة الافراد مسلّما ، ثمّ بيّن بأنّ مقتضيه يجب أن يكون حقيقة الوجود لا غيره ـ للزوم الفساد المذكور ـ ، مع أنّ الخصم لا يسلّم عدم كثرة الافراد ، فلا وجه لتسليمه وطلب علّته! ؛

قلنا : هذا البرهان مبني على بطلان أمرين قد علم من الادلّة السابقة ؛ أحدهما : كون حقيقة الوجود المحض مقتضية للكثرة ؛ وثانيهما : عدم كونها مقتضية رأسا لا للكثرة ولا للوحدة ، فبقي احتمال ثالث وهو أنّ حقيقة الوجود المحض هل هي مقتضية لعدم كثرة الافراد بذاتها أو لا؟ ، بل عدم كثرة الأفراد ثابت لها باقتضاء غيرها وبسبب غيرها لا باقتضاء ذاتها. واستدلّ على ابطال اقتضاء الغير بانّه لو اقتضى الغير لكان اقتضائه راجعا إلى اقتضاء حقيقة الوجود المحض ، فتعيّن الأوّل ـ وهو أن يكون المقتضي لعدم كثرة الافراد هو حقيقة الوجود المحض ـ ؛ هذا.

وقال بعض المشاهير : جميع براهين اثبات وحدة الواجب موقوف على اتحاد حقيقة الوجود ـ أي : الوجود الحقيقي الّذي باعتباره يتحقّق الموجودات ـ ، وهو الّذي يعبّر عنه بوجوب الوجود ؛ وتلك الوحدة بديهية حدسية. وهذا أظهر من الشمس

٥٥٧

عندي ، فانّ الوجود الحقيقي الّذي باعتباره تكون الموجودات متحقّقة هو شمس عالم العقول والنفوس ، بل نور السموات والارض ؛ وهو في غاية الظهور وبه ظهور كلّ شيء وادراك كلّ ذي ادراك ، وكذلك وحدته بحسب الحقيقة ظاهر عند كلّ من له وجدان صحيح ؛ انتهى.

وقال بعض أعاظم العرفاء : إنّ البراهين الدالّة على وحدة الواجب عندي كثيرة ، لكن تتميم جميعها متوقّف على أنّ حقيقة واجب الوجود بالذات هو الوجود البحت القائم بذاته وأنّ ما يعرضه الوجوب بالتبع فهو في / ٢٣٦ MA / حدّ ذاته ممكن ووجوبه ـ كوجوده ـ انّما يستفاد من الغير ، فلا يكون واجبا. وهذه المقدّمة ممّا انساق إليه البرهان وصرّح به في كتب الفن ـ كالشفاء وغيره ـ.

وستعلم أنّ بعض براهين اثبات التوحيد لا يتوقّف على تسليم كون صرف الوجود واحدا.

ثمّ لا يخفى إنّ البراهين المذكورة تامّة على اثبات وحدة الواجب. ولا يرد على تلك البراهين شبهة ابن كمونة أصلا ، لأنّ حاصل هذه الشبهة : إنّ معنى واجب الوجود ومعنى كون الوجود عين الذات هو أن يكون الذات بمحض الذات من دون اعتبار شيء خارج معها منشئا لانتزاع الوجود منها ، والحكم بانّها موجودة بخلاف الممكن ، فانّه ما لم يعتبر معه علّته لم يصحّ ذلك. وليس معنى وجوب الوجود وعينية الوجود أن يكون الوجود متحقّقا في الخارج ويكون عين الذات ، ولا أن يكون مفهوم الوجود الّذي لا يحصل إلاّ في الذهن عين الحقيقة الخارجية ، وانّكم تجوّزون أن يكون مفهوم الوجود مشتركا بينه ـ تعالى ـ وبين غيره وأن يكون معنى واحد لازما لحقائق مختلفة ، فحينئذ لم لا يجوز أن يكون حقيقتان مختلفتان بتمام الماهية ويكون كلّ واحدة منهما بذاتها منشئا لانتزاع الوجود منها ويكون وجوب الوجود عرضيا لازما مشتركا بينهما ومنتزعا من ذات كلّ واحدة منها بنفس ذاتها ـ كمفهوم نفس الوجود ـ ولا يتحقّق بينهما ما به اشتراك ذاتي حتّى يلزم التركيب في ذاتهما من جنس وفصل أو احتياجهما في التشخّص إلى أمر خارج عن ذاتهما. ولا ريب في أنّ مبنى هذه الشبهة على كون

٥٥٨

وجوب الوجود أمرا عرضيا وعدم كون الذات صرف الوجود ، ومبنى البراهين المذكورة على أنّ وجوب الوجود هو يؤكّد الوجود وكون الواجب صرف الوجود ومحضه وخالص الموجود وبحته وعدم جواز التعدّد في محوضة الشيء ؛ وحينئذ لا مدخلية لهذه الشبهة بالنسبة إلى البراهين المذكورة أصلا ، ولا ورود لها عليها مطلقا.

وقال بعض أعاظم العرفاء : وبما ذكرناه ـ من كون الواجب صرف الوجود القائم بذاته ـ يندفع ما يتكذّب به أذهان الأكثرين بما قيل : لم لا يجوز أن تكون هناك هويّتان بسيطتان مجهولتا الكنه مختلفتان بتمام الماهيّة البسيطة يكون كلّ منهما واجبا لذاته ويكون مفهوم واجب الوجود مخترعا منهما مقولا عليهما قولا عرضيا؟ ؛ إذ قد علمت أنّه لو كان كذلك لكان عروض هذا المفهوم لكلّ منهما أو لأحدهما إمّا معلولا لذات / ٢٣٨ DB / المعروض ، فيلزم تقدّمه بالوجود على نفسه ، وهذا محال ؛ أو معلولا لغيره ، فاستحالته أظهر. بل نقول : لو نظرنا إلى نفس مفهوم الوجود المعلوم بوجه من الوجوه بديهة أو بالنظر إلى أنّ حقيقته وما ينتزع هو منه أمر قائم بذاته هو الواجب الحقّ والوجود المطلق الّذي لا يشعر به عموم ولا خصوص ولا تعداد كلّ ما وجوده هذا الوجود فرضنا لا يمكن أن يكون بينه وبين شيء آخر له أيضا هذا الوجود مباينة وتغاير أصلا ، فلا يكون اثنان ، بل يكون هناك ذات واحدة ووجود واحد ؛ كما اشار إليه صاحب التلويحات بقوله : « صرف الوجود الّذي لا اتمّ منه كلّما فرضته ثانيا فاذا نظرت فهو هو إذ لا ميز في صرف شيء » (١) ، فوجوب وجوده الّذي هو ذاته يدلّ على وحدته كما اشير إليه في الكتاب الإلهي بقوله ـ تعالى ـ : ( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ) (٢).

ثمّ إنّه يأتي بيان ورود هذه الشبهة على بعض البراهين الآتية وحلّها بوجه آخر.

ومنها : الدليل المشهور من الحكماء ، وتقريره : أنّه لو كان واجب الوجود اثنين لكان معنى وجوب الوجود ـ وهو معنى واحد بالضرورة ـ مشتركا بينهما ، فيلزم اعتبار جهة ما به الامتياز ، لأنّ حصول الاثنينية بدون ما به الامتياز محال ؛ ولا ريب في أنّ ما به الامتياز غير ما به الاشتراك ، فيلزم التركيب ، وهو محال.

__________________

(١) راجع : التلويحات ، ص ٣٥.

(٢) كريمة ١٨ ، آل عمران.

٥٥٩

وأورد على هذا الدليل الشبهة الكمونية المشهورة بافتخار الشياطين ؛ وقد عرفت أنّ اثبات التوحيد ممكن من البراهين المتقدّمة الّتي لا يتوهّم ورود هذه الشبهة عليها. وأمّا دفعها عن هذا الدليل المشهور فهو : إنّ وجوب الوجود لو كان عرضيا لكان عروضه لهما محتاجا إلى علّة ، فعلّته إن كانت ذات الواجبين من دون اتصافهما بوجوب الوجود لزم أن يكون غير واجب الوجود علّة لوجوب الوجود ، وهو باطل ؛ وإن كانت ذاتهما / ٢٣٦ MB / مع اعتبار وجوب الوجود فان كان وجوب الوجود الّذي هو العلّة عين وجوب الوجود الّذي هو المعلول لزم تقدّم الشيء على نفسه ، وإن كان غيره ننقل الكلام إليه ، فيلزم التسلسل.

فان قيل : الوجود العامّ المنتزع من الواجب عرضىّ ، فيلزم من عرضيته أحد المفاسد المذكورة ؛

قلنا : الوجود الانتزاعي ليس ممّا يتوقّف عليه العلّة ، لأنّ العلّة انّما هو الوجود الخاصّ وهو الوجود الواجبي ، فيمكن أن يكون علّة لانتزاع هذا المفهوم ، فتقدّم الواجب عليه انّما هو بالوجود الخاصّ ووجوب الوجود ـ لأنّه يتحقّق حقيقة واجب الوجود مع قطع النظر عنه ـ.

وقيل في الجواب عن الشبهة المذكورة : إنّ وجوب الوجود إن لم يكن هو نفسه ذاتيا لهما جنسا أو نوعا حتّى يلزم التركب بل كان عرضا عامّا منتزعا عنهما نقول : هذا العرض إمّا واجب ، أو ممكن ؛ والأوّل باطل ، إذ العرض محتاج إلى المحلّ والمحتاج لا يمكن أن يكون واجب الوجود ؛ والثاني ـ أعني : كون هذا العرض ممكنا ـ أيضا باطل ، لأنّ علّته إن كانت أحدهما فقط دون الآخر لكان معلولا لواجب ودونه ، وإن كانا هما علّة له فان كانت العلّة مستندة إلى أمر مشترك ذاتي لزم التركب ، وإن لم تكن مستندة إليه ـ بل كانت مستندة إلى ذاتيهما المتخالفين ـ لزم اشتراك معنى واحد بين حقائق مختلفة من دون أن يكون تبعا لأمر مشترك ذاتي ، وهو باطل ؛ لأنّ المختلفين من حيث انّهما مختلفان من دون جهة الاشتراك لا يناسبان معنى واحدا حتّى يكونا علّتين له ، فيلزم توارد علّتين مختلفين على معلول واحد شخصي ، ويلزم ارتفاع المناسبة بين العلّة و

٥٦٠